الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعظم أسباب الإعطاء، وهو كثرة ما يملكه، فدلَّ هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير، وأن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير، فافهم نظير هذا المعنى في الآية، وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى، على تقدير أن الأشجارَ أقلام، والبحارَ مداد يُكْتَب بها، فإذا لم تنفد على هذا التقدير، كان عدم نفادها لازمًا له؛ فكيف بحسب دونه من التقديرات!! فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقتٍ ولا تكاد تجدها في الكتب، وإنما هي من فتح الله وفضله، فله الحمد والمنة، ونسأله المزيد من فضله.
فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية، وجاءت الخصوص بمقتضاهما معًا من غير خروج عن مُوْجب عقلٍ ولا لغةٍ ولا تحريفٍ لنصٍّ، ولو لم يكن في هذا التَّعليق إلا هذه الفائدة لساوت رحلة، فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد مالًا يَنفُق إلا على تجَّارِه، وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة، والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة، ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما!! والله المعين.
المسألة التاسعة
(1)
: في دخول الشرط على الشرط، ونذكر فيه ضابطًا مزيلًا للإشكال إن شاء الله، فنقول: الشرط الثاني تارة يكون معطوفًا على الأول وتارة لا يكون، والمعطوف تارة يكون معطوفًا على فعل الشرط وحده،
(2)
وتارة يُعْطف على الفعل مع الأداة، فمثال غير المعطوف:"إن قمتِ إن قعدتِ فأنت طالق".
(1)
قارن بـ "الفروق": (1/ 81 - 85) للقرافي، ولم يذكر المصنف العاشرة.
(2)
(ق/22 ب) من النسخة (ق) ساقط من مصوَّرتي وينتهي السقط إلى قوله: "وممن نص
…
" ص/104.
ومثال المعطوف على فعل الشرط وحده: "إن قمتِ وقعدتِ". ومثال المعطوف على الفعل مع الأداة: "إن قمتِ وإن قعدتِ"، فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب وهي عشر صور:
أحدها: "إن خرجتِ ولبستِ"، فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا.
الثانية "إن لبست فخرجت"، لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس، فلو خَرَجَت ثم لبست لم يحنث.
الثالثة: "إن لبست ثم خرجت"، فهذا مثل الأول، وإن كان "ثم" للتراخى فإنه لا يُعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده.
الرابعة: "إنْ خرجت لا إنْ لبست"، فيحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: جعل الخروج شرطًا؛ ونفي اللبس أن يكون شرطًا. الثاني: أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس، والمعنى: إن خرجت لا لابسة، أي غير لابسة، ويكون المعنى إن كان منك خروج لا مع اللبس، فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده، وعلى الثاني: لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه.
الخامسة: "إن خرجت بل إن لبست"، ويحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب، والثاني: أن يكون كل منهما شرطًا فيحنث بأيهما وجد، ويكون الإضراب عن الاقتصار، فيكون إضراب اقتصار لا إضراب
(1)
إلغاء، كما تقول:"أعطه درهما بل درهمًا آخر".
(1)
من قوله: "الاقُتصار
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
السادسة: "إن خرجت أو إن لبست" فالشرط أحدهما أيهما كان.
السابعة: "إن لبست لكن إن خرجت"، فالشرط الثاني [إن] وقع لغا الأول لأجل الاستدراك بـ "لكن".
الثامنة: أن يدخل الشرطُ على الشرط، ويكون الثاني معطوفًا بالواو، نحو:"إن لبست وإن خرجت"، فهذا يحنث بأحدهما.
فإن قيل: فكيف لم يحنِّثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما، وحنثتموه ها هنا بأيهما كان؟.
قيل: لأنه هناك جعل الشرط مجموعهما، وهنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه، وجعل لهما جوابًا واحدًا، وفيه رأيان؛ أحدهما: أن الجواب لهما جميعًا وهو الصحيح، والثاني: أن جواب أحدهما، حُذِفَ لدلالة المذكور عليه، وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزءين.
التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء، نحو قوله تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}
(1)
[البقرة: 38]. فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني، وهو وجوابه جواب الأول، فإذا قال:"إن خرجت فإن كلمت أحدًا فأنت طالق"، لم تَطْلق حتى تخرج وتكلم أحدًا.
العاشرة
(2)
: وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف، نحو:"إن خرجتِ إن لبستِ"، اختلف أقوالهم فيها، فحن قائل: إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى، وأنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج، ومن قائل بل المقدَّم لفظًا هو المقدِّم معنًى، وذكر كلٌّ منهم حُجَجًا لقوله.
(1)
بقية الآية: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
…
} والكلام عليه.
(2)
انظر "الفروق": (1/ 81)، وسيعيد المؤلف هذا البحث فيما سيأتي:(3/ 1237).
(ق/23 أ) وممن نص على المسألة [لبن] الموفَّق
(1)
الأندلسي في شرحه
(2)
، فقال: إذا دخل الشرط على الشرط، وأُعيد حرف الشرط، توقّف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول، كقولك:"إن أكلتِ إن شربتِ فأنت طالق"، فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل؛ لأنه معلق
(3)
على أكلٍّ معلَّقٍ على شربٍ، وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في "المهذب"
(4)
، وحكى ابن شاس في "الجواهر"
(5)
. عن أصحاب مالك عكسه، والوجهان لأصحاب الشافعي.
ولابد في المسألة من تفصيل وهو: أَنَّ الشرط الثاني إن كان متأخراً في الوجود عن الأول؛ كان مقدراً بالفاء، وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني، (ظ/ 17 ب) مثاله:"إن دخلت: المسجد إن صليت فيه فلك أجر"، تقديره: فإن صليت فيه، وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها، وإن كان الثاني متقدماً في الوجود على الأول؛ فهو في نية التقدم، وما قبله جوابه، والفاء مقدرة فيه، ومثله قوله عز وجل:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، تقديره: إن أراد الله أن يغويكم
(6)
، فإن
(1)
تحرفت في (ق) إلى: "الفرضي".
(2)
أي: شرحه للمفصّل للزمخشري، وتقدم نقل المؤلف عنه ص/ 91، وترجمته والتعريف بكتابه.
(3)
(ظ ود)"تعلق".
(4)
(10/ 215 - مع شرحه للعمراني".
(5)
(2/ 207) واسم الكتاب "عِقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، ومؤلّفه هو: عبد الله بن نجم بن شاس الجذامي السعدي أبو محمد ت (616).
انظر: "وفيات الأعيان": (3/ 61)، و"السير":(22/ 99).
(6)
"تقديره: إن أراد الله أن يغويكم" سقطت من (ظ ود).
أردت أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نُصْحِي، وتقول: "إن دخلت المسجدَ
(1)
إن توضأتَ فصل ركعتين"، تقديره: إن توضأت، فإن دخلت المسجد فصلِّ ركعتين، فالشرط الثاني هنا متقدِّم.
وإذ لم يكن أحدهما متقدماً في الوجود على الآخر، بل كان محتملاً للتقدم والتأخر؛ لم
(2)
يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعاً إلى تقدير المتكلِّم ونيته، فأيهما قدره شرطاً كان الآخر جواباً له، وكان مقدراً بالفاء تقدم في اللفظ أو تأخر، وإن لم يظهر نِيَّة ولا تقدير احتمل الأمرين، فمما ظهر فيه تقديم المتأخر، قول الشاعر:
إن تَسْتغيثوا بِنا إنْ تُذْعَرُوا تَجِدوا
…
مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانها الكَرَمُ
(3)
لأنَّ الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذُّعر، ومنه قول ابن دُرَيد
(4)
:
فإنْ عَثَرتُ بَعْدها إنْ وألَتْ
…
نَفْسي مِن هَاتَا فقولا لا لَعَا
ومعلوم أن العثور مرة ثانية
(5)
إنما يكون بعد الذُّعر، ومن المحتمل قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، يحتمل أن تكون الهبة شرطاً ويكون فعل الإرادة جواباً له، ويكون التقدير: إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له، ويحتمل أن تكون
(1)
(ق): "الدار".
(2)
(ق): "للتقديم والتأخير ولم".
(3)
البيت في "الخزانة": (11/ 358) ولا يُعرف قائله.
(4)
ضمن المقصورة، وانظر "المقصورة":(ص/ 20 - مع شرح التبريزي).
(5)
(ق): "العبور الثاني".
الإرادة شرطاً والهبة جواباً له، والتقدير: إن أراد النبيُّ أن يستنكحها، فإن وهبت نفسها فهي خالصة له، يحتمل الأمرين، فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها، والله أعلم.
فائدة عظيمة المنفعة
(1)
قال سيبويه
(2)
: "الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب، تقول: صمتُ رمضانَ وشعبانَ، وإن شئتَ: شعبان ورمضان، بخلاف "الفاء" و"ثم" إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أَهَمُّ، وهُمْ ببيانِهِ أَعْنَى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويَعْنيانهم"، هذا لفظُه.
قال السُّهيلي: وهو كلام مجمل يحتاج (ق/23 ب) إلى بسطٍ وتبيين، فيقال: متى يكون أحدُ الشيئين أحقَّ بالتقديم
(3)
، ويكون المتكلم ببيانه أعنى.
قال: والجوابُ: أن هذا الأصل يجب الاعتناء به، لِعِظم منفعته في كتاب الله، وحديث رسوله؛ إذ لابدَّ من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير
(4)
ما أخر، كنحو السَّمْع والبصر
(5)
، والظلمات والنور، والليل والنهار، والجن والإنس في الأكثر، وفي بعضها: الإنس والجن، وتقديم السماء على الأرض في الذِّكر
(6)
، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي، ونحو:"سميع عليم"، ولم يجئ:
(1)
"نتائج الفكر": (ص/266).
(2)
في "الكتاب": (1/ 218).
(3)
(ظ ود): "بالمتقدم".
(4)
(ق): "ما قدم في القرآن أو
…
".
(5)
(ظ ود): "السميع والبصير"، والمثبت من (ق) و"النتائج".
(6)
ليست في (ق).
"عليم سميع"، وكذلك:"عزيز حكيم" و"غفور رحيم"، وفي موضع واحد:"رحيم غفور" إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر. وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام الحكيم الخبير. وسنقدِّم بين يدي الخوض في هذا الغرض أَصْلاً يقف بك على الطريق الأوضح.
فنقول: ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حسب تقدُّم المعاني في الجَنَان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال، فإذا سبق معنى من المعاني إِلى الخَلَد والفِكْر
(1)
بأحد هذه الأسباب الخمسة، أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكاد ترتُّب الألفاظ بحسب ذلك، نعم وربما كان ترتُّب الألفاظ بحسب الخفة والثقل، لا بحسب المعنى، كقولهم:"ربيعة ومُضَر"، وكان تقديم "مضر" أولى من جهة الفضل، ولكن آثروا الخفة؛ لأنك لو قدمت "مضر" في اللفظ، كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وُقِف
(2)
عليها بالسكون.
قلت: ومن هذا النحو: "الجن والإنس"، فإن لفظ الإنس أخفّ، لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجِمَامه. وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب، وسنشير إليها في آخر الفصل (ظ/18 أ) إن شاء الله تعالى.
أما ما تقدم بتقدُّم الزمان فكـ "عاد وثمود" و"الظلمات والنور"،
(1)
(ظ ود): "الخفة والثقل" ولا معنى له.
(2)
في الأصول ونسختَي النتائج: "ووقف" وأصلحه محققه كما أثبتْ.
فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمهما في المحسوس معلوم
(1)
بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل، قال سبحانه:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] فالجهل
(2)
ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور العلم
(3)
ولذلك قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]، فهذه ثلاث محسوسات: ظلمة الرَّحِم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وثلاث معقولات وهي: عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة؛ إذ
(4)
: "لكلِّ آية ظهر وبطن، ولكل حرف حدٌّ، ولكل حدٍّ
(5)
مطلع"
(6)
، وفي الحديث:"إِنَّ اللهَ خَلَقَ عِبَادَهُ في (ق/24 أ) ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ من نُوْرِه"
(7)
.
ومن المتقدِّم بالطبع نحو: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ونحو:
(1)
(ق): "معقول".
(2)
في "النتائج": "وانتفاء العلم".
(3)
(ق): "العلوم"، و"النتائج":"الإدراك".
(4)
ليست في (ق).
(5)
"ولكل حد" سقط من (د).
(6)
جاء هذا القول عن بعض السلف، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، انظر ذلك مع شرحه في "الإتقان":(2/ 486)، و"البرهان":(2/ 169).
(7)
أخرجه أحمد: (2/ 176، 197)، والترمذي رقم (2642)، وحسَّنه، وابن حبان في "الإحسان":(14/ 43)، والحاكم في "المستدرك":(1/ 30) وصححه، وابن أبي عاصم في "السنة":(ص/ 108)، واللالكائي:(4/ 603)، والآجري في "الشريعة":(2/ 757).
كلهم من طريق عبد الله ابن الدَّيْلمي عن عبد الله بن عَمرو به، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي والألباني في "السلسلة" رقم (1076).
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7].
وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدَّم بالطبع، كتقدم الحيوان على الإنسان، والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم "العزيز" على "الحكيم"؛ لأنه عزَّ فلما عزَّ حَكَمَ، وربما كان هذا من تقدُّم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن، نحو:{يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]؛ لأنَّ التوبة سبب الطهارة، وكذلك:{كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ لأنَّ الإفك سبب الإثم، وكذلك:{كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12].
وأما تقدُّم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] فبالرتبة؛ لأنَّ المشي مرتب على القعود في المكان
(1)
. والهماز هو: العيَّاب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة.
وأما تقدُّم {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} على: {مُعْتَدٍ} [القلم: 12] فبالرتبة أيضاً؛ لأن المناع يمنع من
(2)
نفسه، والمعتدي يعتدي على غيره، ونفسه [في الرتبة]
(3)
قبل غيره.
ومن المقدَّم بالرتبة قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]؛ لأنَّ الذي يأتي راجلاً يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد، على أنَّه قد رُوِي عن ابن عباس أنَّه قال:"وددت أني حججت راجلاً، لأنَّ الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن "
(4)
، فجعله ابن عباس من باب تقدُّم
(1)
(ق): "الكلام".
(2)
"النتائج": "خير".
(3)
من "النتائج".
(4)
قال السيوطي في "الدر المنثور": (4/ 639): "وأخرج ابن أبي شيبة، وابن سعد، =
الفاضل على المفضول، والمعنيان موجودان. وربما قُدِّم الشيء لثلاثة معانٍ وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنًى واحد من الخمسة.
ومما
(1)
قدم للفضل والشرف: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله:{النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]، ومنه تقديم "السمع" على "البصر"
(2)
، و"سميع" على "بصير"، ومنه تقديم "الجن" على "الإنس" في أكثر المواضع؛ لأن الجنّ تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجْتَنَّ عن الأبصار قال تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] وقال الأعشى
(3)
:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكِ سَبْعَةً
(4)
…
قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ بِلا أَجْرِ
وأما قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74] وقوله: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال؛ لنزاهتهم عن العيوب، وأنهم لا يُتَوهم عليهم الكذب، ولا سائر الذنوب؛ فلما لم يتناولهم عموم لفظ الجنِّ
(5)
= وعَبْد بن حُميد، وابن جرير:(9/ 135 - 136)، وابن المنذر، وابن أبي حاتم:(8/ 2488)، والبيهقي:(4/ 331)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:"ما آسى على شيءٍ فاتني إلا أني لم أحج ماشيّا حتى أدركني الكِبَر، أسمع الله تعالى يقول: "يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر" فبدأ بالرجال قبل الركبان".
(1)
(ق ود): "ربما".
(2)
(ظ ود): "السميع علي البصير".
(3)
ليس في "ديوانه"، وذكره ابن منظور في "اللسان":(13/ 98).
(4)
في الأصول: "شِيعةً"، وفي "اللسان":"تسعة".
(5)
من (ق).
لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم.
وأما تقديم "السماء" على "الأرض"؛ فبالرتبة -أيضاً- وبالفضل والشرف.
وأما تقديم "الأرض" في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61]؛ فبالرتبة -أيضاً- لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم المخاطبون بقوله:{وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61]؛ فاقتضى حُسْن النظم تقديمها مَرْتبةً في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها، بخلاف الآية التي في "سبأ"، فإنها منتظمة بقوله:{عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3].
وأمَّا تقديم "المال" على "الولد" في كثير من الآي؛ فلأن الولدَ بعد وجودِ المالِ نعمةٌ ومسرَّةٌ، وعند الفقر (ق/ 24 ب) وسوء الحال همٌّ ومضرَّة، فهذا من باب تقديم السبب على المسبب؛ لأنَّ المال سبب تمام النعمة بالولد.
وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فتقديم النساء على البنين بالسبب، وتقديم [البنين] على [الأموال] بالرتبة
(1)
.
ومما تقدَّم بالرتبة ذكر "السمع والعلم" حيث وقع، فإنَّه خبر يتضمَّن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلُّقه بما قرب كالأصوات (ظ/18 ب) وهمس الحركات؛ فإن من سمع حِسَّك وخَفيَّ صوتك أقربُ إليك - في العادة - ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علمه
(1)
في الأصول: "وتقديم الأموال على البنين بالرتبة"، والتصويب من "النتائج".
تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن، وواقعاً على ما قَرُب وشَطَن، ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم؛ فهو أولى بالتقديم.
وأما تقديم "الغفور" على "الرحيم"؛ فهو أولى بالطبع
(1)
؛ لأنَّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة تُطْلب قبل الغنيمة. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعَمْرو بن العاص:"أَبْعَثُكَ وَجْهاً يُسَلِّمُكَ اللهُ فِيْهِ وَيُغَنِّمُكَ وَأَزْعَبُ لَكَ زَعْبَةً مِنَ المَالِ"
(2)
، فهذا من الترتيب البديع، بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة قبل الكسب.
وأما قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] في سبأ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، فإِمَّا بالفضل والكمال، وإما بالطبع؛ لأنها منتظمة بذكر أصناف
(3)
الخلق من المكلّفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصُّهم، والعموم بالطبع قبل الخصوص، كقوله:{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وكقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98].
(1)
(ق): "بالتقديم بالطبع".
(2)
أخرجه أحمد (4/ 197 و 202)، والبخاري في "الأدب المفرد":(ص/97)، وابن حبّان "الإحسان":(8/ 7)، والحاكم:(2/ 236) وغيرهم.
كلهم من طرقٍ عن موسى بن عُلَيّ بن رباح عن أبيه عن عَمْرو بن العاص به.
والحديث صححه الحاكم وابن حبان، والذهبي والألباني في "صحيح الأدب المفرد" رقم 229.
ووقع في الأصول، وبعض مطبوعات كتب السنة:"أرغب لك رغبة" بالراء والغين، والصواب:"أزْعب لك زَعْبة" بالزاي والعين. والمعنى: أعطيك دفعة من المال. وأصل الزَّعب: الدَّفع والقَسْم، انظر:"النهاية"(2/ 302) لابن الأثير.
(3)
"النتائج": "أوصاف".
ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ لأنَّ السجودَ أفضل، و"أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"
(1)
.
فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقال من علوٍّ إلى انخفاض، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلَّا قُدِّم الركوع؟
فالجواب: أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثمَّ قال لها:{وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، أي: صَلِّي مع المصلين في بيت المقدس.
ولم يُرِد -أيضاً- الركوع وحده دون سائر
(2)
أجزاء الصلاة، ولكنه عبَّر بالركوع عن الصلاة كلِّها
(3)
، كما تقول:"ركعت ركعتين، وأربع ركعات"، تريدُ الصلاةَ لا الركوعَ بمجرده، فصارت الآية متضمنةً لصلاتين: صلاتها وحدها عبَّر عنها بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضل حالات العبد، وكذلك صلاةُ المرأة في بيتها أفضل لها. ثمَّ صلاتها في المسجد عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نَظْم بديع، وفقه دقيق، وهذه نُبَذٌ تشير لك إلى ما وراء، أَو تنبذك وأنت صحيحٌ بالعَرَاء
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم رقم (482)، وأبو داود رقم (875)، والنسائي:(2/ 226) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
من (ق) و"النتائج".
(3)
من (ق) و"النتائج".
(4)
تحرفت هذه الجملة في (ظ) و"النتائج".
قالوا
(1)
: ومما يليق
(2)
ذكره بهذا الباب قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] بدأ بالطائفين للرتبةِ والقربِ من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوَّافين، وجمعهم جَمْعَ السلامة؛ لأنَّ جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علة يُعلَّق بها حكم التطهير، ولو كان مكان (لِلطَّائِفِينَ): الطُّوَّاف؛ لم يكن في هذا اللفظ من بيان قَصْد
(3)
الفعل ما في قوله (لِلطَّائِفِينَ)، ألا ترى أنك تقول:"يَطوفون"، كما تقول:"طائفون"، فاللفظان متشابهان.
فإن قيل: فهلَّا أُتيَ بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول:"وطهر بيتي للذين يطوفون"؟.
قيل: إن الحكم مُعَلَّل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ "الذين" يُنْبئ عن الشخص والذات، ولفظ "الطُّوَّاف" يُخْفِي معنى الفعل ولا يبينه، فكان لفظ [الطائفين]
(4)
أولى بهذا الموطن.
ثمَّ يليه في الترتيب (وَالْقَائِمِينَ)؛ لأنه في معنى (العاكفين)، وهو في معنى قوله تعالى:{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، أي: مُثابراً ملازماً، وهو كالطائفين في تعلُّق حكم التطهير به، ثمَّ يليه بالرتبة لفظ [الرُّكَّع]
(5)
؛ لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصُّون بما قَرُب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلَّق حكم التطهير
(1)
ليست في (ق). وانظر "النتائج": (ص/273).
(2)
من (ق) و"النتائج".
(3)
(ق): "فضل"، و"النتائج":"قول"!.
(4)
(ظ وق): "الظاهر" والمثبت من "النتائج".
(5)
(ظ وق): "الراكع" والمثبت من "النتائج".
بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه
(1)
لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ بلفظ الجمع المسلَّم؛ إِذ لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل، كما احتيج فيما قبله.
ثمَّ وصَفَ {الرُّكَّعِ} بالسجود، ولم يُعْطَف بالواو كما عطف ما قبله؛ لأنَّ {الرُّكَّعِ} هم {السُّجُودِ} ، والشيءُ لا يُعْطَف بالواوِ على نفسه؛ ولفائدةٍ أُخرى: وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطف بالواو لتُوُهِّم أنَّه يريد السجودَ الذي هو المصدر دود الاسم الذي هو النعت؛ وفائدةٍ ثالثة: أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة (ظ/19 أ)؛ فلو عطفت هاهنا بالواو لتُوُهِّمَ أن الركوعَ حكم يجري على حِيَالِه.
فإن قيل: فلم قال: "السجود" على وزد "فُعُول"، ولم يقل السُّجَّد كالرُّكَّع، وفي آية أخرى:{رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، وَلمَ جُمِع "ساجد" على "سجود"، ولم يُجْمع "راكع" على "ركوع".
فالجواب: أن السجود في الأصل مصدرٌ كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال:"السُّجَّد" في جمع "ساجد" لم يتناول إلا المعنى الظاهر. وكذلك "الرُّكَّع" ألا تراه يقول: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] وهذه رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قيله مما يُراد به قصد
(2)
البيت، والبيت لا يُتَوجه إليه إلا بالعمل الظاهر.
وأما الخشوع والخضوع الذي يتناوله لفظ "الركوع" دون لفظ
(1)
(ق): "لهذا".
(2)
(ق): "فضل".
"الرُّكَّع" فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت.
وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جُعِل وصفاً "للركع" ومتمماً لمعناه؛ إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول (ق/25 ب) لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يُشترط فيه التوجه إلى البيت، حَسُن انتظامه -أيضاً- بما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذين ذكرهم بذكر البيت، فمن لَحَظَ هذه المعاني بقلبه، وتدبَّر هذا النظمَ البديع بِلُبِّه؛ ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصرَ بعينِ اليقين أنَّه تنزيلٌ من حكيم حميد" تم كلامه رحمه الله.
قلت
(1)
: وقد تولَّج رحمه الله مضايق تضايق عنها أَن تولجها الإِبَر، وأتى بأشياءَ حسنة، وبأشياء غيرُها أحسن منها.
فأما تعليلُه تقديمَ ربيعة على مضر؛ ففي غاية الحُسْن، وهذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد، فحَسُنَ فيهما ما ذكره.
وأما
(2)
ما ذكره في تقديم الجنِّ على الإنس من شَرَف الجن؛ فمُسْتَدْرَك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع.
وأما قوله: إن الملائكة منهم و
(3)
هم أشرف، فالمقدمتان ممنوعتان.
أَما الأولى: فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خُلِقوا منها هي:
(1)
ليست في (ق)، والكلام لابن القيم تعليقاً على كلام السهيلي.
(2)
من قوله: "ففي غاية
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(3)
(ظ): "أو".
النور، كما ثبت ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم"
(1)
، وأما الجانُّ فمادتهم النار بنص القرآن، ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعاً ولا عقلاً.
وأما المقدمة الثانية: وهي كون الملائكة خيراً وأشرف من الإنس؛ فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر
(2)
، والجمهور على تفضيل البشر، والذين فضَّلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا: إنه تقديمٌ بالزمان لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27].
وأما تقديم الإنس على الجنِّ في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74]؛ فلِحِكْمة أخرى سوى ما ذكره، وهو: أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات فيَرِد النفي عليه، وعلم النفوس بطَمْث الإنس ونُفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف، فجاء النفي على مقتضى ذلك، وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهمّ.
وأما قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فهذا يُعرَف سره من السياق، فإن هذا حكايةُ كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
…
} [الجن: 1 - 15].
(1)
رقم (2996) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
انظر: "طريق الهجرتين": (ص/ 411)، وهذا الكتاب:(3/ 1104)، و"مجموع الفتاوى":(4/ 35)، و"فتح الباري":(13/ 386)، وانظر كتاب:"مباحث. المفاضلة في العقيدة": (ص/ 354).
وكان القرآن أول
(1)
ما خُوطِب به الإنس، ونزل على نبيهم، وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن، فجاء قول مؤمني الجن:{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] بتقديم الإنس لتقدُّمهم في الخطاب بالقرآن، وتقدّمهم بالتصديق والتكذيب.
وفائدة ثالثة
(2)
: وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم
(3)
بعد أن رجعوا إليهم، فأخبروهم بما سمعوا من القرآن وعَظَمته وهدايته إلى الرشد، ثمَّ اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولاً بخلاف (ق/26 أ) ما سمعوه من الرشد، بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن لم يقولوا
(4)
على الله كذباً، فَذِكْرهم (ظ/19 ب) الإنس هنا في التقديم، أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التُّهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبيَّن لهم كذبهم
(5)
، فبداءتُهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغَرَض والتهمة، وأنه لا يَظُن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنسَ عليهم، فإنهم أول ما أقرُّوا بتقوُّلهم الكذبَ على الله. وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحَّتَه.
وأما تقديم عاد على ثمود حيثُ وقَعَ في القرآن؛ فما ذكره من تقدمهم بالزمان؛ فصحيح، وكذلك الظلمات والنور، وكذلك مَثْنى وبابه.
(1)
(ق): "أولى".
(2)
(ق): "ثانية".
(3)
ليست في (ق).
(4)
(ظ): "يقولون".
(5)
(ق): "كذبه".
وأما تقديم "العزيز" على "الحكيم" فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر؛ فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحِكْمة، وهي كمال العلم والإرادة المتضمِّنَيْنِ اتساقَ صُنعه وجَرَيانه على أحسنِ الوجوه وأكملها، ووضعه الأشياء مواضعها، وهو الظاهر من هذا الاسم، فيكون وجه التقديم: أن العزَّة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وهو سبحانه الموصوف من كل صفةِ كمالٍ بأكملها وأعظمها وغايتها، فقدَّم وصفَ القدرة؛ لأنَّ متعلَّقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته. وأما الحكمة فمتعلّقها يُعْلم
(1)
بالنظر والفكر والاعتبار غالباً وكانت متأخرة عن متعلق القدرة.
ووجهٌ ثان: أن
(2)
النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه
(3)
من الحكم والمعاني.
ووجهٌ ثالث: أن الحكمة
(4)
غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأَخُّر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده، والحكمة تتعلّق بغايته، فقدَّم الوسيلة على الغاية؛ لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.
وأما قوله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ففيه معنى آخر سوى ما ذكره، وهو أنَّ الطُّهر طُهْران: طُهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطُهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مُكمِّل له معد مُهَيِّئ بحصوله، فكان أولى بالتقديم؛ لأنَّ العبد أول ما يدخل
(1)
ليست في (ظ).
(2)
(ق): "ووجه بأن".
(3)
(ق): "ادعاه".
(4)
(ظ): "الكلمة".
في الإِسلام فقد تطهَّر بالتوبة من الشرك، ثمَّ يتطهر بالماء من الحدث.
وأما قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ فالإفك هو: الكذب وهو في القول، والإثم هو: الفجور وهو في الفعل. والكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح: "إِنَّ الكَذِبَ يَدْعُو إِلى الفُجُوْرِ وَإِنَّ الفُجُوْرَ يَدْعُو إِلى النَّارِ"
(1)
؛ فالذي قاله صحيح.
وأَمَّا {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] ففيه معنىً ثان غير ما ذكره، وهو: أَنَّ العدوان مجاوزة الحد الذي حُدَّ للعبد، فهو ظلم في القدر والوصف، وأما الإثم فهو: محرَّم الجنس، ومن تعاطَى تعدِّي الحدود تخطى إلى الجنس الآخر، وهو الإثم.
ومعنىً ثالث: وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدواناً عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور، فكان تقديمه هنا على الأثيم
(2)
أولى؛ لأنه في سياق ذَمِّه (ق/26 ب) والنهي عن طاعته، فمن كان معتدياً على العباد ظالماً لهم؛ فهو أحرى بأن لا تطيعه وتوافقه.
وفيه معنىً رابع: وهو أنَّه قدَّمه على الأثيم ليقترن بما قبله، وهو وصف المنع للخير، فوصفه بأنه لا خير فيه للناس، وأنه مع ذلك معتدٍ عليهم، فهو متأخِّر عن المنَّاع؛ لأنه يمنع خيره أوَّلاً ثمَّ يعتدي عليهم ثانياً، ولهذا يحمد الناسُ من يُوجِد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى، وهذا هو حقيقة التصوف
(3)
، وهذا لا راحة يُوجِدها ولا أذى يكفُّه.
(1)
أخرجه البخاري رقم (6094)، ومسلم رقم (2607) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
(ق): "الاسم"!.
(3)
انظر "مدارج السالكين": (1/ 464 - 465).
وأما تقديم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذكره، وهو أن همزه عَيْب للمهموزِ، وإِزراء به
(1)
، وإظهارٌ لفسادِ حاله في نفسه، وهذه قالة
(2)
تختص المهموز لا تتعدَّاه إلى غيره، والمشي بالنميمة يتعدَّاه إلى من ينم عنده، فهو ضرر متعدٍّ، والهمز ضررهُ لازم للمهموز إذا شعر به؛ فانتقل
(3)
من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدِّي المنتشر.
وأما تقديم الرجال على الرُّكبان؛ ففيه فائدة جليلة، وهي: أَنَّ الله تعالى شَرَط في الحج الاستطاعة، ولابدَّ من السفر إليه لغالب الناس، فذكر نوعَي الحُجَّاج لقطع توهُّم من يظن أنَّه لا يجب إلا على راكب، وقدَّم الرجال اهتماماً بهذا المعنى وتأكيداً، ومن الناس من يقول: قدَّمهم جبراً لهم؛ لأن نفوسَ الركبان تزدَرِيهم وتوبِّخهم
(4)
، وتقول: إن الله (ظ/ 20 أ) لم يكتبه عليكم ولم يُرِدْه منكم، وربما توهَّموا أنَّه غير نافع لهم، فبدأ بهم جبراً لهم ورحمة.
وأما تقديم غسل الوجه، ثمَّ اليد، ثمَّ مسح الرأس، ثمَّ الرجلين في الوضوء؛ فمن يقول: إن هذا الترتيب واجب وهو: الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوباً لقرائن عديدة:
أحدها: أنَّه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، ولو أُرِيد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات مُتَّسِقة في النظم، والممسوح بعدها، فلما عدل إلى ذلك؛ دلّ على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله تعالى.
(1)
في (ق) زيادة مقحمة لا وجه لها، هي:"فهو ضرر متعدّ".
(2)
(ق): "وهذه حالة".
(3)
(ظ): "ما ينقل".
(4)
كذا رسمها في (ظ)، وفي (ق):"وتومهم".
الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به وهو الوضوء، فدخلت الواو عاطفة لأجزائه بعضها على بعض، والفعل الواحد لابدَّ
(1)
من ارتباط أجزائه بعضها ببعض، فدخلت الواو بين الأجزاء للربط، فأفادت الترتيبَ، إذ هو الربط المذكور في الآية، ولا يلزم من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينها، نحو:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أن لا تفيده بين أجزاءِ فعلٍ مرتبطة بعضها ببعض. فتأمل هذا الموضع ولطفه، وهذا أحد الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب، وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو قول ابن أبي موسى
(2)
من أصحاب أحمد، ولعله أرجح الأقوال.
الثالث: أن لبداءة الرَّب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء
(3)
خاصة؛ فيجبُ مراعاتها، وأَن لا تُلغى وتُهدر (ق/ 27 أ) فيُهْدَر ما اعتبره الله ويُؤخَّر ما قدَّمه الله، وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أن ما قدَّمه الله؛ فإنَّه ينبغي تقديمه ولا يؤخَّر، بل يُقدم ما قدم الله ويؤخر ما أخر
(4)
، فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا، وقال:"نَبْدَأُ بمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"
(5)
، وفي رواية للنسائي:"ابْدَؤوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"
(6)
على الأمر، فتأمل
(1)
ساقطة من (ظ)، وفي المطبوعة:"يحصل".
(2)
هو: محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي الهاشمي القاضي الحنبلي، ت (428)، له تصانيف. انظر:"طبقات الحنابلة": (3/ 335).
(3)
"دون سائر الأعضاء": ساقط من (ق).
(4)
العبارة في (ظ): "بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر، فلما"!.
(5)
أخرجه مسلم رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع.
(6)
"السنن": (5/ 236)، وأخرجه -أيضاً- الإمام أحمد في "المسند":(3/ 394)، والدارقطني:(2/ 254)، والبيهقيُّ في "الكبرى":(1/ 85)، من حديث جابر -أيضاً- وصححه ابن حزم والنووي.
بَدَاءته بالصفا معلِّلاً ذلك بكون الله بدأ به، فلا ينبغي تأخيره، وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء: نحنُ نبدأ بما بدأَ اللهُ به، ولا يجوز تأخير ما قدَّمه الله، ويتعين البداءة بما بدأ الله به، وهذا هو الصَّواب لمواظبة المبيِّن عن اللهِ مراده صلى الله عليه وسلم على الوضوء المرتَّب، فاتفق جميعُ من نقل عنه وضوءَه كلُّهم على إيقاعه مرتباً، ولم يَنقل عنه أحدٌ قطُّ أنَّه أخلّ بالترتيب مرة واحدة، فلو كان الوضوء المنكوس مشروعاً لفعله، ولو في عمره مرَّة واحدة ليبيِّن جوازَه لأمَّته، وهذا بحمد الله واضح.
وأما تقديم النبيين على الصِّديقين؛ فلِمَا ذكره، ولكون الصِّديق تابعاً للنبي، فإنما استحقَّ اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي، فهو تابع مَحْض، وتأمَّل تقديم الصديقين على الشهداء؛ لفضل الصديقين عليهم، وتقديم الشهداء على الصالحين؛ لفضلهم عليهم.
وأما تقديم السمع على البصر
(1)
؛ فهو متقدم عليه حيثُ وقعَ في القرآن مصدراً أو فعلاً أو اسماً.
فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
والثاني: كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
والثالث: كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فاحتجَّ بهذا من يقول: إن السمعَ أشرفُ من البصر، وهذا قول
(1)
انظر للمسألة: ما سيأتي من الكتاب: (3/ 1106)، و"مدارج السالكين":(2/ 424 وما بعدها)، و"مفتاح دار السعادة":(1/ 354 - 358)، و"الصواعق":(3/ 873 - 874).
الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل، ونصبوا معهم الخلافَ، وذكروا الحِجَاج من الطرفين، ولا أدري ما يترتَّب على هذه المسألة من الأحكام حتى تُذكر في كتب الفقه!! وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين.
وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة
(1)
تفضيل البصر، وردَّ عليه، واحتج مفضِّلو السمع بأن الله تعالى يقدِّمه في القرآن حيثُ وقع، وبأن بالسَّمع تُنال سعادة الدنيا والآخرة، فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان
(2)
بما جاءوا به، وهذا إنما يُدْرَك بالسمع، ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: " [أَرْبَعَةٌ]
(3)
كُلُّهُمْ يُدْلي عَلَى اللهِ بِحُجَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فذكر منهم رجلاً أصم يقول: "يَا رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَأَنا لا أَسْمَعُ شَيْئاً"
(4)
.
واحتجُّوا: بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة (ظ/ 20 ب) من البصر، فإنَّ البصر لا يُدرِك إلا بعضَ الموجودات
(1)
أبو المعالي هو الجويني، تقدم وابن قتيبة هو: عبد الله بن مسلم الدينوري الأديب صاحب التصانيف، ت (276).انظر:"وفيات الأعيان": (3/ 42)، و"السير":(13/ 296). وكلامه في "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 7).
(2)
سقط من (ق).
(3)
في الأصول: "ثلاثة" والتصويب من مصادر الحديث.
(4)
أخرجه أحمد: (4/ 24)، والطبراني في "الكبير":(1/ 287)، وابن حبَّان "الإحسان":(16/ 356)، والبيهقيُّ في "الاعتقاد":(ص/ 92).
من طريق قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع به، والحديث صححه ابن حبان والبيهقي والهيثمي في "المجمع":(7/ 219)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1434).
المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يُدرِك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع
(1)
، فلا نسبة لإدراك (ق/ 27 ب) البصر إلى إدراكه.
واحتجوا: بأن فَقْدَ السمع يوجب بَكَم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خِلْقةً لا يَنْطق في الغالب، وأما فقد البصر؛ فربما كان مُعِيْناً على قوة إدراك البصيرة وشدَّةِ ذكائها، فإنَّ نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطناً فيقْوَى إدراكُها ويعظُم، ولهذا تجد كثيراً من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقَّاد، والفطنة وضياء الحس الباطن، مالاً تكاد تجده عند البصير
(2)
، ولا ريب أن سَفَر البصر في الجهات والأقطار، ومباشرته للمُبْصَرات على اختلافها، يوجِبُ تفرُّق القلب وتشتيته؛ ولهذا كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة.
قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإِسلام من هو أعمى
(3)
، ولم يُعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش، فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل السمع.
قال مُنَازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران:
أحدهما: أن مَدْرَك البصر هو النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم، ولا شيءَ أكمل من
(1)
ليست في (ق).
(2)
انظر "نكْت الهميان في أخبار العميان": (ص/ 83 - 86) للصفدي.
(3)
جمعهم الصفدي في كتابه المتقدم.
المنظور إليه سبحانه، فلا حاسَّة في العبد أكمل من حاسَّةٍ تَرَاه بها.
الثاني: أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع؛ فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم، ففضِيلته
(1)
عليه كفضِيْلةِ الغايات على وسائلها.
وأما ما ذكرتم من سَعَة إدراكاته وعمومها؛ فيعارضه كثرة الخيانة
(2)
فيها ووقوع الغلط، فإن الصواب فيما يدركه السمع، بالإضافة إلى كَثْرة المسموعات؛ قليل في كثير، ويقابل كثير مُدْرَكاته صحة مُدْرَكات البصر، وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان؛ بقيَ الترجيح بما ذكرناه.
قال شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيمية
(3)
-قدَّس اللهُ روحَه ونور ضريحه-: "وفَصْل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختصَّ به" تمَّ كلامُه.
وقد ورد في الحديث المشهور أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "هَذَانِ السَّمْعُ والبَصَرُ"
(4)
، وهذا يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد أنهما منِّي بمنزلة السمع والبصر.
(1)
(ظ): "فتفضيله".
(2)
تحرفت هذه وما بعدها في (ق) إلى "الجناية".
(3)
انظر: "الدرء": (7/ 325)، و"الرد على المنطقيين":(ص/ 96).
(4)
أخرجه الترمذي (3671)، والحاكم:(3/ 69).
والحديث أشار الترمذي إلى ضعفه، وصححه الحاكم والألباني، وحسنه الذهبي. انظر "السلسلة الصحيحة" رقم (814).
والثاني: أَنْ يريد أنهما من دين الإِسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين
(1)
، وعلى هذا فيَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما: التوزيع؛ فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.
والثاني: الشركة؛ فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاسَّتين ثابتاً لكلِّ واحد منهما، فكلٌّ منهما بمنزلة السمع والبصر، فعلى احتمال (ق/ 28 أ) التوزيع والتقسيم
(2)
تكلَّم الناسُ أيهما هو السمع، وأيهما هو البصر، وبَنَوا ذلك على أيُّ الصفتين أفضل؛ فهي صفة الصدِّيق.
والتحقيقُ: أنَّ صفة البصر للصديق، وصفة السمع للفاروق، ويظهرُ لك هذا من كون عُمر محدَّثاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فإِنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ"
(3)
، والتحديث المذكور هو ما يُلْقَى في القلب من الصوابِ والحقّ، وهذا طريقُه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار للأُذن.
وأما الصِّدِّيق: فهو الذي كمَّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنَّه قد باشر بصرُه مما
(4)
أخبرَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ما باشرَ قلبُه، فلم يبقَ بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى
(1)
ويؤيده لفظ الحديث من رواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس" أخرجه الخطيب في "تاريخه": (8/ 459)، وفيه كلام من جهة الإسناد، إلا أنَّه صالح للاستشهاد.
(2)
ليست في (ق).
(3)
أخرجه مسلم رقم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
(ق): "ما".
ما أَخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يُكْرَم بها، وليس بعد درجة النبوَّة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا هو السِّر الذي سَبَقَ به
(1)
الصديقُ، لا بكثرةِ صومٍ ولا بكثرةِ صلاة، وصاحب هذا هو الذي
(2)
:
يمشي رُوَيداً ويجي في الأوَّل
(3)
(ظ/ 21 أ) ولقد تعنَّى من لم يكن سَيْره على هذه الطريق وتَشْميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمَّر إليه وإن كان يزحف زحفاً ويحبو حبواً، ولا تستَطِل هذا الفصل، فإنَّه أهم من ما قُصِدَ بالكلام، فليعد إليه.
فقيل: تقديم السَّمع على البصر له سببان:
أحدهما: أن يكون السِّياق يقتضيه بحيث يكون ذِكْر هاتين: الصِّفتين متضمِّناً للتهديد والوعيد، كما جرت عادةُ القرآن بتهديد المخاطَبين، وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله تعالى:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]
(1)
(ظ): "وهذا هو سبق"!.
(2)
"هو الذي" ليست في (ظ).
(3)
تمام البيت:
من لي بمثل سَيْرك المدلل
…
تمشي رويداً وتجي في الأوّل
والقرآن مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمعُ ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي، وأُبْصِرُ ما يفعلون.
ولا ريب أنَّ المخاطَبين بالرسالة بالنِّسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان:
أحدهما: قابلوها بقولهم: صَدَقْتَ، ثمَّ عملوا بموجبها.
والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثمَّ عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر، فقدّم ما يتعلَّق
(1)
به على ما يتعلّق بالمبصَر، وتأمَّل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه، وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختصَّ منها بما هذا شأْنُه.
والسبب الثاني: أَنَّ إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام، مع غاية البعد بين السامع والمسموع، أشدّ من إنكارها لرؤيته مع بُعْدِه.
(ق/ 28 ب) وفي "الصحيحين"
(2)
عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثةُ نَفَرٍ؛ ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمعُ ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جَهَرْنا ولا يسمع إن أخفَيْنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فهو يسمع إذا أخفينا
(3)
.
ولم يقولوا: أترون الله يرانا؟ فكان تقديم السَّمع أهم، والحاجة إلى العلم به أمسّ.
(1)
من قوله: "بموجبها
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(2)
البخاري رقم (4816)، ومسلم رقم (2775).
(3)
العبارة معكوسة اللفظ في (ق).
وسببٌ ثالث: وهو أنَّ حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح، وأشدها تأثيراً في الخير والشر، والصلاح والفساد، بل عامَّة ما يترتَّب في الوجود من الأفعال، إنما ينشأ بعد حركة اللسان؛ فكان تقديم الصفة المتعلِّقة به أهم وأولى، وبهذا يُعْلَم تقديمه على العليم حيث وقع.
* وأَمَّا تقديم السماء على الأرض؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذَكَره، وهو أن غالب ما تُذكر السَّموات والأرض في سياق آيات الرَّبِّ الدالة على وحدانيته وربوبيته، ومعلومٌ أنَّ الآيات في السموات أعظم منها في الأرض؛ لسَعَتها وعِظَمها، وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعُلُوِّها، واستغنائها عن عَمَد تُقِلّها، أو علاقة ترفعها، إلى غير ذلك من عجائبها التي الأرضُ وما فيها كقطرةٍ في سَعَتها، ولهذا أمر -سبحانه- بأن يرجع الناظرُ البصرَ فيها كرَّةً بعد كرَّة، ويتأمَّل استواءَها واتساقَها وبراءَتها من الخلل والفُطُور، فالآية فيها أعظم من الأرض.
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ -سبحانه وبحمده-.
وأَمَّا تقديم الأرض عليها في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] وتأخيرها
(1)
عنها في (سبأ) فتأمَّل كيف وقع هذا الترتيب في (سبأ) في
(2)
ضمن قول: الكفار: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] كيف قدَّم السموات هنا؛
(1)
(ق): "وتأخرها".
(2)
(ق): "في سياق
…
".
لأنَّ الساعة إنَّما تأتي من قبلها وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ وتنشأ، ولهذا قدَّم صَعْق أهل السموات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68].
وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونُس
(1)
؛ فإنَّه لما كان السِّياقُ سِياقَ تحذيرٍ وتهديدٍ للبشر، وإعلامهم أنَّه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقِهَا وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيءٌ؛ اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء.
فتبارك من أودع كلامَه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنَّه كلام الله! وأن مخلوقاً لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبداً!!.
* وأمَّا تقديم المال على الولد؛ فلم يَطَّرد في القرآن، بل قد جاء مقدَّماً كذلك في قوله:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سبأ: 37] وقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقوله تعالى: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ (ق/ 29 أ) وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] وجاء ذكر البنين (ظ/ 21 ب) مقدَّماً كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة: 24]، وقوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].
فأمَّا تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة؛ فلأنَّها ينتظمها معنىً واحد، وهو التحذير من الاشتغال بها، والحرص على تحصيلها حتَّى
(1)
(ظ): "يس"! والآية في سورة يونس رقم (61): {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .
يفوته حظُّه من الله والدَّار الآخرة، فنهى في موضعٍ عن الالتهاء بها، وأخبر في موضعٍ أَنَّها فتنة، وأخبر في موضع آخر أَنّ الذي يقرِّب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح، لا أموالهم ولا أولادهم، ففي ضِمْن هذا النَّهْي عن الاشتغال بها عما يُقرِّب إليه، ومعلومٌ أَنَّ اشتغال الناس بأموالهم، والتباهي
(1)
بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم، وهذا هو الواقع، حتَّى إنَّ الرجلَ ليستغرقه اشتغاله بماله؛ عن مصلحةِ ولده وعن معاشرتِهِ وقربِهِ.
وأما تقديمهم على الأموال في تَيْنك الآيتين؛ فلحكمةٍ باهرة وهي: أَنَّ آية
(2)
براءة متضمِّنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أنَّ تصوُّر المجاهد فراقه أهله، وأولاده، وآبائه، وإخوانه، وعشيرته، يمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقة ماله، فإن تصوَّر مع هذا أن يُقتل فيفارقهم فراقَ الدَّهر، نفرت نفسُه عن هذه
(3)
أكثرَ وأكثرَ، ولا يكاد عند هذا التصوُّر يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال! فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.
وتأمُّل هذا الترتيبِ البديع في تقديم ما قدَّم وتأخير ما أخَّر؛ يُطلعك على عظمةِ هذا الكلام وجلالته.
فبدأ أولاً بذكر أصول العبد، وهم آباؤه المتقدِّمون طبعاً وشرفاً ورتبة، وكان فخرُ القوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم
(1)
(ق): "والتهاؤهم".
(2)
ليست في (ظ).
(3)
(ق): "هذه الفرقة".
عن أنفسهم وأموالهم، وحتَّى عن أبنائهم، ولهذا حملتهم محاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احْتَملوا القتل وسَبْيَ الذُّرِّية، ولا يشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة، ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم.
ثمَّ ذَكَر الفروع؛ وهم الأبناء لأنَّهم يَلُونهم في الرُّتبة وهم أقرب أقاربهم إليهم، وأعلق بقلوبهم
(1)
، وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة.
ثمَّ ذكر الإخوان، وهم الكلالة وحواشي النَّسب.
فَذَكَر الأصول أولاً، ثمَّ الفروع ثانياً، ثم النُّظراء ثالثاً، ثمَّ الأزواج رابعاً؛ لأنَّ الزوجة أجنبية عنده، ويمكن أن يتعوَّض عنها بغيرها، وهي إنما تُرَادُ للشَّهوة، وأما الأقارب؛ من
(2)
الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم ويُرادون للنُّصْرة والدفاع، وذلك مقدَّم على مجرَّد الشهوة.
ثمَّ ذَكَر القرابة البعيدة خامساً، وهي العشيرة وبنو العم، فإن عشائرهم (ق/29 ب) كانوا بني عمِّهم غالباً، وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير.
ثمَّ انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادساً، ووصفها يكونها مُقْترفة، أي: مُكْتَسَبَة؛ لأنَّ القلوبَ إلى ما اكتسبته من المال أمْيَل، وله أحَب، وبقدره أعْرَف لما حصل له فيه من التَّعب والمشقة، بخلاف مالٍ جاءه عَفْواً بلا كسبٍ
(3)
؛ من ميراثٍ أو هبة أو وصية،
(1)
"وأعلق بقلوبهم" ساقطة من (ق).
(2)
(ق): "و".
(3)
(ق): "مشقة كسب".
فإنَّ حِفْظه للأوَّل، ومراعاته له، وحرصه على بقائه أعظم من الثاني، والحسُّ شاهد بهذا وحسبك به.
ثمَّ ذكر التجارة سابعاً؛ لأنّ محبةَ العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقْتَرَف، فقدَّم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها، ثمَّ وصف التجارة بكونها مما يُخشى كَسَادُها، وهذا يدلُّ على شرفها وخطرها، وأَنه قد بلغ قدرها إلى أَنها مَخُوْفة الكساد.
ثمَّ ذكر الأوطان ثامناً آخر المراتب؛ لأنَّ تعلُّق القلب بها دون تعلُّقه بسائر ما تقدَّم، فإن الأوطان [تتشابه]
(1)
، وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأوَّل من كل وجه، ويكون خيراً منه، فمنها عِوَض.
وأمَّا الآباء والأبناء والأقارب والعشائر [والأموال]
(2)
، فلا يتعوَّض منها بغيرها، فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأوّل؛ فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم، فمحبة الوطن آخر المراتب، وهذا هو الواقع إلا لعارض
(3)
يترجَّح عنده إيثار البعيد على القريب، فذلك جزئي لا كلِّي، فلا تناقض به. وأما عند عدم العوارض فهذا هو الترتيب المناسب والواقع.
وأما آية (آل عمران)؛ فإنَّها لما كانت في سياق الإخبار بما زُيِّن للناس من الشَّهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها، قدَّم ما تَعَلُّق الشهوة به أقوى، والنفس إليه أشدّ سُعراً
(4)
(ظ/22 أ) وهو
(1)
(ق وظ): "متشابه" والصواب ما أثبت.
(2)
من (ق).
(3)
(ق): "لمعارض".
(4)
(ق): "والنفس أشد إليه سفراً".
النساء، التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا، وهن القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله.
ثمَّ ذكر البنين المتولِّدين منهنَّ، فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته.
ثم ذكر شهوة الأموال؛ لأنها تُقْصَد لغيرها، فشهوتها شهوة الوسائل، وقدَّم أشرف أنواعها وهو الذهب، ثمَّ الفضة بعده.
ثمَّ ذكر الشهوة المتعلِّقة بالحيوان الذي لا يُعَاشَر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهما، وقدَّم أشرف هذا النوع وهو (الخيل) فإنها حصون القوم ومعاقلهم، وعِزُّهم وشرفهم، فقدمها على الأنعام التي هى الإبل والبقر والغنم.
ثمَّ ذكر الأنعام وقدَّمها على الحرث؛ لأنَّ الجمالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ من الحرث، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] والانتفاع بها أكثر من الحرث، فإنها يُنتفع بها؛ ركوباً وأكلاً وشرباً ولباساً وأمتعة (ق/30 أ) وأسلحة ودواء وقُنْية، إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع. وأيضاً فصاحبها أعزّ من صاحب الحرث وأشرف، وهذا هو الواقع، فإن صاحب الحرث لابدَّ له من نوع مَذَلَّة، ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سِكَّة: ما دخل هذا دارَ قومٍ إلا دخلهم الذُّلُّ، فجَعَلَ الحرثَ في آخر المراتب، وضعاً له في موضعه.
ويتعلَّقُ بهذا نوع آخر من التقديم لم يَذْكُرْه، وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث وقع في القرآن، إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111].
وأمَّا سائر المواضع فَقَدَّم فيها المال، نحو قوله تعالى:{وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11]، وقوله تعالى:{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] وهو كثير. فما الحكمة في تقديم المال على النفس؟ وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟.
وهذا لم يتعرض له السُّهيلي رحمه الله، فيقال:
أولاً: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، فإذا دَهَمَ العدوُّ؛ وجبَ على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً؛ وجبَ عليه أن يغزي
(1)
بماله، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، والأدلَّة عليها أكثر من أَنْ تُذْكَر هنا.
ومن تأمَّل أحوالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد؛ قَطَعَ بصحَّة هذا القول.
والمقصود تقديم المال في الذكر، وأن ذلك مشعر بإنكارِ وَهْم من يتوهَّم أن العاجز بنفسه إذا كان قادراً على أن يغزي بماله لا يجب عليه شيء، فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال، فكيف يقال: لا يجب به!.
ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس؛ لكان هذا القول أصح من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بَيِّن، وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذِّكْر.
وفائدة ثانية: -على تقدير عدم الوجوب- وهي: أَنَّ المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله، وترتكب الأخطار،
(1)
(ظ ود): "يكتري".
وتتعرَّض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنَّه هو
(1)
محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بَذْل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته، فإنَّ المقصود أن يكون الله هو أحبّ شيءٍ إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبَهم في حبه؛ نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها وهي: بَذْل نفوسهم له، فهذا غاية الحبّ، فإنّ الإنسان لا شيءَ أحبّ إليه من نفسه، فإذا أحبّ شيئاً بذل له محبوبَه من نفعِه ومالِه، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضَنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه، هذا هو الغالب، وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية. ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده
(2)
، فإذا أحسَّ بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه (ق/30 ب) فرَّ وتركهم، فلم يرضَ اللهُ من مُحبِّيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها.
وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب، فإنَّ العبدَ يبذل ماله أولاً يقي به نفسَه، فإذا لم يبق له مال بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111]؛ فكان تقديم الأنفس (ظ/ 22 ب) هو الأولى؛ لأنها هي المشتراة بالحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّتَه، فكانت هي المقصود بعَقْد الشراء، والأموال تبعٌ لها، فإذا مَلَكها مشتريها مَلَك مالَها، فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه
(1)
ليست في (ق).
(2)
(ق): "عن نفسه وماله وولده".
شيءٌ، فالمالك الحقُّ إذا مَلَك النفس مَلَك أموالَها ومتعلَّقاتها، فَحَسُنَ تقديم النفس على المال في هذه الآية حُسْناً لا مزيدَ عليه.
* فلنرجع إلى كلام السهيلي
(1)
رحمه الله: وأما ما ذكره من تقديم "الغفور" على "الرحيم"؛ فحسنٌ جدّاً، وأما تقديم "الرحيم" على "الغفور" في موضع واحد، وهو أول (سبأ)؛ ففيه معنىً غير ما ذكره يظهر لمن
(2)
تأمَّل سياقَ أوصافه العُلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، فإنَّه ابتدأ -سبحانه- السورةَ يحمده الذي هو أَعمُّ المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمِّن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله مُسْتلزم لها، كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كلِّ حالة، وعلى كلِّ ما خلقه وشرعه، ثمَّ عقَّب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1]، ثمَّ عقَّبه بأنّ هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبداً، فإنَّه حَمْد يستحقّه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته؛ دائم بدوامه لا يزول أبداً، وقرن بين الملك والحمد على عادته -تعالى- في كلامه، فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكلِّ واحدٍ منهما، فله كمال من ملكه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حَمْد يستلزمُ نقصاً، والحمدُ بلا ملكٍ يستلزم عجزاً، والحمد مع الملك غاية الكمال.
ونظير هذا العِزَّة والرحمة، والعَفْو والقدرة، والغِنى والكرم، فوسَّط الملك بين الجملتين، فجعله محفوفاً بحمدٍ قبله وحمدٍ بعده،
(1)
يعني: إلى نقده والتعليق عليه.
(2)
(ق): "مِن".
ثمَّ عقَّب هذا الحمد والملك باسمَي
(1)
(الحكيم الخبير) الدَّالَّين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلّق بمرادٍ
(2)
إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم، وأنه
(3)
كما يتعلَّق بظواهر المعلومات؛ فهو متعلّق ببواطنها التي لا تُدرَك إلا بخبرَةٍ، فنسبةُ الحكمةِ إلى الإرادة كنسبة الخبرةِ إلى العلم، فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر، والخبرة باطنة، فكمال الإرادة: أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم: أن يكون كاشفاً عن الخبرة، فالخبرة: باطن العلم وكماله، والحِكْمة: باطن الإرادة وكمالها. فتضمَّنت الآية إثبات حمده وملكه، وحِكمته وعلمه، على أكمل الوجوه.
ثمَّ ذكر (ق/31 أ) تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العُلْوي والسُّفْلي، فقال تعالى:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2].
ثمَّ ختم الآية بصفتين تقتضيان غايةَ الإحسان إلى خَلْقه، وهما: الرحمة والمغفرة، فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتمِّ الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم
(4)
ويهب لهم ذنوبَهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته، فقال:{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] فتضمَّنت هذه الآية سَعَة علمه ورحمته وحِلْمه ومغفرته.
وهو سبحانه يَقْرن
(5)
بين سَعَة العلم والرحمة، كما يَقْرن بين
(1)
(ظ): "باسم".
(2)
ليست في (ق).
(3)
(د): "ذاته".
(4)
(ق): "زللهم".
(5)
(ق): "يفرق" في الموضعين، وهو تحريف.
العلم والحلم
(1)
، فمن الأوّل: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، ومن الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] فما قُرِن شيءٌ إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن رحمة إلى علم.
وحَمَلة العرش أربعة
(2)
؛ اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم؛ لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسُن مع العلم.
وقدَّم "الرحيم" في هذا الموضع لتقدُّم صفة العلم، فحَسُن ذكر "الرحيم" بعده ليقترن به فيطابق قوله تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
ثمَّ ختم الآيةَ بذكر صفة المغفرة لتضمُّنها دفع الشر وتضمّن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدَّماً على جلب الخير، قدم اسم "الغفور" على "الرحيم" حيثُ وقع. ولما كان في هذا الموضع معارض يقتضي تقديم اسمه "الرحيم" لأجل ما قبله؛ قُدِّم على "الغفور".
* وأما قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ فقد أبعد النُّجْعَة فيما تعسَّفه من فائدة التقديم، وأتى بما ينبو اللفظُ عنه.
(1)
(ق): "الحكم" في كل المواضع بعدها حتى الآية، وما في (ظ ود) أصح.
(2)
كذا في الأصول، وفي عدد من كتب المؤلف؛ لكن الذي أخرجه أبو الشيخ في "العظمة"(3/ 954)، والذهبي في "العلو" (1/ 571) عن بعض السلف: أن حملةَ العرش ثمانية؛ أربعة يقولون كذا
…
وأربعة يقولون كذا
…
وقال غيره: السجود كان في دينهم قبل الركوع (ظ/33 أ) وهذا قائل ما لا علم له به!!.
والذي يظهر في الآية -والله أعلم بمراده من كلامه-: أنها اشتملت على مُطلق العبادة وتفصيلها، فذكر الأَعَمّ، ثمَّ ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص، فذكر القنوت
(1)
أولاً، وهو الطاعة الدائمة، فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة، ثمَّ ذَكَر ما هو أخص منه، وهو السجود الذي يُشْرَع وحده؛ كسجود الشكر والتلاوة، ويُشْرَع في الصلاة؛ فهو أخص من مطلق القنوت، ثم ذكر الركوع الذي لا يُشْرَع إلا في الصلاة، فلا يُسَن الإتيان به منفرداً
(2)
، فهو أخص مما قبله.
ففائدة الترتيب: النزول من الأعم، إلى الأخص، إلى
(3)
أخص منه، وهما طريقتان معروفتان في الكلام: النزول من الأعم إلى الأخص، وعكسها وهو الترقِّي من الأخص، إلى ما هو أعم منه، إلى ما هو أعم
(4)
.
ونظيرها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، فذكرَ أربعةَ أشياء؛ أخصها الركوع، ثمَّ السجود أعم منه، ثمَّ العبادة أعم من السجود، ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله.
(1)
من قوله: "أنها اشتملت
…
" إلى هنا سقطت من (ق).
(2)
(ق): "متفرقاً".
(3)
"الأخص، إلى" ساقط من (ق).
(4)
"إلى ما هو أعم" ساقط من (ق).
والذي يزيد هذا وضوحاً: الكلامُ على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ (ق/31 ب) وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، فإنَّه ذكر أخصَّ هذه الثلاثة، وهو الطواف الذي لا يُشْرَع إلا بالبيت خاصَّة، ثمَّ انتقل منه إلى الاعتكاف، وهو القيام المذكور في الحج
(1)
، وهو أعم من الطواف؛ لأنه يكون في كلِّ مسجدٍ، ويختصّ بالمساجد لا يتعدَّاها، ثمَّ ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض، سوى ما منع منه مانع أو اسْتُثْني شرعاً.
وإِن شئتَ قلتَ: ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثمَّ الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد، ثمَّ الصلاة التي تكون في البلد كلِّه، بل في كلِّ بُقعة، فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة، وله رحمه الله مزيد السَّبْق وفَضْل التقدُّم.
وابنُ اللَّبُوْنِ إِذَا مَا لُزَّ في قَرَنٍ
…
لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيْسِ
(2)
* * *
(1)
آية: 26.
(2)
البيت لجرير، "ديوانه":(ص/ 250).