الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البقرة»
«1»
لم قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 2] على سبيل الاستغراق، وكم ضال قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الآية 23] .
قلنا: المراد أنّه ليس محلّا للرّيب، أو معناه: لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفي معناه النّهي:
أي لا ترتابوا في أنه من عند الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [الحج: 7] .
فإن قيل: لم قال تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيلا لحاصل؟
قلنا: إنّما صاروا متّقين بما استفادوا من الهدى، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه، أو خصّهم بالذكر لأنّهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه واتّبعوه، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45)[النازعات] أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق، واقتصر على أحدهما، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] .
فإن قيل: المخادعة إنّما تتصوّر في حق من تخفى عليه الأمور ليتحقّق الخداع في حقّه يقال: خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء فلم قال سبحانه يُخادِعُونَ اللَّهَ [الآية 9] ؟
قلنا معناه يخادعون رسول الله، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وقوله تعالى:
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، المؤلف: محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] أو سمّى نفاقهم خداعا، لشبهه بفعل المخادع.
فإن قيل: لم حصر الفساد في المنافقين، بقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الآية 12] ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟
قلنا: المراد بالفساد، الفساد بالنفاق وهم كانوا مختصّين به:
فإن قيل: لم قال الله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الآية 15] والاستهزاء من باب العبث والسخرية وهو قبيح، والله تعالى منزه عن القبيح؟
قلنا: سمي جزاء الاستهزاء استهزاء، مشاكلة، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] فالمعنى الله يجازيهم جزاء استهزائهم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الآية 19] ومعلوم أنّ الصّيب لا يكون إلّا من السماء؟
قلنا: الحكمة فيه، أنّ السّياق ذكر السماء معرفة، وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها لا من أفق واحد، إذ كل أفق يسمّى سماء قال الشاعر:
ومن بعد أرض بيننا وسماء
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين، أنّه لا ندّ له سبحانه ولا شريك له، بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا وشركاء؟.
قلنا: معناه: وأنتم تعلمون، أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية. أو وأنتم تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ [الآية 24] فعرّف النار هنا، ونكّرها في سورة التحريم؟
قلنا: لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذهني وفي تلك مع المؤمنين والذي يعذّب من عصاتهم بالنار يكون في جزء من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة قبل هذه الآية فلم تكن النار التي وقودها النّاس والحجارة معروفة فنكّرها ثم نزلت هذه الآية بالمدينة، فعرفت إشارة بها إلى ما عرفوه أولا.
فإن قيل: إنّ «تلبسوا» و «تكتموا» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [الآية 42] ، ليسا فعلين متغايرين فينهوا عن الجمع بينهما، بل أحدهما داخل في الاخر؟
قلنا: هما فعلان متغايران، لأنّ المراد بتلبيسهم الحق بالباطل، كتابتهم في التوراة ما ليس منها، وبكتمانهم الحقّ بقولهم لا نجد في التوراة صفة محمد (ص) .
فإن قيل: قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) ما فائدة الثاني، والأوّل يدل عليه ويقتضيه؟
قلنا: قوله تعالى: مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي ملاقو ثواب ربّهم، ما وعدهم على الصبر والصلاة، وقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ أي موقنون بالبعث، فصار المعنى أنّهم موقنون بالبعث، وبحصول الثواب الموعود، فلا تكرار فيه.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الآية 59] ، وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم، لأنّهم قيل لهم قولوا حطّة فقالوا حنطة؟
قلنا: معناه فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم؟
فإن قيل: قوله سبحانه: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (63) .
العثو: الفساد، فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا: معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.
فإن قيل: لم قال تعالى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الآية 61] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟
قلنا: المراد أنّه دائم غير متبدّل، وإن كان نوعين.
فإن قيل: لم قال جل جلاله:
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 61] وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟
قلنا: معناه بغير الحقّ في اعتقادهم، ولأنّ التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل، كما في عكسه، كقوله تعالى.
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] .
فإن قيل: لم قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) وانتقالهم من
صورة البشر إلى صورة القردة، ليس في وسعهم؟
قلنا هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، فهو من قبيل قوله عز وجل: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47 وسورة يس: 82] .
فإن قيل: لم قال سبحانه: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الآية 68] ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا، فكيف جاز دخولها على ذلك، وهو مفرد؟
قلنا: ذلك يشار به إلى المفرد والمثنّى والمجموع، ومنه قوله تعالى:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] وقوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)[آل عمران] وقوله تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران:
14] إلى قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فمعناه عوان بين الفارض والبكر، وسيأتي تمامه في قوله عز وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الآية 74] كلاهما بمعنى واحد، فما فائدة الثاني؟
قلنا: التفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة، والثاني يدلّ على الخروج نفسه: وهما متغايران فلا تكرار.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الآية 79] والكتابة لا تكون إلّا باليد؟
قلنا: الحكمة فيه تحقيق مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم، فإنّه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بنفسه، بل أمر غيره به من كاتب له، ونحو ذلك.
فإن قيل: التولّي والإعراض واحد، فلم قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) .
قلنا: معناه: ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الآية 96] ما الحكمة في قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم من جملة الناس؟
قلنا: إنّما خصّوا بالذكر بعد العموم،
لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ، لأنّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
فإن قيل: قوله عز وجل: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الآية 102] يدلّ على أن علم السحر لم يكن حراما.
قلنا: العمل به حرام، لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه، كما قال الله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الآية 102] . نظيره لو سأل إنسان: ما الزنا؟
لوجب بيانه له ليعرفه فيجتنبه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) لم أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم، ثم نفاه عنهم.
قلنا: المثبت لهم، أنّهم علموا علما إجماليّا، أنّ من اختار السحر ماله في الاخرة من نصيب والمنفي عنهم، أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه، من تحسّر الاخرة، ولا يكون لهم نصيب منها فالمنفي غير المثبت، فلا تنافي.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) وإنّما يستقيم أن يقال: هذا خير من ذلك، إذا كان في كل واحد منهما خير، ولا خير في السحر؟
قلنا: خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلم السحر خيرا، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيويّ به.
فإن قيل: لم قال سبحانه هنا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [الآية 126] وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ؟
قلنا: في الدّعوة الأولى كان مكانا قفرا، فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرّفه وطلب له الأمن، أو كان بلدا آمنا فطلب له ثبات الأمن ودوامه.
فإن قيل: أيّ مدح وشرف لإبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى:
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) مع ما له من شرف الرسالة.
قلنا: قال الزجاج: المراد بقوله تعالى: لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) أي لمن الفائزين.
فإن قيل: الموت ليس في وسع
الإنسان وقدرته حتّى يصحّ أن ينهى عنه، على صفة أو يؤمر به على صفة، فلم قال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) .
قلنا: معناه: اثبتوا على الإسلام، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام، فهو في المعنى أمر بالثبات على الإسلام والدوام عليه، أو نهي عن تركه.
فإن قيل: قوله عز وجل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الآية 137] . إن أريد به الله تعالى فلا مثل له، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له أيضا، لأن دين الحق واحد؟.
قلنا: كلمة مثل زائدة. معناه: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، يعني بمن آمنتم به وهو الله تعالى، أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام، و «مثل» قد تزاد في الكلام كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] ومثل بمعنى واحد وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] أي مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الآية 143] وهو لم يزل عالما بذلك؟
قلنا: قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه، أنّه يكون ويوجد، أو أراد بالعلم التمييز للعباد، كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] .
إن قيل: لم قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الآية 144] وهذا يدل على أنّه (ص) ، لم يكن راضيا بالتوجّه إلى بيت المقدس، مع أنّ التوجّه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟
قلنا: المراد بهذا، رضا المحبّة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد الأمر الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [الآية 145] ولهم قبلتان:
لليهود قبلة، وللنصارى قبلة؟.
قلنا: لمّا كانت القبلتان باطلتين مخالفتين لقبلة الحقّ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.
فإن قيل: كيف يكون للظالمين من اليهود أو غير هم حجة على المؤمنين، حتّى قال تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
[الآية 150] ؟.
قلنا: معناه إلّا أن يقولوا ظلما وباطلا، كقول الرجل لصاحبه: مالك عندي حق، إلّا أن تظلم أو تقول الباطل وقيل معناه: والذين ظلموا منهم، ف «إلّا» هنا بمعنى واو العطف، كما في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل] وقيل:
«إلّا» فيهما بمعنى لكن. وحجّتهم أنّهم كانوا يقولون، لمّا توجه النبي (ص) إلى بيت المقدس: ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه، وكانوا يقولون أيضا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا، فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة فعادوا يقولون:
لم تركت قبلة بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها فهذا هو المراد به بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وقيل: المراد به قولهم:
ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه، وقيل: المراد به قول المشركين: قد عاد محمّد إلى قبلتنا لعلمه أنّ ديننا حق، وسوف يعود إلى ديننا، وإنما سمّى الله باطلهم حجة لمشابهته الحجة في الصورة، كما قال الله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ [الشورى:
16] أي باطلة، وقال سبحانه: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَكْفُرُونِ بعد قوله سبحانه: وَاشْكُرُوا لِي [الآية 152] والشكر نقيض الكفر، فمتى وجد الشكر انتفى الكفر؟
قلنا: قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي معناه استعينوا بنعمتي على طاعتي، وقوله سبحانه وَلا تَكْفُرُونِ معناه لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل:
الأوّل أمر بالشكر. والثاني أمر بالثبات عليه.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)[آل عمران] وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟.
قلنا: المراد بالناس المؤمنون فقط، أو هو على عمومه وأهل دينه يلعنونه في الاخرة، قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] وقال سبحانه: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف: 38] .
فإن قيل: ما الحكمة في لفظ «إله» في قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية 163] .
قلنا: لو قيل: وإلهكم واحد، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية، يعني لا إله غيره، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله، والآية إنّما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته، ونفي ما يقوله النّصارى أنه واحد، والأقانيم ثلاثة:
أي الأصول كما أنّ زيدا واحد وأعضاؤه متعددة فلما قيل إله واحد دل على أحديّة الذات والصفة. ولقائل أن يقول: قوله تعالى واحِدٍ يحتمل الأحديّة في الذات، ويحتمل الأحدية في الصفات، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرر، فلا يتم الجواب.
فإن قيل: ما الحكمة في التشبيه في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [الآية 171] وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟.
قلنا: فيه إضمار تقديره: ومثلك يا محمّد مع الكفار كمثل الرّاعي مع الأنعام، أو تقديره: ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي، أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم، أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الرّاعي.
فإن قيل: لم خصّ المنعوق بأنّه لا يسمع إلّا دعاء ونداء، مع أنّ كلّ عاقل كذلك أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟
قلنا: المراد بقوله تعالى: لا يَسْمَعُ [الآية 171] أنّه لا يفهم كقولهم:
أساء سمعا، فأساء إجابة، أي أساء فيهما.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 174] وقال في موضع آخر فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)[الحجر] ؟
قلنا: المنفي كلام التلطّف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي.
فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] أي فرض، والقصاص ليس بفرض، بل الوليّ مخيّر فيه، بل مندوب إلى تركه؟
قلنا: المراد به فرض على القاتل التمكين، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.
فإن قيل: لم قال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 180] عطف الأقربين على الوالدين، وهما أقرب الأقربين، والعطف يقتضي المغايرة؟
قلنا: الوالدان ليسا من الأقربين، لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة، كالأخ والعمّ ونحوهما، والوالدان ليسا كذلك، ولو كانا منهم لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما، كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الآية 98] .
فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الآية 183] وصوم هذه الأمة، ليس كصوم أمّة موسى وعيسى عليهما السلام؟.
قلنا: التشبيه في أصل الصوم لا في كيفيّته أو في كيفيّة الإفطار، فإنّه، في أول الأمر كان الإفطار مباحا من غروب الشمس إلى وقت النوم فقط، كما كان في صوم من قبلنا، ثم نسخ بقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الآية 187]، أو في العدد أيضا على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض على النصارى صوم رمضان بعينه، فقدّموا عشرة أو أخّروا عشرة لئلّا يقع في الصيف، وجبروا التقديم والتأخير بزيادة عشرين، فصار صومهم خمسين يوما، بين الصيف والشتاء.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الآية 185] بعد قوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ.
قلنا: ذكر سبحانه أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنّه بيّنات من الهدى: أي من جملة ما هدى الله به عبيده، وفرّق به بين الحق والباطل، من الكتاب السماوية الهادية الفارقة بين الحق والباطل، فلا تكرار.
فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر المريض والمسافر؟
قلنا: الحكمة فيه أنّ الآية المتقدمة نسخ مما فيها تخيير الصحيح، وكان فيها تخيير المريض والمسافر أيضا.
فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهم أنّ تخييرهما نسخ، كما نسخ تخيير الصحيح.
فإن قيل: قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية 186] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الداعين،
ونحن نرى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم؟
قلنا: روي عن النبي (ص)، أنّه قال:«ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمّا أن يعجّل دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الاخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ولأنّ قبول الدعاء شرطه الطاعة الله تعالى، وأكل الحلال، وحضور القلب وقت الدعاء فمتى اجتمعت هذه الشروط حصلت الإجابة، ولأن الداعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة، والله تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل، أو في منعه، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي، وهو طلب المصلحة، فيكون قد أجيب وهو يعتقد أنّه منع عنه.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الآية 196] ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة، ثم ما الحكمة في قوله تعالى: كامِلَةٌ والعشرة لا تكون إلّا كاملة، وكذا جميع أسماء الأعداد، لا تصدق على أقل من المذكور، ولا على أكثر منه؟
قلنا: الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو، كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وألا تحل التسع جملة، فنفى بقوله سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ ظنّ وجوب أحد العددين فقط، إما الثلاثة في الحج، أو السبعة بعد الرجوع، وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا، فيتأكّد العلم به، ونظيره فذلكة الحساب، وتنصيف الكتاب.
وأما قوله تعالى: كامِلَةٌ فتأكيد كما في قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الآية 233] أو معناه كاملة في الثواب مع وقوعها بدلا من الهدى، أو في وقوعها موقع المتتابع مع تفرّقها، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة مع وقوع بعضها في غير مكّة، فالحاصل أنّه كمال، وصفا لا ذاتا.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار الأمر بالذكر في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الآية 198] .
قلنا: إنّما كرره تنبيها على أنّه سبحانه أراد ذكرا مكرّرا، لا ذكرا واحدا، بل مرّة بعد أخرى، ولأنه زاد في الثاني فائدة أخرى، وهي قوله
تعالى: كَما هَداكُمْ يعني اذكروه بأحديّته كما ذكركم بهدايته، أو إشارة الى أنّه جلّ وعلا أراد بالذكر الأوّل الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، وبالثاني الدعاء بعد الفجر بها، فلا تكرار.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الآية 198] إلى أن قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الآية 199] وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرتين، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.
قلنا: فيه تقديم وتأخير تقديره: من ربّكم ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس، فإذا أفضتم من عرفات.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الآية 203] ومعلوم أنّ المتعجّل التارك بعض الرمي، إذا لم يكن عليه إثم، لا يكون على المتأخّر الآتي بالرمي كاملا؟
قلنا: كان أهل الجاهلية فريقين، منهم من جعل المتعجّل آثما، ومنهم من جعل المتأخّر آثما، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا، أو معناه لا إثم على المتأخّر في تركه الأخذ بالرخصة، مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه، أو أنّ معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى، لا على مجرّد الرخصة أو العزيمة في الرمي ثمّ قيل المراد به تقوى المعاصي في الحجّ، وقيل تقوى المعاصي بعد الحجّ في بقيّة العمر، بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ من التوبة والإنابة. والمشكل في هذه الآية قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ والتعجيل المرخّص فيه، إنّما هو التعجيل في اليوم الثاني من أيام التشريق.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره، كقولهم: رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟
قلنا: هو خطاب لمن كان يعبد غير الله تعالى، وينسب أفعاله إلى سواه فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة، ردّوا ما أضافوه لغيره بسبب كفرهم وظلمهم ولأنّ رجع يستعمل بمعنى صار ووصل، كقولهم: رجع عليّ من فلان مكروه، قال الشاعر [بحر الطويل] :
وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ولأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده، فلمّا خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم، ومنه قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] وقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] وإنّما قال سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) ولم يقل إليه، وإن كان قد سبق ذكره مرة، لقصد التعميم والتعظيم.
فإن قيل: لم طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 215] فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا عن بيان المصرف؟.
قلنا: قد تضمّن قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بيان ما ينفقونه وهو كلّ خير، ثمّ زيد على الجواب بيان المصرف، ونظيره قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ
[طه] .
فإن قيل: لم جاء «يسألونك» ثلاث مرات بغير واو: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 215] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [الآية 217]، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الآية 219] . ثم جاء ثلاث مرات بالواو: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 219] ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الآية 220] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ؟ [الآية 222] .
قلنا: لأنّ سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرّقا، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . وعزمهم الطلاق ممّا يعلم، لا ممّا يسمع؟
قلنا: الغالب أنّ العزم على الطلاق، وترك الفيء، لا يخلو من دمدمة، وإن خلا عنها، فلا بدّ له أن يحدّث نفسه ويناجيها بما عزم عليه، وذلك حديث لا يسمعه إلّا الله تعالى، كما يسمع وسوسة الشيطان.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الآية 228] ولا حقّ للنساء في الرجعة، وأفعل يقتضي الاشتراك؟
قلنا: المراد أنّ الزوج إذا أراد الرجعة وأبت، وجب إيثار قوله على قولها، لأنّ لها حقا في الرجعة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الآية 228] والزوج أحقّ بالرجعة، سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها، بتطويل العدّة؟
قلنا: المراد أنّ الرجعة أصوب وأعدل، إن أراد الزوج الإصلاح، وتركها أصوب وأعدل، إن أراد الإضرار.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الآية 243] وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] .
قلنا: المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الآية 56] لأنّها كانت إماتة عقوبة، أو كان إحياؤهم آية لنبيّهم على ما عرف في قصّتهم، فصار كإحياء العزيز حين مرّ على قرية وآيات الأنبياء نوادر مستثناة، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا، فكان هذا جوابا عاما، مع أنّ في أصل السؤال نظرا، لأنّ الضمير في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ للمتّقين، والمقصود في قوله تعالى فِيها الجنّات، على ما يأتي بيانه في سورة الدخان، إن شاء الله على وجه يندفع به السؤال من أصله.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ [الآية 247] والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟
قلنا: المراد بهذا الملك السلطنة، والرياسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت وليس المراد بأنّه يعطي ملكه لأحد، لأنّ سياق الآية يمنعه.
فإن قيل: لم قال تعالى في الماء:
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ [الآية 249] ولم يقل ومن لم يشربه، والماء مشروب لا مأكول؟
قلنا: طعم بمعنى أكل، وبمعنى ذاق، والذوق هو المراد هنا، وهو يعمّ.
فإن قيل: لم خصّ موسى وعيسى عليهما السلام من بين الأنبياء بالذكر في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [الآية 253] ؟
قلنا: لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، مع الكتابين العظيمين المشهورين.
فإن قيل: لم قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الآية 254] وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء وغيرهم بدليل قوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 255] وقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .
قلنا: هذه الآيات لا تدل على وجود الشفاعة يوم القيامة، بل تدل على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير إذنه تعالى، ولا توجد لغير مرضيّ عنده، وهذا لا يتعارض مع وجودها، بل المتعارض معه هو الإخبار عن وجودها، لا الإخبار عن إمكان وجودها، ولو سلّم، فالمراد به نفي شفاعة الأصنام والكواكب التي كانوا يؤمنون بها.
ولهذا عرّض بذكر الكفّار، بقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) وقيل: المراد، أنّه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات، لأنّ الشّفاعة في الاخرة في زيادة الفضل لا غير، والخطاب مع المؤمنين في النفقة الواجبة وهي الزّكاة.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ على وجه الحصر، وغيرهم ظالم أيضا؟
قلنا: لأنّ ظلمهم أشدّ، فكأنّه لا ظالم إلّا هم، نظيره قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر:
28] .
فإن قيل لم قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 257] بلفظ المضارع، ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي، والإخراج قد وجد، لأنّ الإيمان قد وجد؟
قلنا: لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج، من الله تعالى في الزمان المستقبل، في حقّ من آمن، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية، وفي حقّ من لم يؤمن، ممّن قضى الله أنّه سيؤمن بابتداء الهداية وزيادتها، أيضا، ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.
فإن قيل: متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟
قلنا: الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدخول، يقال لمن امتنع عن الدخول في أمر خرج منه وأخرج نفسه منه، وإن لم يكن دخله فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضلال، إخراج لهم منها وتزيين قرناء الكفّار لهم الباطل الذي يصدّونهم به عن الحقّ، إخراج لهم من نور الهدى ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يظهر كان نورا لهم، وكفرهم به بعد ظهوره خروج منه إلى ظلمات الكفر، ولأنّه لمّا ظهرت معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان موافقه ومتّبعه خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومخالفه خارجا من نور العلم إلى ظلمات الجهل.
فإن قيل: لم انتقل إبراهيم (ع) إلى حجّة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى، مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الاخر، فإن إبراهيم (ع) ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟
قلنا: إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والاماتة التي أضافهما إبراهيم (ع) إلى الله تعالى، حيث عارض معارضة لطيفة، وعمي عن اختلاف المعنيين أو لأنّه علم أنّه فهم الحجة لكنه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه وأشياعه فعدل إبراهيم (ع) إلى أمر ظاهر يفهمه كل أحد، ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس.
فإن قيل: لم طبع الله على قلبه فلم يعارض بالعكس في طلوع الشمس؟
قلنا: لأنّه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب، لأنّ ذلك أمارة قيام الساعة، فلا يوجد إلّا قريبا من قيامها، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أن طلوعها من المشرق سابق على وجوده، فلو ادّعاه لكذّبوه.
فإن قيل: لم قال عزير عليه السلام كما ورد في التنزيل- منكرا مستبعدا أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الآية 259] وهو نبيّ، والنبي لا تخفى عليه قدرة الله تعالى، على إحياء قرية خربة، وإعادة أهلها إليها؟
قلنا: لم يقله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى، بل متعجبا من عظيم قدرته تعالى، أو طلبا لرؤية كيفية الإعادة، لأنّ كلمة «أنّى» بمعنى كيف أيضا. وقد نقل مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك، كان رجلا كافرا
شاكّا في البعث، وإن كان الأول هو المشهور.
فإن قيل: لم قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [الآية 260] وقد علم أنّه أثبت الناس إيمانا؟
قلنا: ليجيب بما أجاب به، فتحصل به الفائدة الجليلة، للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.
فإن قيل: ما المقصود بقول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل:
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الآية 260] مع أنّ قلبه مطمئنّ بقدرة الله على الإحياء؟
قلنا: معناه ليطمئنّ قلبي، بعلم ذلك عيانا، كما اطمأن به برهانا أو ليطمئن بأنّك اتخذتني خليلا، أو بأني مستجاب الدعوة.
فإن قيل: فما الحكمة في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الآية 260] أي فضمّهنّ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟
قلنا: الحكمة فيه تأمّلها ومعرفة أشكالها وصفاتها، لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء، فيتوهّم أنّه غيرها.
فإن قيل: لم مدح الله سبحانه المتّقين بترك المنّ، ونهى عن المنّ أيضا، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان، في نحو قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 164] ؟
قلنا: منّ بمعنى أعطى، ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله سبحانه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنعم عليهم، ونحو ذلك قوله تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [سورة ص: 39] . أما وقوله:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ [محمد: 4] ، فهو من الإنعام بالإطلاق من غير عوض. المنّ هنا بمعنى الاعتداد بالنعمة، وذكرها واستعظامها، وهو المذموم.
فإن قيل: قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] من القسم الثاني.
قلنا: ذلك اعتداد بنعمة الإيمان، فلا يكون قبيحا، بخلاف نعمة المال، ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقّه، ذم في حقّ العبد كالجبّار، والمتكبّر، والمنتقم، ونحو ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [الآية 266] ثمّ قال فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الآية 266] ؟
قلنا: لمّا كان النخيل والأعناب أكرم
الشجر، وأكثرها منافع، خصّهما سبحانه بالذّكر وجعل الجنّة منهما، وإن كان فيها غير هما تغليبا لهما وتفضيلا.
فإن قيل: قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الآية 273] يدلّ بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق، فلم قال سبحانه: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [الآية 273] .
قلنا: المراد به نفي السؤال والإلحاف جميعا، كقوله تعالى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [الآية 71]، أو كقول الأعشى:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب معناه ليس بساقه أين، ولا وصب، فغمزها.
فإن قيل: لم قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [الآية 275] ، ألحق الوعيد بأكله مع أنّ لابسه، ومدّخره، وواهبه، أيضا، في الإثم سواء؟
قلنا: لمّا كان أكثر الانتفاع والهمّ بالمال، إنّما هو الأكل، لأنه مقصود لا غناء عنه ولا بدّ منه، عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل كما يقال: أكل فلان ماله كلّه، إذا أخرجه في مصالح الأكل وغيره؟
فإن قيل: لم خص الأكل بذكر الوعيد، دون المطعم، وكلاهما آثم؟
قلنا: لأنّ انتفاعه الدنيويّ بالرّبا، أكثر من انتفاع المطعم.
فإن قيل: لم قال تعالى: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] والكلام إذ ذاك في الربا، ومقصودهم تشبيهه بالبيع فقياسه إنّما الربا مثل البيع في حلّه؟
قلنا: جاءوا بالتمثيل على طريق المبالغة، وذلك أنّه بلغ من اعتقادهم استحلال الربا، أنّهم جعلوه أصلا في الحلّ والبيع، وفرعا كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفّه، إذا أرادوا المبالغة.
فإن قيل: كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وقد قال الله تعالى في حق آكل الربا: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) ؟.
قلنا: الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء وإن لم يكن بصفة التأبيد، يقال:
خلّد الأمير فلانا في الحبس، إذا طال حبسه، أو أنّ قوله تعالى: فَأُولئِكَ إشارة إلى من عاد إلى استحلال الربا،
بقوله جلّ وعلا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] بعد نزول آية التحريم، وذلك يكون كافرا، والكافر مخلّد في النار.
فإن قيل: إنظار المعسر، فرض بالنصّ، والتصدّق عليه تطوّع، فلم قال تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 280] .
قلنا: كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض، بوصف الزيادة كان أفضل من الفرض كما أنّ الزهد في الحرام فرض، وفي الحلال تطوّع والزهد في الحلال أفضل، كما بيّنا كذلك هنا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: بِدَيْنٍ وقوله تعالى:
تَدايَنْتُمْ [الآية 282] مغن عنه.
قلنا: فائدته رجوع الضمير إليه في قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ [الآية 282] إذ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدّين، فالأول أحسن نظما، أو لأنّ التداين مشترك بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدال وكسرها ومنه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)[الفاتحة] ، أي الجزاء، ومنه أيضا قوله سبحانه يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)[الذاريات] ، فذكر الدّين ليتعيّن أيّ المعنيين هو المراد.
فإن قيل: لم شرط السفر في الارتهان بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ [الآية 283] ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسفر؟
قلنا: لم يذكره سبحانه، لتخصيص الحكم به، بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب، والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد، لحفظ مال المسافرين بأخذ الرهان.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر القلب، في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟
قلنا: كتمان الشهادة، هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب، ومكتسبا له أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال: هذا ما أبصرته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ
اللَّهُ
[الآية 284] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله، إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه في الوسع والطاقة، أو بالحديث المشهور فيه؟
قلنا: قيل أريد بالآية العموم، ثمّ نسخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الآية 286] وقيل: لا نسخ فيه لأنّه خبر، لا أمر أو نهي، بل العموم غير مراد، وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه، وهو العزم القاطع والاعتقاد الجازم، لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّ السّياق أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة، فهو سبحانه يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ثم يغفر لمن يشاء فضلا، ويعذّب من يشاء عدلا، كما أخبر جلّ وعلا في الآية.
فإن قيل: أيّ شرف للرسول (ص) ، في مدحه بالإيمان، مع أنّه في رتبة الرسالة ودرجتها، وهي أعلى من درجة الإيمان، فما الحكمة في قوله تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ [الآية 285] .
قلنا: الحكمة فيه أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان، حيث مدح به خواصّه ورسله ونظيره في سورة الصافات قوله تعالى في خاتمة ذكر كلّ نبيّ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)[الصافات] .
فإن قيل: روي عن ابن عباس أنّه قرأ: (ملائكته وكتابه)[الآية 285] فسئل عن ذلك، فقال كتاب أكثر من كتب فما وجهه؟
قلنا: قيل فيه إنّه أراد أن الكتاب جنس، والكتاب جمع، والجنس أكثر من الجمع، لأنّ حقيقته في الكل على ما ذهب إليه بعضهم ويردّ على هذا أن يقال: الكلام في الجمع المضاف، والمفرد المضاف للاستغراق عرفا وشرعا، كقوله لعبده: أكرم أصدقائي، وأهن أعدائي، وقوله: زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار، بخلاف قوله: صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي، فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر. فإن قيل: إنّ «بين» لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا، فلم قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] ؟
قلنا: أحد هنا بمعنى الجمع، الذي هو آحاد كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقّة: 47] فإنّه ثم بمعنى الجمع بدليل قوله تعالى: عَنْهُ حاجِزِينَ
[الحاقة: 47] فكأنّه قال: لا نفرق بين آحاد من رسله كقولك: المال بين آحاد الناس، ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا، تقول: ما رأيت أحدا إلّا بني فلان، أو إلّا بنات فلان سواء، وتقول إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي، يستوي فيه الكلّ فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم أو بين جماعة منهم، ومنه قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب: 32] .
فإن قيل: من أين دلّ قوله تعالى:
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] على أنّ الأوّل في الخير، والثاني في الشر؟
قلنا: قيل هو من كسب واكتسبت، فإنّ الأول للخير والثاني للشر، وهذا الرأي ليس دقيقا، وليس لديه دليل، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
[النساء: 112] وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)[المدّثّر] وقوله:
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشورى: 34] وقوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً [الشورى:
23] والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد. وقيل: هو من «اللّام» و «على» ، وليس هذا الرأي بدليل أيضا، لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)[الرعد] وقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [الآية 157] . اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ «اللّام» و «على» عند الإطلاق يقتضيان ذلك، أو لأنّهما يستعملان لذلك عند تقاربهما، كما في هذه الآية، لا نفرّق بين ذكر الحسنة والسيئة، أو الحسن والقبيح، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام: 164] أطلقه، وأراد به الشرّ بدليل ما بعده. وقولهم:
الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك.
وقولهم: فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه: هذا الكلام حجّة عليك لا لك، قال الشاعر:
على أنّني راض بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا عليّ ولا ليا وأمّا قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] وإن كان مقيّدا، إلّا أنّ فيه دلالة أيضا، من جهة «اللّام» و «على» ، لأنّ القيد شامل للظرفية.