الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محرَّم، ويتعقبه التحريم، وقد قلتم: إن طلاق السكران يصح عقوبةً له، مع أنَّه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تَطْلُق امرأته اتفاقًا، فكون التحريم عقوبةً، لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها.
قوله: "السببية أعمُّ من الإنشاء .... " إلى آخره؛ جوابه: أنّ السبب نوعان: فعل وقول، فمتى كان قولًا لم يكن إلّا إنشاء، فإن أردتم بالعموم: أنّ سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارًا؛ فممنوع، وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول: فمُسَلَّم، ولا يفيدكم شيئًا.
وفَصْل الخطاب: أن قوله: "أنتِ عليَّ كظهر أمي"، يتضمن إنشاءً وإخبارًا، فهو إنشاءٌ من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ، وإخبار من حيث تشبيهها
(1)
بظهر أمه، ولهذا جعله الله منكرًا وزورًا، فهو منكر باعتبار الإنشاء، زوّر باعتبار الإخبار.
وأما قوله: "إن المنكر هو الخبر الكاذب"؛ فالخبر الكاذب من المنكر، والمنكر أعم منه، فالإنكار في الإنشاء والإخبار، فإنه ضد المعروف، فما لم يُؤذَن فيه من الإنشاء؛ فهو منكر، وما لم يكن صداقًا من الإخبار؛ فهو زور.
فائدة
المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص
، وإنما يدخل في
(2)
الظاهر المحتمل له، وهنا نُكْتة ينبغي التفطن لها، وهي: أن كون اللفظ نصًّا يُعْرف بشيئين:
(1)
(ظ ود): "شبهها".
(2)
ليست في (ق).
أحدهما: بعدم احتماله
(1)
لغير معناه وضعًا، كالعشرة.
والثاني: ما اطرد استعماله علي طريقة واحدة في جميع موارده؛ فإنه نصٌّ في معناه، لا يقبل تأويلًا ولا مجازًا، وإن قُدِّر تطرُّق ذلك إلى بعض أفراده، وصار هذا بمنزلة خبر التواتر، لا يتطرَّق احتمال الكذب إليه، وإن تطرَّق إلى كل واحد من أفراده بمفرده وهذه عصمة
(2)
نافعة، تدلك على خطأ كثير من التأويلات في السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها، وتأويلُها والحالة هذه غلط، فإن التأويل إنّما يكون لظاهر قد ورد شاذًّا مخالفًا لغيره من
(3)
السمعيات، فيحتاج إلى تأويله ليوافقها، فأما إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة؛ صارت بمنزلة النص وأقوى، فتأويلها ممتنع، فتأمل هذا.
فائدة
(4)
أضافوا الموصوف إلى الصفة وإن اتّحدا؛ لأنَّ الصفة تضمنت معنى ليس في الموصوف، فصحَّت الإضافة للمغايرة
(5)
.
وهنا نكتة لطيفة، وهي: أن العرب إنّما تفعل ذلك في الوصف المغرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب للأعلام؛ كما قالوا: "زيد بطَّة" أي: صاحب هذا اللقب.
وأما الوصف الَّذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه؛ فلا يضاف
(1)
(ظ ود): "تقدم إكماله" ثم صوِّبت في الهامش.
(2)
(ق): "عظيمة"!.
(3)
(ظ ود): "ومن"!.
(4)
انظر "نتائج الفكر": (ص/ 37 - 38) لأبي القاسم السُّهيلي.
(5)
(ظ ود): "للمغاير".
الموصوف إليه، لعدم الفائدة [المخصِّصة]
(1)
التي لأجلها أضيف الاسم إلى اللقب، فإنه لما تخصص به، كأنك قلتَ: صاحب هذا اللقب، وهكذا في "مسجد الجامع" و"صلاة الأُولى". فإنه لما تخصص الجامع بالمسجد ولزمه، كأنك قلتَ: صاحب هذا الوصف، فلو قلت:"زيد الضاحك"، و"عمرو القائم"، لم يجز، وكذا إن كان لازمًا غير معرفة فلا
(2)
تقول: "مسجد جامع" و"صلاة أولى".
فائدة
(3)
اللفظ المؤلف من "الزاي والياء والدال" -مثلًا- له حقيقة متميزة متحصِّلة، فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه؛ لأنَّه شيء موجود في اللسان، مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من (همزة الوصل والسين والميم) عبارة عن اللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) مثلًا، واللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان، وهو المسمى والمعنى، واللفظ الدال عليه الَّذي هو (الزاي والياء والدال) هو الاسم، وهذا اللفظ أيضًا قد صار مسمًّي، من حيث كان لفظ (الهمزة والسين والميم) عبارة عنه، فقد بان لك أنّ الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى، ولهذا تقول: سميت
(1)
في الأصول: "المصححة" والمثبت هو الصواب.
(2)
سقطت من (ظ ود).
(3)
انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 39 - 41) للسُّهيلي، والمؤلف نقل أكثر فوائد هذا الكتاب بنصها حينًا وبمعناها حينًا آخر، مع تهذيب عبارته وتصفيتها من الشوائب العقدية، مع تعليقات واستدراكات ونقد وإضافة، واستجادة لمباحث السُّهيلي في كتابه هذا، ناسبًا أكثر تلك النقول إلى صاحبها. وانظر المقدمة.
هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية غير المحلَّى، فكذلك الاسم غير المسمى.
وقد صرح بدلك سيبويه، وأخطأَ من نَسَبَ إليه غير هذا، وادَّعى أن مذهبه
(1)
اتحادهما، والذي غرَّ من ادعى ذلك قوله:"الأفعال أمثلة أُخذت من لفظِ أَحداث الأسماء"
(2)
، وهذا لا يعارض نصه قبل هذا بسطر
(3)
، فإنه نصَّ على أنّ الاسم غير المسمَّى، فقال:"الكلم اسم وفعل وحرف"
(4)
، فقد صرح بأنّ الاسم كلمة؛ فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى [إنّما هو] شخص؟.
ثم قال بعد هذا: "تقول: سميت زيدًا بهذا الاسم، كما تقول: علمته بهذه العلامة". وفي كتابه قريب من ألف موضع؛ أنَّ الاسم هو اللفظ الدال على المسمّى، ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير ذلك بالمسمى أصلًا، وما قال نحويٌّ قط ولا عربيّ: إن الاسم هو المسمَّى ويقولون: أَجَل مسمًّى، ولا يقولون: أَجَل اسم، ويقولون: مسمًّى هذا الاسم كذا، ولا يقول أحد: اسم هذا الاسم كذا، ويقولون: هذا الرجل مسمًّى بزيد، ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد، ويقولون:"بسم الله"، ولا يقولون: بمسمًّى الله.
(1)
(د): "وأدعى أن هذا مذهبه".
(2)
"الكتاب": (1/ 12) لسيبويه، وعبارته: "وأمّا الفعل فأمثلة
…
".
(3)
من (ق) و"النتائج".
(4)
"الكتاب": (1/ 12).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خَمُسَةُ أَسْمَاءٍ"
(1)
ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات، و"تَسَمّوا باسْمي
(2)
ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي، و"للهِ تسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا"
(3)
ولا يصح أن يقال: تسعة. وتسعون مسمًّي.
وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمَّى، فبقي هاهنا "التسمية"، وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى، و"التسمية ": عبارة عن فعل المسمِّي، ووضعه الاسم للمسمَّى، كما أنَّ "التحلية" عبارة عن فعلي المحَلِّي، ووضعه الحلية على المحلَّى، فهنا ثلاث حقائق: اسم ومسمى وتسمية، كحِلْية ومحلَّي وتحلية، وعلامة ومُعلِّم وتعليم، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين علي معنًي واحد؛ لتباين حقائقها، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولابُد.
فإن قيل: فحُلُّوا لنا شُبَه من قال باتحادهما ليتم الدليل، فإنكم أقمتم الدليل؛ فعليكم الجواب عن المعارِض.
فمنها: أن الله وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة، وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة، لأنَّ أسماءه صفات، وهذا هو السؤال الأعظم الَّذي
(1)
أخرجه البخاري رقم (3532)، ومسلم رقم (2354) من حديث جُبير بن مُطعم رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري رقم: (1110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري رقم (3736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قاد متكلِّمي الإثبات إلى أن يقولوا: الاسم هو المسمَّى، فما عندكم في دفعه؟.
والجواب
(1)
: أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة، محتملة لمعنيين حق
(2)
وباطل، فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني، وتنزيل ألفاظها عليها، ولا ريبَ أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها. فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمَّى اسمه، وإن كان لا يُطلق على الصفة أنها الله يخلق ويرزق، فليست صفاته وأسماؤه غيره، وليست هي نفس الإله.
وبَلاءُ القومِ من لفظة "الغير"، فإنها يُراد بها معنيان:
أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة "بالله"، وكل ما غاير "الله" مغايرةً مَحْضَة بهذا الاعتبار، فلا يكون إلا مخلوقًا.
ويُراد به: مغايرة الصِّفة للذات، إذا جُرِّدَت
(3)
عنها. فإذا قيل: عِلْمُ الله وكلامُ الله غيرُه، بمعنى: أنَّه غير الذات المجردة عن العلم والكلام؛ كان المعنى صحيحًا، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أُريد أن العلم والكلام مُغاير لحقيقته المختصَّة التي امتاز بها عن غيره؛ كان باطلًا لفظ ومعنًي.
(1)
انظر: "نتائج الفكر": (ص / 42) بتصرف؛ إذ صفّي كلام السهيلي من عبارات الأشاعرة.
(2)
(ظ): "صحيح"، وسقطت من (د).
(3)
(ظ ود): "خرجت".
وبهذا أجاب أهلُ السنة المعتزلةَ القائلين بخلق القرآن، وقالوا: كلامه تعالى داخل في مسمَّى اسمه. فالله تعالى اسم للذات
(1)
الموصوفة بصفات الكمال، ومن تلك الصفات: صفة الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة.
وإذا كان القرآنُ كلامه، وهو صفة من صفاته؛ فهو متضمن لأسمائه الحسنى، فإذا كان القرآن غير مخلوق
(2)
، ولا يقال: إنه غير الله، فكيف يقال: إن بعض ما تضمنه، وهو أسماؤه: مخلوقة، وهي غيره؟! فقد حَصْحَصَ الحق بحمد الله، وانحسم الإشكال، وأن أسماءه الحسني التي في القرآن من كلامها، وكلامه غير مخلوق، ولا يقال: هو غيره، ولا هو هو، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره، وهي مخلوقة. ولمذهب من ردِّ عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته لا غيره. وبالتفصيل تزول الشُّبَه، ويتبين الصواب، والحمد لله.
حجة ثانية لهم
(3)
، قالوا: قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، {وَاذكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل: 8]، {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1].
وهذه الحجة عليهم في الحقيقة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم امتثل هذا
(4)
الأمر، وقال:"سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم"، ولو كان "الأمر كما زعموا؛ لقال:"سبحان اسم ربي العظيم"
(1)
(ظ ود): "الذات".
(2)
من قوله: "وإذا كان
…
" إلى هنا ساقطة من (ق) وهو انتقال نظر.
(3)
انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 43).
(4)
ليست في (ق).
ثم إن الأمة كلهم لا يجوِّز أحد منهم أن يقول: "عبدت اسم ربي"، ولا "سجدت لاسم ربي"، ولا "ركعت لاسم ربي"، ولا "باسم ربي ارحمني"، وهذا يدل على أن هذه
(1)
الأشياء متعلقة بالمسمَّى لا بالاسم.
وأما الجواب عن تعلق الذكرِ والتسبيحِ المأمور به بالاسم، فقد قيل فيه: إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم، فقد تُعَظم ما هو من سببه
(2)
ومتعلق به، كما يقال:"سلامُ على الحضرة العالية، والباب السَّامي والمجلس الكريم" ونحوه.
وهذا جواب غير مَرْضيٍّ
(3)
لوجهين:
أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا المعنى، وإنّما قال:"سبحان ربي"، فلم يعرِّج على ما ذكرتموه.
الثاني: أنَّه
(4)
يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل، وسائر ما يطلق على المسمَّى، فيقال:"الحمد لاسم الله، ولا إله إلا اسم الله"، ونحوه، وهذا مما لم يقله
(5)
أحد.
بل الجواب الصحيح: أنَّ الذكر الحقيقي محلُّه القلب، لأنَّه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح، لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله تعالى أراد من عباده
(1)
من (ق).
(2)
في (ظ): "شبيه"! والتصويب من (ق ود) و"النتائج".
(3)
هذا الجواب لأبي حامد الغزالي في كتابه: "المقصد الأسني": (ص / 38).
(4)
(ظ ود): "أن".
(5)
(د): "يقل به".
الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، فصار معني الاثنين: سبِّح ربك بقلبك ولسانك، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحم الاسمَ تنبيهًا على هذا المعنى، حتَّى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ بالألسان؛ لأن ذكر القلب متعلَّقه اللفظ مع مدلوله، لأنَّ اللفظ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى.
وعبَّر لي شيخُنا أبو العباس ابن تيمية -قدّس الله روحه- عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة، فقال: المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربك متكلِّمًا به، وكذا سبح اسم ربك، المعني: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها. فالحمد لله المنان بفضله، ونسأله تمام نعمته.
حجة ثالثة لهم
(1)
، قالوا: قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وإنّما عبدوا مُسمَّياتها.
والجواب: أنَّه كما قلتم: إنّما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة، لا مسمَّى لها: في الحقيقة. فإنهم سموها: آلهة، وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء؛ لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمي قشور البصل: لحمًا، وأكلَها، فيقال: ما أكلت من اللحم إلَّا اسمه لا مسماه، وكمن سمّى التراب: خبزًا، وأكله، فيقال:
(1)
انظر: نتائج الفكر": (ص / 45 - 46).
ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم؛ فإنه لا حقيقةَ لإلهيتها بوجهٍ، وما الحكمة
(1)
ثَمَّ إلا مجرد الاسم، فتأمَّل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل
(2)
: فما الفائدة
(3)
في دخول الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاْسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، ولم تدخل في قوله:{سَبِّحْ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعَلَى (1)} [الأعلى: 1].
قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر، ويراد به ذلك مع الصلاة، وهو ذكر وتنزيه مع عمل، ولهذا تسمَّي الصلاة: تسبيحًا، فإذا أُريد التسبيح المجرد
(4)
؛ فلا معنى للباء؛ لأنَّه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المقرون بالفعل، وهو الصلاة، أدخلت الباء تنبيهًا على ذلك المراد، كأنك قلت: سبح مفتتحًا باسم ربك، أو ناطقًا باسم ربك، كما تقول: صل مفتتحًا أو ناطقًا باسمه، ولهذا السر -والله أعلم- دخلت اللام في قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلِّهِ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] والمراد التسبيح الَّذي هو السجود، والخضوع، والطاعة، ولم يقل في موضع: سبح الله ما في السموات والأرض
(5)
، كما قال:{وَلِلِّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السِّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15]، وتأمل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206] فكيف
(1)
سقطت من (ق).
(2)
انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 46).
(3)
(ق): (الحكمة).
(4)
سقطت من (ق).
(5)
(ق): "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض".
قال: {وَيُسَبِّحُونَهُ} لما ذكر السجود باسمه الخاص، فصار التسبيح ذكرهم له، وتنزيههم إيّاه.
شبهة رابعة
(1)
، قالوا: قد قال الشاعر:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلام عَلَيْكُما
…
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
(2)
وكذلك قول الأعشى
(3)
:
* دَاعٍ يُنَادِيْه بِاسْمِ الماءِ مَبْغُوْمِ *
هذه حجة عليهم لا لهم، وأما قوله:"ثم اسم السلام عليكما"، فالسلام: هو الله تعالى، والسلام أيضًا: التحية، فإن أراد الأول؛ فلا إشكال، فكأنه قال: ثم اسم الله
(4)
عليكما، أي: بركة اسمه، وإن أراد التحية؛ فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول، وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى: ثمّ اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول: اللفظ، وبالثاني: المعني، كما تقول:"زيد بطة"، ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه
(5)
، وفيه نُكتة حسنة، كأنه أراد: ثم هذا اللفظ باقٍ عليكما، جارٍ لا ينقطع منِّي، بل أنا مراعيه دائمًا.
(1)
انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 47 - 50).
(2)
البيت اللبيد بن ربيعة رضي الله عنه في "ديوانه": (ص / 79).
(3)
كذا في الأصول!. ولعله خطأ ممن النسَّاخ، والصواب -كما قال المؤلف فيما سيأتي- أن البيت لذي الرُّامَّة، في "ديوانه:(ص / 474)، وصدره:
*لا ينعشُ الطرف إلا ما تخوَّنَه*
وتحرّف في (ق) إلى: "متعوم".
(4)
(ظ ود): "السلام" والمثبت من (ق).
(5)
ليست في (ق).
وقد أجاب السُّهيلى
(1)
عن البيت بجواب آخر، وهذا حكاية لفظه، فقال:"لبيدٌ لم يُرِدْ إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنّما أراد بعد الحول، ولو قال: "السلام عليكم"؛ كان مسلِّمًا لوقته الَّذي نطق فيه بالبيت، فلذلك ذكر الاسم الَّذي هو عبارة عن اللفظ، أي: إنّما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيَّد بالزمان المستقبل، وإنّما هو لحينه، ألا ترى أنَّه لا يقال: "بعد الجمعة اللهم ارحم زيدًا"، ولا: "بعد الموت اللهم اغفر لي"، إنّما يقال: "اللهم اغفر لي بعد الموت"، فيكون "بعد" ظرفًا للمغفرة، والدعاء واقع لحينه، فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفًا للدعاء صرَّحت بلفظ الفعل، فقلت: "بعد الجمعة أدعو بكذا، أو أسلم، أو أَلْفِظ بكذا"؛ لأنَّ الظروف إنّما تُقيد
(2)
بها الأحداث الواقعة فيها خبرًا، أو أمرًا، أو نهيًا. وأما غيرها من المعانى، كالطلاق، واليمين، والدعاء، والتمني، والاستفهام، وغيرها من المعاني، فإنّما هي واقعة لحين النطق بها، ولذلك
(3)
يقع الطلاق ممن قال: "بعد يوم الجمعة. أنت طالق"، وهو مُطلق لحينه، ولو قال:"بعد الحول. والله لأخرجنَّ"، انعقدت اليمين في الحال، ولا ينفعه أن يقول: أردت أن لا أوقع اليمين، إلّا بعد الحول؛ فإنه لو أراد ذلك، لقال: "بعد الحول
(1)
هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي المالقي الضرير، أبو زيد وأبو القاسم السُّهيلي، من علماء اللغة، وهو صاحب الروض الأُنُف" وغيره، وكلامه هذا في كتابه "نتائج الفكر" وقد تقدمت الإشارة إليه. ت (581).
انظر: "وفيات الأعيان": (3/ 143)، و "إنباه الرواة":(2/ 162)، و"نكت الهِمْيان":(ص / 187).
(2)
(د): "يريد".
(3)
(ظ): "وكذلك".
أحلف"، أو "بعد الجمعة أطلقك".
فأما الأمر، والنهى، والخبر، فإنّما تقيَّدت بالظروف؛ لأنَّ الظروف في الحقيقة إنّما يقع فيها الفعل المأمور به، والمخْبَر به، دون الأمر والخبر، فإنهما واقعان لحين النطق بهما. فإذا قلت:"أضرب زيدًا يوم الجمعة"، فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة، وأما الأمر، فأنت في الحال آمرُ به، وكذلك إذا قلت:"سافر زيد يوم الجمعة"، فالمتقيِّد باليوم المخبر به لا الخبر، كما أن في قوله:"اضربه يوم الجمعة"، المقيد بالظرف المأمور به، لا أمرك أنت، فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع البابُ كلُّه بابًا واحدًا، فلو أن لبيدًا قال:"إلى الحول ثم السلام عليكما"؛ لكان مسلِّمًا لحينه، ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول، ولذلك ذكر الاسم الَّذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم؛ ليكون ما بعد الحول ظَرْفًا له".
وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله.
وأما قوله: "باسم الماء" والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة، ولهذا عرَّفه تعريف الحقيقة الذهنية، والبيت لذي الرُّمَّة
(1)
، وصدره:
* لا يَنْعَشُ الطَّرْفَ إِلَّا ما تَخَوَّنَهُ *
ثم قال: "دَاعٍ يُنَادِيْه باسْمِ الماء
…
"، فظن الغالط أنَّه أراد حكاية صوت الظبية، وأنها دعت ولدها بهذا الصوت، وهو "مِآمِآ"، وليس هذا مراده؛ وإنّما الشاعر أَلْغَزَ لما وقع الاشتراك بين لفظ "الماء" المشروب، وصوتها به، فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبِّر
(1)
تقدم قبل قليل نسبته إلى الأعشى، وبيان ما فيه.
عن الماء المشروب، فكأنها تُصوِّت باسم هذا الماء المشروب، وهذا لأنَّ صوتها "مِآمِآ"، وهذا في غاية الوضوح، والحمد لله
(1)
.
فائدة
زعم السهيلي
(2)
وشيخه أبو بكر بن العربي
(3)
: أنّ اسم الله غير مشتق؛ لأنّ الاشتقاق يستلزم مادةً يُشْتقَّ منها، واسمه -تعالى- قديم، والقديم لا مادة له، فيستحيل الاشتقاق. ولا ريب أنَّه إن أُريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمدٌّ من أصل آخر، فهو باطل.
ولكن الذين قالوا بالاشتقاق، لم يريدوا هذا المعنى، ولا أَلَمَّ بقلوبهم، وإنّما أرادوا: أنَّه دال على صفةٍ له -تعالى-، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم
(4)
والقدير، والغفور والرحيم، والسميع والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له. فما كان جوابكم عن هذه الأسماء؛ فهو جواب القائلين باشتقاق اسمه:"الله".
ثم الجواب عن الجميع: أنَّا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منها تولُّد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه:"أصلًا وفرعًا" ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنّما هو باعتبار أن أحدهما
(1)
من (ق) وحدها.
(2)
في "نتائج الفِكْر": (ص/ 51).
(3)
هو: محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي المالكي الفقيه، صاحب التصانيف، ت (543).
انظر: "الصلة": (2/ 558)، و"السير":(20/ 197).
(4)
(ق): "كالعظيم".
يتضمن الآخر وزيادة.
وقول سيبويه: "إن الفعل أمثلة أُخِذَت من لفظ أحداث الأسماء"
(1)
؛ هو بهذا الاعتبار، لا أنّ العرب تكلموا بالأسماء أولًا، ثم اشتقوا منها الأفعال، فإن التخاطب بالأفعال ضروري، كالتخاطب بالأسماء، لا فرق بينهما، فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي
(2)
، وإنّما هو اشتقاق تلازم، سُمِّي المتضمِّن
(3)
-بالكسر-: مشتقًا، والمتضمّن. -بالفتح-: مشتقًّا منه، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله -تعالى- بهذا المعني.
فائدة
(4)
استبعد قوم أن يكون الرحمن، نعتًا لله، من قولنا:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة: 1]، وقالوا:"الرحمن، عَلَم، والأعلام لا ينعت بها، ثم قالوا: هو بدل من اسم الله. قالوا: ويدل على هذا أن "الرحمن" علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره، فليس هي" كالصفات التي هي: العليم والقدير، والسميع والبصير، ولهذا تجري على غيره تعالى. قالوا: ويدل عليه -أيضًا- وروده في القرآن. غير تابع لما قبله، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
(5)
} [طه: 5]، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن 1 - 2]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20]، وهذا شأن الأسماء
(1)
: "الكتاب"(1/ 12).
(2)
(ق): "فالاستعارة هنا ليس هو اشتقاق بادي"! وهو تحريف.
(3)
(ق ود): "المتضمن فيه".
(4)
انظر: "نتائج الفكر": (ص/ 35).
(5)
ليست في (ق).
المحْضَة؛ لأنَّ الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف.
قال السُّهيلي: "والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان؛ لأنَّ الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، فإنه أعرف المعارف كلها، وأبينها
(1)
، ولهذا قالوا:{وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] ولم يقولوا: وما الله؟ ولكنه -وإن جرى مجرى الأعلام- فهو وصف، يُراد به الثناء، وكذلك "الرحيم"، إلَّا أنّ "الرحمن" من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنّما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية، فإن التثنية في الحقيقة تضعيف؛ وكذلك هذه الصفة، فكأن "غضبان" و"سكران" حامل
(2)
لِضِعْفَين من الغضب والسُّكْر، فكان اللفظ مضارعًا للفظ التثنية؛ لأنّ التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم -أيضًا- قد شبهوا التثنية بهذا البناء، إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا: الحَكَمان والعَلَمان، وأعربوا "النون" كأنه اسم لشيءٍ واحد، فقد
(3)
اشترك باب "فَعْلان" وباب التثنية، ومنه قول فاطمة:"يا حَسَنانُ يا حُسَينانُ" برفع النون لابْنَيها، ولمضارعة التثنية امتنع جمعُه، فلا يقال: غضابين، وامتنع تأنيثه، فلا يقال: غضبانة، وامتنع تنوينه كمالا ينون نون المثنى
(4)
، فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظًا ومعنى.
وفائدة الجمع بين الصفتين؛ "الرحمن والرحيم": الإنباء عن رحمةٍ عاجلةٍ وآجلةٍ، أو
(5)
خاصة وعامة" تمَّ كلامه.
(1)
(ق): "وأثبتها".
(2)
(ظ ود): "كامل"! لكن صُححت في (د) بخط مغاير.
(3)
(ظ ود): "فقالوا" والتصويب من (ق) و"النتائج".
(4)
من قوله: "لابنيها
…
" إلى هنا ساقط من (د).
(5)
(ظ): "و".
قلت: أسماء الرب -تعالى- هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تَنافيَ فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه -تعالى- ووصفه، لا تُنافي اسميتُه وصفيته، فمن حيث هو صفة؛ جرى تابعًا علي اسم: الله -تعالى-، ومن حيث هو أسم: ورد في القرآن غير تابع، بل ورودَ الاسم العَلَم.
ولما كان هذا الاسم مختصًا به -تعالى-، حَسُن مجيئه مفردًا غير تابع، كمجيء اسمه "الله" كذلك، وهذا لا ينافي دلالته على صفة "الرحمة" كاسمه "الله" فإنه دالٌّ على صفة الألوهية، ولم يجئ قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير، والسميع والبصير، ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة، بل تابعة
(1)
.
فتأمل هذه النكتةَ البديعةَ؛ يظهرْ لك بها أنّ "الرحمن" اسمٌ وصِفَة، لا ينافي أحدهما الآخر، وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعًا.
وأما الجمع بين "الرحمن الرحيم"؛ ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما، وهو: أنّ الرحمن دالُّ على الصفة القائمة به -سبحانه-، والرحيم دالة على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثانى للفعل، فالأول دال على أنّ الرحمة صفته، والثانى دال على أنَّه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فَهْمَ هذا؛ فتأمل قوله {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ (117)} [التوبة: 117]. ولم يجيء قط: "رحمن بهم" فَعُلِم أن "رحمن" هو الموصوف بالرحمة، و"رحيم" هو الراحم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآةُ قلبك، لم تنجل لك صورتها.
(1)
"بل تابعه" ليست في (ق).