المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فائدة(2)الفرق بين الشهادة: والرواية:

- ‌فائدة(4)"شهد" في لسانهم لها معانٍ:

- ‌فائدةالمجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص

- ‌فائدة(1)لحذف العامل في "بسم الله" فوائد عديدة

- ‌فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر

- ‌فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌المسألة الثامنة

- ‌المسألة التاسعة

- ‌[مسائل في المثنى والجمع]

- ‌فائدة(1)في "اليوم" و"أمس" و"غد"، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه

- ‌فائدة(3)فعل الحال لا يكون مستقبلًا

- ‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

- ‌فائدة بديعة(1)لحاق علامة التثنية(2)والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب

- ‌ تمامَ الكلامِ على أقسام "ما" ومواقعها

- ‌فائدة(7)السرُّ في حذف الألف من "ما" الاستفهامية عند حرف الجر:

- ‌فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى "أَي

- ‌فائدة(1)المعنى المفرد لا يكون نعتًا

- ‌فائدة بديعة(1)إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه(2)، ففيه ثلاثة أوجه:

- ‌فائدة بديعة(4)حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها

- ‌فائدة بديعة(1)لا يجوز إضمار حرف العطف

الفصل: ‌فائدة بديعة(3)" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

فاجتمع ذلك مع صيغة المضي، وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرًا لما قبلها، وليس ذلك في المضارع.

وليس المضارع كالماضي؛ لأن مضارعته للاسم هيَّأته لدخول العوامل عليه، والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم، وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام، وصيَّرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ و"إنَّ"[و] لم يقطعه دخول "اللام" عن أن يكون خبرًا في باب "إنَّ"، كما قطع الماضي؛ من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام، كما تقدم.

فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال؟.

قيل: (ظ/ 28 ب) دخول الزوائد عليه

(1)

ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب؛ فما تضمن معنى الاسم أعرب، كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف. ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه

(2)

الأسماء، وصلح فيها من الوجوه مالا يصلح في الماضي.

‌فائدة بديعة

(3)

" لام" الأمر، و"لا" في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل

، فحقُّا أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم قد

(4)

يوجد ذلك لحكمة، أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك؛ كيلا يلتبس بالنفي

(1)

من (ق).

(2)

في "النتائج": "أشبه".

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 145).

(4)

(ظ ود): "لم" وهو خطأ.

ص: 179

لعدم الجزم، ولكن إذا كانت "لا" في معنى الدعاء؛ جاز وقوع الفعل يعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوهٍ:

منها: أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل (ق/39 ب) مع الدعاء في لفظ وأحد، فجاءوا بلفظ الفعل الحاصل في مَعْرِض الدعاء تفاؤلًا بالإجابة، فقالوا:"لا خَيَّبك الله".

وأيضًا: فالداعي قد يُضَمِّن دعاءَه القصد إلى إعلام السامع وإخبار المخاطب بأنه داعٍ، فجاءوا بلفظ الخبر، إشعارًا بما تضمنه من معني الإخبار، نحو:"أعزَّك اللهُ وأكرمك"، و"لا رحم فلانًا"، جمعتَ بين الدعاء والإخبار بأنك

(1)

داعٍ.

ويوضح ذلك أنك لا تقول ذلك في حال مناجاتك الله ودعائك لنفسك، لا تقول:"رحمتني ربِّ" و"رزقتني" و"غفرت لي"، كما: تقول للمخاطَب: "رحمكَ اللهُ ورزقكَ وغفرَ لك"، إذ لا أحد في حال مناجاتك يَقصد إخباره وإعلامه، وإنما أنت داعٍ وسائل محض.

فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي؟.

قلنا: للدعاء هيئة ترفع الالتباس، وذِكْر الله مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس، فتأَمَّله فإنه بديعٌ في النظر والقياس، فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معني الأمر والنهي. منها قول عمر رضي الله عنه:"صلي رجل في كذا وكذا من اللباس"

(2)

، وقولهم:"أنْجَزَ حُرٌّ مَا وَعَد"

(3)

.

(1)

(ظ ود): "فإنك".

(2)

أخرجه البخاري رقم (365).

(3)

يقال: أول من قالها: الحارثُ بن عَمْرو آكل المرار، ولها قصة.

انظر: "مجمع الأمثال": (3/ 371).

ص: 180

وقولهم: "اتقَى اللهَ أمرؤٌ"

(1)

. وهو كثيرًا، فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقًا لثبوته، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعًا ولابد، فلا يطلب من المخاطب إيجاده، بل يخبر عنه

(2)

لتحقّقه خبرًا صِرْفًا، كالإخبار عن سائر الموجودات.

وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنًى من هذه، وهو: أَنَّ هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة، وكأنهم يريدون بقولهمِ:"أنجزَ حُرٌّ ما وَعَد"، أي: ثبتَ ذلك في المروءة واستقرَّ في الفِطر. وقول عمر رضي الله عنه "صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء

" الحديث

(3)

، أي: هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقَّق من الشريعة، فالإشارة إلى هذه المعاني حَسَّنت صرفَه إلى صورة الخبر، وإن كان أمرًا، وهذا

(4)

لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة، لعمومِ هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها، فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء مُعَرَّفة تمحَّضَ فيها معنى الخير وزال معنى الأمر، فقلت:"اتقى اللهَ زيدٌ" و"أنجزَ عَمْرو ما وعد"، فصار خبرًا لا أمرًا.

وهذا موضع المسألة المشهورة وهي: مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، و {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ونظائره، فمن سلك المسلكَ

(1)

قاله الحارث بن هشام المخزومي. انظر: "الاستيعاب -بهامش الإصابة": (1/ 311).

(2)

(ظ ود): "عنه به".

(3)

تقدم.

(4)

(ظ ود): "زائدًا".

ص: 181

الأول؛ جعلَه خبرًا بمعنى الأمر، ومن سلك المسلك الثاني؛ قال: بل هو خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية، ولكن هو خبر عن حُكْم الله وشرعه ودينه ليس خبرًا عن الواقع، ليلزم ما ذكروه من الإشكال، وهو احتمال عدم وقوع مخبره، فإن هذا إنما (ق/ 40 أ)، يلزم من الخبر عن الواقع، وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حقٌّ (ظ/29 ب)، مطابق لخبره لا يقع خلافه أصلًا.

وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنع مَا شِئْتَ"

(1)

، فإن هذا صورته صورة الأمر، ومعناه معنى الخبر المحض، أي: من كان لا يستحي فإنه يصنع ما يشتهي، ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى: صورة الأمر لفائدة بديعة، وهي: أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحَسَن وزاجر يزجره عن القبيح، ومن لم يكن له

(2)

من نفسه هذا الآمر لم تنفعه الأوامر، وهذا هو واعظ اللهِ في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي

(3)

صلى الله عليه وسلم، ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن، فمن لم يكن له من نفسه

(1)

أخرجه البخاري رقم (3483)، وغيره من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

(2)

من (ق).

(3)

وذلك في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ضرِب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا

" وفيه: "وداعٍ يدعو من جوف الصراط

" وفَسَّر هذا الداعي بأنه: "واعظ اللهِ في قلبِ كلِّ مَسلم".

أخرجه أحمد: (4/ 182 - 183)، والترمذي رقم (2859)، والنسائي في "الكبري":(6/ 361) وغيرهم.

وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم في "المستدرك":(1/ 73)، وابنُ كثير في "التفسير":(1/ 9 - 30). وللحافظ ابن رجب رسالة مطبوعة في شرح هذا الحديث.

ص: 182

واعظ لم تنفعه المواعظ، فإذا فقد هذا الآمر الناهى بفقد الحياء، فهو مطيع لا محالةَ لداعى الغيِّ والشهوة طاعةً لا انفكاك له منها، فنُزِّل منزلة المأمور، وكأنه يقول: إذا لم تأتمر لأمر الحياء؛ فأنت مؤتمر لأمر الغي والسَّفَهِ، وأنت مطيعه لا محالة، وصانع ما شئت لا محالة، فأتى بصيغة الأمر تنبيهًا على هذا المعنى، ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض، فقيل:"إذا لم تَسْتح صنعتَ ما شئتَ"، لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف، فتأمَّله وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع، فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها.

وأما وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر في باب الشرط، نحو "قم أُكرمك"، أي: إن تقم أكرمك، فقيل: حكمته أن صيغة الأمر تدل على الاستقبال، فعَدَلوا إليها إيثارًا للخِفَّة، وليست هذه العلة مطَّرِدة؛ فإن الأفعال المختصة بالمستقبل لا يحسن إقامة لفظ الأمر مقامَ أكثرِها، نحو: "سيقوم، وسوف يقوم، ولن يقوم، ولا تقوم

(1)

، وأريد أن يقوم"، ولكن أحسن مما ذكروه أن يقال في قوله: "قم أكرمك" فائدتان ومطلوبان

(2)

، أحدهما: جعل القيام سببًا للإكرام ومقتضيًا له اقتضاءَ الأسباب لمسبباتها، والثاني: كونه مطلوبًا

(3)

للآمر مرادًا له، وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل، فعدلَ عنه إلى لفظ الأمر تحقيقًا له، وهذا واضح جدًّا.

وأَما وقوع المستقبل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي، مع أنَّ

(1)

من (ق).

(2)

(ظ ود): "ومطلوبًا فى".

(3)

(ظ ود): "مطلق لها".

ص: 183

الموضع للمستقبل؛ فقد عُلِّل بنْحو هذه العلة، وأن الأَداة تدل

(1)

على الاستقبال فعدلوا إلى الماضي؛ لأنه أخفُّ، وهي -أيضًا- غير مُطَّردة ولا مستقلَّة، ولو لم ينقض عليهم إلا بسائر الأدوات التي لا يكون الفعل بعدها إلا مستقبلًا، ومع ذلك لا يقع

(2)

بلفظ الماضي.

وأحسن مما ذكروه أن يقال: عَدَل عن المستقبل هنا إلي صيغة الماضي، إشارة إلى (ق/ 40 ب)، نكتة بديعة، وهي: تنزيل الشرط بالنسبة إلى الجزاء منزلةَ الفعل الماضي، فإن الشرط لا يكون إلَّا

(3)

سابقًا للجزاء متقدِّمًا عليه، فهو ماضٍ بالإضافة إليه.

ألا ترى أنك إذا قلت: "إن اتقيتَ اللهَ أدخلكَ جنته"، فلا تكون إلا سابقة على دخول الجنة، فهو ماض بالإضافة

(4)

إلى الجزاء، فأتوا للفظ الماضي تأكيدًا للجزاء وتحقيقًا؛ لأن الثاني لا يقع إلا بعد تحقق الأول ودخوله في الوجود، وأنه لا يُكتفى فيه بمجرد العزم وتوطين النفس عليه الذي يكون

(5)

في المستقيل، بل لا سبيلَ إلى نيلِ الجزاء إلا بتقدُّم الشوط عليه وسَبْقِه له، فأتى بالماضي لهذه النكتة البديعة مع أَمْنهم اللبسَ بتحصين أداة الشرط لمعنى الاستقبال فيهما.

يبقى أن يُقَال: فهذا تقرير حَسَن في فعل

(6)

الشرط، فما الذي حَسَّن وقوعَ الجزاء المستقبل من كلِّ وجهٍ بلفظ الماضي إذا قلت:

(1)

(ظ ود): "وأن الإرادة

" و (ظ ود): "ولا تدل".

(2)

بعده في (ق): "إلا".

(3)

من (ق).

(4)

(ق): "فهي ماضٍ بالنسبة".

(5)

من (ق).

(6)

(ق): "معنى"!.

ص: 184

"إن قمتَ قمتُ"؟.

قيل: هذا سؤالٌ حسن (ظ/29 ب)، وجوابه: أنهم لما أبرموا

(1)

تلك الفائدة في فعل الشرط؛ قصدوا معها تحسين اللفظ، ومشاكلة أوله لآخره وازدواجِه واعتدال أجزائه، فأتوا بالجزاء ماضيًا لهذه الحكمة، فإن لفظتي الشَّرط والجزاء كالأخوين الشقيقين، وأنت تراهم يغيرون اللفظ عن جهته وما يستحقه لأجل المعادلة والمشاكلة، فيقولون:"أتيته بالغَدَايا والعَشَايا"؛ و"مأزورات غير مأجورات"

(2)

، ونظائره، ألا ترى كيف حَسُن:"إن تَزُرْني أَزُرْك"، و"إن زُرْتني زُرْتُك"، وقَبُحَ:"إن تَزُرْني زُرْتُك"، وتوسط: "إن

(3)

زُرتَني أَزُرْك"، فَحَسُنَ الأوَّلان للمشاكلة، وقَبُح الثالث للمنافرة، حتى منع منه

(4)

أكثرُ النحاة وأجازه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن مالك وغيره، وهو الصواب، لكثرة شواهده وصِحَّة قياسه على الصورة الواقعة، وادَّعى أنه أولى بالجواز منها، قال: لأن المستقبل في هذا الباب هو الأصل والماضي فرع عليه، فإذا أجزتم أن يكون الماضي أولًا والمستقبل بعده فجواز الإتيان بالمستقبل الذي هو الأصل أولى والماضي بعده أَوْلى.

والتقرير الذي قدمناه من كون الشرط سابقًا على الجزاء فهو ماض بالنسبة إليه يدل على ترجيح قولهم: "وإن زرتني أَزُرْك"، أولى

(1)

(ق): "أعربوا".

(2)

جاء في حديث أخرجه ابن ماجه رقم (1578)، والبيهقي في "الكبرى":(4/ 77)، وغيرهم من حديث علي رضي الله عنه في نساء تبعن جنازة، وفي سنده ضعف، وانظر "مصباح الزجاجة":(1/ 180)، و"كشف الخفاء":(1/ 117).

(3)

سقطت من (ظ ود).

(4)

سقطت من (ق).

ص: 185

بالجواز من: "إن تَزُرْني زُرْتُك"، والتقرير الذي قرره من كون

(1)

المستقبل هو الأصل: في هذا الباب والماضي دخيل عليه، فإذا قُدِّم الأصل كان أولى بالجوار يرجّح ما ذكره، فالترجيحان حق، ولا فرق بين الصورتين وكلاهما جائز، هذا هو الإنصاف في المسألة، والله أعلم.

ولكن هنا دقيقة تشير إلى ترجيح قول الجماعة، وهي: أن الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والاعتماد عليه، فيكون هو مطلوب المعلق، وجعل الجزاء باعثًا ووسيلة إلى تحصيله، وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه (ق/ 41 أ) بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه، وظهور القصد المعنوي إليه أوجَبَ تأثير العمل اللفظي فيه، ليطابق المعنى اللفظ، فيجتمع التأثيران

(2)

؛ اللفظي والمعنوي. والذي يدلُّ على هذا: أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى، حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له.

وإذا كان الكلام معتمدًا على الجزاء والقصد إليه، والشرط جُعِل تابعًا ووسيلة إليه؛ كان الإتيان فيه بلفظ الماضي حسًنا أو أحسن من المستقبل، فزِنْ بهده القاعدة ما يَرِدُ عليك من هذا الباب.

فمنه: قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيًا والجزاء مستقبلًا؛ لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام، وعنايتهم كلها مصروفة إليه

(3)

،

(1)

(ظ): "جوّز" و (د): "جواز"!.

(2)

(ق): "التأثيرات فيه".

(3)

(ظ ود): "إليهم" وصوّبت فى هامش (د).

ص: 186

وهممهم معلقة به، دون وقوع الأفعال بمشيئة الله، فإنهم لم يكونوا يشكُّون في ذلك ولا يرتابون.

وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط، وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلًا -كما تقدم تقريره- وإما دال على الجزاء، وهو محذوف مقدَّر تأخيره، وعلى القولين فتقديم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدًا للقصد إليه.

ويدل عليه -أيضًا-: تأكيده باللام المؤدية بالقسم المُضْمَر، كأنه قيل:"والله لتدخلن المسجد الحرام"، فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعني به، ومثل هذا قوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ونحوه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ومثله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وهذا أصل غير مُنْخَرِم، وفيه نكتة حسنة وهي: اعتماد الكلام في هذا النوع على القَسَم كما رأيت، فحَسُنَ الإتيان بلفظ الماضي، إذ القسم أولى به لتحققه، ولا يكون الإلغاء مُسْتشنَعًا فيه؛ لأنه مبني.

ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع

(1)

بلفظ الماضى لِمَا ذكرناه من الفائدة؛ حَسُن وقوع المستقبل المنفي بـ "لم" بعدها نحو: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73] وهما جازمتانِ ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد، ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيًا في المعنى، وكانت متصلةً به حتى كأن صيغتَه صيغةُ الماضي، لقوَّة الدلالة عليه بـ "لم" جار وقوعه بعد "إن" وكان

(1)

العبارة في (ق): "ولما كان الجزاء تبع

".

ص: 187

العمل والجزم بحرف "لم"؛ لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به، وكان المعنى في الاستقبال لحرف "إن"؛ لأنها أولى وأسبق، فكان اعتبارها في المعنى واعتبار "لم" في الجزم، ولا ينكر [إلغاء]

(1)

"إن" هنا؛ لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي، كما لا ينكر إلغاؤها قبله.

وقد أجازوا في "إن" النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في "إن" التي (ق/ 41 ب) للشرط، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] ولو جعلت مكان "إن" هاهنا غيرها من حروف النفي؛ لم يحسن فيه مثل هذا؛ لأن الشرطية أصل للنافية، كأن

(2)

المجتهد في النفي إذا أراد توكيده يقول: "إن كان كذا وكذا فعَلَيَّ كذا، أو: فأنا كذا"، ثم كَثُر هذا في كلامهم حتى حُذِف الجواب وفُهِم المقصد فدخلت "إن" في باب النفي، والأصل ما ذكرناه، والله أعلم.

فائدة بديعة

في ذكر المفرد والجمع، وأسباب اختلاف العلامات الدالة على الجمع، واختصاص كلِّ محل بعلامته، ووقوع المفرد موقع الجمع

(3)

وعكسه، وأين يحسن مراعاة الأصل وأين يحسن العدول عنه؟ وهذا فصلٌ نافعٌ جدًّا يُطلعك على سرِّ هذه اللغة العظيمة القدر، المفضَّلة على سائر لغات الأمم.

(1)

في الأصول: "الإلغاء" والمثبت من "النتائج".

(2)

(ق): "فإن".

(3)

(ظ ود): "الجملة".

ص: 188

اعلم أن الأصل هو المعنى المفرد، وأن يكون اللفظ الدال عليه مفردًا؛ لأَنَّ اللفظ قالب المعنى ولباسه يحتدي حذوه، والمناسبة الحقيقية ثابتة

(1)

بين اللفظ والمعنى طولًا وقصرًا، وخِفَّة وثقلًا، وكثرةً وقِلَّة، وحركة وسكونًا، وشدَّةً ولينًا، فإن كان المعنى مفردًا أفردوا لفظه، وإن كان مركبًا ركبوا اللفظ، وإن كان طويلًا طوَّلوه، كـ "العنطنط" و"العشنَّق" للطويل، فانظر إلى طول هذا اللفظ لطول معناه، وانظر إلى لفظ "بُحْتُر" وما فيه من الضم والاجتماع لما كان مسماه القصير المجتمع الخلق، وكذلك لفظة "الحديد" و"الحجر" و"الشدة" و"القوة" ونحوها تجد في ألفاظها ما يناسب مسمياتها، وكذلك لفظا "الحركة" و"السكون" مناسبتهما لمُسَمَّيَيْهِما معلومة بالحس، وكذلك لفظ "الدوران" و"النزوان" و"الغليان" وبابه في لفظها من تتابع الحركة ما يدل على تتابع حركة مسماها؛ وكذلك "الدجال" و"الجرَّاح" و"الضرَّاب" و"الأفَّاك" في تكرر الحرف المضاعَف منها ما يدل على تكرر المعنى. وكذلك "الغضبان" و"الظمآن" و"الحيران" وبابه، صِيْغ على هذا البناء الذي

(2)

يتسع النطق به ويمتلئ الفم بلفظه لامتلاء حامله من هذه المعاني، فكان الغضبان هو الممتلئ غضبًا، الذي قد أتسع غضبُه حتى ملأ قلبَه وجوارحَه، (ظ/ 30 ب) وكذلك بقيتها.

ولا يتسع المقام لبسط هذا فإنه يطول ويَدِق جدًّا حتى تَكِعّ

(3)

عنه أكثر الأفهام وتنبو عنه للطافته، فإنه ينشأ من جوهر الحرف تارةً،

(1)

في هامش (ظ): "معتبرة".

(2)

سقطت من (ق).

(3)

أي: تضعف وتجبن، وانظر ص / 325 السطر التاسع.

ص: 189

ومن صنفته، ومن اقترانه بما يناسبه، ومن تكرُّره، ومن حركته وسكونه، ومن تقديمه وتأخيره، ومن إثباته وحذفه، ومن قلبه وإعلاله، إلى غير ذلك من الموازنة بين الحركات، وتعديل الحروف، وتوخي المشاكَلَة والمخالفة، والخفة والثقل، والفصل والوصل، وهذا باب يقوم من تتبعه سِفْرٌ ضَخْم، وعسى الله أن يساعد على إبرازه بحوله وقوَّته.

ورأيت لشيخنا أبي العباس ابن تيمية فيه فهمًا عجيبًا، كان إذا انبعث فيه (ق/42 أ) أتى بكلِّ غريبة، ولكن كان

(1)

حاله فيه كما كان كثيرًا يتمثَّل:

تأَلَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فقلتُ لَهُ

يَا أَيُّها البَرْقُ إنِّي عَنْكَ مَشْغُوْلُ

(2)

ولنذكر من هذا الباب مسألة واحدة وهي: حال اللفظ في إفراده وتغييره عند زيادة معناه بالتثنية والجمع دون سائر تغيراته.

فنقول: لما كان المفرد هو الأصل، والتثنية والجمع تابعان له، جعل لهما في الاسم علامة تدل عليهما، وجعلت آخره قضاءً لحق الأصالة فيه والتبعية فيهما والفرعية، فالتزموا هذا في التثنية ولم ينخرم عليهم.

وأما الجمع فإنهم ذهبوا به كلَّ مذهب وصرفوه كل مصرف، فمرة جعلوه على حدِّ التثنية وهو قياس الباب، كالتثنية والنسب والتأنيث وغيرها، وتارة

(3)

اجتلبوا له علامةً في وسطه كالألف في "جَعَافر"، والياء في "عَبِيد"، والواو في "فُلُوس"؛ وتارة جعلوا اختصار بعض حروف وإسقاطها علامة عليه، نحو:"عنكبوت وعَنَاكِب"،

(1)

ليست في (ق).

(2)

لم أعرف قائله، وقد ذكره المؤلف أيضًا في "مدارج السالكين":(2/ 805).

(3)

من (ظ).

ص: 190

فإنه لما ثَقُل عليهم المفرد، وطالت حروفه، وازداد ثقلًا بالجمع خفَّفوه بحذف

(1)

بعض حروفه، لئلا يجمعوا بين ثقلين، ولا يناقض هذا ما أصَّلوه من طول اللفظ لطول المعنى وقصره لقصره، فإن هذا بابٌ آخر من المعادلة والموازنة عارَضَ ذلك الأَصل، ومنع من طَرْدِه.

ومنه

(2)

جمعهم "فعيل وفعول وفَعَال" على "فُعُل" كـ "رَغِيْف وعَمُوْد وقَذَال" على "رُغُف وعُمُد وقُذُل" لثقل المفرد بالمدة؛ فإن كان في واحِدِه تاء التأنيث فإنها تحذف في الجمع، فكرهوا أن يحذفوا المَدَّة فيجمعوا عليه بين نَقْصَين

(3)

فقلبوا المَدَّةَ ولم يحذفوها، كـ "رسالة ورسائل" و"صحيفة وصحائف"، فجبروا النقص بالفرق لا أنهم تناقضوا.

وتارة يقتصرون على تغيير

(4)

بعض حركاته فيجعلونها علامة لجمعه، كـ "فَلَك وفُلْك" و"عَبْد وعُبُد"، وتارة يجتلبون له لفظًا مستقلًّا من غير لفظ واحِدِه، كـ "خيل" و"أنام" و"قوم" و"رهط" ونحوه؛ وتارة يجعلون العلامة في التقدير والنية لا في اللفظ، كـ "فلك" للواحد والجمع، فإن ضمة الواحد في النية كضمة "قفل"

(5)

وضمة الجمع كضمة "رسل"؛ وكذلك: "هِجَان ودِلاصى وأسْمال وأعْشَار" مع أن غالب هذا الباب إنما يأتي في الصفات

(6)

لحصول التمييز والعلامة بموصوفاتها، فلا يقع ليس، ولا يكاد يجيء في غير

(1)

(ق): "فحذفوا".

(2)

(ظ ود): "ومنهم".

(3)

(ظ ود): "نقيضين".

(4)

ليست في (ق).

(5)

(ق ود): "فعل".

(6)

(ظ ود): "في الباب".

ص: 191

الصفات إلا نادرًا جدًّا، ومع هذا فلابد أن يكون لمفرده

(1)

لفظ يُغَاير جمعه، ويكون فيه لغتان؛ لأنهم علموا أنه يثقل عليهم، أما في الجر والنصب؛ فلتوالي الكَسَرات، وأما في الرفع؛ فَلِثِقَل

(2)

الخروج من الكسرة إلى الضمَّة، فعدلوا إلى جمع تكسيره، ولا يرد هذا عليهم في "راحمين وراحمون" لفصل الألف الساكنة ومنعها من توالي الحركات، فهو كـ "مسلمين وقائمين"، وكذلك عَدَلوا عن جمع فعل المضاعف (ق/ 42 ب) من صفات العقلاء كـ "فظّ" و"برّ"، فلم يجمعوه جمع سلامة، ويقولوا:"برون" و"فظون"؛ لئلا يشتبه بـ "كلُّوب" و"سفُود"؛ لأنه بزِنَتهْ فكسروه وقالوا: "أبرار"، فلما جاؤوا إلى غير المضاعف كـ "صَعْب" جمعوه جمع تصحيح ولم يخافوا (ظ/ 31 أ) التباسًا؛ إذ ليس في الكلام "فَعْلول"، و"صعْفوق" نادِر. فتأمل هذا التفريق وهذا التصور الدال على أن أذهانهم قد فاقت أذهانَ الأمم، كما فاقت لغتهم لغاتِهِم.

وتأمل كيف لم يجمعوا "شاعرًا" جَمْع سلامة مع استيفائه شروطه بل كسروه، فقالوا:"شعراء" إيذانًا منهم بأن واحِدَه على زِنَةِ "فَعِيل"، فجمعوه جَمْعَه كـ "رحيم ورُحَماء" لما كان مقصودهم المبالغة في وصفهم بالشعور

(3)

.

ثم انظر كيف لم ينطقوا بهذا الوجه

(4)

المقدَّر كراهية منهم لمجيئه بلفظ "شعير" وهو الحبُّ المعروف، فأتوا "بفاعل"

(5)

، ولما لم يكن

(1)

(ق): "لمفرده جمع".

(2)

(ظ ود): "فينتقل"!

(3)

(ق): "بالشعر".

(4)

(ق): "الواحد".

(5)

(ق): "بلفظ فاعل".

ص: 192

هذا المانع في الجمع قالوا: "شعراء".

فأما التثنية

(1)

فإنهم ألزموها حالًا واحدًا، فالتزموا فيها لفظ المفرد، ثم زادوا عليه علامة التثنية، وقد قدَّمنا أن ألف التثنية في الأسماء أصلها ألف الاثنين في "فعلا"، وذكرنا الدليل على ذلك، فجاءت الألف في التثنية في الأسماء كما كانت في "فعلا" علامة الاثنين، وكذلك الواو في جمع المذكر السالم علامة الجمع نظير "واو" فعلوا، وتقدم أنك لا تجد "الواو" علامةً للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال، أو ما هو في حكمها. ولما كانت الألف علامة الاثنين في ضمير مَنْ يعقل وغيره كانت علامة التثنية في العاقل وغيره، وكانت الألف أولى بضمير الاثنين لقرب التثنية من الواحد، وأرادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الاثنين، كما كان ذلك في الواحد؛ للقرب المذكور.

ولما كانت "الواو" ضمير العاقلين خاصة في "فعلوا" خصوها بجمع العقلاء في نحو: "هم مسلمون" و"قائمون"

(2)

، ولما كان في الواو من الضم والجمع ما ليس في غيرها؛ خصُّوها بالدَّلالة على الجمع دون الألف.

وسرُّ المسألة؛ أَنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد المجموع، وأنت معتمد الإخبار عن كل واحد منهم، سلم لفظ باء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه، فقلت:"فعلوا" و"هم فاعلون"، وأكثر ما يكون هذا فيمن يعقل؛ لأن جميع ما لا

(1)

انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 152 - فما بعدها) بتصرف، وما تقدم (ص/ 145).

(2)

(ق)"ونائمون".

ص: 193

يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة، كالثُّلَّة والأُمَّة و [الجُمَّة]

(1)

، فلذلك تقول:"الثياب بيعت"، ولا تقول:"بيعوا". و"الجمال ذهبت"، ولا تقول:"ذهبوا"

(2)

؛ لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين آحادها. هذا هو الغالب فيما لا يعقل إلا ما أُجْري منه

(3)

مجرى العاقل.

وجاءت جموع التكسير مُغيَّرًا

(4)

فيها بناء الواحد، جارية (ق/ 43 أ) في الإعراب مجراه حيث ضعفَ الاعتماد على كل واحد بعينه، وصار الخبر كأنه عن الجنس الكثير الجاري في لفظه مَجْرى الواحد؛ ولذلك جمعوا ما قلَّ عدده من المؤنَّث جمع السلامة، وإن كان مما لا

(5)

يعقل نحو: "الثمرات والسمرات"؛ إلا أنهم لم يجمعوا المذكر منه -وإن قل عدده- إلا جمع تكسير؛ لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير "ألف" فرقًا بينه وبين الواحد، وأما "التاء" فقد كانت موجودة

(6)

في الواحدة وفي وصفها، وإن كثر جَمَعُوه جمع تكسير كالمذكر فإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل الاعتماد في إسناد الخبر على أفراده، فما ظنك به في الاثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي هو علي حدها، لقربه منها، فلهذا لا تجد التثنية في

(1)

في الأصول: "الجملة" والتصويب من "النتائج"، وقد تقدم نحو هذا التحريف وتصويبه (ص/ 144). والجمة: الجماعة.

(2)

العبارة في (ظ ود): "الثياب بيعت وذهبت" ولا تقول: "بيعوا وذهبوا" ".

(3)

من (ق).

(4)

(ظ ود): "معتبرًا".

(5)

(ظ ود): "مالا".

(6)

ليست فى (ق).

ص: 194

العاقل وغيره إلا على حدٍّ واحد، وكذلك ضمير الاثنين في الفعل.

وإذا عُلِم هذا؛ فحق العلامة في تثنية الأسماء أن تكون على حدها في علامة الإضمار، وأن تكون ألفًا في كلِّ الأحوال.

وكذلك فعلت طوائفُ من العرب، وهم: خَثْعم وطي وبنو الحارث بن كعب، وعليه جاء في قول مُحَققي النحاة:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وأما أكثر العرب فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني والمقصور من حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد، والتثنية طارئة على الإفراد، وكرهوا زوال الألف؛ لاستحقاق التثنية لها، فتمسَّكوا بالأمرين، فجعلوا "الياء" علامة الجر وشركوا النصب معه لما علمت من تعليل النحاة، فكان الرفع أجدر بالألف، لا سيما وهي في (ظ/ 31 ب) الأصل علامة إضمار الفاعل، وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارعه وقام مقامه.

وأما "الواو" فقد فهمت اختصاصها بالجمع واستحقاق الرفع لها مما

(1)

قررناه في "الألف"؛ ولكنهم حولوها إلى "الياء" في الجر؛ لما ذكرنا في ألف التثنية. ومتى انقلبت الواو ياء، أو [الياء واوًا]، فكأنها هي

(2)

؛ إذ لم يفارقها المد واللين، فكأنهما حرف واحد، والانقلاب فيهما تغير

(3)

حال لا تبديل، ولهذا تجدهم يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال، ويقولون في "تاء" تُراث وتُخمة وتُجاه: إنها بدل من "الواو".

(1)

(ظ ود): "ما".

(2)

العبارة في (ظ ود): "ومتى انقلبت الواو ياء فكأنها إذ

"، وتكررت في (ق): "أو الواو ياء" والصواب ما أثبت.

(3)

(ظ): "تعتبر"، و "النتائج":"تغيير".

ص: 195

فإن قيل: فإذا كان بعض العرب قد جعل التثنية بالألف في كل حال، فهلَّا جعلوا الجمع بالواو فى جميع أحواله؟.

قِل: إِن الألف منفردة فى كثير من أحكامها عن الواو والياء، والياءُ

(1)

والواو أختان، فكأنهم لما قلبوها ياءً في النصب لم يبعدوا عن الواو، بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياءً بَعُدوا عنها.

فإن قيل: فما بال "سنين" و"مئين" وبابها جُمع على حدِّ التثنية، وليس من صفات العاقلين ولا أسمائهم؟.

قيل: إِن هذا (ق/: 43 ب) الجمع لا يوجد إلا فيما كَمُلتْ فيه أربعة شروط.

أحدها: أن يكون: معتل اللام.

الثاني: أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين.

الثالث: أن يكون مؤنثًا.

الرابع: أن لا يكون له مذكر.

فخرج من هذا الضابط: "شَفَة" لأن محذوفها "هاء"، وكذا "شاة وعضة"، وخرج منه:"أَمة"؛ لأن لها مذكرًا

(2)

-وإن لم يكن على لفظها- فقالوا: في جمعها: "إِمْوَان" ولم يجمعوه جمع سِنِين؛ كيلا يظن أنه جمع المذكر إذ كان له مذكر، فجمعوا هذا الباب جمع سلامة من أجل أنه مؤنث، والمؤنث يجمع جمع سلامة وإن لم يكن على هذا اللفظ، فلما حصل فيه جمع السلامة بالقياس الصحيح

(1)

ليست في (ق).

(2)

في جميع الأصول: "مذكر".

ص: 196

-وكانت عادَتُهم ردَّ اللام المحذوفة في

(1)

الجموع، وكانت اللام المحذوفة واوًا أو ياءً- أُظْهِرَ في الجمع السالم لها ياء أو واو لم يكن

(2)

في الواحد، وساق القياس إليها سَوْقًا لطيفًا حتى حَصَلت له بعد أخذها منه، فما أشبه حال هذا الاسم بحال من أخذ اللهُ منه شيئًا وعوَّضه خيرًا منه، وأين الواو والياء الدالة على جمع أُولي العلم من ياءٍ أو واوٍ لا تدل على معنًى ألبتةَ؟!.

فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في الكتب والألسنة!!.

ثم انظر كيف كسروا السين من "سِنين"؛ لئلا يلتبس بما هو على وزن "فعول" من أوزان المبالغة، فلو قالوا:"سَنون" -بفتح السين- لالتبس بفعول من سَنَّ يسنُّ، فكان كسر السين تحقيقًا للجمع؛ إذ ليس في الكلام اسم مفرد على وزن "فِعِيْل" و"فِعُول"

(3)

-بكسر الفاء-.

فإن قيل: فما أنت صانع في الأرَضين؟.

قيل: ليست الأرض في الأصل كأسماء الأجناس، مثل:"ماء" و"حجر" و"تمر"، ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر، فهي بمنزلة السُّفل والتَّحت، وبمنزلة ما يقابلها كالفوق والعُلو، ولكنها وُصِفَ بها هذا المكان المحسوس فجرت مجري

(4)

: "امرأة زَوْر وضيف". ويدل على هذا قول الراجز:

(1)

(ق): "على".

(2)

العبارة في (ق): "أو واوًا أو لم يكن"، وفي (د): "

ولم

".

(3)

(ق): "فعيل".

(4)

من قوله: "مجري" إلى هنا مكرر في (ظ).

ص: 197

* ولم يُقَلِّب أَرْضَهَا البَيْطَارُ

(1)

*

يصف قوائم الفرس، فأفرد اللفظ وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى.

فإذا كانت بهذه

(2)

المنزلة؛ فلا معنى لجمعها، كما لا يجمع "الفوق والتحت والعُلو والسُّفل"، فإن قَصَد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعَيَّن قطعة محدودة منها، خرجت عن معنى "السُّفل" الذي هو في مقابلة "العُلو" حيث عين جزءًا محسوسًا منها، فجاز على هذا أن يُثَنى إذا ضممت إليه جزءًا آخر، فتقول:"رأيت أَرَضين"، ولا تقول للواحدة:"أَرْضَة"، كما تقول في واحد التَّمْر:"تَمْرة"؛ لأن الأرض ليسَ باسم جنسٍ كما تقدم.

ولا يقال أيضًا: (ق/ 44 أ) أرضة من حيث قلت: ضَرْبة وخَرْجة، لأنها في

(3)

الأصل تجري مجرى السُّفل والتحت، ولا يتصور في العقول أن يقال: سفلة وتحتة، كما يتصور ذلك في بعض المصادر، فلما لم يمكنهم أن يجمعوا: أرضًا على أرضات، من حيث رفضوا: أَرْضَة، ولا أمكنهم أن يقولوا: آرُض، ولا: آراض من حيث لم يكن مثل أسماء الأجناس، كـ "صخر وكلب"، وكانوا قد عينوا جزءًا

(4)

محدودًا، فقالوا فيه: أرض، وفي تثنيته: أرضان، لم يُنكروا إذا أضافوا

(1)

ذكره ابن السكيت في "إصلاح المنطق": (ص / 73) لحُمَيد الأرقط، وابن قتيبة في "أدب الكاتب":(ص/ 51) بلا نسبة وانظر حاشية المحقق. وتمامه: * ولا لِحَبْلَيْه بِها حَبَارُ *.

(2)

(ق): "عنده".

(3)

(ق): "هي".

(4)

(ظ ود): "مجزوءًا".

ص: 198

إلى الجزءين ثالثًا

(1)

(ظ/32 أ) ورابعًا أن يجمعوه على حدِّ التثنية، فقد تقدم السر في الجمع الذي على حدِّ التثنية، وأنه مقصود إلى آحاده على التعيين، فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده؛ كأسماء الأجناس لم يحتاجوا إلى الجمع، فإن لفظ:"أرض" يأتي على ذلك كلِّه؛ لأنها كلها بالإضافة إلى "السماء" تحت وسفل، فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى المصدر لفظًا ومعنى، وكأنه وصف لذاتها، لا عبارة عن عينها وحقيقتها؛ إذ يصلح أن يُعَبر به عن كلِّ ماله فوق، وهو بالإضافة إلى ما يقابله سُفل كما تقدم، فسماءُ كلِّ شيءٍ أعلاه، وأرضه أسفله، وتأمل كيف جاءت مجموعةً في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"طُوِّقَهُ مِنْ سَبعْ أَرَضِيْن"

(2)

لما اعتمد الكلام على ذات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها، دون الوصف لها بتحت أو سُفل في مقابلة:"فوق وعُلوّ" فتأمله.

فإن قلت: فلمَ جمعوا السماء فقالوا: سموات، وهلَّا راعَوا فيها ما راعَوا في الأرض فإنها مقابلتها

(3)

؟ فما الفرق بينهما؟.

قيل: بينهما فرقان؛ فرقٌ لفظي وفرقٌ معنوي.

أما اللفظي: فإن "الأرض" على وزن ألفاظ المصادر الثلاثية

(4)

، وهو فَعْل كضَرْب، وأما "السماء" وإن كان نظيرُها في المصادر العلاء والجلاء فهي بأبنية الأسماء أَشْبه، وإنما الذي يماثل "الأرضَ" في

(1)

(ظ): "بالياء"!.

(2)

أخرجه البخاري رقم (2452)، ومسلم رقم (1610) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.

(3)

(ظ): "مقابلة".

(4)

(ظ ود): "الثلاثة".

ص: 199

معناها ووزنها السُّفل والتَّحْت، وهما لا يثنَّيان ولا يُجْمَعان، وفي مقابلتهما: الفَوْق والعلُو، وهما كذلك لا يجمعان، على أنه قد قيل: إن السموات ليس جمع سماء، وإنما هي جمع سماوة، وسماوةُ كلِّ شيء أعلاه، وأما جمع سماء فقياسُه: أَسْمِيَة، كأكْسِيَة وأَغْطِيَة، أو [سَماءَات في المسلَّم]

(1)

.

وليس هذا بشيء، فإن السماوة

(2)

هي: أعلى الشيء خاصة، ليست باسمٍ لشيءٍ عالٍ، وإنما هي اسم لجزئه العالي، وأما السماء: فاسم لهذا الشقف الرفيع بجملته، فالسموات جمعه لا جمع أجزاءٍ عالية منه، على أنه كله

(3)

عال.

وأحسن من هذا الفرق أن يُقال: لو جمعوا أرضًا على قياس جموع التكسير، لقالوا:"آرُض" كـ "أَفْلُس"، أو آرَاصْ كأجْمال، أو أُرُوْض كفُلُوس، فاستثقلوا (ق /44 ب) هذا اللفظ؛ إذ ليس فيه من الفصاحة

(4)

والحُسْن والعذوبة ما في لفظ السماوات، وأنت تجد السمع يَنْبو عنه بقدر ما يستحسن لفظ السموات، ولفظ السموات يَلِج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته. ولفظ الأراضي لا يأذن له السمع إلا على كره، ولهدا تفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثةِ ألفاظ تدلُّ على التعدد كما قال تعالى:{خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] كلُّ هذا تفاديًا من أن يُقَال: أَرَاضٍ وآرُض.

وأما الفرق المعنوي: فإن الكلام متى اعتمد به على السماء

(1)

(ظ ود): "سماوات" والمثبتَ من "النتائج".

(2)

(ق): "السماء".

(3)

(ظ ود): "كل".

(4)

(ق): "الصناعة".

ص: 200

المحسوسة إلى هي السقف، وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف، صحَّ جمعُها جمع السلامة؛ لأنَّ العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى؛ لما تقدَّم من قربه من التثنية القريبة من الواحد، ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلاء والرفعة، جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: "قوم عَدْل

(1)

وزَوْر".

وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل، دون أن يقصد ذواتها وأعدادها، وحيث جاءت مقصودًا بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على التعدد

(2)

، كقوله تعالى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].

وفرق ثانٍ: وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها، بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء، فهي وإن تعددت وتكررت

(3)

فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل، فاختير لها اسم الجنس.

وفرق ثالث: أن الأرض هي دار الدنيا إلى التي بالإضافة إلى الآخرة، كما يُدخِل الإنسان إصبعه في اليمِّ، فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة، والله -سبحانه- لم يذكر الدنيا إلا مقللًا لها محقِّرًا لشأنها.

وأما السماوات فليست من الدنيا، هذا على أحد القولين في الدنيا فإنها اسم للمكان، فإن السموات مقر ملائكة الرب تعالى، ومحل دار جزائه، ومهبط ملائكته ووحيه، فإذا اعتمد التعبير عنها، عبر عنها بلفظ الجمع؛ إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق،

(1)

(ظ ود): "عدول".

(2)

(ظ ود): "البعد"!.

(3)

(ظ ود): "وتكبرت".

ص: 201

وأما إذا أُريد الوصف الشامل للسموات (ظ/32 ب)، وهو معنى العلو والفوق أُفْرِد ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق، فتأَمل قولَه تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] كيف أُفْرِدت هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق، ولم يُرِد سماءً معينةً مخصوصة، ولما لم تفهم الجهميةُ هذا المعنى أخذوا في تحريف الآية عن مواضعنا.

وكذا قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] بخلاف قوله في سبأ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه وأن له ما في السموات وما في الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر معه علمه وتعلّقه بمعلومات مُلكه

(1)

ومحله، وهو السموات كلها والأرض

(2)

، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إِرادةً للجنس.

وتأمل كيف أتت مجموعةً في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] فإنها أتت مجموعةً هنا لحكمةٍ ظاهرة، وهي: تعلُّق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى إلاهيته، فالمعنى: وهو: الإله وهو المعبود في كل واحدةٍ واحدةٍ من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فَذِكْر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد.

ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسنِّنَة فسَّر الآيةَ بما

(1)

من قوله: "وأن له

"، إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

ليست في (ق).

ص: 202

لا يليق بها

(1)

، فقال: الوَقْف التام على {السَّمَاوَتِ} ، ثم يبتدئ بقوله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ} ، وغلِطَ في فَهْم الآية، وإنما معناها ما أخبرتُكَ به، وهو قول محقِّقي أهل التفسير

(2)

.

وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] إرادة لهذين الجنسين، أي: رب كل ما علا وكل ما سَفل، فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم العام

(3)

الشامل لكلِّ ما يسمى سماءً، وكل ما يسمى أرضًا، وهو أمر حقيقيٌّ لا يتبدَّل ولا يتغير، وإن تبدلت عين

(4)

السماء والأرض، فانظر كيف جاءت مجموعةً في قوله تعالى:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] في جميع السور، لمَّا كان المراد الإخبار عن تسبيح سُكَّانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم

(5)

يكن بُدٌّ من جمع محلهم.

ونظير هذا جمعها في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} [الأنبياء: 19] وكذلك جاءت في قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} [الإسراء: 44]، مجموعةً إخبارًا بأنها تسبِّح له بذواتها وأنفُسِها على اختلاف عددها، وأكَّد هذا المعنى بوصفها بالعدد، ولم يقتصر على السماوات فقط، بل قال: السبع.

(1)

هذا اختيار ابن جرير في تفسيره (5/ 148)، وانظر ابن كثير (3/ 1284).

(2)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن": (6/ 251)، و"مجموع الفتاوى":(2/ 404)، و"أضواء البيان":(2/ 162 - 163).

(3)

ليست في (ظ ود).

(4)

(ق): "بين".

(5)

(ق): "إن لم".

ص: 203

وانظر كيف جاءت مفردة في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فالرزق: المطر، وما وعدنا به: الجنة، وكلاهما في هذه الجهة، لا أنهما في كل واحدة واحدة من السموات، فكان لفظ الإفراد أَلْيَق بها.

ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] لمَّا كان المكان المراد نفي علم الغيب عن كلِّ من (1) هو في واحدة واحدة من السموات، أتى بها مجموعة.

وتأمل كيف لم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها (ق/ 45 ب) إلا مفردة حيث وقعت، لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف.

وهذا باب قد فتحه اللهُ لي ولك؛ فَلِجْهُ، وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه: جمعًا وإفرادا، وتقديمًا وتأخيرًا، إلى غير ذلك من أسراره، فلله الحمد والمنة لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه.

فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] وبين قوله في سورة (2) سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24].

قيل: هذا من أدق هذه المواضع، وأغمضها (3)، وألطفها فرقًا،

(1)(ق): "شيء".

(2)

من قوله: سورة يونس

" إلى هنا ساقط من (د).

(3)

(ق): "وأغمضها سورة".

ص: 204

فتدبر السياق تجده مقتضيًا

(1)

لما وقع، فإن الآيات التي في سورة يونس سيقت مساقَ الاحتجاج عليهم بما أقرُّوا به (ظ/133 أ) ولم يمكنهم إنكار

(2)

؛ من كون الرَّب -تعالى- هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبِّر أُمورهم وغيرها، ومخرج الحيِّ من الميت ومخرج الميتِ من الحي، فلما كانوا مقرين بهذا كلِّه حَسُن الاحتجاج به عليهم: إِنَّ فاعل هذا

(3)

هو الله الذي لا إله غيره، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له

(4)

شركاء لا يملكون شيئًا من هذا، ولا يستطيعون فِعْلَ شيءٍ منه؟! ولهذا قال -بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى-:{فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ، أي: لابدَّ أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه، فلابدَّ أن يكون المذكور مما يقرون به.

والمخاطَبُون المحتجُّ عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قِبَل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من

(5)

سماءٍ إلى سماءٍ حتى تنتهي إليهم، ولم يَصِل علمهم إلى هذا؛ فأُفْرِدَت لفظ السماء هنا، فإنهم لا يمكنهم إنكار مجيء الرزقِ منها، لا سيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر؛ فمجيئه من السماء الحي هي السحاب، فإنه يُسَمَّى سماءً لعلوِّه.

وقد أخبر سبحانه أنه يبسط السحابَ في السحاءِ بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]، والسحاب

(1)

(ظ ود): "نقيضًا".

(2)

سقطت من (ق).

(3)

(د): "ذلك".

(4)

سقطت من (ظ ود).

(5)

من قوله: "قبل هذه

" إلى هنا ساقط من (د).

ص: 205

إنما هو مبسوط في جهة العلوِّ لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس فلا يُلتفت إلى غيره، فلما انتظم هذا السياق

(1)

بذكر الاحتجاج عليهم؛ لم يصلح فيه إلا إفراد السماء؛ لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح والأبدان

(2)

، من الوحي الذي به

(3)

الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية، فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف (ق/146) والموارد الزبانية والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرِّزق، ولكن القوم لم يكونوا مقرِّين به، فخُوطِبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث يمكنهم إنكاره.

وأما الآية التي في سبأ؛ فإنه لم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما يذكر من السموات؛ ولهذا أمرَ رسولَه بأن يتولَّى الجوابَ فيها، ولم يذكر عنهم أنهم هم المجيبون المقرون، فقال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24] ولم يقل سيقولون الله، فأمر تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب: بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه، على اختلاف أنواعِه ومنافعه من السموات السبع، وأما الأرض؛ فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الآيتين، إذ يقر به كلُّ أحدِ؛ مؤمن وكافر، وبر وفاجر.

ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعًا ومفردة؛ فحيث كانت في سياق الرحمة أتت

(4)

مجموعةً، وحيث وقعت في سياق

(1)

ليست فى (ظ ود).

(2)

(ظ ود): "ولابُدّ"!.

(3)

(ق): "فيه".

(4)

(ق): "جاءت".

ص: 206

العذاب أتت مفردةً، سرُّ ذلك: أنَّ رياح الرحمة

(1)

مختلفة الصِّفات والمهابِّ والمنافع، وإذا هاجت منها ريحٌ أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سَوْرتها ويصدم حِدَّتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفع الحيوان والنبات، فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويردّ سَوْرتها، فكانت في الرحمة رياحًا

(2)

. وأما في العذاب: فإنها تأتى من وجهٍ واحد وصِمام

(3)

واحد، لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرُها، حتى تنتهي إلى حيث أُمِرَت (ظ/33 ب)، لا يرد سَوْرتها ولا يكسر سرَّتها، فتمتثل ما أُمِرَت به وتصيب ما أُرسلت إليه. ولهذا وصف -سبحانه- الريحَ التي أرسلها على عادٍ بأنها عقيم، فقال تعالى:{إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، وهي التي

(4)

لا تُلْقح ولا خير فيها، والتي تُعْقِم ما مَرَّت عليه.

ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا قي قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد؛ لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا يريحٍ واحدة من وجه واحد تسيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت؛ فهو سبب الهلاك، فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح، وأكَّدَ هذا المعنى بوصفها بالطِّيْب دفعًا لتوهُّمِ أن تكون ريحًا عاصفة، بل هي مما يُفرح بها لِطِيْبها، فلَينزِّه الفَطنُ بصيرَتَه في هذه الرياض المونقة المعجبة

(1)

سقطت من (ق)، ومن قوله: "أتت مجموعة

" إلى هنا ساقط من (د).

(2)

(ظ): "ريحًا".

(3)

(ظ ود): "حمام"!.

(4)

ليست في (ق).

ص: 207

التي ترقص القلوب (ق/46 ب) لها فرحًا، ويغتِذي بها عن الطعام والشراب، فالحمد لله الفتَّاح العليم. فمثل هذا الفصل يُعَض عليه بالنواجذ. وتُثْنى عليه الخناصر، فإنه يشرف بك على أسرار -وعجائب تجتنيها من كلام الله، في الله الموفق للصواب.

ومما يدخل في هذا الباب: جمع الظلمات وإفراد النور، وجمع سُبُل الباطل وإفراد سبيل الحقّ، وجمع الشمائل وإفراد اليمين.

أما الأول: فكقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1].

وأما الثاني: فكقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وأما الثالث: فكقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48].

والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة، وسرُّ ذلك -والله أعلم-: أن طريق الحق واحد، وهو على الواحد الأحد كما قال تعالى:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر: 41]، قال مجاهد: الحق طريقه على الله ويرجع إليه

(1)

، كما يقال: طريقك عليَّ، ونظيره قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] القصد

(2)

في أصح القولين، أي: السبيلُ القَصْدُ الذي

(3)

يوصل إلى الله، وهي طريقٌ عليه، قال الشاعر:

(1)

أخرجه ابن جرير: (7/ 517)، وابن أبي حاتم:(7/ 2264)، وابن المنذر: -كما فى "الدر المنثور": (4/ 184) -.

(2)

سقطت من (ظ ود).

(3)

سقطت من (ق).

ص: 208

فهنَّ المنَايَا أيُّ وادٍ سَلَكنَهُ

عَلَيْها طَرِيْقي أو عَلَيَّ طَرِيْقُهَا

(1)

وقد قررتُ هذا المعنى وبينتُ شواهدَه من القرآن، وسرَّ كون الصراط المستقيم

(2)

على الله، وكونه تعالى على الصراط المستقيم كما في قول هود:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56] في كتاب: "التحفة المكية"

(3)

.

والمقصود أن طريقَ الحق واحد إذ مرَدُّه إلى الله الملك الحق، وطرق الباطل متشعِّبة متعددة

(4)

، فإنها لا ترجع إلى شيءٍ موجود ولا غايةَ لها توصل إليها، بل هي بمنزلة بُنَيَّات الطريق، وطريق الحق بمنزلة الطريق الموْصِل إلى المقصود، فهي وإن تنوَّعت؛ فأصلها طريق واحد.

ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق

(5)

الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما؛ أُفرد النورُ وجُمعت الظلماتُ، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257](ظ/134) فوحَّد وليَّ الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد، وجَمع أولياء

(6)

الذين كفروا

(1)

لم أعرف قائله.

(2)

ليست في (ق).

(3)

أشار المؤلف إلى كتابه هذا في عدة مواضع من هذا الكتاب، وفي كتاب "طريق الهجرتين":(ص/ 378)، وانظر:"ابن القيم حياته وآثاره": (ص/ 228)، ولا يُعلم من خبره شيء، لكن يبدو من إحالات المؤلف عليه أنه كتاب كبير كثير الفوائد.

(4)

(ق): "متعددة متسعة".

(5)

(ق): "الطريق".

(6)

سقطت من (ظ ود).

ص: 209

لتعددهم وكثرتهم. وجمع الظلمات وهي طوق الضلال والغي لكثرتها واختلافها، ووحَّد النورَ وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه.

ولما كانت اليمين جهة الخير والفلاح وأهلها هم الناجون؛ أُفردت، ولما كانت الشمال (ق/ 47 أ) جهة أهل الباطل -وهم أصحاب الشمال- جمعت في قوله تعالى:{الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48].

فإن قيل: فهلَّا جاءت

(1)

كذلك في قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 41]، وما بالها جاءت مفردة

(2)

؟.

قيل: جاءت مفردة؛ لأن المراد أهل هذه الجهة، ومصيرهم ومآلهم إلى جهة واحدة وهي: جهَة الشِّمال مستقرُّ أهل النار، والنار من

(3)

جهة الشِّمال، فلا يحسن مَجيئها مجموعةً؛ لأن الطرق الباطلة -وإن تعددت- فغايتها المردُّ إلى طريق الجحيم وهي جهة الشمال، وكذلك مجيئها مفردة في قوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} ، لما كان المراد: أن لكلِّ عبد قعيدين، قعيدًا عن يمينه وقعيدًا عن شماله، يحصيان عليه الخيرَ والشرَّ، فلكل عد من يختص بيمينه وشماله من الحَفَظَة، فلا معنى للجمع هاهنا، وهذا بخلاف قوله تعالى حكاية عن إبليس:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فإن الجمعَ هنا في مقابلة كثرة من يريد إعْواءَهم، فكأنه أقسم أن يأتي كلَّ واحد واحد من بين يديه ومن

(1)

سقطت من (ظ ود).

(2)

سقطت من (ق).

(3)

(ق): "هي".

ص: 210

خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يحسُنُ هنا:"وعن يمينهم وعن شمالهم" بل الجمع هاهنا من

(1)

مقابلة الجملة بالجملة المقتضي توزيع الأفراد على الأفراد

(2)

، ونظيره:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].

وقد قال بعض الناس: إن الشمائل إنما جُمعت في الظِّلال، وأُفرد اليمين؛ لأن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول، ثم يبدو كذلك ظِلاًّ واحدًا من جهة اليمين، ثم يأخذ في النقصان، وأما إذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئًا فشيئًا، والثاني منه غير الأول، فكلما

(3)

زاد منه شيءٌ فهو غير ما كان قبله، فصار كلُّ جزءٍ مه كأنه ظلٌّ، فحَسُن جمع الشمائل في مقابلة تعدُّد الظلال، وهذا معنًى حسن.

ومن هذا المعنى

(4)

مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارةً مجموعَيْن، وتارة منثنَّيين، وتارة مفردين؛ لاختصاصِ كلِّ محلٍّ بما يقتضيه من ذلك، فالأول: كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] والثاني: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} [الرحمن: 17 - 18] والثالث: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 9]، فتأمّلُ هده الحكمةِ البالغة في تغاير هده المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب مواردها يُطْلِعُك على عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيلٌ من حكيم حميد.

(1)

(ق): "في الجمع هاهنا في

"، وفي (د): "في".

(2)

"على الإفراد" سقطت من (ظ ود).

(3)

(ظ ود): "فلما زاد منه شيئًا".

(4)

(ق): "الباب".

ص: 211

فحيث جُمِعَت؛ كان المراد بها مشارق الشمس ومغاربها (ق/47 ب) في أيَّام السنة، وهي متعددة، وحيث أُفْرِدا؛ كان المراد أفقي المشرق والمغرب، وحيث ثُنيا؛ كان المراد مشرقَي صعودها وهبوطها ومغربَيْهما

(1)

، فإنها تبتدئ صاعدةً حتى تنتهي إلى غايةِ أَوْجها وارتفاعها، فهذا مشرق صعودها وارتفاعها

(2)

، وينشأ منه فصلا الربيع والصيف، ثم: ترجع هابطة حتى ترجع إلى غاية خضيضها وانخفاضها، وهذا غاية هبوطها، وينشأ منه فصلا

(3)

الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقًا واحدًا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقًا (ظ/ 34 ب) واحدًا، ويقابلها مغرباها. فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ

(4)

في الإفراد والتثنية والجمع.

وأما وَجْه اختصاص كلِّ موضع بما وقع فيه؛ فلم أرَ أحدًا تعرض له ولا فتح بابه، وهو بحمد الله بَيِّن من السياق، فتأمل وروده مثنًّى في سورة الرحمن، لما كان مَسَاق السورة مَسَاق المثاني المزدوجات، فذكر أولاً نوعَى الإيجاد وهما: الخلق والتعليم

(5)

، ثم ذكر سِرَاجَي العالم ومظهر نوره، وهما: الشمس والقمر، ثم ذكر نوعَي النبات؛ ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض، وهما: النجم والشجر، ثم ذكر نوعَي السماء المرفوعة والأرض [الموضوعة]

(6)

،

(1)

(د): "ومغربها".

(2)

من (ق).

(3)

من قوله: "الربيع والصيف

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(4)

من (ق).

(5)

(ظ ود): "التعظيم"!.

(6)

(ق): "نوعَي السماء: والأرض"، و"الموضوعة" ليست في (ظ ود) واستدركناها من "المنيرية".

ص: 212

وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه، ووسَّط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدلَ والظلمَ في الميزان، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما: الحبوب والثمار، ثم ذكر خلق نوعَي المكلفين وهما: نوع الإنسان ونوع الجانّ، ثم ذكر نوعَي المشرقَيْن ونوعَي المغربَيْن، ثم ذكر بعد ذلك البحرين الملح والعذب.

فتأمل حُسْن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة وروده كذلك، وقدِّر موضعهما اللفظَ مفردًا ومجموعًا تجدِ السمعَ ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم.

ثم تأمل ورودهما مفردين في سورة المزمن لما تقدمهما ذكر الليل والنهار، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سَبْحًا طويلاً، فلما تقدم ذِكْر الليل وما أمِرَ به فيه، وذِكْر النهار وما يكون منه فيه، عَقَّب ذلك بذكر المشرق والمغرب اللَّذَين هما مظهر الليل والنهار، فكان ورودهما مفرَدَيْن في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع؛ لأن ظهور الليل والنهار بهما واحد، فالنهار أبدًا يظهر من المشرق، والليل أبدًا يظهر من المغرب، ثم تأمل مجيئهما مجموعَيْن في سورة المعارج في قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40 - 41]، لما كان هذا القَسَم في سياق سَعَة ربوبيته وإحاطة قدرته، والقسم (ق/148) عليه هو: إذهاب

(1)

هؤلاء والإتيان بخير منهم: ذَكَر المشارقَ والمغاربَ لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة، ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب، فمن فعل هذا كيف

(1)

(ظ ود)"أرباب"!.

ص: 213

يُعْجِزه أن يبدِّل هؤلاء، وينقل إلى أمكنتهم خيرًا منهم؟!.

وأيضًا: فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر فشهود، وقد جعل الله -تعالى- ذلك بحكمته سببًا لتبذُّل أجسام النبات وأحوالِ الحيوانات، وانتقالها من حالٍ إلى غيره، وتبدُّل الحَر بالبرد والبرد بالحر، والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف، إلى سائر تبدلُّ أحوال الحيوان والنيات

(1)

والرياح والأمطار والثلوج، وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها، كل

(2)

ذلك تقدير العزيز العليم، فكيف لا يقدر -مع ما يشهدونه من ذلك- على أن يبدل خيرًا منهم!! وأكد هذا المعنى

(3)

بقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 41]. فلا يليق بهذا الموضع: سوى لفظ

(4)

الجمع.

ثم تأمل كيف جاءت -أيضًا- في سورة الصافات مجموعةً في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} [الصافات: 5] لما جاءت (ظ/ 35 أ) مع جملة المربوبات المتعددة، وهي السموات والأرض وما بينهما؛ كان الأحسن مجيئها مجموعةً لينتظم مع ما تقدَّم من الجمع والتعدد. ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال لذلك، فإن المشارق مظهر الأنوار، وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه

(5)

ومعاشه وانبساطه، فهو.

(1)

(ق): "من النيات".

(2)

(ظ ود): "كان".

(3)

ليست في (ق).

(4)

(ظ ود): "لفظته".

(5)

(ق): "في".

ص: 214

إنشاء مشهود فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث. ثم ذكر تعجُّبَ نبيه من تكذيبهم واستبعادهم البعثَ بعد الموت، ثم قرَّر البعث

(1)

وحالهم فيه، فكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب، والله أعلم.

فائدة

(2)

إنما ظهرت علامة التثنية والجمع في الفعل دون علامة الواحد؛ لأن الفعلَ يدل على فاعل مطلق، ولا يدل على تثنيةٍ ولا جمعٍ؛ لأنهما طارئان على الإفراد وهو الأصل، ففعل الواحد مستغنٍ عن علامة الإضمار لعلم السامع أن له فاعلاً، ولا كذلك في التثنية والجمع؛ لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنًى ولا مجموع

(3)

.

فإن قيل: فما معنى استتار الضمير في الفعل وهو حروف مركبة من حركات اللسان، فكيف يستتر فيها شيء أو يظهر؟.

قيل: أكثر ألفاظ النحاة محمول على الاستعارة والتشبيه والتسامح؛ إذ مقصودهم (ق/48 ب) التقريب على المتعلمين.

والتحقيق: أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم، ولفظ الفعل متضمِّن له دالٌّ عليه، واستغنى عن إظهاره لتقدم ذكره، وعُبَّر عنه بلفظٍ مضمر ولم يُعبَّر عنه بمحذوف؛ لأن المضمر هو المستتر

(4)

، فهو مضمر في النية مُخْفًى في الخَلَد، والإضمار هو الإخفاء.

(1)

(ظ ود): "قدر الموت"، والمثبت من (ق) وهو الأصح.

(2)

انظر: "نتائج الفِكر": (ص/ 164).

(3)

في "النتائج" زيادة: "إلا بدليل".

(4)

تحرفت فى (ظ ود) إلى "المستمر".

ص: 215