الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البقرة»
«1»
. ولكنّهم لما لم يعلموا هذه الآلات في مذاهب الاستدلال بها، كانوا كمن فقد أعيانها، ورمى بالآفات فيها. قال تعالى: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التوبة: 87]«2» كما قال سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 7] لأنّ الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد. وإنّما فعل سبحانه ذلك بهم عقوبة لهم على كفرهم.
وقوله سبحانه: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الآية 7] استعارة أخرى. لأنّهم كانوا على الحقيقة ينظرون إلى الأشخاص، ويقلّبون الأبصار، إلّا أنّهم لمّا لم ينتفعوا بالنظر، ولم يعتبروا بالعبر وصف سبحانه أبصارهم بالغشي، وأجراهم مجرى الخوابط الغواشي، أو يكون تعالى كنّى هاهنا بالأبصار عن البصائر، إذا كانوا غير منتفعين بها، ولا مهتدين بأدلّتها. لأنّ الإنسان يهدى ببصيرته إلى طرق نجاته، كما يهدى ببصره إلى مواقع خطواته.
وقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الآية 10] والمرض في الأجسام حقيقة وفي القلوب استعارة، لأنّه فساد في القلوب كما أنّه فساد في الحقيقة، وإن اختلفت جهة الفساد في الموضعين.
وقوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) وهاتان
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. وفي الآية 3 من سورة «المنافقون» فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالفاء لا بالواو. [.....]
استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه، والمراد بها أنّه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمّى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم، والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يمدّ لهم كأنّه يخلّيهم والامتداد في عمههم، والجماع في غيّهم، إيجابا للحجّة، وانتظارا للمراجعة، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة، ليتنفّس خناقها، ويتسع مجالها.
وربما جعل قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية 9]«1» على أنّه مستعار في بعض الأقوال، وهو أن يكون المعنى أنّهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا، وقد علموا أنّهم مستحقون للعقاب، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين، ولذلك قال سبحانه: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)«2» .
وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) وهذه استعارة.
والمعنى أنّهم استبدلوا الغيّ بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ولم تربح تجارتهم. وإنّما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء في أول الكلام، بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر النظام، وملاحمة بين أعضاء الكلام.
وقوله سبحانه: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية 20] . وهذه استعارة، والمراد يكاد يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية 43 من سورة النّور: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ومحصّل المعنى: تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لمّا كان السبب في ذهابها.
(1) . كان من حق هذه الآية في الترتيب أن تأتي قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ ولا أدري أكان ذلك سهوا من المؤلف رضي الله عنه، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها في غير موضعها، وأنزلها في غير ترتيبها.
(2)
. في الأصل (وما يخادعون) على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ليتجانس اللفظان في الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «يخدعون» ، كما أثبتاه. وكما نقرأه في المصحف الذي بين أيدينا.
وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الآية 22] وهذه استعارة. لأنّه سبحانه شبّه الأرض في الامتهاد بالفراش، والسماء في الارتفاع بالبناء.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الآية 29] أي قصد إلى خلقها كذلك. لأنّ الحقيقة في اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، واستقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات.
وقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الآية 42] وهذه استعارة.
والمراد بها: ولا تخلطوا الحقّ بالباطل، فتعمى مسالكه، وتشكل معارفه. وذلك مأخوذ من الأمر الملتبس، وهو المختلط المشتبه.
ويقول القائل قد ألبس عليّ هذا الأمر: إذا انغلقت أبوابه عليه، وانسدّت مطالع فهمه.
وقوله سبحانه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الآية 61] . وهذه استعارة والمراد بها صفة شمول الذّلّة لهم، وإحاطة المسكنة بهم، كالخباء المضروب على أهله، والرّواق «1» المرفوع لمستظلّه.
وقوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها [الآية 66] أي للأمم التي تشاهدها، والأمم التي تكون بعدها، أو للقرى التي تكون أمامها، وللقرى التي تكون خلفها.
ولقول العرب: كذا بين يديّ، كذا وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى تقدّم الشيء للشيء. يقول القائل لغيره: أنا بين يديك. أي قريب منك. وقد مضى فلان بين يديك، أي تقدّم أمامك.
وقوله تعالى في وصف الحجارة:
وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 74] وهذه استعارة. والمراد ظهور الخضوع فيها لتدبير الله سبحانه بآثار الصنعة وأحلام الصنعة.
وقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الآية 81] وهذه استعارة فيها كناية عجيبة عن عظم الخطيئة، لأنّ الشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلّا بعد أن
(1) . وتقرأ أيضا: الرّواق، بكسر الرّاء.
يكون سابغا غير قالص «1» ، وزائدا غير ناقص.
وقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الآية 88] فيه استعارة على التأويلين جميعا. إما أن تكون «غلف» جمع أغلف، مثل أحمر وحمر، يقال سيف أغلف، أو تكون جمع غلاف، مثل حمار وحمر، وتخفّف فيقال حمر، وكذلك يجمع غلاف، فيقال: غلف وغلف بالتثقيل والتخفيف. قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يختتن.
فمن قرأ غلف، على جمع أغلف، فالمعنى أنّ المشركين قالوا: قلوبنا في أغطية عمّا يقوله، يريدون النبيّ (ص) .
ونظير ذلك قوله سبحانه، حاكيا عنهم:
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصّلت: 5] . ومن يقرأ:
(قلوبنا غلف) على جمع غلاف بالتثقيل والتخفيف، فمعنى ذلك: قالوا قلوبنا في أوعية فارغة لا شيء فيها. فلا تكثر علينا من قولك، فإنّا لا نعي منه شيئا.
فكان قولهم هذا على طريق الاستعفاء من كلامه، والاحتجاز عن دعائه.
وقوله سبحانه: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [الآية 93] وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة في حبّ العجل، فكأنّها تشرّبت حبّه فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حبّ العجل لدلالة الكلام عليه، لأنّ القلوب لا يصحّ وصفها بتشرّب العجل على الحقيقة.
وقوله سبحانه: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) استعارة أخرى: لأنّ الإيمان على الحقيقة لا يصحّ عليه النطق، فالأمر إنّما يكون بالقول. فالمراد إذا بذلك- والله أعلم- أنّ الإيمان إنّما يكون دلالة على صدّ الكفر والضّلال، وترغيبا في اتّباع الهدى والرشاد، وأنّه لا يكون ترغيبا في سفاهة، ولا دلالة على ضلالة. فأقام تعالى ذكر الأمر هاهنا مقام الترغيب والدلالة، على طريق المجاز والاستعارة، إذ كان المرغّب في الشيء والمدلول عليه، قد يفعله كما يفعله المأمور به والمندوب إليه.
(1) . قلص الثوب بعد غسله- انكمش، فهو قالص.
وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) هذه استعارة: لأنّ بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتّى لهم. والمراد به- والله أعلم- أنّهم لمّا أوبقوا أنفسهم بتعلّم السحر، واستحقّوا العقاب على ما في ذلك من عظيم الوزر، كانوا كأنّهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم، إذ عرّضوها بعمله للهلاك، وأوبقوها لدائم العقاب. وكانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان، وأدون الأعواض.
وقوله سبحانه: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [الآية 112] أي أقبل على عبادة الله سبحانه، وجعل توجّهه إليه بجملته لا بوجهه دون غيره.
والوجه هاهنا استعارة.
وقوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الآية 115] أي جهة التقرب إلى الطريق الدالّة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية اليه.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الآية 130] والتقدير: سفه نفسا، على أحد التأويلات. وهذه استعارة. لأنّه تعالى علّق السّفه بالنفس. وقولنا:
نفس فلان سفيهة: مستعارة، وإنّما السّفه صفة لصاحب النفس لا للنّفس.
وقوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [الآية 133] أي ظهرت له علاماته، ووردت عليه مقدّماته، فهي استعارة. لأنّ الموت لا يصح عليه الحضور على الحقيقة.
وقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [الآية 138] أي دين الله، وجعله بمنزلة الصّبغ لأنّ أثره ظاهر، ووسمه لائح. وهذا من محض الاستعارة.
وقوله سبحانه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 150] فهذه استعارة على قول من قال: إنّ الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولّي وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الآية 168] أي لا تنجذبوا في قياده، لأنّ المنجذب في قياده «1» غيره
(1) . في الأصل «في قيادة» . وقد جعلناها «قياد» بدلا من «قيادة» تمشيا مع ما جرى عليه المؤلف في قوله: «لا تنجذبوا في قياده) .
تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله.
وقوله تعالى: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الآية 174] . وهذه استعارة.
كأنّهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار، كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه فِي بُطُونِهِمْ: زيادة معنى، وإن كان كلّ آكل إنّما يأكل في بطنه، ذلك أنّه أفظع سماعا، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر: إنّك تأكل النار، مثل قوله: إنّك تدخل النار في بطنك.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ [الآية 175] وقد مضى نظير ذلك، وأمثاله كثير في هذه السورة وغيرها.
وقوله تعالى في ذكر النساء: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الآية 187] واللباس هاهنا مستعار، والمراد به قرب بعضهم من بعض، واشتمال بعضهم على بعض، كما تشتمل الملابس على الأجسام «1» . وعلى هذا المعنى كنّوا عن المرأة بالإزار.
وقوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الآية 187] وهذه استعارة، لأنّ خيانة الإنسان نفسه لا تصحّ على الحقيقة، وإنّما المراد أنّه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالي الصيام، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أنّ كثيرا منهم يخلع عذار الصبر، ويضعف عن مغالبة النفس، فيواقع المعصية بغشيانه النساء، فيكون قد كسب نفسه العقاب، ونقصها الثوب فكأنّه قد خانها في نفي المنافع عنها، أو جرّ المضارّ إليها. وأصل الخيانة في كلامهم:
النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.
وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الآية 187] . وهذه استعارة عجيبة.
(1) . استشهد ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» بقول النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها
…
تثنّت عليه فكانت لباسا
على أن اللباس معناه، أنّ المرأة والرجل يتضامّان، فيكون كلّ واحد منها للآخر، بمنزلة اللّباس.
والمراد بها على أحد التأويلات: حتّى يتبيّن بياض الصبح من سواد الليل.
والخيطان هاهنا مجاز. وإنّما شبّها بذلك لأنّ خيط الصبح يكون في أوّل طلوعه مستدقّا خافيا، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا، فهما جميعا ضعيفان، إلّا أنّ هذا يزداد انتشارا، وهذا يزداد استتارا.
وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] .
. وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الآية 245] . وهذه استعارة لأنّ الغنيّ بنفسه «1» لا يجوز عليه الاستقراض على حقيقته، ولكن المقرض في الشاهد لمّا كان اسما لمن أعطى غيره على أن يردّ عليه عوضه، أقام سبحانه توفية «2» العوض عليه مقام ردّ القرض.
وقوله سبحانه: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [الآية 250] فهذه استعارة. كأنّهم قالوا: أمطرنا صبرا، واسقنا صبرا وفي قوله تعالى: أَفْرِغْ، زيادة فائدة على القول: أنزل، لأنّ الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته، وانصبابه.
وقوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الآية 257] وهذه استعارة. والمراد بها إخراج المؤمنين من الكفر إلى الايمان ومن الغيّ إلى الرشاد، ومن عمياء «3» الجهل إلى بصائر العلم.
وكلّ ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظّلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا. وذلك من أحسن التشبيهات.
لأنّ الكفر كالظلمة التي يتسكّع فيها الخابط، ويضلّ القاصد. والإيمان كالنور الذي يؤمّه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأنّ عاقبة الإيمان مضيئة بالإيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة
(1) . في الأصل «الغني لنفسه» وهو تحريف من الناسخ، فالله سبحانه غنيّ بنفسه، لا غنيّ لنفسه.
(2)
. في الأصل: «توفيه» بالهاء لا بالتاء المربوطة كما أصلحناه.
(3)
. جرى الناسخ على عدم إثبات همزة الممدود فكتب «عميا» بدون همزة، وقد همزنا ما أغفله في جميع المواطن بالكتاب، فلا حاجة إلى التنبيه عليه.
بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجليّة. يقال: قد غمّ عليه أمره، وأظلم عليه رأيه، إذا كان جاهلا بما يرتئيه ويفعله. ويقال في نقيض ذلك: هو على الواضحة من أمره، والجليّة من رأيه. إذا كان عالما بما يورد ويصدر، فيما يأتي ويذر.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] . وذلك مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الآية 225] لأنّ الإثم والكاسب صاحب القلب، دون القلب، على ما تقدّم من القول.