الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أهداف سورة «الفاتحة»
«1»
تسمّى «الفاتحة» لأنّ الله عز وجل افتتح بها كتابه، ولأن المسلم يفتتح بها الصّلاة. وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء، فأول آيات نزلت من السماء هي الآيات الأولى من سورة «اقرأ» ، وأول سورة نزّلت من السماء هي سورة «الفاتحة» .
وتسمّى «سورة الحمد» و «أمّ الكتاب» ، و «أمّا القرآن» ، لأنها أصل القرآن، أو لأنها أفضل سورة في القرآن، فقد اشتملت على أصول العقيدة وعلى الأهداف الأساسية للقرآن، ففيها الثناء على الله وتعظيمه ودعاؤه.
وتسمّى «الشافية» لأن فيها شفاء ودواء.
وتسمّى «الصلاة» ، قال النبي (ص) :
«يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» .
يبدأ المؤمن قراءة الفاتحة بقوله:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. وتعرف الجملة الأولى بالاستعاذة، وتعرف الثانية ب «التسمية» أو «البسملة» .
وقد أمر الله بالاستعاذة عند أول كل قراءة، فقال في سورة النحل المكّيّة:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)[النحل] . وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، لأن القرآن مصدر هداية، والشيطان مصدر ضلال فهو يقف للإنسان بالمرصاد
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984
.
في هذا الشأن على وجه خاص، فعلّمنا الله أن نتّقي كيده وشره بالاستعاذة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) : هي بداية مباركة لسور القرآن، ولكل عمل يعمله الإنسان، فيتجرد من حوله وقوته، ويبارك العمل باسم الله وبركة الله وقدرته.
وقد تكلم المفسّرون كثيرا في معنى البسملة وفي علاقة بعض ألفاظها ببعض. قال بعضهم: معنى «بسم الله» : بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته.
هذا تعليم من الله لعباده ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها حتى يكون الافتتاح ببركة اسمه جلّ وعزّ.
وقال الإمام محمد عبده: إنها تعبير يقصد به الفاعل إعلان تجرّده من نسبة الفعل إليه، وأنه لولا من يعنون الفعل باسمه لما فعل، فهو له وبأمره وإقداره وتمكينه، فمعنى:«أفعل كذا باسم فلان» : أفعله معنونا باسمه ولولاه ما فعلته.
قال الأستاذ الإمام: وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات، وأقربه ما يرى في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وعملا، باسم السلطان أو الخديوي فلان.
الْحَمْدُ لِلَّهِ: الحمد هو الثناء بالجميل على واهب الجميل و «الله» علم على الذات الأقدس، واجب الوجود، ذي الجلال والإكرام. وهي جملة خبرية معناها: الشكر لله، وفيها عرفان لله بالفضل والمنّة، كما ورد في الأثر:«يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» .
وفي الفتوحات الإلهية: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الشكر لله المعبود للخواصّ والعوامّ، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته وآلائه للأنام.
رَبِّ الْعالَمِينَ (2) : الرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح والتربية.
والمتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين، أي جميع الخلائق. قال في تفسير الجلالين:«أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدوابّ وغيرهم، وكل منها يطلق عليه عالم يقال له عالم الإنس وعالم الجن، إلى غير ذلك» .
والله سبحانه لم يخلق الكون ليتركه
هملا، وإنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، وكل العوالم تحفظ وتتعهد برعاية رب العالمين.
والصلة بين الخالق والخلائق صلة دائمة ممتدة في كل وقت وفي كل حالة.
لقد حكى القرآن عن عقائد المشركين، وصور التّخبّط الذي كان يحيط بالبشرية في الجاهلية. فمنهم من اتّخذ أصناما يعبدها من دون الله، ومنهم من جعل الالهة المتعددة رموزا للذات الإلهية، وقالوا كما ورد في التنزيل: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وقال القرآن عن جماعة من أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] .
وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الالهة كما يزعمون.
جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار، يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يخبط في ظلمات وظنون لا يستقر منها على يقين.
ومن ثمّ كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصوّر الذي يستقرّ عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.
وكان من رحمة الله بالعباد إنقاذهم من الحيرة، وإخراجهم من الضلال إلى الهدى بهذا الدين الحنيف بما فيه من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وسهولة ويسر، وتجاوب مع الفطرة.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: الرحمن:
صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، الرحيم:
صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.
ونلاحظ أن كلمة الرحمن لم تذكر في القرآن، إلا وقد أجريت عليها الصفات، كما هو شأن أسماء الذات.
قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)[الرحمن] ، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)[طه] . أما
«الرحيم» ، فقد كثر استعمالها وصفا فعليا، وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)[البقرة] ووَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)[الأحزاب] ووَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)[يونس] . كما جاءت الرحمة كثيرا على هذا الأسلوب وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف: 16] .
ف «الرحمن» : اسم الله يدل على قيام الرحمة بذاته سبحانه، و «الرحيم» صفة تدل على وصول هذه الرحمة إلى العباد.
تقول: فلان غني بمعنى: أنه يملك المال، وفلان كريم بمعنى أنه ينقل المال إلى الآخرين.
ورحمة الله لعباده لا حد لها، فهو الذي خلقهم وأوجدهم وسخّر لهم الكون كله وأمدّهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم هو يفتح بابه للتائبين ويعطي السائلين، ويجيب دعاء الداعين. قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)[البقرة] .
إن واجبنا أن نغرس في أبنائنا محبة الله، وأن نعوّدهم عبادته حبّا له واعترافا بفضله وإحسانه، وذلك هو منهج الإسلام. فإن الله في الإسلام، لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء، كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها، كما تصوّرها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في العهد القديم، كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.
فالله، في الإسلام، رحمن رحيم، ليس مولعا بالانتقام والتعذيب. وبعض النّاس يحلوا لهم أن يصوّروا الإله منتقما جبّارا لا همّ له إلّا تعذيب الناس وإلقاؤهم في نار جهنم، وهي نغمة نابية عن روح الإسلام، غريبة عن نصوصه وتشريعاته السمحة.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) : أي أن الله هو المالك المتصرّف يوم القيامة، فالناس في الدنيا يملكون ويحكمون ويتصرفون، فإذا كان يوم القيامة وقف النّاس جميعا للحساب الصغير والكبير، السّوقة والأمير، الوزير والخفير، الملك والأجير، كل الناس قد وقفوا حفاة عراة مجرّدين من كل جاه أو
سلطان أو رتبة أو منزلة، وينادي الله سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فيكون الجواب: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16)[غافر] .
ويَوْمِ الدِّينِ وهو يوم الحساب والجزاء، قال ابن عباس:
يَوْمِ الدِّينِ هو يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، إلّا من عفا عنه، فالأمر أمره. قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:
54] .
والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية، وأساس من أسس السعادة والنجاح للفرد والمجتمع.
فالمؤمن، عند ما يتيقّن أن هناك يوما للجزاء والحساب يدفعه إيمانه إلى مراقبة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه. ولهذا فإن التشريعات الإسلامية تتخذ طابعا مميّزا في التطبيق، فإن المؤمن ينفذها راغبا في ثواب الله راهبا لعقابه.
أمّا التشريعات الواضعية، فإن تنفيذها مرتبط بالخوف من السلطة. وعند ما يتأكد الشخص من بعده عن أعين السلطة، فإن هذا يهوّن عليه ارتكاب المخالفة.
أما القانون الإلهي، فإنه مرتبط بسلطة عليا لا تغيب ولا تختفي أبدا.
إنها سلطة الله الذي يعلم السر وأخفى، ويطّلع على الإنسان أينما كان وحيثما وجد.
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة] .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) :
لا نعبد إلّا إيّاك ولا نستعين إلّا بك.
فأنت المستحقّ للعبادة، وأنت نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)[الأنفال] .
ومعنى العبادة خضوع لا يحدّ لعظمة لا تحد، وهي تدل على أقصى غايات التذلّل القلبي والحب النفسي، والفناء في جلال المعبود وجماله، فناء لا يدانيه فناء.
هي سعادة المؤمن، بأنه يقف بين يدي الله خاشعا خاضعا عابدا متبتّلا،