المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معان: - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فائدة(2)الفرق بين الشهادة: والرواية:

- ‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معانٍ:

- ‌فائدةالمجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص

- ‌فائدة(1)لحذف العامل في "بسم الله" فوائد عديدة

- ‌فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر

- ‌فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌المسألة الثامنة

- ‌المسألة التاسعة

- ‌[مسائل في المثنى والجمع]

- ‌فائدة(1)في "اليوم" و"أمس" و"غد"، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه

- ‌فائدة(3)فعل الحال لا يكون مستقبلًا

- ‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

- ‌فائدة بديعة(1)لحاق علامة التثنية(2)والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب

- ‌ تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها

- ‌فائدة(7)السرُّ في حذف الألف من "ما" الاستفهامية عند حرف الجر:

- ‌فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى "أَي

- ‌فائدة(1)المعنى المفرد لا يكون نعتًا

- ‌فائدة بديعة(1)إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه(2)، ففيه ثلاثة أوجه:

- ‌فائدة بديعة(4)حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها

- ‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف

الفصل: ‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معان:

فإذا قال الكافر: هذه ابنتي، جاز للمسلم أن يتزوجها، وكذا إذا قال: هذا مالي، جاز شراؤه وأكله. فإذا قال: هذا ذكَّيته جازَ أكله.

فكل أَحدٍ مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده، فلا يُشترط هنا عدالة ولا عدد.

فائدة

الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأُمة؛ فإما أن يكون مستنده السماع؛ فهو الرواية، وإن كان مستنده الفهم من المسموع، فهو الفتوى، وإن كان خبرًا جزئيًا يتعلَّق بمعيَّن

(1)

، مستندُه المشاهدة أو العلم؛ فهو الشهادة، وإن كان خبرًا عن حقٍّ يتعلق بالمخبِر عنه، والمخبَرُ به هو مستمعه

(2)

أو نائبه؛ فهو الدعوى؛ وإن كان خبرًا عن تصديق هذا الخبر؛ فهو الإقرار، وإن كان خبرًا عن كذبه؛ فهو الإنكار، وإن كان خبرًا نشأ عن دليل؛ فهو النتيجة، وتسمى قبل أن يحصل عليها

(3)

الدليل: مطلوبًا، وإن كان خبرًا عن شيءٍ يقصد منه نتيجته؛ فهو دليل، وجزؤه مقدِّمة.

‌فائدة

(4)

"شهد" في لسانهم لها معانٍ:

أحدها: الحضور ومنه قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة 185] وفيه قولان: أحدهما: من شهد المصر في الشهر.

(1)

(ظ ود): "بمعنى".

(2)

(ق): "هو المستحق له".

(3)

(ق): "عليه".

(4)

انظر: "الفروق": (1/ 17).

ص: 13

والثانى: من شهد الشهر في المصر، وهما متلازمان:

والثاني: الخبر، ومنه:"شهد عندي رجال مَرْضيُّون، وأرضاهم عندي عمر: "أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاةِ بَعْد العصرِ وبَعْد الصُّبْح""

(1)

.

والثالث: الاطلاع على الشيء. ومنه: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} [المجادلة: 6].

وإذا كان كل خبرٍ شهادة، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل على كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح

(2)

.

وعن أحمد فيها ثلاث روايات: إحداهن: اشتراط لفظ الشهادة، والثانية: الاكتفاء بمجرد الإخبار، اختارها شيخنا

(3)

-والثالثة: الفرق بين الشهادة على الأقوال وبين الشهادة على الأفعال.

(1)

أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وهنا في حاشية (ظ) تعليق نصُّه: "يتبيّن بهذا أن الشهادة أهم من الخبر مطلقًا؛ إذ كل خبر شهادة ولا عكس إذ يقال فيه: شهادة، والحضور يقال فيه شهد، ولا يقال فيهما خبر. ومن الفائدة [] أن الخبر أعم من الشهادة مطلقًا؛ لأن النتيجة والفتوى والدعوى والرواية يقال لها: إنها أخبار لا شهادات.

ثم ظاهر كلام الشيخ أن قول الخارص والمخبر بنجاسة الماء والقاسم و .. ، والمخبر عن قدم العيب وحدوثه والقائف والجارح للمحدّث، بل والمؤذن والمسبح بالإمام شهادة اصطلاحًا، فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(2)

انظر "التقريب": (ص / 397).

(3)

أي: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهو المراد إذا أطلقه المؤلف: وستأتي هذه المسألة عند المؤلف بأبسط مما هنا، وهناك الإشارة إلى كلام شيخ الإسلام فيها. (4/ 1370 - 1372).

ص: 14

فالشهادة على الأقوال لا يُشترط فيها لفظ الشهادة، وعلى الأفعال يُشترط؛ لأنَّه إذا قال: سمعته يقول، فهو بمنزلة الشاهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عنه.

فائدة

(1)

اختلف أبو المعالي

(2)

وابن الباقلاني

(3)

في قولهم في حدِّ الخبر: إنه الَّذي يحتمل التصديق والتكذيب.

فقال أبو المعالي: يتعين أن يقال: يحتمل الصدق أو الكذب لأنهما ضدان، فلا يقبل إلا أحدهما.

وقال القاضي: بل يقال: يحتمل الصدق والكذب

(4)

، وقوله أرجح، إذ التنافي إنما هو بين المقبولين، لا بين القبولين، ولا يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات

(5)

.

(1)

انظر: "الفروق": (1/ 19 - 20).

(2)

هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، إمام الحرمين ت (478). "السير":(18/ 468).

(3)

هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر البصري (403). "السير":(17/ 190). والباقلاني في ضبطها وجهان، بتشديد اللام وتخفيفها.

(4)

الظاهر أن المؤلِّف قد وهم في نسبة الأقوال -تبعًا للقرافي-، فالذي أختاره القاضي الباقلاني هو ما نسبَه لأبي المعالي الجويني.

انظر: "البرهان": (1/ 565) للجويني، و"شرح اللمع":(2/ 567) للشيرازي، و"البحر المحيط":(4/ 217).

(5)

في حاشية: (ظ) هنا تعليق نصُّه:

"قد يقال: وبين المقبولين أيضًا في [] وأنه يلزم من تنافي المقبولات

تنافي القبولات. ولا يرد الممكن؛ لأنَّه في زمن فيه الوجود لا يقبل العدم وإلا لاجتمع الوجود والعدم في زمن واحد وهو محال، وإنما ساغ أن يقال فيه: إنه =

ص: 15

ولهذا يقال: الممكن يقبل الوجود والعدم، وهما متناقضان، والقبولان يجب اجتماعهما له لذاته؛ لأنَّه لو وُجد أحد القبولين دون الآخر لم يكن ممكنًا، فإنه لو لم يقبل الوجود كان مستحيلًا، ولو لم يقبل العدم كان واجبًا، فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين، وإن تنافى المقبولان، وكذلك نقول: الجسم يقبل الأضداد، فقبولاتها مجتمعة، والمقبولات متنافية.

فائدة

اختلف في الإنشاءات التي صِيَغها أخبار: كـ "بِعْتُ وأَعْتَقت"، فقالت الحنفية: هي أخبار، وقالت الحنابلة والشافعية: هي إنشاءات لا أخبار لوجوه:

أحدها: لو كانت خبرًا لكانت كذبًا؛ لأنَّه لم يتقدم منه مخبره من البيع والعتق، وليست خبرًا عن مستقبل، وفي هذا الدليل شيء؛ لأنَّ

= يقبل الوجود والعدم باعتبار أنَّه يجوز أن يطرأ عليه العدم إذا كان موجودًا، كما يجوز أن يطرأ عليه الوجود إذا كان معدومًا، وليس هذا في الخبر؛ لأنَّه إذا اتصف بالصدق لا يقبل بعده الكذب، وإذا اتصف بالكذب لا يقبل بعده الصدق، فظهر أن بين قبوله للصدق، والكذب تنافٍ، إلا أنَّه لا يجوز أن يجتمعا فيه أصلًا بخلاف الوجود والعدم، فإنهما يجتمعان في شيءٍ واحد باعتبار الزمان.

فظهر أن قبول الخبر للصدق والكذب إنما هو بطريق البدلية، وما هو كذلك يتعيّن فيه "أو"، والله سبحانه وتعالى أعلم".

ثم كتب بعده بخط مغاير تعليقًا عليه: "والحق أن العبارتين صحيحتان علي سواء؛ لأنَّ الخبر لا يجتمع فيه الصدق والكذب في معناه ويجتمعان في لفظه في قبوله لأنَّ تستعمل صداقًا ولأن تستعمل كذبًا، وقد استعملوا مثل هاتين العبارتين في الكلمة، فتارة يقولون: "اسم أو فعل أو حرف" وتارة يقولون: "اسم وفعل وحرف" والوجه في صحة ذلك ما ذُكر.

ص: 16

لهم أن يقولوا: إنها إخبارات عن الحال، فخبرها مقارن للتكلم بها.

الثاني: لو كانت خبرًا فإما صدقًا وإما كذبًا، وكلاهما ممتنع، أما الثاني؛ فظاهر، وأما الأول؛ فلأنّ صدقها متوقّف على تقدم أحكامها، فأحكامها إما أن تتوقف عليها، فيلزم

(1)

الدور، أو لا يتوقف، وذلك محال؛ لأنَّه لا توجد أحكامها بدونها.

ولقائل أن يقول: هو دور مَعِيَّةٍ لا تَقَدُّم، فليس بممتنع.

وثالثها: أَنَّها لو كانت إخبارات؛ فإما عن الماضي أو الحال، ويمتنع مع ذلك تعليقها بالشرط؛ لأنَّه لا يعمل إلا في مستقبل.

وإما عن مستقبل، وهي محال؛ لأنَّه يلزم تجردها عن أحكامها في الحال، كما لو صرح بذلك، وقال: ستصيرين طالقًا.

ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون خبرًا عن الحال قولكم: يمتنعُ تعليقها بالشرط؟

قلنا: إذا عُلِّقت بالشرط لم

(2)

تبق إخبارًا عن الحال، بل إخبارًا عن المستقبل، فالخبر عن الحال الإنشاء المطلق، وأما المعلق فلا.

ورابعها: أنَّه لو قال لمطلقةٍ رجعيَّة: أنت طالق، لزمه طلقة أخرى؛ مع أن خبره صدق. فلما لزمه أخرى دل على أنهما إنشاء.

ولقائل أن يقول: لما قلنا: هي خبر عن الحال، بَطل هذا الإلزام.

وخامسها: أنّ امتثال قوله تعالى {فَطَلَقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]

(1)

(ظ ود): "فلزم".

(2)

(د): "فلم".

ص: 17

أن يقول: "أنت طالق"، وليس هذا تحريمًا، فإنّ التحريم والتحليل ليس إلى المكلف، وإنَّما إليه أسبابهما، وليس المراد بالأمر: أخبروا عن طلاقهنَّ، وإنما المراد إنشاء أمر يترتب عليه تحريمهن، ولا نعني بالإنشاء إلا ذلك.

ولقائل أن يقول: المأمور به هو السبب الَّذي يترتب عليه الطلاق.

فهنا ثلاثة أمور: الأمر بالتطليق، وفعل المأمور به وهو: التطليق. والطلاق وهو: التحريم الناشئ عن السبب. فإذا أتى بالخبر عما في نفسه من التطليق فقد وفَّى الأمرَ حقه وطلقت.

وسادسها: أنَّ الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم عرفًا. وهو دليل الحقيقة، ولهذا لا يحسن أن يقال فيه: صدقى أو كذب، ولو كان خبرًا لحسن

(1)

فيه أحدهما.

وقد أجيب عن هذه الأدلة بأجوبة أُخَر:

فأجيب عن الأول: بأنَّ الشرع قدَّر تقدم مدلولات هذه الأخبار قبل التكلم بها بالزمن الفرد، ضرورة الصدق

(2)

، والتقديرُ أولى من النقل.

وعن الثاني: أن الدور غير لازم، فإنّ هنا ثلاثة أمور مترتبة

(3)

: فالنطق باللفظ لا يتوقف علي شيء، وبَعْده تقدير تقدم المدلول على اللفظ، وهو غير متوقف عليه في التقدير، وإن توقف عليه في الوجود،

(1)

(د): "يحسن".

(2)

كذا في (ظ وق)، وفي (د):"بالزمن بالفرد بضرورة".

(3)

(ق ود): "مرتبة".

ص: 18

وبَعْده لزوم الحكم، ولا يتوقف اللفظ عليه، وإن توقَّف هو على اللفظ.

وعن الثالث: أنا نلتزم

(1)

أنها إخبارات عن الماضى، ولا يتعذر التعليق؛ فإنّ الماضي نوعان: ماضٍ تقدم مدلوله عليه قبل النطق به من غير تقدير، فهذا يتعذر تعليقه. والثانى: ماض بالتقدير لا التحقيق، فهذا يصح تعليقه.

وبيانُه: أنَّه

(2)

إذا قال: "أنت طالق إن دخلتِ الدار"، فقد أخبر عن طلاق امرأته بدخول الدار، فقدرنا هذا الارتباط قبل نطقه بالزمن

(3)

الفرد ضرورة الصدق، وإذا قُدر الارتباط قبل النطق، صار الخبر عن الارتباط ماضيًّا. إذ حقيقة الماضي هو الَّذي تقدم مُخبَرُه خَبَرَه؛ إما تحقيقًا وإما تقديرًا، وعلى هذا فقد اجتمع المضِيّ والتعليق ولم يتنافيا.

وعن الرابع: أن المطلقة الرجعيَّة إن أراد بقوله لها: "أنت طالق"؛ الخبر عن طلقةٍ ماضية؛ لم يلزمه ثانية، وإن أراد الخبر عن طلقة ثانية؛ فهو كذب، لعدم وقوع الخبر

(4)

، فيحتاج إلى التقدير ضرورة التصديق، فيقدر تقدم طلقة قبل طلاقه بالزمن الفرد، يصح معها الكلام فيلزمه.

وعن الخامس: أنّ الأمر متعلق بإيجاد خبر يقدر الشارع قبله الطلاق، فيلزم به، لا أنَّه متعلق بإنشاء الطلاق حتَّى يكون اللفظ سببًا كما ذكرتموه، بل هو علامة ودليل علي الوقوع، وإنّما ينتفي الطلاق

(1)

(ظ ود): "إما يلزم".

(2)

سقطت من (ق).

(3)

(ظ ود): "قبل تطلقها لزمان".

(4)

(ق): "المخبر".

ص: 19

عند انتفائه، كانتفاع المدلول لانتفاء دليله وعلاماته، ولا يقال: لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول، فإنّ هذا لازم في الشرعيات، لأنَّها إنّما ثبتت بأدلتها، فأدلتها أسباب ثبوتها.

وأما السادس: فهو أقواها، وقد قيل: إنه لا يمكن الجواب عنه إلا بالمكابرة، فإنا نعلم بالضرورة أن من قال لامرأته:"أنت طالق"، لا يحسن أن يقال له: صدقت ولا كذبت، فهذه نهاية أقدام الطائفتين في هذا المقام.

وفصل الخطاب في ذلك: أنّ لهذه الصِّيَغ [نسبتين]

(1)

؛ نسبة إلى متعلقاتها الخارجية، فهي من هذه الجهة إنشاءات محضة كما قالت الحنابلة والشافعية، ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته، وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاءه كما قالت الحنفية، فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية، إنشاءات بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية، وعلى هذا فإنّما لم يحسن أن يقال

(2)

بالتصديق والتكذيب، -وإن كانت أخبارًا-؛ لأنّ متعلِّق التصديق والتكذيب النفي والإثبات، ومعناهما مطابقة الخبر لمخْبَره، أو عدم مطابقته، وهنا المخبر حصل بالخبر حصول المسبب بسببه، فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب، وإنّما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لم يحصل مخْبَره ولم يقع به كقولك:"قام زيد"، فتأمَّلْه.

فإن قيل: فما تقولون في قول المظاهر: "أنتِ عَلَيَّ كظَهْر أُمي"، هل هو إنشاء أو إخبار؟

(1)

في النسخ: "نسبتان".

(2)

(ق): "يقابل".

ص: 20

فإن قلتم: إنشاء، كان باطلًا من وجوه:

أحدها: أنّ الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب، والله سبحانه قد كذَّبهم هنا في ثلاثة مواضع:

أحدها: في قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] فنفى ما أثبتوه، وهذا حقيقة التكذيب، ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال: ما هى مطلقة.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِنِّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] والإنشاء لا يكون منكرًا، وإنما يكون المنكر هو الخبر.

والثالث: أنَّه سماه زورًا، والزور هو الكذب، وإذا كذبهم الله تعالى دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء.

الثاني: أَنَّ الظِّهَار محرَّم، وليس جهة تحريمه إلَّا كونه كذبًا.

والدليل على تحريمه خمسة أشياء:

أحدها: وصفه

(1)

بالمنكر.

والثاني: وصفه

(2)

بالزور.

والثالث: أنَّه شرع فيه الكفارة، ولو كان مباحًا لم يكن فيه كفارة.

والرَّابع: أن الله قال: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3]، والوعظ إنّما يكون في غير المباحات.

والخامس: قوله: {وَإِنَّ اللهَ لعَفْوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 3]، والعفو

(1)

(ظ ود): "ما وصفه".

(2)

سقطت من (ق).

ص: 21

والمغفرة إنّما يكونان عن الذنب.

وإن قلتم: هو إخبار؛ فهو باطل من وجوه:

أحدها: أنّ الظهار كان طلاقًا في الجاهلية، فجعله الله في الإسلام تحريمًا تُزيله الكفارة، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، ولو كان خبرًا لم يوجب التحريم، فإنه إن كان صدقًا؛ فظاهر، وإن كان كذبًا؛ فأبعد له من أن

(1)

يترتب عليه التحريم.

والثاني: أنَّه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه، وهو التحريم، وهذا حقيقة الإنشاء، بخلاف الخبر، فإنه لا يوجب حكمه بنفسه؛ فَسَلْب كونه إنشاءً مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه؛ جمعٌ بين النقيضين.

وثالثها: أَنَّ إفادة قوله: "أنت عَلَيَّ كظهر أمي" للتحريم، كإفادة قوله: أنت حرة"، "وأنت طالق"، و"بعتك"، و"وهبتك"، و"تزوجتك"

(2)

، ونحوها لأحكامها، فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار؟ وما الفرق؟.

قيل: أما الفقهاء فيقولون: الظهار إنشاء، ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك، وقال: الصواب أنَّه إخبار، وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء.

قال: أما قولهم: كان طلاقًا في الجاهلية

(3)

؛ فهذا لا يقتضى أنهم كانوا يثبتون به الطلاق، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون به العصمة عند النطق به، فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم، أو لكونه

(1)

من قوله: "تزيله الكفارة

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

(ظ ود): وتزوجت".

(3)

"في الجاهلية" ليس في (د).

ص: 22

كذبًا، وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه، وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك.

قال: وأما قولكم: إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار، فلا نسلِّم أنَّ ثَمَّ تحريمًا ألبتة، والذي دل عليه القرآن: وجوب تقديم الكفارة على الوطء، كتقديم الطهارة على الصلاة، فإذا قال الشارع: لا تصلِّ حتَّى تتطهر، لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه، بل ذلك نوع ترتيب. سلَّمنا أن الظهار ترتَّب عليه تحريم، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، ودلالته عليه، وهذا هو الإنشاء. وقد يكون عقوبة مَحْضة، كترتيب حرمان الإرث على القتل، وليس القتل إنشاء للتحريم، وكترتيب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به، فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ.

وحقيقة الإنشاء: أن يكون ذلك اللفظ وُضِع لذلك الحكم، ويدل عليه، كصِيَغ العقود، فسببية القول أعم من كونه سببًا بالإنشاء أو بغيره. فكل إنشاء سبب، وليس كل سبب إنشاء. فالسببيَّة أعم، فلا يُستدل بمطلقها على الإنشاء، فإن الأعمّ لا يستلزم الأخص، فظهر الفرق بين تَرَتُّب التحريم على الطلاق، وترتُّبه على الظهار.

قال: وأما قولكم: إنه كالتكلُّم بالطلاق والعِتَاق والبيع ونحوها؛ فقياس في الأسباب. فلا نقبله ولو سلمناه، فخصُّ القرآن يدفعه.

وهذه الاعتراضات عليهم باطلة:

أَمَّا قوله: "إن كونه طلاقًا في الجاهلية، لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق" إلى أَخره؛ فكلامٌ باطل قطعًا؛ فإنهم لم يكونوا

ص: 23

يقصدون الإخبار الكذب، ليترتب عليه التحريم، بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادةً للطلاق؛ ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين في ذلك

(1)

، ولا مخبرين، وإنّما كانوا منشئين للطلاق به.

ولهذا كان هذا

(2)

ثابتًا في أول الإسلام حتَّى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة

(3)

بنت ثعلبة، كانت تحت عُبادة بن الصامت

(4)

، فقال لها:"أنت عليَّ كظهر أُمي"، فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حَرُمُت عَلَيْهِ"، فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب، ما ذكر الطلاقَ، وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليَّ فقال:"حَرُمْتِ عَلَيْهِ"، فقالت: أشكو إلى الله فاقتى وَوَحْدتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا أُرَاكِ إلِّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، وَلَمْ أُؤْمَرُ فِي شَأْنِكِ بِشَيءٍ"، فجَعَلَتْ تراجعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإذا قال لها: حَرُمْتِ عَلَيْهِ" هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وأن لي صِبْيَة صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إنِّي أشكو إليك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قُضي الوحي قال: "ادْعِي زَوْجَكِ" فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {قَدْ سَمِعَ اللهُ} [المجادلة: 1] الآيات

(5)

.

(1)

من (ق).

(2)

ليست في (ق).

(3)

على خلافٍ في اسمها واسم أبيها، انظر "الإصابة":(4/ 289).

(4)

كذا في الأصول، وجاء كذلك في بعض الروايات، وهو وهم، والصواب: أنها كانت تحت أوس بن الصامت أخي عبادة، انظر:"الإصابة": (4/ 291)، و"الاستيعاب" بهامشها.

(5)

أخرجه أبو داود رقم (2214)، وعلقه البخاري في الصحيح "الفتح":(13/ 384)، =

ص: 24

فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام؛ ثم نسخ ذلك بالكفارة.

وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند وِلادِها عشرةَ أبطن، ونحوه، فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم، بل هو شارع منهم لهذا التحريم، عند هذا السبب.

وأما قوله: "إنا لا نسلِّم أنَّه يوجب تحريمًا"؛ فكلام باطل، فإنه لا نزاع بين الفقهاء: أَنَّ الظِّهار يقتضي تحريمًا تزيله الكفارة، فلو وطئها قبل التكفير

(1)

؛ أَثِمَ بالإجماع المعلوم

(2)

من الدين، والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام وبالحيض.

وأمَّا تنظيره بالصلاة مع الطهر؛ ففاسد، فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر، فإذا لم يأت بالطهر فقد

(3)

ترك ما أوجب الله عليه، فاستحقَّ الإثم، وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته، وشبَّهها بمن تحرُم عليه، فمنعه الله من قربانها، حتَّى يُكفِّر، فهنا تحريم مُستند إلى ظِهَارِه، وفي الصلاة لا تُجزئ منه بغير طُهر؛ لأنَّها غير مشروعة أصلًا.

قوله: "التحريم عَقِب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، وقد يكون عقوبة

"، إلى آخره، جوابه أنهما غير متنافيين في الظِّهار، فإنه حرام وتحرم به تحريمًا مؤقتًا حتَّى يكفِّر، وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها، والطلاق في الحيض فإنه

= وأحمد في "المسند": (6/ 410).

وما في "المسند" أصح ما ورد في قصة المجادلة، قاله الحافظ في "الفتح".

(1)

(ق): "الكفارة".

(2)

(ظ ود): "المعروف".

(3)

من (ق).

ص: 25