الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: بشائر التوراة وأسفار الأنبياء
التوراة التي بين أيدي الناس اليوم محرَّفة مغيرة يدلك على ذلك هذا الاختلاف الذي تجده في أمور كثيرة بين نسخها وطبعاتها، فهناك ثلاث نسخ للتوراة: العبرانية، واليونانية، والسامرية، وكلُّ قوم يدَّعون أن نسختهم هي الصحيحة، وهناك فروق واضحة بين طبعات التوراة وترجماتها. وقد أدى هذا التحريف إلى ذهاب كثير من البشارات أو طمس معالمها، ومع ذلك فقد بقي من هذه البشارات شيء كثير، ولا تخفى هذه البشارات على من يتأملها، ويعرضها على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجرداً من الهوى.
1 -
ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في التوراة:
لقد صرح بعض هذه البشارات باسم محمد صلى الله عليه وسلم وقد اطلع بعض علماء المسلمين على هذه النصوص، ولكنَّ التحريف المستمر لهذا الكتاب أتى على هذه النصوص، فمن ذلك ما ورد في سفر أشعيا (1):(إني جعلت أمرك محمداً، يا محمد يا قدوس الربّ، اسمك موجود من الأبد)(2). وقوله إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إني مكتوب عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)) (3). وفي التوراة العبرانية في الإصحاح الثالث من سفر حبقوق: (وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، ملك بيمينه رقاب الأمم).
وفي النسخة المطبوعة في لندن قديماً سنة 1848، والأخرى المطبوعة في بيروت سنة 1884، والنسخ القديمة تجد في سفر حبقوق النص في غاية الصراحة والوضوح:(لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، امتلأت الأرض من حمده،. . زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، يا محمد ادن، لقد رأتك الجبال فارتاعت). 2 - ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر يتعلق به:
وفي بعض الأحيان يذكر مكان مبعثه، ففي سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون، فقرة (2):(جاء الربّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران " وسيناء هي الموضع الذي كلّم الله فيه موسى، وساعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران هي جبال مكة، حيث أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكون جبال فاران هي مكة، دلت عليه نصوص من التوراة. وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 1 - 3] وذكرت التوراة مكان الوحي إليه، ففي سفر أشعيا الإصحاح (21) فقرة: (13) وحي من جهة بلاد العرب في الوعر). وقد كان بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء.
وفي هذا الموضع من التوراة فقرة: (14) حديث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى الجهة التي هاجر إليها (هاتوا ماءً لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزة، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب) وتيماء من أعمال المدينة المنورة، وإذا نظرت في النص ظهر لك بوضوح أنه يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)((الجواب الصحيح)) (3/ 326).
(2)
((محمد نبي الإسلام)) (ص: 18).
(3)
رواه أحمد (4/ 128)(17203)، والبزار (10/ 135)، وابن حبان (14/ 312)(6404)، والطبراني (18/ 253)(15341)، والحاكم (2/ 656)، والبغوي في ((شرح السنة)) (13/ 207). قال البزار: لا نعلمه يروى بإسناد متصل أحسن من هذا الإسناد، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 226): أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
وتكملة النص السابق فقرة: (16) يقول: (فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية قسى أبطال بني قيدار تقلّ، لأنَّ الربّ إله إسرائيل قد تكلم).
وهذا النص يتحدث عن معركة بدر، فإنّه بعد سنة كسنة الأجير من الهجرة كانت وقعة بدر، وفنى مجد قيدار، وقيدار من أولاد إسماعيل، وأبناؤه أهل مكة، وقد قلت قسى أبناء قيدار بعد غزوة بدر.
3 -
إشارة التوراة إلى معلم من معالم مهاجر الرسول:
وأشارت بعض نصوص التوراة إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر أشعيا الإصحاح (42) فقرة:(11)(لترفع البريّة ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الربَّ مجداً .. ).
وقيدار أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين إصحاح (25) عدد (13).
وسالع جبل سلع في المدينة المنورة.
والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشقُّ أجواز الفضاء كلّ يوم خمس مرات، وذلك التكبير والتحميد في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع. 4 - إشارة التوراة إلى أمور جرت على يديه صلى الله عليه وسلم:
وقد تذكر النصوص انتشار دعوته وبعض ما يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر حبقوق الإصحاح الثالث فقرة:(3 - 6): (الله جاء من تيمان، والقدوس من جبال فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استنارت قدرته، قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى، وقف وقاس الأرض، نظر، فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم).
ففي هذه البشارة إخبار بالنصر العظيم الذي حازه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وإخبار بانتشار دعوته في شتى بقاع الأرض، وبأن الجبال الدهرية وهي الدول القويّة ذات المجد القديم ستدك، وآكام القدم وهي الدول الأقل ستخسف، وقد تحقق ذلك كله، وأشارت هذه البشارة إلى أمرين يدركهما من كان عليماً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وهما: لمعان كالنور له من يده، وذهاب الوبا من قدامه، وخروج الحمّى من عند رجليه.
5 -
اللمعان والنور الذي شعَّ من يده:
يقول النص: (وكان لمعان كالنور، له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته) ثم يقول: (وقف وقاس الأرض نظر، فرجفت الأمم .. ) والذي يبدو لي أنَّ هذا النص يتحدث عن حادثة بعينها، وهي ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، عندما أعجزت صخرة الصحابة أثناء حفر الخندق، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها ضربة عظيمة أسقطت ثلثها، وخرج منها نور فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه، ثمَّ الثانية فالثالثة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بالنور الأول قصور الشام، وبالنور الثاني قصور فارس، وبالنور الثالث أبواب صنعاء.
وروى النسائي وأحمد بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: ((لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثمَّ ضرب الثانية فقطع الثالث الآخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثمَّ ضرب الثالثة، وقال: باسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة)) (1).
وفي رواية الطبراني: ((فضرب الصخرة وبرق منها برقة فكبّر، وكبّر، المسلمون))، وفيه ((إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم .. )) (2).
تأمل النص الذي أوردناه مرة أخرى (لمعان كالنور له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته .. وقف وقاس الأرض نظر .. ).
وتأمل في الأحاديث التي أوردناها أليست هذه الواقعة تأويل لتلك البشارة؟
6 -
ذهاب الوبا وخروج الحمى:
تقول هذه البشارة: (قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى)، وهذه – والله – بشارة صريحة لا تحتمل تأويلاً، فالمدينة قبل مجيء الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت معروفة بالحمّى، وفي الحديث عن ابن عباس ((أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قدموا مكة للعمرة – وهي العمرة المعروفة بعمرة القضاء – قال المشركون: إنّه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب)) رواه البخاري (3). وقد أصابت هذه الحمّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومهم المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه كي يذهب الحمّى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعُك أبو بكر وبلال. قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تَجِدُك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كلُّ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله
…
والموتُ أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع رأسه ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة
…
بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ
…
وهل يَبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، وصَحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومدِّها، وانقل حمّاها، فاجعلها في الجحفة)) رواه البخاري (4) وزاد البخاري في آخر كتاب الحج:((ثم يقول بلال: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء)) (5).
(1) رواه أحمد (4/ 303)(18716)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 269)(8858)، وأبو يعلى (3/ 244)(1685). والحديث صحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (510) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، قال الهيثمى (6/ 133): فيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعه، وبقية رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 458): إسناده حسن.
(2)
رواه بنحوه الطبراني (11/ 376)(12081).
(3)
انظر: ((فتح الباري)) (3/ 469).
(4)
رواه البخاري (3926)، ومسلم (1376).
(5)
رواه البخاري (1889).
إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته. وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى، وصحَّحَها، ومنع عن المدينة الطاعون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون، فأمسكت الحمّى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام)) (1).
وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة.
7 -
بشارات جامعة:
وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه، وأخبار أمته، وما ينزل إليه عليهم من نصره، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال.
قال دانيال (2) يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم:(إن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبياً، ومنزل عليهم كتاباً، ومملكهم رقابكم، يقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب، معهم الملائكة على خيل بيض، فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم النار، نعوذ بالله من النار). وأبناء قيدار بن إسماعيل، قد انتشروا في الأرض، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم:(ستنزع في قسيّك إغراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد).
وقال دانيال أيضاً: (سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم، ويردّ إليهم ملكهم، ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليكم يا دانيال، إن الله يقول: إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب. فصلَّت عليهم بخت نصّر، فقتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وهدم مساجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم، ولا مقيلهم عثرات، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها، وأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البرَّ شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء، حتى يعلو، فأدنيه، وأسلِّم عليه، وأوحي إليه، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادقاً فيما أخبر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه، ويؤذونه).
(1) رواه أحمد (5/ 81)(20786)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 292). وقال: رواة أحمد ثقات مشهورون، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 313): رجال أحمد ثقات، وحسنه ابن حجر في ((بذل الماعون)) (33).
(2)
انظر: ((الجواب الصحيح)) (3/ 331، 4/ 3).
يقول ابن تيمية: (ثمَّ سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أمته بالنفخة، وانقضاء الدنيا).
ثم قال: (وهذه البشارة الآن عند اليهود والنصارى يقرؤونها، ويقولون: لم يظهر صاحبها بعد). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 168
والكلام في تبشير نبينا محمد بمن تقدمه من الأنبياء حتى يتضح لك أن هذه سنة الله عز وجل في أنبيائه عليهم السلام فمن ذلك ما ثبت في التوراة في الفصل السابع عشر من السفر الأول منها قال الله سبحانه لإبراهيم: (وقد سمعت قولك في إسماعيل وها أنا مبارك فيه وأثمره وأكثره بمأذ مأذ) انتهى. قوله بمأذ مأذ هو اسم محمد بالعبرانية وهذا صريح في البشارة بنبينا محمد وفي الفصل الثالث والثلاثين من السفر الخامس من التوراة ما لفظه: (يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا، وأشرق نوره من جبل سيعير، ولوح به من جبل فاران، وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم) انتهى. هذا نص التوراة المعربة تعريباً صحيحاً، وقد حكى هذا اللفظ من نقل عن التوراة بمخالفة لما هنا يسيرة:(هكذا جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران). وفي لفظ: (تجلى الله من طور سيناء أو مجيئه من طور سيناء) الخ.
قال جماعة من العلماء: (إن معنى تجلى نور الله سبحانه من طور سيناء، أو مجيئه من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ومعنى إشراقه من جبل سيعير إنزاله الإنجيل على المسيح وكان المسيح من سيعير أو ساعير وهي أرض الخليل من قرية منها تدعى ناصرة وباسمها سمي أتباعه نصارى، ومعنى لوح به من جبل فاران أو استعلن من جبل فاران إنزاله القرآن على محمد وجبال فاران هي جبال مكة بلا خلاف بين علماء المسلمين وأهل الكتاب). ومما يؤيد هذا ما في التوراة في السفر الأول منها ما لفظه: (وغدا إبراهيم فأخذ الغلام يعني إسماعيل وأخذ خبزاً وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها وقال لها اذهبي فانطلقت هاجر فظلت سبعاً، ونفذ الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة وجلست مقابلته على مقدار رمية سهم لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر وقال لها: مالك يا هاجر، لا تخشي فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام وشدي يديك به فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سقاها، وكان الله مع الغلام، فربي وسكن في برية فاران). انتهى. ولا خلاف أن إسماعيل سكن أرض مكة فعلم أنها فاران، وقد حكى الله سبحانه في القرآن الكريم ما يفيد هذا فقال حاكياً عن إبراهيم: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37] ولا خلاف في أن المراد بهذا الوادي أرض مكة، وفي الأحاديث الصحيحة الحاكية لقصة إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل ما يفيد هذا ويوضحه، ومما يؤيد هذه البشارة المذكور في كتاب نبوة النبي شمعون ولفظه:(جاء الله من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته) ومثل ذلك البشارة المذكورة في نبوة النبي حبقوق ولفظه: (جاء الله من التيمن، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك يمينه رفات الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر). انتهى.
وفي هذا التصريح بجبال فاران مع التصريح باسم نبينا محمد بقوله: (وامتلأت الأرض من تحميد أحمد) تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
ومن البشارات بنبينا محمد في الزبور لداود عليه السلام ما لفظه (إن ربنا عظيم محمود جدا ومحمد قد عم الأرض كلها فرحاً). انتهى.
ففي هذا التصريح باسمه، ومن ذلك قوله فيه:(بارك عليك إلى الأبد، ويقلد أبونا الجبار السيف، لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسمت التأله، فإن ناموسك وشرائعك معروفة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك). انتهى.
وهذه صفات نبينا فإنه لم يبعث نبي هذه صفته بعد داود سواه، ومثل هذا قوله في موضع آخر:(ويجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وتخزى أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلي عليه ويبارك في كل حين). انتهى.
وهذه الصفات أيضاً ليست لأحد من الأنبياء غيره، فإنه لم يملك أحد منهم من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض كما ذلك معلوم لكل أحد، بل الذي انتشرت شريعته، وبلغت سيوف أمته إلى هذا المقدار هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهكذا قوله:(ويسجد له ملوك الفرس) فإنه لم يفتح الفرس، ويستعبد أهلها، ويضرب عليهم الجزية إلا أمة نبينا، وهكذا قوله:(وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد) فإنها لم تدن الأمم كلها لغيره، وهكذا قوله:(ويصلى عليه ويبارك في كل حين) فإن هذا يختص بنبينا لاستمرار ذلك له في كل وقت، ووقوع الأمر القرآني به، ولم يكن ذلك لغيره من الأنبياء، ومن البشارات ما ذكره أشعيا في كتاب نبوته من التبشير براكب الحمار، وراكب الجمل، ولا شك أن راكب الحمار هو المسيح، وراكب الجمل هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي نبوة أشعيا أيضاً قوله: (إني جعلت أمرك يا محمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد) انتهى. وهذا تصريح باسم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا قول حبقوق النبي في كتاب نبوته:(أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من شعاع منظره) وكذا قوله في موضع آخر من كتاب نبوته: (وتنزع في مسيك إعراقاً ونزعاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء) فإن هذا تصريح أوضح من الشمس، ومن البشارات قول حزقيال النبي في كتاب نبوته مهدداً لليهود:(وأن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبياً، وينزل عليهم كتاباً، ويملكهم رقابكم، فيقهرونكم، ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال بني قيذار في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض) انتهى.
ففي هذا التصريح ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وقهر أمته للأمم، فإن قيذار هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بلا خلاف، ولم يبعث الله فيهم نبياً إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا معلوم لكل أحد لا يخالف فيه مخالف، ولا ينكره منكر.
ومن البشارات ما في كتاب نبوة دانيال النبي، فإنه صرح فيها باسم النبي بمثل ما تقدم في نبوة حبقوق فقال:(ستنزع في مسيك إعراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء) انتهى.
وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: (حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملائكة فبشروها، فأوحى إلى ذلك النبي، وأعلمه السماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى جهده، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه، وأسلم عليه، وأوحي إليه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادعاً بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه) انتهى.
ولا ريب أن هذه صفات نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يبعث الله نبياً من بني إسماعيل سواه، ومثل هذه الصفات ما في حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري وغيره (أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة، قال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً، ومبشراً، ونذيراً، وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي السيئة بالحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعيناً عمياء، وآذاناً صماً، وقلوبا غلفاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله).
قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة، والزبور، والإنجيل، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل، فعلى هذا يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو:(إنه لموصوف في التوراة) هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال، ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود، فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير منهم الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - 1/ 510