الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البقرة»
«1»
قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) .
1-
الرّيب: صرف الدهر. والريب والرّيبة: الشكّ والظنّة والتهمة.
وقد رابني الأمر وأرابني: علمت منه الريبة، ورأيت منه ما يكره. وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ، أي لا شكّ فيه.
وأراب الرجل: صار ذا ريبة فهو مريب.
وجاءت كلمة «الريب» في قوله تعالى من السورة نفسها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الآية 23] .
لقد وردت كلمة «الريب» في سائر سور القرآن خمس عشرة مرة أخرى في خمس عشرة آية من سور القرآن ومنها:
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [غافر: 59] .
كما وردت كلمة «ريبة» في [الآية 110 من سورة التوبة] هي في قوله تعالى:
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ.
وقد ورد الوصف من هذه الكلمة «مريب» في سبع آيات من سور مختلفة، جاء في ست منها وصفا لموصوف هو:«الشكّ» ، ومن ذلك قوله عز وجل:
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) .
ولم يلتفت أهل العلم إلى هذا الوصف، فيعرضوا للشكّ والريب،
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
وعلاقة أحدهما بالآخر، وتعيين الحد بينهما، ولم أجد في كتب التفسير شيئا من هذا العلم اللغوي، الذي يبحث في دقائق الفروق.
وقد ورد «الشكّ» في خمس عشرة آية في سور مختلفة، جاء في ست منها موصوفا بالوصف «مريب» كما أشرنا.
و «الشكّ» نقيض اليقين، فاليقين ثبوت العلم، أما الشكّ فهو نقيضه.
وكأنه حال من التردد بعيد عن الاستقرار.
والذي أراه أنه أضعف من «الريب» ، ولو لم يكن ذلك لما وصف «الشكّ» في ست آيات ب «مريب» ، منها قوله تعالى:
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)[إبراهيم] .
ويدلنا هذا على أن «الشك» قد ورد في تسع آيات أخرى غير موصوف بهذا الوصف، ويبدوا أنها تعني اليقين الثابت، كقوله تعالى:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] .
إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 104] .
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)[النمل] .
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] .
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)[ص] .
فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)[الدخان] .
ألا ترى أن كلمة «الشكّ» في هذه الآيات التسع تعني التردد وعدم اليقين، وهي أضعف في دلالتها على المعنى من «الشكّ» موصوفا «بمريب» في الآيات الست التي أشرنا إلى بعض منها؟
إن «الشكّ» قد ورد في سورة يونس، الآية 94، في أسلوب الشرط وهو من أساليب الإنشاء. وأساليب الإنشاء في جملتها لا تحتمل الصدق
والكذب، بخلاف أسلوب الخبر الذي يحتملهما. وعندي أن استعمال «الشكّ» في الآيات التسع، قد ورد إمّا في حشو جملة الشرط، وإما بعد «بل» للإضراب، وإما في حشو جملة الاستفهام، وإما في جملة توحي بالتردّد وعدم الاستقرار، كما في قوله تعالى:
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] .
وقوله تعالى أيضا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)[الدخان] .
وقوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] .
وعلى هذا كان استعمال الريب ألزم وأوجب لما يقتضي المقام أن تستعمل فيه، ولا يمكن أن يحل «الشكّ» محلّه.
ألا ترى أن قوله تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الكهف: 21] . تقرير حق وبيان وعلم بأمر محقق، وهذا يؤذن ألا يستعمل فيه ما قد يفهم منه الضعف والتردّد، فاستبعدت كلمة «الشكّ» واستعملت كلمة «الريب» ، ولا يمكن أن تؤدي الاولى ما تؤديه الثانية.
ومثل هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] .
وقوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)[الحج] .
وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)[السجدة] .
وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] .
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية: 26] .
ألا ترى أن قيام الساعة، والبعث، ويوم القيامة، ويوم الجمع حق لا مراء فيه، فإثباته وبيانه يتطلب أن تؤدي الألفاظ هذه الحال المقتضاة، فكان ان استعمل «الريب» ، ولم يستعمل «الشك» . تلكم لغة التنزيل في تخير اللفظ، وأحكام الأداء، وإصابة دقائق المعاني.
2-
قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .
أقول استعمال «المدّ» في هذه الآية استعمال لطيف دقيق، فهو غير «المدّ» المعروف بمعنى البسط، وهو استعمال خاص بهذه اللغة الشريفة.
قال الزمخشري «الكشاف 1: 67» :
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [الآية 15] : من مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده، وألحق به ما يقوّيه ويكثّره. وكذلك مدّ الدواة وأمدّها: زادها ما يصلحها.
ومددت السرج والأرض: إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا وأصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه انهماكا فيه.
فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المدّ في العمر والإملاء والإمهال؟
قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المدّ، قراءة ابن كثير وابن محيصن:(ويمدّهم)، وقراءة نافع:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ، على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له. فإن قلت: فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى الى قوله تعالى:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف:
202] ؟ قلت: إما أن يحمل على أنهم لمّا منعهم الله ألطافه التي يمنحها للمؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددا. وأسند إليه سبحانه لأنه مسبب عن فعله بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء، وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره، والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان في الإمهال، وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
وفي قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .
العمه: مثل العمى.
قال الزمخشري: «الكشّاف 1: 69» ، «والعمه مثل العمى، إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي
خاصة، وهو التحيّر والتردّد، لا يدري أين يتوجّه. ومنه قوله: بالجاهلين العمه، أي: الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضا عمهاء أي:
لا منار بها» . انتهى كلام الزمخشري.
أقول:
العمى والعمه متقاربان كلّ التقارب في الدلالة وبينهما فرق ما بين العامّ والخاص.
اللغة:
الذي أراه أن مادة المعنى في هاتين الكلمتين العين والميم، ثم يأتي الصوت الثالث ليعيّن المعنى، فيدلّ بالفتح في «العمى» على المعنى العام، ويدلّ بالهاء في «العمه» على المعنى الخاص.
قلت: بالفتح، وذلك أن الفتح بعد الميم في «العمى» وليس فوق الميم، هو صوت ثالث، فلما أطلق قليلا قليلا ولّد ما اصطلح عليه الألف المقصورة، وحقيقته فتحة لها طول معين يتجاوز الفتحة المألوفة، وهو صوت ثالث في هذه الكلمة كالصوت الصامت في «العمه» وهو الهاء.
3-
قال تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الآية 20] .
أقول: أراد- جلّ وعلا- في قوله:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ كلما أضاء البرق لهم مشوا في ضوئه. وهذا المعنى يدفعنا أن نقول في لغتنا العربية المعاصرة:
«إن هذه المسألة في ضوء العلم الحديث مقبولة» وليس: على ضوء العلم الحديث.
أقول: والذي دفع المعربين في عصرنا إلى استعمال: «على ضوء العلم» هو التأثر باللغات الغربية ولا سيما الفرنسية والإنكليزية.
4-
لن:
قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) .
قال الزمخشري: في «الكشّاف 1:
181» :
فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت: «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل، إلّا أنّ في «لن» توكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم
غدا كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم.
وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه، أصلها «لا أن» ، وعند الفرّاء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل حرف مقتضب لتأكيد نفي المستقبل.
أقول:
ويبدوا لي أنّ قول الفرّاء أوجه، وإن أصلها «لا» وهذا يعني أن التنوين عرض لها. وعلى هذا ألا يصح أن نقول: إنّ «إذا» أو «إذن» جاءت من «إذا» ، وإنّ «من» الموصولة أو الشرطية هي من «ما» ، ثم كان الاختصاص بعد ذلك في الاستعمال، بعد أن غبر عليها الزمان.
5-
قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [الآية 31] .
قال الزمخشري: «في الكشّاف 1:
126» : وعلّم آدم مسمّيات الأسماء. ثم عرضهم، أي: عرض المسمّيات.
أقول: ذهب المفسرون إلى هذا التأويل بسبب الضمير «هم» ، الذي يعود إلى جماعة العاقلين، والأسماء حقّها أن يكون الضمير العائد عليها هو «ها» للتأنيث، فيكون الفعل «عرضها» .
أقول أيضا: لعل هذا الاختصاص في الضمائر في الاستعمال لم يكن واضحا وضوحا كافيا في الحقب البعيدة من تاريخ العربية.
وجاء في «الكشّاف» : وقرأ عبد الله:
عرضهن، وقرأ أبيّ: عرضها.
6-
قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) .
قال الزمخشري: الباء التي في «الباطل» إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء، خلطته به، كان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.
أقول: كأن الأصوات الصامتة الساكنة التي ندعوها في كتب العربية القديمة «الحروف الصّحاح» هي مادة المعاني في الألفاظ، ثم تأتي الأصوات الصائتة التي دعيت «أحرف العلة» ،
ويتبعها «الحركات» التي هي بعضها أو جنسها، لتخص هذه المعاني بخصوصيات مفيدة. ألا ترى أن «لبس، يلبس» بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع تعني الخلط، وأنها غير «لبس، يلبس» بكسر ففتح فهذه من اللّباس. وإن مصدر الاولى «اللّبس» بفتح اللام، ومصدر الثانية «اللّبس» بضمها؟
أقول: كان على اللغويين، وأصحاب المعجمات أن يستشهدوا بالآية للدلالة على معنى «الخلط» في ترجمة «لبس» .
7-
قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) .
قوله جل شأنه: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، أي فدية.
أقول: وانصراف «العدل» إلى الفدية شيء من الكلم الإسلامي، الذي عرفناه في لغة القرآن.
8-
عثو:
قال تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) .
جاء في كتب اللغة:
قال ابن سيده: عثا عثوّا وعثي عثوّا:
أفسد أشدّ الإفساد.
وقال: وقد ذكرت هذه الكلمة في المعتل بالياء على غير هذه الصيغة من الفعل، وقال في الموضع الذي ذكره:
عثي في الأرض عثيّا وعثيّا وعثيانا، وعثى يعثى عن كراع وهو نادر، كل ذلك أفسد.
وقال كراع: عثى يعثى مقلوب من عاث يعيث، فكان يجب على هذا يعثي إلّا أنه نادر، والوجه عثي في الأرض يعثى.
وقرأ القرّاء كلهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) بفتح الثاء من عثي يعثى عثوّا، وهو أشدّ الفساد، وفيه لغتان أخريان لم يقرأ بواحدة منهما:
إحداهما عثا يعثو، قال ذلك الأخفش وغيره، ولو جازت القراءة بهذه اللغة، لقرئ:«ولا تعثوا» ولكن القراءة سنّة ولا يقرأ إلّا بما قرأ القرّاء به.
واللغة الثانية: عاث يعيث.
قال الأزهري: واللغة الجيّدة عثي يعثى، لأنّ يفعل لا يكون إلّا فيما ثانيه وثالثه أحد حروف الحلق.
أقول: وهذه اللغة التي قرأ بها عامة القرّاء وَلا تَعْثَوْا، لم تبق في العربية المعاصرة، بل بقي مقلوبها وهو عاث يعيث.
ومن المفيد أن أشير إلى أنّ بين الأجوف والناقص تبادلا في الصيغ، يتبين في طائفة من الأفعال منها: رأى وراء، وأنى وآن، وعثا وعاث وغير ذلك.
9-
قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) .
أقول: عقّب الله- جل وعلا- على القتل الذي عبّر عنه بسفك الدماء بالإجلاء عن الديار. وهذا يعني أن العدوان بالإجلاء يأتي بعد اقتراف القتل في قسوته وفظاعته.
10-
قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) .
أقول: إن لغة الحوار تستدعي استحضار الأحوال الماضية، وهذا يسوّغ بل يوجب استعمال صيغة الفعل الحاضر في سياق الماضي، فجاء في الآية: نؤمن، فلم تقتلون أنبياء الله، وقد عبّر عنه أهل العلم من المتقدمين بقولهم: حكاية حال ماضية.
11-
قال تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً [الآية 128] .
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) .
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) .
أقول: المراد بمادة «أسلم» في هذه الآيات الخضوع والإذعان، وقوله تعالى: مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك وجهينا، وهو من قوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص وجهه وأذعن وخضع. ومن هنا كانت كلمة «الإسلام» بمصطلحها المعلوم مشيرة إلى أن «المسلم» من أسلم وجهه لربه، وخضع وأذعن وأطاع.
12-
قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) .
قال الزمخشري في «الكشّاف 1:
196» :
صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب على قوله آمَنَّا بِاللَّهِ «1» ، وهي فعلة من «صبغ» ، كالجلسة من «جلس» ، وهي الحالة التي يقع فيها الصبغ.
والمعنى: تطهير الله، لأنّ الإيمان يطهّر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعمودية، ويقولون هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقّا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم:
قولوا آمنّا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغة، لا مثل صبغتنا، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته، ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول: لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهّرهم من أو ضار الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته.
أقول: لقد احتملت كلمة «الصبغة» هذا المعنى الاصطلاحي، وهو التطهير حتى صرنا نجدها في مصطلح غير المسلمين، بمعنى التطهير والتقديس، فالصبّاغ مثلا في عربية صابئة اليوم، هو الذي يقوم بعمل الصبغ، أي:
التطهير بصب الماء على من يريد التطهّر، برسوم معرفة لدى الصابئة.
13-
وقال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[الآية 148] .
الجهة (بكسر الجيم) والوجهة والوجهة (بكسر الواو وضمّها) واحد.
والذي جاء في لغة التنزيل: «الوجهة» بكسر الواو، والذي درجت عليه العربية أن فاء الكلمة إذا كان مكسورا حذف في الغالب في المصادر نحو:
«عدة» و «سنة» بكسر عين الكلمة إشارة للواو المكسورة التي حذفت، وقد تحذف الواو وهي مفتوحة إذا كانت فاء الكلمة نادرا نحو «سعة» و «ضعة» ، وقد يكون الفتح على السين والضاد بسبب العين الصوت الثالث في الكلمة.
(1) . الآية: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (136)
.
هذه ملاحظات وليست قواعد لأننا نعرف أن في العربية كثيرا من الكلم تبدأ بواو مكسورة فلا تحذف الواو ولا تبدل نحو وصال ووفاق. ولكننا نجد وجاه ووجاه قد تحوّلت الى تجاه وتجاه، ووراث إلى تراث، ووصاد إلى إصاد، وغير هذا ممّا اشتملت عليه فرائد العربية.
وإبدال الواو «ياء» بسبب كسر ما قبله، لا يقتصر على كون الواو فاء الكلمة، فقد تبدل الواو ياء في المصادر للأفعال الجوف نحو: الصّون مصدر «صان» ، ولكنك تقول الصّيان والصّيانة، والقوم مصدر «قام» ، ولكنك تقول القيام والقيامة.
وقد تجد الاسم من هذه المصادر بالواو مع كسرة ما قبله نحو الصّوان للشيء الذي يصان به، ولك أن تقول الصّوان بالضم، كما تقول «القوام» بالكسر، وقوام الأمر نظامه ونصابه وملاكه.
وتقول في المصادر على «فعلة» بالكسر غيلة من الفعل «غال يغول» كما تقول «طيلة» و «ميتة» وغير ذلك.
14-
قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الآية 187] .
والمعنى: تظلمون أنفسكم وتنقصونها حظّها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة «الكشاف 1: 230» .
أقول: لقد تعقّبت الفعل «اختان» ، وهو «افتعل» من «خان» ، فلم أحظ به في غير الآية الكريمة المشار إليها.
وليس لنا في العربية المعاصرة غير الفعل المجرد «خان» . غير أن المزيد «اختان» جاء ليؤدي فائدة خاصة، تنأى به عن معنى الفعل المجرد.
15-
قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الآية 191] .
قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ في الآية يعني:
حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم.
والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه رجل ثقف، أي سريع الأخذ لأقرانه، قال:
فإمّا تثقفوني فاقتلوني
…
فمن أثقف فليس إلى خلود
أقول: وهذا المعنى في مادة «ثقف» لا نعرفه في العربية المعاصرة، وذلك أن «الثقافة» بمعناها المعاصر غلبت على الكلمة، حتى نسي الناس أنّ الأصل فيها للثقاف، وهو الآلة التي
تعضّ الرماح وتقبضها لتقويمها، والثقف هو القبض والضبط.
16-
قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الآية 196] .
قال الزمخشري (الكشاف 1: 239- 240) :
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض أو عجز.
قال الله تعالى: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] .
وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ، أو سجن، ومنه قيل للمحبس: الحصير وللملك الحصير لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه، وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، كل منع عنده من عدو كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي: فما تيسّر منه.
والهدي ما أهدي إلى مكّة من النّعم، وقرئ:(حتّى يبلغ الهديّ محلّه) بالتخفيف والتشديد الواحدة هدية وهديّة.
ثم أطلق الهدي أو الهديّ على جميع الإبل، وإن لم تكن هديا تسمية للشيء ببعضه.
وقال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الآية 196] النسك: شاة.
وعن كعب بن عجرة أن رسول ا (ص) قال له: «لعلّك آذاك هو امّك» ؟ قال:
نعم يا رسول الله. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» .
والنّسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك بالتخفيف.
17-
قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الآية 226] قال الزمخشري في «الكشاف 1: 268» :
«قرأ عبد الله: آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس: يقسمون من نسائهم: فإن قلت كيف عدّي ب «من» ، وهو معدّى ب «على» ؟
قلت: قد ضمّن في هذا القسم
المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل:
يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين.
ويجوز أن يراد لهم: (من نسائهم تربّص أربعة أشهر) كقوله: لي منك كذا.
والإيلاء من المرأة أن يقول: «والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا، على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق» .
أقول: هذا هو معنى «الإيلاء» في الآية، وأصله القسم.
وجاء في كتب اللغة:
والألوة، والألوة، والألوة، والأليّة على فعيلة، والأليّا كله اليمين، والجمع ألايا.
قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
…
وإن سبقت منه الأليّة برّت
رواه ابن خالويه: قليل الإلاء، يريد الإيلاء فحذف الياء، والفعل آلى يؤلي إيلاء: حلف، وتألّى يتألّى تألّيا وأتلى يأتلي ائتلاء.
وفي التنزيل العزيز: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور 22] .
وقال أبو عبيد: «لا يأتل» هو من ألوت. أي: قصّرت.
وقال الفرّاء: الائتلاء: الحلف.
وقرأ بعض أهل المدينة: ولا يتألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّيت، وذلك أن أبا بكر- رضي الله عنه حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة وقرابته الذين ذكروا عائشة، فأنزل الله- عز وجل هذه الآية، وعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليهم.
وقد تألّيت وأتليت وآليت على الشيء وآليته، على حذف الحرف:
أقسمت. أقول: ولم يبق من هذا الفعل في العربية المعاصرة إلا قول المعربين:
فلان لا يألو جهدا، أي لا يقصّر، وهو معنى آخر عرفته العربية في عصورها المتتابعة، وليس هذا موطن الشاهد في [الآية 226] .
كما بقي قولهم: آليت على أن أقوم بما يجب عليّ بمعنى عزمت وأقسمت.
ومما يجب أن نلاحظه أن هذا الاستعمال الأخير لا يرد في اللغة المعاصرة إلّا فعلا ما ضيا ليس غير.