الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض
وثبت كذلك أن الصالحين من المؤمنين يشفعون في إخوانهم الذين في النار وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فدخلوا النار تطهيراً لهم.
ومن الأدلة على ذلك:
ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ((قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما. ثم قال: ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما انتظرنا ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم. قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق - قد تبين لكم- من المؤمنين يومئذ للجبار- وإذا رأوا أنهم قد نجوا- في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة؛ فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) (1).
(1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).
وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل منها: إثبات رؤية الله تعالى، وإثبات الصراط، وصفته، وكيفية مرور الناس عليه، وكذلك إثبات شفاعة الملائكة والأنبياء.
وبعض تلك المسائل قد سبق ذكرها وبعضها سيأتي، والقصد من إيراد هذا الحديث هنا هو إثبات شفاعة الصالحين من المؤمنين، وإلحاحهم في طلب الشفاعة إلى الله تعالى لإخراج إخوانهم من أهل الكبائر من النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري للحديث: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق - قد تبين لكم- من المؤمنين يومئذ للجبار)).
وقعت هذه الجملة في صحيح مسلم من رواية أبي سعيد هكذا: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار)).
وقد اختلف العلماء في ضبط كلمة (استقصاء)، ذكر النووي أن بعضهم يرويها (استيضاء)، وبعضهم (استضاء)، وبعضهم (استيفاء)، وبعضهم (استقصاء).
والمعنى ما أنتم بأشد مناشدة في استقصاء الحق في الدنيا من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم.
وهذا جواب القاضي عياض فيما ينقله عنه النووي، وخطأ القاضي عياض الروايات الأخرى، وقال بأن معنى تلك الرواية (استقصاء) بها يتم الكلام ويتوجه.
ورد عليه النووي بأنه: (ليس الأمر على ما قاله، بل جميع الروايات التي ذكرناها صحيحة لكل منها معنى حسن).
ثم قال: (وقد جاء في رواية يحيى بن بكير عن الليث: فما أنتم بأشد مناشدة في الحق – قد تبين لكم – من المؤمنين يومئذ للجبار – تعالى وتقدس – إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، وهذه الرواية التي ذكرها الليث توضح المعنى.
فمعنى الرواية الأولى والثانية: أنكم إذا عرض لكم في الدنيا أمر مهم، والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه، وناشدتموه في استيضائه، وبالغتم فيها؛ لا تكون مناشدة أحدكم مناشدة بأشد من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم.
وأما الرواية الثالثة والرابعة فمعناهما أيضاً: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه، أو استقصائه وتحصيله من خصمه والمتعدي عليه؛ بأشد من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة) (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ((اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه)).
هذا الخطاب للمؤمنين الذين طلبوا الشفاعة إلى الله تعالى.
وفي رواية أبي هريرة عند البخاري أن الخطاب للملائكة لقوله: ((أمر الملائكة أن يخرجوهم)) (2).
وفي حديث أنس عنده: أن الذي يخرجهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: ((ثم اشفع، فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة)) (3).
ولا منافاة بين تلك الروايات، بل يجمع بينهما بأن الله حينما شفع المؤمنين والرسل، يأمر تعالى الملائكة بمباشرة إخراج أولئك من النار ممن أمرتهم الرسل بإخراجه منها (4).
وعن الصنابحي عن عبادة بن الصامت أنه قال: ((دخلت عليه وهو في الموت فبكيت، فقال: مهلاً، لم تبكي؟ فوالله لئن شهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك. ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) (5).
(1)((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 438).
(2)
رواه البخاري (6573).
(3)
رواه البخاري (6565)، ومسلم (193).
(4)
((فتح الباري)) (11/ 456).
(5)
رواه مسلم (29).
وأخرج الإمام أحمد من مسند أبي بكر الصديق في إثبات شفاعة الصالحين والمؤمنين قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم يقال: ادعوا الأنبياء، فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين، فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون)) (1).
وكذا حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يحمل الناس على الصراط، فينجي الله من شاء برحمته ثم يؤذن للملائكة، والنبيين، والشهداء، والصديقين فيشفعون)) الحديث (2).
كما ثبت أيضاً حصول شفاعة المؤمنين لإخوانهم قبل يوم القيامة، وذلك في الدنيا، وهي استشفاعهم إلى الله تعالى في الصلاة على من مات منهم بالرحمة والغفران والتجاوز، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم:((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (3).
وأخرج كذلك عن عبد الله بن عباس ((أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له الناس، قال: فخرجت، فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول: هم أربعون؟ قال: نعم، قال: فأخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم فيه)) (4).
وتمام الحديث عن ابن ماجه: ((ما من أربعين من مؤمن يشفعون لمؤمن إلا شفعهم الله فيه)) (5).
وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له)) (6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 508
(1) رواه أحمد (1/ 4)(15)، والبزار (1/ 149)(76)، وابن أبى عاصم (812)، وأبو يعلى (1/ 56)(56)، وابن حبان (14/ 393) (6476). قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (255): متواتر، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 377): رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار ورجالهم ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 29).
(2)
رواه أحمد (5/ 43)(20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142)(929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص: 837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح.
(3)
رواه مسلم (947).
(4)
رواه مسلم (948).
(5)
رواه ابن ماجه (1219). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(6)
رواه ابن ماجه (1218). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 228): هذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين، وقال العيني في ((عمدة القاري)) (8/ 167): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (ص: 285): رجاله رجال الصحيح وهو على شرط الشيخين.