المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فائدة(2)الفرق بين الشهادة: والرواية:

- ‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معانٍ:

- ‌فائدةالمجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص

- ‌فائدة(1)لحذف العامل في "بسم الله" فوائد عديدة

- ‌فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر

- ‌فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌المسألة الثامنة

- ‌المسألة التاسعة

- ‌[مسائل في المثنى والجمع]

- ‌فائدة(1)في "اليوم" و"أمس" و"غد"، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه

- ‌فائدة(3)فعل الحال لا يكون مستقبلًا

- ‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

- ‌فائدة بديعة(1)لحاق علامة التثنية(2)والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب

- ‌ تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها

- ‌فائدة(7)السرُّ في حذف الألف من "ما" الاستفهامية عند حرف الجر:

- ‌فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى "أَي

- ‌فائدة(1)المعنى المفرد لا يكون نعتًا

- ‌فائدة بديعة(1)إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه(2)، ففيه ثلاثة أوجه:

- ‌فائدة بديعة(4)حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها

- ‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف

الفصل: ‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف

‌فائدة بديعة

(1)

لا يجوز إضمار حرف العطف

، خلافًا للفارسي ومن تبعه، لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم، فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يُسفر له عما في نفس مُكَلِّمه. وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والتمنِّي والترجي والتمني

(2)

وغيرهما، اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن؛ لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر، وهذا على ما قلته.

فإن قيل: فكيف تصنعون بقول الشاعر:

كَيْفَ أَصْبَحْتَ كَيْفَ أَمْسَيْتَ مِمَّا

يُثْبِتُ الوُدَّ فِيْ فُؤادِ الكَرِيْمِ

(3)

أليس على إضمار حرف العطف، وأصله: كيف أصبحت وكيف أمسيت.

؟.

قيل: ليس كذلك، وليس حرف العطف مرادًا هنا ألبتة، ولو كان مرادًا لانتقض الغرض الذي أراده الشاعر؛ لأنه لم يُرِد انحصار الوُد في هاتين الكلمتين من غير مواظبة عليهما، بل أراد [أن] تكرار هاتين الكلمتين دائمًا يُثبت المودة، ولولا حذف "الواو" لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة الكلام

(4)

ولا استمرار عليه، ولم يُرِد الشاعرُ ذلك، وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائر الباب، يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه، كما تقول:

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 263).

(2)

(ظ ود): "والنهي والزجر" وهو تحريف.

(3)

لا يعرف قائله، انظره في "الخصائص":(1/ 290) لابن جني.

(4)

من قوله: "عليهما، بل

" إلى هنا ساقط من (د).

ص: 362

قرأت "ألفًا باءً"، جعلت هذه الحروف ترجمةً لسائر الباب

(1)

وعنوانًا للغرض المقصود. ولو قلتَ: قرأت "ألفًا وباءً"، لأشعرتَ بانقضاء المقروء حيث عطفتَ "الباء" على "الألف" دونَ ما بعدها

(2)

فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين.

وأحسنُ من هذا أن يقال: دخول الواو هنا يفسد المعنى؛ لأن مراده هنا أن هذا اللفظ وحده يثبت الودّ، وهذا وحده يثبته بحسب اللقاء، فأيهما وجد مقتضيه وواظب عليه أثبت الودَّ ولو أدخل الواو لكان لا يثبت الودُّ إلا باللفظين معًا.

ونظير هذا أن تقول: أطعم فلانًا شيئًا فيقول: ما أطعمه؟ فتقول: أطعمه تمرًا أقطًا زبيبًا لحمًا، لم تُرد جمع ذلك، بل أردت: أطعمه واحدًا من هذه أيها تيسَّر. ومنه الحديث الصحيح المرفوع

(3)

: "تصدق رجلٌ من دِيْنَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ"

(4)

، ومنه قول عمر: "صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء في سراويلَ ورداء في تبَّان ورداء

" الحديث

(5)

، يتعين ترك العطف في هذا كله لأنَّ المراد الجمع.

فإن قيل: فما تقولون في قولهم: "اضرِب زيدًا عمرًا خالدًا"، أليس على حذف الواو؟

(1)

من قوله: "يريد الاستمرار

" إلى هنا ساقط من (ظ، ود).

(2)

من قوله: "ولو قلت

" إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

"الصحيح" من (ق)، و"المرفوع" من (ظ ود).

(4)

قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم رقم (1017) وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

(5)

تقدم ص / 180.

ص: 363

قيل: ليس كذلك؛ إذ لو كان على تقدير الواو لاختص الأمر بالمذكورين ولم يعدهم إلى سواهم، وإنما المراد الإشارة بهم إلى غيرهم، ومنه قولهم: "بوَّبتُ [الكتاب]

(1)

بابًا بابًا، وقسمت المال درهمًا درهمًا"، ليس على إضمار حرف العطف، ولو كان كذلك لانحصر الأمر في "درهمين وبابين".

وأما ما احتجُّوا به من قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]، فقالوا على إضمار الواو، والمعنى والتقدير: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت: لا أجد

(2)

"، والذي دعاهم إلى ذلك أن جواب "إذا" هو قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92]. والمعنى: إذا أتوك ولم يكن عندك ما تحملهم عليه تولَّوا يبكون، فيكون الواو في "قلت" مقدَّرة؛ لأنها معطوفة على فعل الشرط وهو "أتوك"، هذا تقرير احتجاجهم ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ جواب "إذا" في قوله: "قلت لا أجد"، والمعنى: إذا أتوك لتحملهم لم يكن عندك ما تحملهم عليه، فعبر عن هذا بقوله:{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] لنكتة بديعة، وهي الإشارة إلى تصديقهم له، وأنهم اكتفوا من علمهم بعدم الإمكان بمجرد إخباره لهم بقوله:{لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} بخلاف ما لو قيل: لم يجدوا عندك ما تحملهم عليه، فإنه يكون سبب

(3)

حزنهم خارجًا عن إخباره. وكذلك لو قيل: لم تجد ما تحملهم عليه، لم يؤدِّ هذا المعنى، فتأمله فإنه بديع.

(1)

في الأصول: "الحساب"، والمثبت من "النتائج".

(2)

من قوله: "فقالوا على

" إلى هنا ساقط من (ق ود).

(3)

(ظ ود): "تبيين".

ص: 364

فإن قيل: فبأيِّ شيءٍ يرتبط قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} ، وهذا عطف على ما قبله فإنه ليس بمستأنف؟

فالجواب: أن ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو، وتأمل مثل هذا في قوله تعالى:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2] كيف لم يعطف فعل القول بأداة عطف لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} فجرى مجرى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68 - 69] فلما كان مضاعفة العذاب بدلًا وتفسيرًا لـ "لأثام" لم يحسن عطفه عليه.

وزعم بعض الناس

(1)

أن من هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: "لا يَغُرَّنَّكَ هذه التي أَعْجَبَهَا حُسْنُها حبُّ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم "

(2)

لها فقال: "المعنى أعجبها حُسنُها وحُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لها"، وليس الأمر كذلك، ولكن قوله:"حب رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(3)

بدل من قوله: "هذه" وهو من بدل الاشتمال، والمعنى:"لا يغرنك حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه التي قد أعجبها حسنها". ولا عطف هناك ولا حذف

(4)

،

(1)

هو: أبو القاسم بن الأبرش، أحد شيوخ السُّهيلي، وقد أشار إلى قوله هذا في "النتائج":(ص/ 264)، ولم يُسمِّه، وانظر:"الأمالي": (ص/ 101).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2468)، ومسلم رقم (1479) من حديث عمر- رضي الله عنه.

(3)

من قوله: "لها" فقال

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(4)

أجاب الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (9/ 193)، بأنه قد ثبت في بعض الروايات حرف العطف -الواو- فيتأيد كلام الأبرش.

ص: 365

وهذا واضح بحمد الله.

فائدة بديعة

(1)

"كل" لفظ دال على الإحاطة بالشيء، وكأنه من لفظ الإكليل والكَلَالَة والكِلَّة

(2)

مما هو في معنى الإحاطة بالشيء، وهو اسم واحد في لفظه جمعٌ في معناه؛ ولو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمعُ؛ لأن التوكيد تكرار للمؤكَّد فلا يكون إلا مثله، إن كان جمعًا فجمع، وإن كان واحدا فواحد.

وحقه أن يكون مضافًا إلى اسم منكر شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة، فإن أضفته إلى معرفةٍ، كقولك:"كل إخوتك ذاهب"، قَبُح إلا في الابتداء؛ لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبرُه بلفظ الإفراد، تنبيهًا على أن أصله أن يضاف إلى نكرة؛ لأن النكرة شائعة في الجنس، وهو أيضا يطلب جنسًا يحيط به، فإما أن تقول

(3)

: كلُّ واحدٍ من إخوتك ذاهب، فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل، وهو إضافته إلى اسم مفرد نكرة.

فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة مُعَرَّفة، كقولك: رأيتُ كل إخوتك، وضربتُ كلَّ القوم، لم يكن في الحُسن بمنزلة ما قبله؛ لأنك لم تُضِفْه إلى جنس، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم: كلهم ذاهب، وكل القوم

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 276).

(2)

"الكلالة" سقطت من (ظ ود).

والإكليل هو: التاج، والكلالة: من لا والد له ولا ولد، والكِلَّة: ستر رقيق يخاط كالبيت.

(3)

كذا بالأصول ومخطوطات "النتائج"، ولعل صواب العبارة:"فكأنما تقول".

ص: 366

عاقل، فإن أضفته إلى جنس مُعَرَّف باللام، نحو قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} حَسُنَ ذلك؛ لأن اللام للجنس لا للعهد، ولو كانت للعهد لَقَبُحَ كما لو

(1)

قلتَ: خذ من كلِّ الثمرات التي عندك؛ لأنها إذا كانت جملة معَرَّفة معهودة، وأردت معنى الإحاطة فيها، فالأحسن أن تأتىِ بالكلام على أصله، فتؤكد المعرفة بـ "كل"، فتقول: خد من الثمرات التي عندك كلها؛ لأنك لم تضطر إلى

(2)

إخراجها عن

(3)

التوكيد كما اضطُرِرْتَ في النكرة حين قلتَ: لقيتُ كلَّ رجل؛ لأن النكرة لا تؤكد، وهي -أيضًا- شائعة في الجنسِ كما تقدَّم.

فإن قيل: فإذا استوى الأمران، كقولك: كُلْ من كل الثمرات، وكُلْ من الثمرات كلِّها، فلم اختص أحدُ النظمين بالقرآن في موضع دون موضع؟.

قيل: هذا لا يلزم؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ فصيح، ولكن

(4)

لابُدَّ من فائدة في الاختصاص.

أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، ف "مِنْ" هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف، إنما يُريد الثمرات بأنفسِها، إلا أنه أخرج منها شيئًا، وأدخل "من" لبيان الجنس كلِّه، ولو قال: أخرجنا به من الثمراتِ كلِّها، لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف، وأن مفعول {فَأَخْرَجْنَا} فيما بعد، ولم يُتوهَّم ذلك مع تقديم "كل" لعلم

(1)

سقطت من (ظ ود).

(2)

(ظ ود) و "النتائج": "عن".

(3)

(ق): "إلى".

(4)

ليست في (ق).

ص: 367

المخاطبين

(1)

أن "كلًّا" إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت -وكانت توكيدًا- اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسًا شائعًا كان أو معهودًا معروفًا.

وأما قوله تعالى: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] ولم يقل: من الثمرات كلها، ففيها الحكمة التي في الآية قبلها، ومزيد فائدة وهو أنه [قد]

(2)

تقدمها في النظم قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ} [النحل: 67]، فلو قال بعدها:"كلي من الثمرات كلها"، لذهب الوهم إلى

(3)

أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا، أعني {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} ؛ لأن [الألف و] اللام إنما تنصرف إلى المعهود، فكان الابتداء بـ "كل" أحصن للمعنى، وأجمع للجنس، وأرفع للبس، وأبدعَ في النظم، فتأمله.

وإذا قُطعت عن الإضافة وأُخبر عنها؛ فحقُّها أن تكون ابتداءً، ويكون خبرها جمعًا، ولابدَّ من مذكورين قبلها؛ لأنها إن لم يُذكر قبلها جملة ولا أُضِيْف إلى جملة

(4)

بَطل معنى الإحاطة فيها، ولم يُعقل لها معنى. وإنما وجب أن يكون خبرها جمعًا؛ لأنها اسم في معنى الجمع فتقول:"كل ذاهبون" إذا تقدم ذكر قوم؛ لأنك معتمد في المعنى عليهم، وإن كنت مخبرًا عن "كل"، فصارت بمنزلة قولك: الرهط ذاهبون، والنفر منطلقون، لأن الرهط والنفر اسمان مفردان، ولكنهما في معنى الجمع والشاهدُ لما قلناه قوله سبحانه وتعالى:

(1)

"لعلم المخاطبين" سقطت من (د).

(2)

من "النتائج"، و (ق):"إذا".

(3)

من نص الآية إلى هنا ساقط من (ق).

(4)

"ولا أضيفت إلى جملة، ساقط من (ق).

ص: 368

{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93]{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54]، وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ، لم تجد خبرها إلا مفردًا، للحكمة التي قدمناها قَبْلُ، وهي: أن الأصلَ إضافتُها إلى النكرة المفردة، فتقول: كلُّ إخوتك ذاهب، أي كلُّ واحد منهم ذاهب، ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلتَ: كلٌ ذاهبون؛ لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها، وعلى ما في معناها من معنى الجمع، واعتمادها إذا أضفتها على الاسم المفرد، إما لفظًا وإما تقديرًا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُم مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِه"

(1)

ولم يقل: "راعون ومسئولون ". ومنه: "كلُّكم سَيَرْوَى"

(2)

. ومنه قول عمر: "أو كلكم يجد ثوبين"

(3)

، ولم يقل تجدون، ومثله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وقال تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] فجمع، وقال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93].

فإن قيل: فقد ورد في القرآن {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} وهذا يناقض ما أَصَّلتم.

قيل: إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره؛ أما قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ؛ فلأن

(1)

أخرجه البخاري رقم (893)، ومسلم رقم (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

قطعة من حديث طويل يرويه أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه أخرجه مسلم رقم (681).

(3)

تقدم ص / 180.

ص: 369

قبلها ذكر فريقين مختلفين، ذكر مؤمنين وظالمين، فلو قال:"يعملون"، وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على المراد، كأنه يقول: كل فريق

(1)

فهو يعمل على شاكلته.

وأما قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} ؛ فلأنه ذكر قرونًا وأممًا، وختم ذكرهم بذكر قوم تُبَّع، فلو قال: كلٌ كذبوا. و" كل" إذا أفردت إنما تعتمد

(2)

على أقرب المذكورين إليها، فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تُبَّع خاصة؛ أنهم كذبوا الرسل، فلما قال:{كُلٌّ كَذَّبَ} علم أنه يريد كل فريق منهم

(3)

لأن إفراد الخبر عن "كل" حيث

(4)

وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم. ومثله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285].

وأما قولنا في "كل" إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة، فإنما نريد أنها مبتدأة يخبر عنها أو مبتدأة باللفظ منصوبةً بفعل بعدها لا قبلها، أو مجرورة يتعلَّق خافضها بما بعدها نحو:{وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]، وقول الشاعر

(5)

:

*بكُلٍّ تَدَاوَيْنا

*

ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت مفردة، كقولك:"ضربتُ كُلًّا" و"مررتُ بكلٍّ" وإن لم يقبح: "كلَّا ضربت"، و"بكل مررت"،

(1)

(ظ ود): "فهو".

(2)

(ظ ود): "تعمل".

(3)

العبارة في "النتائج": "

أنه يريد كل قرن منهم كذّب".

(4)

سقطت من (ظ ود).

(5)

هو: عبد الله بن الدمينة، والبيت في "ديوانه":(ص / 82). وتمامه:

بكلٍّ تَدَاوَيْنَا فلَمْ يَشْفِ مَا بِنا

على أَنَّ قُرْبَ الدار خيرٌ مِن البُعْدِ

ص: 370

من أجل أن تقديم العامل عليها يقطعها عن المذكور قبلها في اللفظ؛ لأن العامل اللفظي له صدر الكلام، وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيءٌ تعتمدُ عليه قبلها ولا بعدها، فقَبحَ ذلك.

وأما إذا كان العامل معنويًّا، نحو:"كلّ ذاهبون"، فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين؛ لأنه لا وجود له في اللفظ، فإذا قلتَ:"ضربتُ زيدًا وعَمرًا وخالدًا "، و"شتمتُ كُلاّ"، و"ضربتُ كُلاّ"، لم يجز ولم يعد بخبر لما قدمناه.

إذا عرفت هذا؛ فقولك: "كلُّ إخوتك ضربت"، سواء رفعت أو نصبت يقتضي وقوع الضرب بكلِّ واحد منهم، وإذا قلت:"كل إخوتك ضربني"، يقتضي -أيضًا- أنَّ كلَّ واحد واحد منهم ضربك. فلو قلت:"كل إخوتك ضربوني، وكل القوم جاؤوني"، احتمل ذلك، واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجئ؛ لأنك أخبرتَ عن جملتهم بخبر واحد واقع عن الكلية

(1)

، بخلاف قولك:"كل إخوتك جاءنى"، فإنما هو إخبار عن كل واحد واحد

(2)

منهم، وأن الإخبار بالمجيء، عم جميعهم، فتأمل على هذا قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] كيف أفردَ الخبرَ؛ لأنه لم يُرِد اجتماعهم فيه. وقال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فجمع لما أريد الاجتماع في المجيء، وهذا أحسن مما تقدَّم من الفرق، فتأمله.

ولا يرد على هذا قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ

(1)

(ظ ود): "الكلمة"، و"المنيرية":"الجملة".

(2)

"واحد" الثانية سقطت من (ق ود)

ص: 371

قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، بل هو تحقيق له وشاهد، لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض لا يختص بها بعضهم عن بعض، ولا يختص بزمان دون زمان، وهي عبودية القهر. فالقنوت هنا قنوت قهر وذل لا قنوت طاعة ومحبة، وهذا بخلاف قوله تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فإنه أفرد لما لم يجتمعوا في الفناء. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "

(1)

، فإن الله يسأل كلَّ راعٍ بمفرده.

ومما جاء مجموعًا لاجتماع الخبر قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] وما أفرد لعدم اجتماع الخبر قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 12 - 14] فأفرد لمَّا لم يجتمعوا في التكذيب.

ونظيره في سورة ق: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدٍ} [ق: 14] وتأمَّل كيف كشف قناعَ هذا المعنى وأوضحه كلَّ الإيضاح بقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 95]، كيف أفرد "آتيه" لما كان المقصود الإشارة إلى أنهم -وإن أتوه جميعًا- فكلُّ واحد منهم منفرد عن كل فريق من صاحب أو قريب أو رفيق، بل هو وحده منفرد، فكأنه إنما أتاه وحدَه، وإن أتاه مع غيره؛ لانقطاع تبعيته للغير وانفراده بشأن نفسه، فهذا عندي أحسن من الفرق بالإضافة وقطعها. والفرقُ بذلك فَرْقُ السُّهيليِّ، فتأمل الفرقين، واستَقْرِ الأمثلة والشواهدَ.

(1)

تقدَّم ص / 369.

ص: 372

فصل

(1)

وأما مسألة: "كلُّ ذلك لم يكن"، و "لم يكن كل ذلك"، و "لم أصنع كلَّه"، و"كلُّه لم أصنعه"؛ فقد أطالوا فيها القولَ وفرَّقوا بين دلالتي الجملة الفعلية والاسمية، وقالوا: إذا قلتَ: "كل ذلك لم يكن"، و"كله لم أصنعه"؛ فهو نفي للكل بنفي كلِّ فردٍ من أفراده فيناقض الإيجاب الجزئي وإذا قلت:"لم أصنع الكلَّ" و "لم يكن كل ذلك"؛ فهو نفي للكُلِّية دون التعرُّض لنفي الأفراد، فلا يناقضه الإيجاب الجزئي، ولا بد من تقرير مقدمة تُبْنى عليها هذه المسألة وأمثالها، وهي: أن الخبرَ لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ، بل يجوز أن يكون أعم منه ومساويًا له؛ إذ لو كان أخص منه لكان ثابتًا لبعض أفراده، ولم يكن خبرًا عن جملته، فإن الأخص إنما يثبت لبعض أفراد الأعم.

وأما إذا كان أعم منه، فإنه لا يمتنع؛ لأنه يكون ثابتًا بجملة أفراد المبتدأ وغيرها، وهذا غير ممتنع. فإذا عرف ذلك، فإذا كان المبتدأ لفظة "كل" الدال على الإحاطة والشمول، وجب أن يكون الخبر المثبت حاصلًا لكلِّ فردٍ من أفراد "كل"، والخبر المنفي مثبتًا عن كلِّ فرد من أفراده، سواء أضفت "كلَّا" أو قطعتها عن الإضافة، فإن الإضافة فيها مَنْويَّة معنىً وإن سقطت لفظًا، فإذا قلت:"كلهم ذهب" و"كلكم سَيَروَي" أو: "كل ذهب" و "كل سَيَروَى"

(2)

عمَّ الحكمُ أفرادَ المبتدأ، فإذا كان الحكم

(3)

سلبًا، نحو: "كلُّهم لم يأتِ، وكلُّ

(1)

(د): "فائدة".

(2)

"كل ذهب وكل سيروى" سقطت من (ق).

(3)

" أفراد المبتدأ، فإذا كان الحكم" ساقط من (د).

ص: 373

لم يقم"

(1)

، ولهذا يصح مقابلته بالإيجاب الجزئي، نحو

(2)

: قوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: "أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: - "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، فقال ذو اليدين: بلى، قد كان بعض ذلك"

(3)

.

ومن هذا ما أنشده سيبويه

(4)

:

قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيارِ تَدَّعي .. عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُهُ لم أَصْنَعِ

أنشده برفع "كل" واستقبَحَه لحذف الضمير العائد من الخبر، وغير سيبويه يمنعه مطلقًا وينشدُ البيت منصوبًا، فيقول كلَّه لم أصنع، والصواب: إنشادُه بالرفع محافظةً على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدَّح به عند أم الخيار، ولو كان منصوبًا لم يحصل له مقصوده من التَّمدُّح بأنه لم يفعل ذلك الذنب ولا شيئًا منه، بل يكون المعنى: لم أفعل كلَّ الذنب بل بعضه، وهذا ينافي غَرَضَه. ويشهد لصحة قول سيبويه: قراءة ابن عامر

(5)

في سورة الحديد: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، فهذا يدلُّ على أن حذف العائد جائز وأنه غير قبيح.

ومن هذا على أحد القولين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من {يَسْتَعْجِلُ} ، وتقديره: يستعجله منه

(1)

كأن الكلام بقية، فلعلَّ هناك سقط.

(2)

"الجزئي" سقطت من (ق)، و "نحو" من (ظ ود).

(3)

أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

في "الكتاب": (1/ 44، 69) وهو لأبي النجم العجلي.

(5)

(ظ ود): "ابن عباس" والصواب ما في (ق) فابن عامر وحده قرأ برفع "كل"، انظر:"المبسوط في القراءات العشر": (ص/ 362) للأصبهاني.

ص: 374

المجرمون، وكما يحذف من الصِّلة والصفة والحال إذا دلَّ عليه دليل، ودعوى قُبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها. وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر.

والمقصود: أن إنشادَ البيت بالنصب محافظةً على عدم الحذف إخلالٌ

(1)

شديدٌ بالمعنى. وأما إذا تقدم النفي وقلت: "لم أصنع كله ولم أضرب كلهم"، فكأنك لم تتعرَّض للنفي عن كل فردٍ فردٍ، وإنما نفيت فعل الجميع ولم تنفِ فعل البعض، ألا ترى أن قولك:"لم أصنع الكلَّ" مناقض لقولك: "صنعتُ الكلَّ"، والإيجاب الكلِّي يناقضه السلب الجزئي، ألا ترى إلى قولهم:"لم أُرِد كلَّ هذا" فيما إذا فعل ما يريده وغيره، فتقول:"لم أُرِد كلَّ هذا" ولا يصح أن تقول: "كلُّ هذا لم أرده"، فتأمله، فهذا تقرير هذه المسألة، وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعِبْ القليل الفائدة.

فصل

(2)

واعلم أن "كلًّا "من ألفاظ الغَيبة، فإذا أضفته إلى المخاطبين، جاز لك أن تُعِيدَ الضَّميرَ عليه بلفظ الغَيبة مراعاةً للفظه، وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاةً لمعناه، فتقول: كلُّكم فعلتم، وكلُّكم

(3)

فَعَلوا.

فإن قلت: "أنتم كلُّكم فعلتم"، أو "أنتم

(4)

كلُّكم بينكم درهم"، فإن جعلت "أنتم" مبتدأ، و "كلكم" تأكيدًا، قلت: أنتم كلكم فعلتم

(1)

في الأصول: "وإخلال".

(2)

(د): "فائدة".

(3)

"فعلتم، وكلكم" ساقط من (د).

(4)

(ظ ود): "أرأيتم".

ص: 375

وبينكم درهم، لتطابق المبتدإ، وإن جعلت "كلكم" مبتدأ ثانيًا جاز لك وجهان: أحدهما: أن تقول "فعلوا وبينهم درهم"، مراعاة للفظ كُلُّ، وأن تقول:"فعلتم وبينكم درهم"، حَمْلًا على المعنى؛ لأن "كُلًا" في المعنى للمخاطبين.

فائدة

(1)

اختلف الكوفيون والبصريون في "كلا" و "كلتا"؛ فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الاثنين، فيجوز عَوْد الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر، ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل، وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم.

ولهم حجج؛ منها: أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة، والمثنَّى ليس كذلك، وأما انقلابها ياء مع المضمر

(2)

فلا يدل على أنها ألف تثنية كألف "على وإلى ولدى". هذا قول الخليل وسيبويه

(3)

واحتجوا -أيضًا- بقولهم: "كِلاهما ذاهب"، دون "ذاهبان"، وسيبويه لم يحتج بهذه الحجة لما تقدم من أنك إذا أضفت

(4)

لفظ "كل" أفردت خبره، مع كونه دالًا على الجمع حملًا على المعنى؛ لأن قولك:"كُلُّكُم راع" بمنزلة كل واحد منكم راع، فكذا قولك: كلاكما قائم، أي: كلُّ واحد منكما قائم.

فإن قيل: بل أفرد الخبر عن "كُل وكِلا"؛ لأنهما اسمان مفردان.

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 281).

(2)

(ظ ود): "الضمير".

(3)

انظر: "الكتاب": (2/ 104 - 105).

(4)

(ق): "أضفت كلًا".

ص: 376

قيل: هذا يبطل بتوكيد الجمع والتثنية بهما، وكما لا يُنعت الجمع والمثنى بالواحد، فكذلك لا يؤكد به بطريق الأولى؛ لأن التوكيد تَكْرار للمؤكد بعينه، بخلاف النَّعت فإنه غيره

(1)

بوجه.

والمعول عليه لمن نصر مذهب سيبويه على الحجة الأولى، على ما فيها وعلى معارضتها بتوكيد الاثنين، و"كلا" والمثنى لا يؤكد بالمفرد كما قررناه.

فإن قيل: الجواب عن هذا أن "كلا" اسم للمثنى، فحسن التوكيد به وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله، وهو المقصود من الكلام فلا يضر إفراد اللفظ.

قيل: هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدًا ومعناه جمعًا؛ نحو: كل، وأسماء الجموع كرهط وقوم؛ لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف، فمذكر ومؤنث ومُسَلَّم ومكسر، على اختلاف ضروبه، وما لفظه على لفظ واحِدِه، كما تقدَّم بيانه، فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردًا ومعناه جمعًا، وأما التثنية فلم تختلف قط، بل لزمت طريقة واحدة أين وقعت، فبعيد جدًّا بل ممتنع أن يكون منها اسم مفرد معناه مثنى، وليس معكم إلا القياس على الجمع.

وقد وضحَ الفرقُ بينهما، فتعيَّن أن تكون "كلا" لفظًا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر؛ لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه، لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول؛ واحد لأن "كلا" هو نفس ما يضاف إليه، بخلاف قولك:"ثوبا الرجلين، وفرسا الزيدين"، فلو قلت: "مررت

(1)

(ظ): "عنه" و "المنيرية": "عينه"، وسقطن من (د).

ص: 377

بكلي الرجلين"، جمعتَ بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأنهما لا ينفصلان أبدًا، ولا تنفك "كِلا" هذه عن الإضافة بحال، ألا ترى كيف رفضوا: "ضربت رأسي الزيدين"، وقالوا: رؤوسهما، لمَّا رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرًا، وكذلك القلوب من قوله:{صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة، فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا تنفك عنه؛ فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف في جميع الأحوال

(1)

وكان هذا أحسن من إلزام طيِّيء وخَثْعَم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألفَ في كلِّ حال

(2)

نحو: الزيدان والعمران، فإذا أضافوه إلى الضمير

(3)

قلبوا ألفه في النصب والجر؛ لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب ولا يثنَّى بالياء، ولكنه أبدًا بالألف، فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى، وإن كان سيبويه المعظَّم المقدَّم في الصناعة فمأخوذ من قوله ومتروك.

ومما يدل على صحة هذا القول أن "كِلا" يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ "كُل"، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه، وأما اللام فمحذوفة كما حُذِفت في كثير من الأسماء، فمن ادعى أن "لام" الفعل "واو"، وأنه

(4)

من غير لفظ "كل" فليس له دليل يعضده، ولا اشتقاق يشهد له.

(1)

(ظ ود): "على كل حال".

(2)

(ق): "الأحوال".

(3)

في "النتائج": "المضمر".

(4)

(ق): "وأدواته" وهو تحريف.

ص: 378

فإن قيل: فلِمَ رجعَ الضمير إليها بلفظ الإفراد إذا كانت مثناة؟.

قيل: لما تقدم من رجوع الضمير على "كل" كذلك، إيذانًا بأن الخبر عن كل واحد واحد، فكأنك قلتَ: كل واحد من الرجلين قام. وفيه نكتة بديعة، وهي: أن عَوْد الضمير بلفظ الإفراد أحسن؛ لأنه يتضمَّن صدور الفعل عن كل واحد، منفردًا به ومشاركًا للآخر.

فإن قيل: فلم كُسِرت الكاف من "كِلا" وهي من "كل" مضمومة؟.

قيل: هذا لا يلزمهم؛ لأنهم لم

(1)

يقولوا: إنها لفظة "كل" بعينها، ولهم أن يقولوا: كُسِرت تنبيهًا على معنى الاثنين، كما يبتدأ لفظ

(2)

الاثنين بالكسر، ولهذا كسروا العين من "عِشرين" إشعارًا بتثنية "عشر". ومما يدل على صحة هذا القول -أيضًا- أن "كِلتا" بمنزلة قولك:"ثِنتا"، ولا خلاف أن ألف "ثنتا" ألف تثنية، فكذلك ألف "كِلتا". ومن ادعى أد الأصل فيهما "كلواهما" فقد ادعى ما تستبعده العقول، ولا يقوم عليه برهان.

ومما يدل -أيضًا- على صحته: أنك تقول في التوكيد: "مررتُ بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم"، فتؤكد بالعدد، فاقتضى القياس أن تقول -أيضًا- في التثنية كذلك: "مررت بأخويك

(3)

اثنيهما"، فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه، وإذا كان كذلك فهو مثنى مثله.

فإن قيل: فإنك تقول: "كلا أخويك جاء"، ولا تقول:"أثنا أخويك جاء"، فدل على أنه ليس في معناه؟.

(1)

سقطت من (ق).

(2)

(ق): "يفيد اللفظ".

(3)

من قوله: "ثلاثتهم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 379

قيل: العدد الذي يؤكد به إنما يكون تأكيدًا مؤخرًا تابعا لما قبله، فأما إذا قُدِّم لم يجز ذلك؛ لأنه في معنى الوصف، والوصف لا يُقدَّم على الموصوف، فلا تقول:"ثلاثة إخوتك جاءوني"، وهذا بخلاف "كل وكِلا وكِلتا"؛ لأن فيها معنى الإحاطة، فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده، فَحَسُن تقديمهما في حال الإخبار عنهما، وتأخيرهما في حال التوكيد، فهذا قوة

(1)

هذا المذهب كما ترى.

فائدة

(2)

لا يؤكَّد بـ "أجمع" الفرد مما يعقل؛ ولا ما حقيقته لا تتبعَّض، وهذا إنما يؤكد به ما يتبعَّض كجماعة من يعقل فجرى مجرى "كل".

فإن قيل: فقد تقول: رأيت زيدًا أجمع، إذا رأيته بارزًا من طاق ونحوه.

قيل: ليس هذا توكيدًا في الحقيقة لزيد؛ لأنك لا تريد حقيقتَه و"ذاتَه وإنما تريد به ما تُدْرك العينُ منه.

و"أجمع" هذه اسم معرفة بالإضافة، وإن لم يكن مضافًا في اللفظ؛ لأن معنى: قبضتُ المَال أجمع، أي كلَّه، فلما كان مضافًا في المعنى تعرَّف ووكِّد به المعرفة، وإنما استغنوا عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه، ولم يستغن عن لفظ المضاف [إليه] مع "كل" إذا قلت: قبضتُ المالَ كلَّه؛ لأن "كلا" تكون توكيدًا وغير توكيد، وتتقدم في أول الكلام، نحو "كلكم ذاهب" فصار بمنزلة "نفسه" و"عينه"؛ لأن كل واحد منهما يكون توكيدًا وغير توكيد، فإذا أكدته

(1)

(ظ ود): "في".

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 286).

ص: 380

لم يكن بُدٌّ من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يُعْلم أنه توكيد، وليس كذلك "أجمع"؛ لأنه لا يجيء إلا تابعًا لما قبله، فاكتفى بالاسم الظاهر المؤكد

(1)

واستغنى به عن التصريح بضميره، كما فعل بـ "سحر" حين أردته ليوم بعينه، فإنه عُرِّف بمعنى الإضافة، وأستغني عن التصريح بالمضاف إليه اتكالًا على ذكر اليوم قبله.

فإذا قيل: وَلمَ لَمْ تُقَدَّم "أجمع" كما قُدِّم "كل"؟.

فالجواب

(2)

: أن فيه معنى الصفة؛ لأنه مشتق من "جمعت" فلم يقع إلَّا تابعا

(3)

، بخلاف "كل".

ومن أحكامه أنه، يُثنَّى و، يُجمع على لفظه؛ أما امتناع تثنيته، فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض

(4)

، فلو ثنيته لم يكن في قولك:"أجمعان" توكيد لمعنى التثنية، كما في "كليهما "؛ لأن التوكيد تكرار لمعنى المؤكَّد

(5)

، إذا قلت: درهمان، أفدت أنهما اثنان، فإذا قلت: كلاهما، كأنك قلت: اثناهما، ولا يستقيم ذلك في:"أجمعان"؛ لأنه بمنزلة من يقول: أَجْمع وأَجْمع، كالزيدان بمنزلة: زيد وزيد، فلم يفدك "أجمعان" تكرار معنى التثنية، وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف "كلاهما"؛ فإنه ليس بمنزلة قولك: كل وكل، وكذلك "اثناهما" المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيهما: اثن واثن، فإنما هي تثنية لا تنحلُّ ولا تنفرد، فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها، فلا

(1)

من قوله: "حتى يعلم

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

(ظ): "قيل: الجواب"، (د):"ولكل جواب".

(3)

(ظ ود): "فلم يكن يقع تابعًا"!

(4)

"النتائج": "لتوكيد الاسم المفرد الذي يتبعَّض"، وسقطت "يتبعض" من (ظ ود).

(5)

(ظ ود): "المعنى المذكور".

ص: 381

ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه، لئلَاّ يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو، وهذه عِلَّة امتناع الجمع فيه؛ لأنك لو جمعته كان جمعًا لواحد من لفظه، ولا يؤكِّد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد.

فإن قيل: هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين، فإن واحِدَه أجمع وأكتع؟

قيل: سيأتي جوابه، وإن شئت قلت: إن أجمع في معنى "كل"، و"كل" لا يُثنى ولا يجمع، إنما يُثَنَّى ويجمع الضمير الذي يضاف إليه "كل".

وأما قولهم في تأنيثه: جمعاء؛ فلأنه أقرب إلى باب "أحمر" و"حمراء" من باب "أفضل" و"فُضْلى"، فلذلك لم يقولوا في تأنيثه: "جُمْعى

(1)

" كـ "كُبْرى"، ودليل ذلك أنه لا يدخله الألف واللام، ولا يُضاف صريحًا، فكان أقرب إلى باب "أفعل" و" فعلاء" وإن خالفه في غير هذا.

وأما "أجمعون وأكتعون" فليس بجمع لـ "أجمع وأكتع"، ولا واحد له من لفظه، وإنما هو لفظ وضع لتأكيد الجمع بوزن: ياسمين، وبمنزلة:"أبَينون" تصغير "الأبناء" فإنه جمع مُسَلّم ولا [واحد]

(2)

له من لفظه

(3)

. والدليل على ذلك: أنه لو كان واحد "أجمعين" أجمع، لما قالوا في المؤنث جُمَع، لأن "فُعَل" -بفتح العين- لا يكون واحده

(1)

من قوله: "فلأنه أقرب

" إلى هنا ساقطة من (د).

(2)

(ق): "حد"، والتصويب من "النتائج".

(3)

من قوله: "وإنما هو لفظ

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 382

فعلاء. و"جمعاء" التي هي مؤنث أجمع لو جُمِعَت لقيل: جمعاوات، أو جُمْع -بوزن حُمْر- وأما فُعَل بوزن كٌبَر فجمع لفُعْلى

(1)

.

وإنما جاء "أجمعون" على بناء "أكرمون وأرذلون"؛ لأن فيه طرفًا من معنى التفضيل كما في: "الأكرمين والأرذلين"، وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها، فإن كَثُر العدد احتج إلى كثرة التوكيد، حرصًا على التحقيق ورفعًا للمجاز، فإذا قلت: جاء القوم كلُّهم، وكان العدد كثيرًا، تُوُهِّم أنه قد شذ منهم البعض، فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول، فقالوا: أجمعون أكتعون، فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله، دخله معنى التفضيل، ومن حيث دخله معنى التفضيل

(2)

جُمِع جَمْع السلامة، كما يجمع "أفعل" الذي فيه ذلك المعنى جمع السلامة كأفضلون، ويجمع مؤنثه على "فُعَل" كما يجمع مؤنث ما فيه

(3)

من التفضيل.

وأما "أجمع" الذي هو توكيد الاسم الواحد فليس فيه من معنى التفضيل شيء، فكان كباب "أَحْمر"، ولذلك استغنى أن يقال:"كلاهما أجمعان"، كما يقال:"كُلُّهم أجمعون "؛ لأن التثنية أدنى من أن يُحْتاج في

(4)

توكيدها إلى هذا المعنى، فثبت أن "أجمعون" لا واحد له من لفظه؛ لأنه توكيد لجمع من يعقل، وأنت لا تقول فيمن يعقل: جاءني زيد أجمع

(5)

، فكيف يكون: "جاءني الزيدون

(1)

الأصول: "الفعل" والتصويب من "النتائج".

(2)

"ومن حيث دخله معنى التفضيل" ساقط من (ق).

(3)

(ظ ود): "كما يجمع ما فيه من التفضيل".

(4)

(ظ ود): "إلى".

(5)

(ظ ود) من قوله: "فثبت أن

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 383

أجمعون" جمعًا له، وهو غير مستعمل في الإفراد؟.

وسرُّ هذا ما تقدم وهو: أنهم لا يؤكدون مع الجمع والتثنية إلا بلفظ لا واحد له، ليكون توكيدًا على الحقيقة؛ لأن كلا جمع ينحل

(1)

لفظه إلى الواحد فهو عارض في معنى الجمع، فكيف يؤكد به معنى الجمع، والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام، فوجب أن يكون مما يثبت لفظًا ومعنى.

وأما حذف التنوين من "جُمَع" فكحذفه من "سَحَر"؛ لأنه مضاف في المعنى.

فإن قيل: ونون الجمع محذوفةٌ في الإضافة أيضًا فَهَلَّا حُذِفت من أجمعين؛ لأنه مضاف في المعنى؟.

قيل: الإضافة المعنوية لا تَقْوى على

(2)

حذف النون المتحركة التي هي كالعِوَض من الحركة والتنوين، ألا ترى أن نون الجمع تثبت مع الألف واللام وفي الوقف، والتنوينُ بخلافِ ذلك فقويت الإضافة المعنوية على حذفه تقوَ على حذف النون إلا الإضافةُ اللفظية.

فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية، والعامل اللفظي أقوى من المعنوي؟

قيل: اللفظي لا يكون إلا متضمِّنًا لمعناه، فإذا اجتمعا معًا كان أقوى من المعنى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف، وهذا ظاهرٌ لمن عدل وأنصف.

(1)

(ق): "على"!

(2)

سقطت من (ق).

ص: 384