الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: صفات الميزان
الواقع أن العلماء لم يتفقوا على إثبات أوصاف الميزان _ وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الجوانب في وجوب الإيمان بالميزان، ومواقف الناس في ذلك _ وأما خلافهم في ثبوت صفاته فقد انقسموا إلى فريقين:
1 -
أما الفريق الأول: فهم المثبتون لصفات الميزان الحسية، من أن له كفتين. .. إلى آخر أوصافه، وهؤلاء وإن أثبتوا هذا لكنهم يرجعون صفة تلك الكفات واللسان إلى علم الله تعالى.
2 -
أما الفريق الآخر: فهم النافون لتلك الصفات.
وسنذكر رأي الفريقين فيما يلي: -
(1)
المثبتون لصفات الميزان:
يثبت هؤلاء _ وهم جمهور العلماء _ أن الميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان، وله لسان كذلك.
يقررون هذه الحقيقة غير ملتفتين إلى من تشمئز قلوبهم من سماعها، لعدم قبول عقولهم لها، وعدم تفهم ما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك. ذلك أن الحق ضالة المؤمن، وما ورد به الشرع هو الذى ينبغي أن يقدم على هوى النفس وحكم العقل.
وسنذكر فيما يلي بعض أقوال هؤلاء كأمثلة على ثبوت ما ذكرنا.
قال القرطبي - ردًّا على من ينكر الميزان، ويؤول الوزن بأنه من ضرب المثل، وأن الوزن يراد به العدل والقضاء – قال:(وهذا مجاز. وليس بشيء، وإن كان شائعاً في اللغة – للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي، ووصفه بكفتين ولسان، وأن كل كفة منها طباق السموات والأرض)(1).
ويعزو القرطبي إلى ابن عباس أنه قال: (توزن الحسنات والسيئات في ميزان له كفتان ولسان)(2).
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أنه قال: (الميزان له لسان وكفتان، يوزن فيه الحسنات والسيئات، فيؤتى بالحسنات في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان، فتثقل على السيئات؛ فتؤخذ فتوضع في الجنة
…
ويؤتى بالسيئات في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان فتخف
…
) (3).
ويقول ابن قدامة: (والميزان له كفتان ولسان، توزن به الأعمال، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 102، 103])(4).
ويقول أبو الحسن الأشعري في معرض بيانه لاختلاف الناس في الميزان ومبيناً رأي أهل السنة: فقال أهل الحق: (له لسان وكفتان، توزن في إحدى كفتيه الحسنات وفي الأخرى السيئات، فمن رجحت حسناته؛ دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته دخل النار، ومن تساوت حسناته وسيئاته، تفضل الله عليه فأدخله الجنة)(5).
ويثبت ابن كثير أن للميزان كفتين حسيتين، ويستدل على هذا من السنة بحديث صاحب البطاقة المشهور وغيره من الأحاديث (6).
وأخرج الطبري عن ابن جريج قال: قال لي عمرو بن دينار: (قوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف: 8] قال: إنا نرى ميزاناً وكفتين، سمعت عبيد بن عمير يقول: يجعل الرجل العظيم الطويل في الميزان، ثم لا يقوم بجناح ذباب)(7). وهو القول الذى رجحه الطبري أيضاً.
ويقول ابن أبي العز: (والذى دلت عليه السنة: أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان)(8).
وقال أبو إسحاق الزجاج – كما نقل عنه الحافظ ابن حجر: (أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان، ويميل بالأعمال)(9).
(1)((التذكرة)) (ص 378).
(2)
((التذكرة)) (ص 378).
(3)
((الدر المنثور)) (3/ 70).
(4)
ابن قدامة في ((لمعة الإعتقاد)) (ص 33).
(5)
((المقالات)) (2/ 164).
(6)
((النهاية)) (2/ 24).
(7)
((جامع البيان)) (8/ 123).
(8)
((الطحاوية)) (ص 472).
(9)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 538).
ويقول السفاريني: (فقد دلت الآثار على أنه ميزان حقيقي ذو كفتين ولسان، كما قال ابن عباس، والحسن البصري، وصرح بذلك علماؤنا، والأشعرية وغيرهم، وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر، وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه)(1).
ويقول البرديسي:
(وانعقد الإجماع على أنه ميزان حسي له كفتان ولسان يوضع فيه صحف أعمال العباد ليظهر الرابح والخاسر)(2).
ويروى من طريق عبد الملك بن أبي سليمان أنه قال: (ذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان)(3).
وعن سليمان قال: (يوضع الميزان وله كفتان، لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعته)(4).
ويقول الهراس: (وهناك تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، وهي موازين حقيقية كل ميزان منها له لسان وكفتان، ويقلب الله أعمال العباد – وهي أعراض – أجساماً لها ثقل، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة)(5).
ونقتصر في إثبات أن الميزان له لسان وكفتان على ما قدمناه من ذكر أقوال العلماء.
وبهذا يتبين أن أهل الحق – أهل السنة والجماعة – يثبتون حقيقة الميزان على ضوء ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتأولون معناه، ولا يردون ما جاء في وصفه، ويقولون: الله وحده هو الذي يعلم قدرهما وكيفيتهما.
إذ لو لم يكن له لسان وكفتان؛ بل هو بمعنى العدل والقضاء كما ذهب إليه بعض العلماء، لو لم يكن كذلك لما وصف في السنة النبوية بأن له لسانا وكفتين، وأنه يخف ويثقل؛ إذ العدل لا يقال فيه تلك الصفات، فصح أنه ميزان حقيقي يزن الله فيه أعمال العباد، فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار، على ما علم من مذهب السلف.
وإذ كنا نثبت صفات الميزان على ضوء ما جاء به الشرع فإنه لا ينبغي أن نتكلف فنثبت له أوصافاً تحتاج إلى إثبات من الشارع، أو نستند إلى أخبار لم تثبت، فإن الغلو في هذا مذموم.
وكمثال على هذا: ما يذهب إليه بعض الناس من أن كفتي الميزان من ذهب (6).
أو القول بأن كفة الحسنات من نور، وكفة السيئات من ظلام (7).
أو أن كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجنة، وكفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار (8).
أو ما يقال إن صاحب الميزان يوم القيامة هو جبريل عليه السلام (9).
فتلك المسائل كلها تحتاج لإثباتها – فضلاً عن اعتقادها – إلى نص صحيح، فإن بعض العلماء يتساهل فيما يقرره من هذه المسائل، مثل ما يرويه السفاريني بصيغة التضعيف – يروى – (أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه، فلما أفاق قال: إلهي من ذا الذي يقدر يملأ كفة حسناته؟ فقال: إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة)(10).
أو ما يذكره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه – غير معزو إلى أحد – أنه قال: (ميزان رب العالمين ينصب للجن والإنس، يستقبل به العرش، إحدى كفتيه على الجنة، والأخرى على جهنم، لو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعمود ينظر إلى لسانه)(11).
(1)((لوامع الأنوار)) (2/ 185).
(2)
((تكملة شرح الصدور)) (ص 14).
(3)
((تفسير المنار)) (8/ 322).
(4)
((فتح الباري)) (13/ 539).
(5)
((شرح العقيدة الواسطية)) (ص 123).
(6)
((الفصل لابن حزم)) (4/ 65).
(7)
((التذكرة)) (ص 313).
(8)
((التذكرة)) (ص 314)، وعزاه إلى الترمذي الحكيم.
(9)
أخرجه الطبري في ((جامع البيان)) (8/ 123) عن الحارث، قال: ثنا عبد العزيز قال: ثنا يوسف بن صهيب، عن موسي، عن بلال ابن يحى، عن حذيفة.
(10)
ذكره السفاريني في ((لوامع الأنوار)) (2/ 184)، وعزاه إلى الرازي والثعلبي.
(11)
((لوامع الأنوار)) (2/ 184) ولم يعزه إلى أحد.
وكذا ما يروى عن عمر مرفوعاً: ((من كبر تكبيرة في سبيل الله، كانت صخرة في ميزانه أثقل من السموات السبع وما فيهن وما تحتهن، وأعطاه الله بها رضوانه الأكبر، وجمع بينه وبين محمد وإبراهيم والمرسلين في دار الجلال: ينظر إلى الله بكرة وعشياً)) (1).
وفي رواية أخرى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كبر تكبيرة على ساحل البحر، كان في ميزانه صخرة، قيل: يا رسول الله، وما قدرها؟ قال: تملأ ما بين السموات والأرض)) (2).
ويقول السفاريني: (ظواهر الآثار وأقوال العلماء: أن كيفية الوزن في الآخرة – خفة وثقلاً – مثل كيفيته في الدنيا، ما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرفع إلى عليين، وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين، وبه صرح جموع، منهم القرطبي).
وقال بعض المتأخرين بل الصفة مختلفة، وأن عمل المؤمن إذا رجح صعد وسفلت سيئته، والكافر تسفل كفته لخلو الأخرى عن الحسنات، ثم تلا قوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10].
وذكر بعضهم في صفة الوزن: أن تجعل جميع أعمال العباد في الميزان في مرة واحدة، كل الحسنات في كفة النور، وهي يمين العرش جهة الجنة، والسيئات في كفة الظلمة، وهي عن يسار جهة النار، ويخلق الله لكل إنسان علماً ضرورياً يدرك به خفة أعماله وثقلها.
وقيل: بل علامة الرجحان عمود نور يقوم في كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيئات، وعلامة الخفة عمود ظلمة يقوم من كفة السيئات حتى يكسو كفة الحسنات، لكل أحد (3).
والظاهر أن هذه الكيفيات كلها تحتاج إلى إثبات، فهي مسألة غيبية، والله تعالى له القدرة على ما يشاء.
2 – النافون لصفات الميزان:
وهؤلاء قالوا بعكس ما قاله الفريق الأول، حيث أحجموا عن وصف الميزان بالأوصاف التي تقدمت، واكتفوا بإثبات أن هناك ميزاناً فقط.
1 -
يقول محمد رشيد رضا – في نفي تلك الصفات وفي رده على الزجاج: (وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنة المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان، ولا في أن له كفتين ولساناً، فلا تغتر بقول الزجاج أن هذا مما أجمع عليه أهل السنة، فإن كثيراً من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع ولاسيما غير الحفاظ المتقنين، والزجاج ليس منهم، ويتساهلون في عزو كل ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم، وإن لم يعرف له أصل من السلف، ولا اتفق عليه الخلف منهم، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف والخلف كما علمت)(4).
وقال أيضاً: (والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب: أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه، نؤمن به، ولا نحكم رأينا في صفته وكيفيته، فنؤمن إذا بأن في الأخرة وزناً للأعمال قطعاً، وونرجع أنه بميزان يليق بذلك العالم، ويوزن به الإيمان، والأخلاق، والأعمال، ولا نبحث عن صورته وكيفيته، ولا عن كفتيه – إن صح الحديث فيهما – كما صوره الشعراني في ميزانه)(5).
(1) قال السيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)): (قال ابن حبان لا أصل له، إسحاق يأتي بالموضعات عن الثقات. قلت – وكذا قال الدارقطني في ((غرائب مالك)) إنه موضوع) (2/ 137).
(2)
قال ابن عدي: (هذا ما وضعه النخعي، وزيد ليس بشئ). ((اللآلئ المصنوعة)) (2/ 137)
(3)
((لوامع الأنوار)) (2/ 188 – 189).
(4)
((تفسير المنار)) (8/ 322).
(5)
((تفسير المنار)) (8/ 323).
والواقع أن ما قاله محمد رشيد رضا – من إنكار أن يكون هناك أي إشارة إلى أن الميزان له كفتان من السنة – غير مسلم فقد جاء في السنة بعض الأحاديث التى تدل على وزن العمل ووزن العامل وكما أخرج البخاري: ((يؤتي بالرجل فيوضع في كفة)) (1) وكقوله أيضاً: ((فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) (2). وغيرها من الأحاديث التي قدمنا ذكرها، وفيها إشارة إلى إثبات أن ميزان الأعمال له كفتان.
ثم إن إثبات أن الميزان له كفتان لم يقل به الزجاج وحده، بل هو ما عليه الأئمة الذين قدمنا ذكر أقوالهم.
2 -
ما علقه الدكتور طه محمد الزيني على ترجمة ابن كثير في إثبات أن للميزان كفتين حسيتين بقوله: (لا يوجد دليل قاطع في القرآن ولا في الحديث على أن كفتي ميزان الحساب يوم القيامة حسيتان – أي يدركان بإحدى الحواس الخمس، وأقرب الحواس إلى إدراك الكفتين اللمس باليد – بل كل ما في القرآن والحديث يحتمل أن يكون الوزن معنوياً، بل هو الأرجح؛ لأن الأعمال يوم القيامة أكثرها معنوي يقرب إلى الأذهان بتشبيهه بالحسيات)(3).
وهذا القول من الدكتور طه الزيني يعتبر بعيداً عما قرره العلماء، ومخالفاً لما جاءت به السنة في وزن الأعمال، وليس ما يذكره من أعمال يوم القيامة من الأشياء المتخيلة التي يشبه فيها المعنوي بالحسي. فإن القول بهذا يفتح باباً خطيراً من التشكيك في أمورالآخرة، وينبغي على من يقول بهذا أن يعيد النظر فيه. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1119
(1) الحديث رواه أحمد (2/ 221)(7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 82): رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 24): إسناده صحيح.
(2)
الحديث رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (2/ 213)(6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين، وهو على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490): حسن غريب.
(3)
((النهاية)) (2/ 91).