المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تمام الكلام على أقسام "ما" ومواقعها - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فائدة(2)الفرق بين الشهادة: والرواية:

- ‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معانٍ:

- ‌فائدةالمجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص

- ‌فائدة(1)لحذف العامل في "بسم الله" فوائد عديدة

- ‌فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر

- ‌فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌المسألة الثامنة

- ‌المسألة التاسعة

- ‌[مسائل في المثنى والجمع]

- ‌فائدة(1)في "اليوم" و"أمس" و"غد"، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه

- ‌فائدة(3)فعل الحال لا يكون مستقبلًا

- ‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

- ‌فائدة بديعة(1)لحاق علامة التثنية(2)والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب

- ‌ تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها

- ‌فائدة(7)السرُّ في حذف الألف من "ما" الاستفهامية عند حرف الجر:

- ‌فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى "أَي

- ‌فائدة(1)المعنى المفرد لا يكون نعتًا

- ‌فائدة بديعة(1)إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه(2)، ففيه ثلاثة أوجه:

- ‌فائدة بديعة(4)حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها

- ‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف

الفصل: ‌ تمام الكلام على أقسام "ما" ومواقعها

وكذلك حكمٌ هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاءَ به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته

(1)

: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.

فهذا ما فتح الله العظيم

(2)

به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة، المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها، من غير استعانة (ق/56 ب) بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانٍّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علَّمه الله وأَلهمه بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها، وعسى اللهُ المانّ بفضله الواسع العطاء، الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين

(3)

على تعليق تفسير على

(4)

هذا النمط، وهذا الأسلوب، وقد كتبتُ على مواضعَ متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته.

* * *

ولنذكر‌

‌ تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها

، فقد ذكرنا منها الموصولة. ومن أقسامها المصدرية

(5)

، ومعنى وقوعها عليه: أنها إذا

(1)

(ق): "وذريته".

(2)

(ق): "الكريم".

(3)

"أن يعين" ليست في (ظ ود).

(4)

سقطت من (ظ ود).

(5)

"نتائج الفكر": (ص/ 185 - 186).

ص: 249

دخلت على الفعل كان معها في تأويل المصدر، هكذا أطلق النحاة، وهنا أمور يجب التنبيه: عليها والتنبه لها:

أحدها: الفرق بين المصدر الصريح والمصدر

(1)

المقدر مع "ما" والفرق بينهما أنك إذا قلت: "يعجبني صنعك"، فالإعجاب هنا واقع على نفس الحدث بقطع النظر عن زمانه ومكانه، وإذا قلت:"يعجبني ما صنعتَ"، فالإعجاب واقع على صنع ماضي، وكذلك "ما تصنع" واقع على مستقبل فلم تتحد دلالة "ما" والفعل والمصدر.

الثانى: أنها لا تقع مع كلِّ فعلٍ في تأويل المصدر، وإن وقع المصدر في ذلك الموضع، فإنك إذا قلت:"يعجبني قيامك"، كان حسنًا، فلو قلت:"يعجبني ما تقوم"، لم يكن كلامًا حسنًا، وكذلك:"يعجبني ما تجلس"، أي: قيامُك وجلوسُك، ولو أتيت بالمصدر كان حسنًا، وكذلك إذا قلت:"يعجبني ما تذهب"، لم يكن في الجواز والاستعمال مثل "يعجبني ذهابُك".

فقال أبو القاسم السهيلي رحمه الله

(2)

-: "الأصل في هذا: أن "ما" لما كانت اسمًا مبهمًا، لم يصح وقوعها إلا على جنسٍ تختلف أنواعُه؛ فإن كان

(3)

المصدر مختلف الأنواع، جار أن تقع عليه ويُعَبَّر بها عنه، كقولك:"يعجبني ما صنعتَ، وما عملتَ، وما حكمتَ"؛ لاختلاف أنواع الصنع والفعل والحكم

(4)

.

(1)

من قوله: "هكذا أطلق

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

في "نتائج الفكر": (ص/ 186) بتصرُّف.

(3)

ليست في (ق).

(4)

(ظ ود): الاختلاف: الصنعة والعلم والحكم"، و"النتائج": وكذلك الصنع والفعل والعمل".

ص: 250

فإن قلت: "يعجيني ما جلستَ، وما انطلقَ زيد"، كان غثًّا من الكلام؛ لخروج "ما" عن الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع من المعاني؛ لأنه يكون التقدير حينئذٍ:"يُعجبني الجلوسُ الذي جلستَ، والقعود الذي قعدتَ"، فيكون آخر الكلام مُفسِّرًا لأوله رافعًا للإبهام، فلا معنى حينئذٍ لـ "ما".

فأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [البقرة: 61]، فلأن المعصية تختلف أنواعُها.

وقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77]؛ فهو كقولك

(1)

: لأعاقبنك بما ضربتَ زيدًا، وبما شَتَمْت عَمْرًا، أَوْقَعْتَها على الذنب، والذنب مختلف الأنواع، ودلَّ ذِكْر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنك قلتَ: لأجزينك بالذنب

(2)

الذي هو (ق/ 57 أ)، ضَرْب زيدٍ أو شَتْم عَمْروٍ، فما على بابها (ظ/42 أ) غير خارجة عن إبهامها"

(3)

.

هذا كلامه، وليس كما زعم رحمه الله، فإنه لا يُشْتَرط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام، بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه، بل هو نوع واحد، فإن إخلافهم ما وعدَ الله كان نوعًا واحدً مُسْتمرًّا

(4)

معلومًا، وكذلك كذبهم.

وأصرح من هذا كلِّه قولُه تعالى

(5)

: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ

(1)

(ق وظ ود): "كقوله" والمثبت من "النتائج".

(2)

(ق): "لأخبرتك بالذي".

(3)

(ظ ود): "عن بابها".

(4)

(ق): "متميزًا".

(5)

"كله قوله تعالى" ليست في (ق).

ص: 251

الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79] فهذا مصدر معين خاص لا إبهامَ فيه بوجهٍ، وهو علم الكتاب ودَرْسه، وهو فَرْد من أفراد العمل والصنع، فهو كما منعه من الجلوس

(1)

والانطلاق، ولا فرق بينهما في إبهام ولا تعيين إذ كلاهما

(2)

مُعيَّن متميِّز غير مبهم، ونظيره:{بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] فاستكبارهم وقولهم على الله غيرَ الحقِّ مصدران مُعَيَّنان غير مبهمين، واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق، ولو أنك قلتَ في الموضع الذي منعه:"هذا بما جلست"، "وهذا بما انطلقت" كان حسنًا غير غثٍّ ولا مستكره وهو المصدر بعينه، فلم يكن الكلام غثًّا لخصوص المصدر، وإنما هو لخصوص التركيب، فإن كل

(3)

ما يُقدَّر امتناعُه واستكراهُه إذا صُغْته

(4)

في تركيبٍ: آخر زالت الكراهيةُ والغثاثةُ عنه، كما رأيتَ.

والتحقيق أن قوله: "يعجبني ما تجلس وما ينطلق زيد"، إنما استكره وكان غثًّا؛ لأن "ما" المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبًا، ويصلح أحدُهما في الموضع الذي يصلُح فيه الآخر، وربما احتملهما الكلام احتمالاً واحدًا لا يميز

(5)

بينهما فيه إلا ينظر وتأمل. فإذا قلت: "يعجبني ما صنعت"؛ فهي صالحة لأن تكون مصدرية أو موصولة، وكذلك {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96] فتأمله تجده كذلك.

(1)

في "المنيرية" زيادة: "والقعود".

(2)

(ق): "كلًّا منهما".

(3)

(ظ ود): "كان".

(4)

(ظ ود): "إذ" و (ق): "صنعته".

(5)

(ظ ود): "احتملها الكلام واحدًا يميز".

ص: 252

ولدخول إحداهما على الأخرى ظنَّ كثيرٌ من الناس أن قولَه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] أنها مصدرية. واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية وإنما هي موصولة، والمعنى: والله خلقكم وخلقَ الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله؟! ولو كانت مصدرية لكان الكلام آل

(1)

إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجةً عليهم؛ إذ

(2)

يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها؟! فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم؟!.

والمقصود: أنه كثيرًا ما تدخل إحداهما على الأخرى، ويحتملهما الكلام سواء.

وأنت لو قلت: أيعجبني الذي يجلس"؛ لكان غثًّا من المقال، إلا أن تأتي بموصوف يجرى هذا صفة له، فتقول: "يعجبني الجلوسُ الذي تَجْلس"، وكذلك إذا قلت: فيعجبني الذي ينطلق (ق/ 57 ب) زيد"، كان غثًّا، فإذا قلت:"يعجبني الانطلاق الذي ينطلق زيد"؛ كان حسنًا، فمن هنا اسْتُغِثَّ:"يعجبني ما يَنْطَلِق وما تَجْلِس" إذا أردت به المصدر

(3)

.

وأنت لو قلت: "آكل ما يأكل"؛ كانت موصولة، وكان الكلام حسنًا، فلو أردت بها المصدرية والمعنى: آكل أكلك؛ كان غثًّا حتى تأتي بضمِيْمَةٍ تدل على المصدر، فتقول: آكل كما يأكل، فعرفت أنه

(1)

من (ق).

(2)

(ق): "أو".

(3)

(ق): "المصدرية".

ص: 253

لم يكن الاستكراه الذي أشار إليه من جهة الإبهام والتعيين؛ فتأمَّلْه.

وأما: "طالما يقوم زيد، وقلَّما يأتي عَمْرو"، فـ "ما" هنا واقعة على الزمان، والفعلُ بعدها متعدٍّ إلى ضميره بحرف الجر، والتقدير: طالَ زمان يقوم فيه زيد، وقلَّ زمان يأتينا فيه عَمْرو، ثم (ظ/42 ب) حُذِف الضميرُ فسقط الحرفُ، هذا تقدير طائفة من النحاة، منهم السُّهَيلي

(1)

وغيره.

ويحتمل عندي تقديرين آخرين هما أحسنُ من هذا:

أحدهما: أن تكون مصدرية وقتية، والتقدير:"طالَ قيامُ زيد، وقلَّ إتيان عَمْرو". وإنما كان هذا أحسن، لأن حذفَ العائد من الصفة

(2)

قبيح، بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدًا على شيءٍ فإنه أسهل، وإذا جُعِلَت مصدرية؛ كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف.

والتقدير الثالث: -وهو أحسنها- أن "ما" هاهنا مُهَيئة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة، وإنما أُتي بها لتكون مُهَيِّئة لدخول "طال " على الفعل، فإنك لو قلتَ:"طال يقوم زيد، وقلّ يجيء عَمْرو" لم يجز، فإذا أدخلت "ما" استقام الكلام، وهذا كما دخلت على "رُبَّ" مُهَيئة لدخولها على الفعل، نحو قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر: 2]، وكما دخلت على "إن" مُهَيئة لدخولها على الفعل نحو:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فإذا عرفتَ هذا؛ فقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كَمَاْ

(1)

في "نتائج الفكر": (ص/ 187).

(2)

(ق): "الصلة"!.

ص: 254

رَأيْتُمُوْني أُصَلِّي"

(1)

هو من هذا الباب، ودخلَتْ "ما" بين كاف التشبيه وبين الفعل مُهَيئة لدخولها عليه، فهي كافة للخافض ومُهَيئة له أن تقع بعد الفعل، وهذا قد خَفِي على أكثر

(2)

النحاة حتى ظن كثير منهم أن "ما" هاهنا مصدرية، وليس كما ظن؛ فإنه لم يقع التشبيه هنا بالرؤية، وأنت لو صرحت بالمصدر هنا؛ لم يكن كلامًا صحيحًا، فإنه لو قيل: صلوا كرؤيتكم صلاتي، لم يكن مطابقًا للمعنى المقصود، فلو قيل: إنها موصولة والعائد محذوف، والتقدير: صلوا كالتي رأيتموني أصلي، أي؛ كالصلوات التي رأيتموني أصليها؛ كان أقربَ من المصدرية على كراهته، فالصواب ما ذكرتُه لك.

ونظير هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم (ق/ 58 أ)، للصدِّيق:"كما أنت"

(3)

، فأنت مبتدأ والخبر محذوف، فلا مصدر هنا إذ لا فعل، فمن قال: إنها مصدرية فقط غَلِط، وإنما هى مُهَيئة لدخول الكاف على ضمير الرفع، والمعنى: كما أنت صانع أو كما أنت مُصَلٍّ، فَدُم على حالتك.

ونظير ذلك -أيضًا- وقوعها بين "بعد" والفعل، نحو قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117]، ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة، بل هى مهيئة لدخول "بعد" على فعل "كاد"؛ إذ لا يُصَاغ من "كاد" و"ما" مصدر إلا أن يتجشم له فعلٌ بمعناه يُسْبَك منها، ومن ذلك الفعل مصدر، وعلى ما قررناه لا

(1)

أخرجه البخاري رقم (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه وأصله في مسلم رقم (674).

(2)

(ق): "على كثير من".

(3)

أخرجه البخاري رقم (683)، ومسلم:(1/ 314 رقم 97) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 255

يحتاج

(1)

إلى ذلك، ويؤيد هذا قول الشاعر

(2)

:

أعَلاقَةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما

أَفْنانُ رَأْسِك كالثَّغَامِ المُخْلِسِ

أفلا تراها هاهنا حيث لا فعل ولا مصدر أصلًا

(3)

، فهي كقوله:"كما أنت" مهيئة لدخول "بعد" على الجملة الابتدائية؛ ولكن الخبر في البيت مذكور، وهو قي قوله:"كما أنت" محذوف.

فإن قلت: فما بالهم لم يدخلوه في "قبل" كافة لها مهيئة لدخولها على الفعل: والجملة، فيقولون:"قبلما يقومُ زيد، وقبلما زيدٌ قائم".

قلت: لا تكون "ما" كافة لأسماء الإضافة، وإنما تكون كافة للحروف وما ضارعها

(4)

، و"بعد" أَشدُّ مضارعة للحروف من "قبل"؛ لأن "قبل" كالمصدر في لفظها ومعناها، كما

(5)

تقول: "جئتُ قبل الجمعة"، تريد: الوقتَ الذي تستقبل في الجمعة

(6)

، فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابلة، كما قال الشاعر:

* نَحُجُّ مَعًا قالت: أَعامًا وقابِله

(7)

*

(1)

"لا يحتاج" سقطت من (ظ ود).

(2)

هو: المرار بن سعيد الفقعسي. والبيت من شواهد "الكتاب"، و"مغني اللبيب" رقم (515).

(3)

ليست في (ق).

(4)

من (ق).

(5)

من (ق).

(6)

"الجمعة" سقطت من (ظ ود)، و (ق):"فيه الجمعة".

(7)

صدره: * فقلت: امكثي حتى يسار لعلنا *.

والبيت من شواهد: "الكتاب": (2/ 39) غير معروف القائل.

ص: 256

فإذا كان العامُ الذي بعد عامك يُسَمَّى: قابلًا، فعامك الذي أنت فيه

(1)

(ظ/43 أ) قبل، ولفظه من لفظى قابل، فقد بان لك من جهةِ اللفظ والمعنى أن "قل" مصدر في الأصل، والمصدرُ كسائر الأسماء لا يكَفُّ به، ولا يُهَيأ لدخول الجمل بعده، وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل، لا في شيءٍ من الأسماء. وأما "بعدُ"؛ فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ [البُعد] ومن معناه، فليس قربها من لفظ المصدر كقرب "قبل"، ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسمَ فاعل، فيقولون للعام الماضي: الباعد، كما قالوا للمستقبل: القابل.

فإن قلت

(2)

: فما تقول في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} [البقرة: 151] وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] وقوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} [القصص: 77]؛ فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلِّها، فهل هي كافة

(3)

مُهَيئة أو مصدرية؟.

قلت: التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله، مُهَيئة لدخوله على الفعل، ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدريةً مَحْضة، ويدل على أن "ما" لا تقع مصدرية على حَدِّ "أنْ": أنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه "أنْ"، فإذا قلتَ:"أريد أن تقوم" كان مستقيمًا، فلو قلتَ:"أريدُ ما تقوم"(ق/58 ب) لم يستقِمْ، وكذلك:"أحب أن تأتيني"، لا تقول في

(4)

موضعه: "أحب ما تأتيني ".

(1)

سقطت من (ق).

(2)

"فإن قلت "سقطت من (د).

(3)

سقطت من (ظ ود).

(4)

من (ق).

ص: 257

وسرُّ المسألة: أن المصدرية ملحوظٌ فيها معنى الذي، كما تقدَّم بخلاف "أن".

فإن قلت فما تقول في: "كلما قمت أكرمتك" أمصدريَّة هنا، أو كافَّهٌ، أم نكرة؟.

قلتُ: هي هاهنا نكرة، وهي ظرف زمان في المعنى، والتقدير: كلَّ وقتٍ تقوم فيه أُكرِمْك.

فإن قلت: فهلَّا جعلتها كافة

(1)

لإضافة "كلٍّ" إلى الفعل، مُهَيئة لدخولها عليه؟.

قلت: ما أحراها بذلك لولا ظهور الظرف

(2)

والوقت وقصده من الكلام، فلا يُمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود، ألا ترى أنك تقول:"كل وقت يَفْعل كذا أفعل كذا"، فإذا قلت:"كلما فعلْت فعلْتُ"، وجدت معنى الكلامين واحدًا، وهذا قول أئمة العربية وهو الحق.

فصل

(3)

قال أبو القاسم السهيلي

(4)

: "اعلم أن "ما" إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه: "عَمل أو صَنَع فعل"، وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري -سبحانه- فلا يصح وقوعُها إلا على مصدر؛ لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: "عملت جملًا، ولا

(1)

سقطت من (ظ ود).

(2)

سقطت من (ق).

(3)

(د): "فائدة".

(4)

في "نتائج الفِكْر": (ص/ 189 - 192).

ص: 258

صنعت جبلًا، ولا حديدًا ولا حجرًا ولا ترابًا"، فإذا قلت: "أعجبني ما عملت، وما فعل زيد"، فإنما تعني الحَدَثَ، فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالَكُم، ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول؛ لأنهم زعموا: أن "ما" واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصنامًا، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكارًا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا؛ لأنه تقدم قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] فـ "ما" واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى؛ أما النحو؛ فقد تقدَّم أن "ما" لا تكون مع الفعل الخاص

(1)

مصدرًا. وأما المعنى؛ فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإِنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبتَ هذا وجب أن تكون الآية -التي هي ردّ عليهم وتفنيد لهم

(2)

- واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون (ظ/43 ب) حجارة منحوتة، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟!.

هذا كله معنى قول المعتزلة، وشرح ما شبَّهوا به، والنظمُ على تأويلِ أهلِ الحقِّ أبدعُ، والحجةُ أَقْطَع

(3)

. والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال؛ لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العبادِ لا تقع (ق/59 أ) على الجواهر والأجسام.

(1)

(ق): "الحاضر"!.

(2)

في "النتائج" زيادة: "كذلك "ما" فيها".

(3)

في "النتائج" زيادة: "والمعنى لا يصح غيره".

ص: 259

فإن قيل: فقد تقول: عملتُ الصحفةَ

(1)

، وصنعتُ الجَفْنة، وكذلك الأصنام

(2)

معمولة على هذا؟.

قلنا

(3)

: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس: العمل. وأما الجوهر المؤلَّف المركَّب فليس بمعمولٍ لنا، فقد رجعَ العملُ والفعل إلى الأحداث دون الجواهر. هذا إجماع مِنَّا ومنهم، فلا يصح

(4)

حملهم على غير ذلك.

وأما ما زعموا من حُسْن النظم وإعجاز الكلام؛ فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم؛ لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة؛ لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يَخْلق وهم يُخْلَقون، فقال:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي: من لا يخلق شيئًا وهم يُخْلقون، وتَدَعُون عبادةَ من خلقَكُم وأعمالَكُم التي تعملون، ولو لم يُضِفْ خلقَ الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم لما قامت له حُجة [عليهم] من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق لأجناس أُخَر، فيشركهم معه في الخلق -تعالى الله عن قول الزائغين- ولا لعًا

(5)

لعثرات المبطلين، فما أدحضَ حجَّتَهم! وما أوهى قواعد مذهبهم! وما أبين الحق لمن اتبعه! جعلنا الله من أتباعه وحزبه.

(1)

(ق و"النتائج"): "الصفحة"، وانظر ما سيأتي على الصواب (ص / 266).

(2)

(ظ ود): "الأجسام".

(3)

(ق): "قلت".

(4)

(ظ ود): "يصلح".

(5)

لعًا: كلمة يدعى بها للعاثر، قال أبو عبيد: من دعائهم: لا لعًا لفلان، أي: لا أقامه الله. انظر: "اللسان": (15/ 250).

ص: 260

وهذا الذي ذكرناه هو الذي قاله أبو عبيد

(1)

في قول حذيفة: "إن الله يخلق صانع الخَزَم وصنعته" واستشهد بالآية، وخالفه القُتَبِي

(2)

في "إصلاح الغلط"

(3)

؛ فغلط أشدَّ الغلط ووافق المعتزلةَ في تأويلها، وإن لم يقل بِقِيلها" هذا آخر كلام أبي القاسم السهيلي رحمه الله.

ولقد بالغ في رد مالا تحتمل الآية سواه، أو ما هو أولى بحملها وأَلْيقُه بها، ونحنُ وكلُّ محق مساعدوه على أن اللهَ خالق العباد وأعمالهم، وأن كلَّ حركة في الكون فالله خالقها، وعلى صِحَّة هذا المذهب أكثر من ألفِ دليلٍ من القرآن والسنة والمعقول والفطر

(4)

؛ ولكن لا ينبغي أن تحمل الآية على غير معناها اللائق بها، حِرْصًا على جعلها حجة عليهم، ففي سائر الأدلة غنية عن ذلك، على أنها حجة عليهم من وجه آخر، مع كون "ما" بمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى.

والكلام -إن شاء الله- في الآية في مقامين:

أحدهما: في سَلْب دلالتها على مذهب القدرية. والثاني: في إثبات دلالتها على مذهبِ أهلِ الحق خلاف قولهم. فهاهنا مقامان

(5)

؛ مقام إثبات ومقام سلب.

فأما مقام السَّلْب: فزعمت القدرية أن الآية حجة لهم في كونهم خالقين لأعمالهم، قالوا: لأن الله -سبحانه- أضاف الأعمالَ إليهم،

(1)

في "غريب الحديث": (4/ 126 - 127). والخَزَم: شيءٌ شبيه بالخوص.

(2)

ابن قتيبة تقدمت ترجمته ص/ 123.

(3)

(ص/126 - 127).

(4)

(ق): "النظر".

(5)

في الأصول: "مقامين".

ص: 261

وهذا يدل على أنهم هم المحْدِثون لها، وليس المراد هاهنا نفس الأعمال، بل الأصْنامَ المعمولة، فأخبر سبحانه أنه (ق/ 59 ب) خالقهم وخالق تلك الأصنام التي عملوها، والمراد مادتها، وهي التي وقع الخلقُ عليها.

وأما صورتها وهي التي صارت بها أصنامًا، فإنها بأعمالهم، وقد أضافها إليهم، فتكون بإحداثهم وخَلْقهم، فهذا وَجْهُ احتجاجهم بالآية.

وقابلهم بعض المثبتين للقدر، وأن اللهَ هو خالق أفعال العباد، فقالوا: الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة لله، فإن "ما" هاهنا مصدرية، والمعنى والله خلقَهُم وخلقَ أعمالهم، وقرروه (ظ/ 44 أ) بما ذكره أبو القاسم السهيلي وغيره، ولما أورد عليهم القدريةُ: كيف تكون "ما" مصدرية هنا؛ وأيُّ وجهٍ يبقى الاحتجاجُ عليهم إذا كان المعنى: والله خلقكُم وخلقَ عبادتكم، وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاجَ بأن يقولوا: فإذا كان اللهُ قد خلقَ عبادتنا للأصنام، فهي مرادة ٌله فكيف ينهانا عنها؟! وإذا كانت مخلوقة له مرادة فكيف يمكننا تركها؟! فهل

(1)

يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم للأصنام بأن الله خالق عبادتهم

(2)

؟.

أجابهم المثبتون: بأن قالوا: لو تدبرتم سياق الآية ومقصودها لعرفتم صحةَ الاحتجاج، فإن اللهَ -سبحانه- أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئًا أصلًا، وترك عبادة من هو خالقٌ لذواتهم وأعمالهم، فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم، فكيف تَدَعُون عبادته وتعبدون

(1)

(ق): "فكيف".

(2)

من قوله: "للأصنام

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 262

من لا يخلق شيئًا! لا ذواتكم ولا أعمالكم؟! وهذا من أحسن الاحتجاج.

وقد تكرَّر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئًا ويسووا

(1)

بينه وبين الخالق كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، وقوله تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، إلى أمثال ذلك، فصحَّ الاحتجاج وقامت الحجةُ بخلق الأعمال مع خَلْق الذوات، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في الآية كما ترى.

والصواب: أنها موصولة، وأنها لا تدلُّ على صحة مذهب القدرية، بل هي حجةٌ عليهم مع كونها موصولة، وهذا يتبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير، وهي: أن طريقةَ الحِجَاج والخطاب: أن يُجَرَّد القصد والعناية بحالِ ما يُحتج له وعليه، فإذا كان المستدل محتجًّا

(2)

على بطلان ما قد أدُّعي في شيءٍ وهو يخالف ذلك، فإنه يجرِّد العنايةَ إلى بيانِ بطلان تلك الدعوى، وأن ما ادُّعي له ذلك الوصف هو متصف بضدِّه لا متصف

(3)

به، فأما أن يُمْسك عنه ويَذْكر وصفَ غيره فلا.

وإذا تقرَّر هذا؛ فالله -سبحانه- أنكر عليهم عبادتهم الأصنام، وبيَّن أنها لا تستحقُّ العبادةَ ولم يكن سياق الكلام (ق/ 60 أ) في معرض

(1)

(ظ ود): "وسوى".

(2)

(ق): "المحتج مستدلًّا".

(3)

الأصول: "متصفًا".

ص: 263

الإنكار عليهم تَرْكَ عبادته، وإنَّما هو في معرض الإنكار عبادةَ من لا يستحق العبادة، فلو أنه قال: ألا

(1)

تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون؛ لتعينت المصدريةُ قطعًا، ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي؛ إذ يكون المعنى: كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدَكم وأوجدَ أعمالكم، فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق، فهذا وِزَان ما قرروه من كونها مصدرية، فأما سِيَاق الآية؛ فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة، فلابد أن يتبيَّن فيه معنًى ينافي كونه معبودًا، فبين هذا المعنى بكونه مخلوقًا له، ومن كان مخلوقًا من بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي له أن يُعْبَد ولا تليقُ به العبادة.

وتأمل مطابقةَ هذا المعنى لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، كيف أنكر عليهم عبادةَ آلهة مخلوقة له -سبحانه- وهي غير خالقة. فهذا يبين المراد من قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، ونظيره قوله تعالى في سورة الأعراف:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] أي: هم عباد مخلوقون، كما أنتم كذلك، فكيف تعبدون المخلوق!؟.

وتأمل طريقة القرآن -لو أراد المعنى الذي ذكروه- من (ظ/ 44 ب): حُسن تذكُّر

(2)

صفاته وانفراده بالحق، كقول صاحب يس:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها، ذكَر الموجب لذلك، وهي: كونه خالقًا لعابده فاطرًا له، وهذا إنعامٌ منه عليه فكيف يترك عبادته؟! ولو كان هذا هو

(1)

(ظ): "لا"!.

(2)

من (ق).

ص: 264

المراد من قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} ؛ كان يقتضي أن يُقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم، فتأمله فإنه واضح.

وقول أبي القاسم رحمه الله في تقرير حجة المعتزلة من الآية: إنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل من جهة النحو؛ ليس كذلك.

أما قوله: إن "ما" لا تكون مع الفعل الخاص مصدرًا! فقد تقدَّم بطلانُه وأن

(1)

مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم، كقوله تعالى:{بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}

(2)

[آل عمران: 79] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] إلى أضعاف ذلك، فإن هذه كلها أفعال خاصة، وهي أخص من مطلق العمل، فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال؛ فمجيئها مصدرية مع العمل أولى.

قولهم: إنهم لم يكونوا يعبدون النحتَ وإنما عبدوا المنحوت، حجة فاسدة؛ فإن الكلام في "ما" المصاحبة للفعل

(3)

، دون المصاحبة لفعل النحت، فإنها لا تحتمل غير الموصولة، ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك، فهذا تقريرٌ فاسد. وأما (ق 60/ ب) تقريره كونها مصدرية- أيضًا- بما ذكره فلا حجة له فيه.

أما قوله: "أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام"، فيُقَال: ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام؛ أتعني به: أن أفعالهم

(1)

(ظ ود): "إذ".

(2)

في "الأصول": "بما كنتم تتلون الكتاب"! والآية كما أثبت.

(3)

(ق): "للعمل".

ص: 265

لا تتعلق بإيجادها؟ أم تعني به: أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها؟ أم تعني به أعم من ذلك، وهو المشترك بين القسمين؟

فإن عنيتَ الأول، فمسلَّم، لكن لا يفيدك شيئًا، فإن كونها موصولة لا يستلزم ذلك، فإن كون الأصنام معمولة لهم لا يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم، بل هو على حدِّ قولهم. "عملتُ بيتًا، وعملت بابًا، وعملت حائطًا، وعملت ثوبًا"، وهذا إطلاق حقيقي ثابت عقلًا ولغةً وشرعًا وعرفًا لا يتطرق إليه ردٌّ، فهذا ككون الأصنام معمولة سواء.

وإن عنيتَ: أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها؛ فباطل قطعًا. وإن عنيتَ القدرَ المشتركَ؟ فباطل -أيضًا- فإنه مشتملٌ على نفي حقٍّ وباطل، فنفي الباطلِ صحيح، ونفي الحقِّ باطل.

ثم يقال -أيضًا-: إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجور أن يطلق فيه العمل الخاص، وشاهده في الآية:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} [الصافات: 95] فـ "ما" هاهنا موصولة فقد أوقع

(1)

فعلهم، وهو النحت على الجسم، وحينئذٍ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم، وبين إيقاع أفعالهم العامة عليه، لا بمعنى أنَّ ذاته مفعولة له، بل بمعنى

(2)

أن فعلهم هو الذي صار به صنمًا، واستحقَّ أن يُطلق عليه اسمه، كما أنه بفعلهم صار منحوتًا واستحق هذا الاسم، وهذا بَيِّن.

وأما قوله بجواب النقض بـ: "عملتُ الصَّحْفةَ وصنعتُ الجفنةَ": أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس

(1)

(ق): "وهذا وقع".

(2)

(ق وظ)"معنى"، والمثبت من (د).

ص: 266

العمل؛ فكذلك هي -أيضًا- معلق بالتصوير الذي صار الحَجَر به صنمًا منحوتًا سواء.

[وأما] قوله: الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق؛ فقد (ظ/45 أ) تقدَّم جوابُه وأن الآية

(1)

وردت لبيان عدمِ استحقاقِ معبوديهم للعبادة؛ لأنها مخلوقة لله، وذكرنا شواهده من القرآن.

فإن قيل: كان يكفي في

(2)

هذا أن يُقال: أتعبدون ما تنحتون والله خالقه، فلما عَدَل إلى قوله:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]؛ عُلم أنه أراد الاحتجاجَ عليهم في ترك عبادته -سبحانه- وهو خالقهم وخالق أفعالهم.

قيل: في ذكر خلقه -سبحانه- لآلهتهم ولعابديها من بيانِ تقبيح حالهم، وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى، ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط، فإنه إذا كان الله -تعالى- هو الذي خلقكم وخلقَ معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم، فكيف يعبدُ العاقلُ من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة!؟ (ق/ 61 أ) وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم!.

وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد، فإنه إذا كان مثله كان عبدًا مخلوقًا، والمعبود ينبغي أن يكون ربًّا خالقًا، فهذا من أحسن الاحتجاجِ وأبينه، فقد أسفر لك من

(1)

من قوله: "في بيان

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

من (ق).

ص: 267

المعنى المقصود بالسياق

(1)

صُبْحُه، ووضح لك شرحُه، وانجلى بحمد الله الإشكال، وزال عن المعنى غطاءُ الإجمال، وبان أن ابنَ قتيبةَ في تفسير الآية وُفِّق للسداد، كما وُفِّق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد، ولا تستطِلْ هذا الفصل، فإنه يُحقق لك فصولًا لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعدَ وأصولًا لا تجدها فى عامة المصنفات.

فإن قيل: فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون "ما" موصولة؟.

قيل: نعم قد سبقَ الوعدُ بذلك، وقد حان

(2)

إنجازُه وآن إبرازُه. ووجه الاستدلال بها أعلى هذا التقدير أن

(3)

الله سبحانه أخبر: أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها، وهي إنما صارت أصنامًا بأعمالهم، فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم، فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها، أعني: مادَّتَها وصورَتَها، فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك؟ لزم أن يكون خالقًا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة، لأنه متولِّد عن نفس حركاتهم. فإذا كان الله خالقهم كانت أعمالهم التي تولَّد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له، وهذا أحسن استدلالًا وألطف من جعل "ما" مصدرية.

ونظيره من الاستدلال سواء قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ

(1)

سقطت من (ق).

(2)

(ق): "سبق بذلك وعد حان

"!.

(3)

سقطت من (ظ).

ص: 268

فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس: 41، 42] وأصحُّ القولين

(1)

أن المثلَ المخلوقَ هنا هو السفن، وقد أخبر أنها مخلوقة له

(2)

، وهي إنما صارت سُفنًا بأعمال العباد. وأَبْعَدَ من قال: إن المثلَ هاهنا هو سفن البرِّ، وهي الإبل لوجهين:

أحدهما: أنها لا تُسَمَّى مثلًا للسفن؛ لا لغةً ولا حقيقةً، فإن المَثَلَين: ما سدَّ أحدُهما مسدَّ الآخر، وحقيقة المماثلة: أن يكون بين فُلْك وفُلْك لا بين جَمَل وفُلْك.

الثاني: أَنَّ قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] عَقِب ذلك دليلٌ على أن المراد الفلك التي إذا

(3)

ركبوها قَدَرنا على إغراقهم، فذَكَّوهم بنِعَمِه عليهم من

(4)

وجهين. أحدهما: ركوبهم إياها، والثاني: أن يُسَلِّمهم عند (ظ/ 45 ب) ركوبها من الغرق.

ونظير هذا الاستدلال -أيضًا- قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ (ق/61 ب) ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] والسرابيل هي: الثياب التي يلبسونها، وهي مصنوعة لهم، وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها، وإنما صارت سرابيل بعملهم، ونظيره قوله تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] والبيوت التي من جلود الأنعامِ هي: الخيام، وإنما صارت بيوتًا بعملهم.

(1)

من (ق).

(2)

من (ق).

(3)

سقطت من (ق).

(4)

(ق): "نعمته عليهم بها

"!

ص: 269

فإن قلت: المراد من هذا كلِّه المادة لا الصورة.

قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها، وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها، وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال، والله أعلم.

فائدة

(1)

الذي يدلُّ على أن الضمير من: "يكرمني" ونحوه "الياء" دون "النون"

(2)

معها وجوه:

أحدها: القياس على ضمير المخاطب والغائب في: أكرمك وأكرمه.

الثانى: أنَّ الضمير في قولك: "أني" وأخواته هو الياء وحدها؛ لسقوط النون اختيارًا في بعضها، وجوازًا في أكثرها، وسماعًا في بعضها، ولو كان الضمير هو الحرفين لم يسقطوا أحدهما.

الثالث: إدخالهم هذه النون في بعض حروف الجر وهي: "مِن" و"عَن"، ولو كانت جزءًا من الضمير لا طردت في "إليّ" و"فيَّ" وسائر حروف الجر

(3)

.

فإن قلتَ: فما وجه اختصاصها ببعض الحروف والأسماء؟

والجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له من توهم الإضافة إلى "الياء"، فألحقوها علامة الانفصال، وهى في أكثر الكلام نون ساكنة، وهو التنوين، فإنه لا يوجد في الكلام إلا علامةً

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 194).

(2)

ليست في (ظ ود)، وفي "المنيرية":"ما".

(3)

(ق): "سائر الحروف الجارّة".

ص: 270