الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قيل: فهلا سموا ما حذفوه لفظًا وأرادوه نيَّةً: مضمرًا، مثل العائد في قولك:"الذي رأيت زيدٌ"، وما الفرق بينهما وبين:"زيد قام"؟.
قيل: الضميرُ في: "زيد قام" لم ينطق به ثم حُذِف، ولكنه مضمر في الإرادة، ولا كذلك الضمير المحذوف للعلم به، لأنه قد لُفِظ به في النطق ثم حُذِف تخفيفًا، فلما كان قد لفظ به ثم قطع من اللفظ تخفيفًا عبر عنه بالحذف، والحذف هو: القطع من الشيء. فهذا هو الفرق بينهما.
فائدة بديعة
(1)
لحاق علامة التثنية
(2)
والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب
حرصًا على البيان وتوكيدًا للمعنى؛ إذ كانوا يسمون بالتثنية والجمع نحو: فلسطين وقِنَّسْرين، وحمدان وسلمان، مما يُشبه لفظه لفظ المثنى والجمع، فهذا ونحوه دعاهم إلى تقديم العلامة في قولهم:"أكلونى البراغيث"، وقد ورد فى الحديث:"يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ"
(3)
، وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين، وكذلك التاء في:"قامت هِند" ليست للفعل. [إذ الفعل] إنما هو حَدَث مذكَّر
(4)
لا يلحقه تأنيث إلا في نحو: "ضرْبَة وقَتْلَة"، والفعل لم يشتق من
(1)
انظر: "نتائج الفِكْر": (ص/ 166).
(2)
تصحفت في (ق) إلى "التأنيث".
(3)
أخرجه البخاري رقم، (555)، ومسلم رقم (632) عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وانظر المسألة في "البحر المحيط": (3/ 34)، و"فتح الباري":(2/ 42).
(4)
(ظ ود): "إذ هو حيث يذكر"!.
المصدر [محدودًا]
(1)
وإنما يدل عليه مطلقًا، فالتاء إذا بمنزلة علامة التثنية والجمع، إلا أنها أَلْزم للفعل منها.
وقد ذكر النحاة في ذلك فروقًا وعللاً مشهورة فراجعها، ولكن ينبغي أن تتنبه لأمور تجب مراعاتها.
منها: أنهم قالوا: إن الاسم المؤنث إذا كان تأنيثه حقيقيًّا؛ فلابد من لحوق تاء التأنيث في الفعل، وإن كان مجازيًا كنتَ بالخيار، وزعموا أن التاء في:{*قَالَتِ الْأًعْرَابُ} [الحجرات: 14](ظ/35 ب) ونحوه؛ لتأنيثِ الجماعة وهو غير حقيقي، وقد كان على هذا لحوق التاء في:{*وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 35] أولى؛ لأن تأنيثهن حقيقي. واتفقوا أن الفعلَ إذا تأخر عن فاعله المؤنث، فلابدَّ من إثبات التاء، وإن لم يكن التأنيثُ حقيقيًّا، ولم يذكروا فرقًا بين تقدُّم الفعل وتأخُّره.
ومما يقال لهم: إذا
(2)
لحقت التاء لتأنيث الجماعة، فلِمَ، يجوز في جمع السلامة المذكر كما جازت في جمع التكسير؟.
ومما يُقال لهم أيضًا: إذا كان لفظ الجماعة مؤنثًا، فلفظ الجمع مذكر، فلِمَ روعي لفظ التأنيث دون لفظ التذكير؟.
فإن قلتم: أنت مخيَّر، فإن راعيتَ لفظ التأنيث أنَّثتَ، وإن راعيت لفظ (ق/ 49 أ) التذكرِ ذكَرتَ.
قيل لهم: هذا باطل، فإن أحدًا من العرب لم يقل: الهنداتُ ذهبَ، [ولا: الجِمالُ انطلقَ، ولا: الأعراب تكلَّم]
(3)
، مراعاةً للفظ
(1)
(ظ ود وق): "محددًا" المثبت من "النتائج".
(2)
(ظ ود): "إذا".
(3)
(ق وظ ود): "ولا الأعراب انطلق"، وكذا في المنيرية، والمثبت من "النتائج".
الجمع، فبطلت العلة.
فهذه عللهم قد انتقضت كما ترى فاسمع الآن سرَّ المسألة وكَشْفَ قناعها: الأصل في هذا الباب أن الفعل متى اتصل: بفاعلة، ولم يحجز
(1)
بينهما حاجز، لحقت العلامة، ولا نبالي أكان التأنيث حقيقيًّا أم مجازيًّا، فتقول:"طابت الثمرة" و"جاءت هند"، إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسمٍ آخر مذكَّر، كالحوادث والحدثان، والأرض والمكان
(2)
، فلذلك جاء:
* فإنَّ الحوادثَ أَودى بها
(3)
*
فإن الحوادث في معنى الحدثان، وجاء:
*ولا أَرض أَبْقَل إبقالها
(4)
*
فإنه في معنى: ولا مكان أَبْقَل إبقالها.
وإذا فصلت الفعلَ عن فاعله، فكلما بَعُد عنه قَوِيَ حذف العلامة، وكلما قَرُبَ قَوِيَ إثباتها، وإن توسَّط توسط، فـ "حضرَ القاضيَ اليومَ امرأةٌ" أحسنُ مِن "حَضَرَت". وفي القرآن:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].
(1)
(ظ ود): "يَجْر".
(2)
(ظ ود): "الملكان".
(3)
عجز بيت للأعشى. "ديوانه": (ص/ 221)، والرواية فيه:
فإن تعهديني ولي لمة
…
فإن الحوادث ألوى بها
(4)
عجز بيت لعاصر الطائي، انظر:"الخصائص": (2/ 411) وغيره،
وصدره:
*فلا مُزنة ودقت وَدْقها*
ووقع في (ظ): "والأرض"!.
ومن هنا كان إذا تأخر الفعلُ عن الفاعل وجبَ ثبوت "التاء" طال الكلام أم قَصُر؛ لأن الفعل إذا تأخر كان فاعله مضمرًا متصلاً به اتصال الجزءِ بالكلِّ، فلم يكن بُدٌّ من ثبوت التاء لِفَرْط الاتصال، وإذا تقدَّم الفعلُ متصلاً بفاعله الظاهر، فليس مؤخر الاتصال كـ "هو" مع المضمر؛ لأن الفاعل الظاهر كلمة، والفعل كلمة أخرى، والفاعل المضمر والفعل كلمة واحدة؛ فكان
(1)
حذف "التاء" في "قامت
(2)
هند" و"طابت الثمرة" أقرب إلى الجواز منه في قولك: "الثمرة
(3)
طابت".
فإن حَجَز بين الفعل وفاعله حاجز، كان حذف "التاء" حسنًا، وكلما كثرت الحواجز كان
(4)
حذفها أحسن.
فإن كان الفاعل جمعًا مكسَّرًا دخلت التاء لتأنيث الجماعة
(5)
، وحُذِفت لتذكير اللفظ؛ لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه، ومجراه في
(6)
كثير من الكلام مجرى اسم الجنس.
فإن كان الجمع مسلمًا فلابد من التذكير لسلامة لفظ الواحد، فلا تقول: قالت الكافرون، كما لا تقول: قالت الكافر
(7)
؛ لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطروء الجمع عليه.
(1)
من قوله: "والفاعل المضمر
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2)
تحرفت في (ظ) إلى: "تأنيث"، وفي (د):"كان حذف التاء في تأنيث".
(3)
سقطت من (ق).
(4)
(ق): "ولما كثرت الحواجز فإن
…
".
(5)
سقطت من (ظ ود).
(6)
(ق): "في مجرى كثير".
(7)
"كما لا تقول: قالت الكافر" ساقط من (د).
فإن قيل: فلم [لا]
(1)
تقول: "الأعراب قال"، كما تقوله مقدَّمًا؟.
قيل: ثبوت "التاء" إنَّما كان مراعاة لمعنى الجماعة؛ فإذا أردت: ذلك المعنى أَثْبَت "التاء"، وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير، وإن لم تُرِدْ معنى الجماعة حَذفتَ "التاء" إذا تقدم الفعل، واحتيج
(2)
إليها إذا تأخر؛ لأن ضمير الفاعلين لجماعة في المعنى وليسوا جمعًا؛ لأن الجمع مصدر جمعتُ أَجْمع، فمن قال: إن التذكير في: "ذهبَ الرجال" و"قامَ الهنداتُ" مراعاة لمعنى الجمع فقد أخطأ.
وأما حذف التاء
(3)
من: {وَقَالَ نِسْوَهٌ} ؛ فلأنه اسم جمع كرَهْط وقَوْم، ولولا أن فيه تاء (ظ/36 أ) التأنيث لقَبُحَت
(4)
التاء في فعله. ولكنه قد يجوز أن تقول: "قالت نِسوة" كما تقول: قالت فِتْيَة وصِبْيَة
(5)
.
فإن قلت: "النسوة" باللام كان دخول "التاء" في الفعل أحسن، كما كان ذلك في:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ} ؛ لأن اللام للعهد، فكأنَّ الاسم قد تقدم ذكره، فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور، من أجل الألف واللام، فإنَّها ترد (ق/ 49 ب) على
(6)
معهود.
فإن قلت: فإذا استوى ذكر "التاء" وتركها في الفعل المتقدم، وفاعله مؤنث غير حقيقي، فما الحكمة في اختصاصها في قصة
(1)
مستدرك من "النتائج".
(2)
في الأصول و"النتائج": "ولم يحتج" واستفدنا التصحيح من محقق النتائج.
(3)
من قوله: "إذا تقدم الفعل .. " إلى هنا ساقط من (ق).
(4)
قي الأصول و"النتائج" و"لفتحت" والتصحيح من محقق النتائج.
(5)
تحرفت في (ظ ود) إلى: "قبيلة ونسوة".
(6)
(ظ ود): "إلى".
شعيب
(1)
بالفعل، وحَذْفها في قصة صالح من قوله تعالى:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي؛ إذ كانت منتظمةً بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66] فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن
(2)
العذاب المذكور في الآية، فقوِيَ التذكير، بخلاف قصة شعيب؛ فإنه لم يذكر فيها ذلك، هذا جواب السُّهيلي
(3)
.
وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله، وهو: أنَّ الصيحة يراد بها المصدر، بمعنى: الصِّياح، فيحسُن فيها التذكير، ويُراد بها الواحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ.
أحدها: الرجفة فى قوله فى الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78].
الثاني: الظلة بقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189].
الثالث: الصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94]، وجمع لهم بين الثلاثة، فإن الرَّجفةَ بدأت بهم، فأصْحَروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم، فصهرتهم
(4)
الشمسُ بِحرِّها
(1)
في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94].
(2)
(ق): "وذلك".
(3)
في "نتائج الفكر": (ص / 170).
(4)
(ق): "فضربتهم".
ورفعت لهم الظُّلَّة، فأُهْرِعُوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم منها العذاب، وفيه الصيحة فكان ذِكْر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصِّياح، وكان ذكر التاء أحسن
(1)
، والله أعلم.
فإن قيل
(2)
: فلم قلتم: إن "التاء" حرف ولم تجعلوها بمنزلة الواو والألف في: "قاما وقاموا"؟.
قيل: لإجماع العرب على قولها: "الهندان قامتا" بالتاء والضمير، ولا يجور أن يكون للفعْل ضميران فاعلان.
فإن قيل: فما الفرق بين قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] وبين قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30].
قيل: الفرق من وجهين: لفظيّ ومعنويّ، أما اللفظي فهو: أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل قي قوله تعالى في {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} أكثر منها في قوله تعالى: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} ، وقد تقدَّم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن.
وأما المعنوي: فإِن "مَن"
(3)
في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} واقعة على الأمة والجماعة، وهي مؤنثة لفظًا ألا تراه يقول:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] أي من تلك الأمم أمم
(4)
حقَّت
(1)
سقطت من (ظ ود).
(2)
"النتائج": (ص/ 171).
(3)
سقطت من (ق).
(4)
سقطت من (ق).
عليه الضلالة، ولو قال بدل ذلك (ق/ 50 أ): ضلت، لتعينت "التاء"، و [معنى]
(1)
الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامين واحدًا كان إثبات "التاء" أحسن من تركها؛ لأنها ثابتة فيما هو في
(2)
معنى الكلام الآخر.
وأما: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] فالفريق مذكَّر، ولو قال: فريقًا ضلوا، لكان بغير تاء. وقوله تعالى:{حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} في معناه فجاء (ظ/36 ب) بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية، تدع العربُ حكم اللفظ
(3)
الواجب له في قياس لغتها، إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم، ألا
(4)
تراهم يقولون: "هو أحسن الفتيان وأجمله"؛ لأنه في معنى: هو أحسن فتًى وأجمله
(5)
.
ونظيره تصحيحهم: حول وعور؛ لأنه في معنى: أحول وأعور، ونظائره كثرة جدًّا. فإذا حَسُنَ الحمل على المعنى فيما كان القياس أن لا يجوز
(6)
؛ فما ظنك به حيث يجوِّزه القياس والاستعمال!!.
وأحسن من هذا أن تقول: إنهم أرادوا: "أحسن شيءٍ وأجمله"، فجعلوا مكان "شيء" قولهم:"الفتيان" تنبيهًا على أنه أحسن شيء من هذا الجنس، فلو اقتصروا على ذكر "شيءٍ"، لم يدل على الجنس المفضل عليه، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أَحْناهُ على ولد في صِغَره وأرعاه
(1)
زيادة يستقيم بها الكلام.
(2)
(ق): "من".
(3)
سقطت من (ق).
(4)
ليست في (ظ ود).
(5)
"لأنه في معنى: هو أحسن فتى وأجمله، سقطت من (ق).
(6)
(ظ): "لا يجوّزه".
في ذاتِ يَدِه"
(1)
، فهذا يدل على أن التقدير هناك:"أحسن شيءٍ وأجمله"، لا أنه:"أحسن فتى"؛ إذ لو كان التقدير: "أحسن فتى" لكان نظيره هنا: "أحنى امرأة على ولد"، فكان يقال:"أحناها وأرعاها"، فلما عَدَل إلى التذكير؛ دل على أنهم أرادوا
(2)
: أحْنا شيءٍ من هذا الجنس وأَرْعاه.
فائدة بديعة
(3)
قولك: "ضرب القوم بعضهم بعضًا"، هذه المسألة مما لم يدخل تحت ضبط النحاة ما يجب تقديمه من الفاعلين، فإن كليهما ظاهر إعرابه وتقديم الفاعل متعيِّن. وسرُّ ذلك مكان
(4)
الضمير المحذوف، فإن الأصل أن يقال:"ضرب القوم بعضهم بعضهم"؛ لأن حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهرًا أو مقدَّرًا، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل لم يجوزوا تأخير الفاعل، فيقولوا:"ضرب بعضًا بعضُهم"؛ لأن اهتمامهم بالفاعل قد قَوِيَ وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لابُدَّ منه؛ فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة، صارت الحاجةُ إليه مرَّتين.
فإن قلت: فما المانع من إضافة "بعض" المفعول إلى الضمير فتقول: "ضرب القوم بعضهم بعضٌ"، أو:"ضربَ القوم بعض بعضَهم"؟
(1)
أخرجه البخاري رقم (3434)، ومسلم رقم (2527) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2)
(ق): "عليه أنه أراد".
(3)
"نتائج الفِكر": (ص/174).
(4)
في "المنيرية": "وهو".
قلتُ: الأصل أن يُذْكر الضمير فيهما
(1)
جميعًا، فلما أرادوا حذفه هن أحدهما تخفيفاً، كان حذفه مع المفعول -الذي هو كالفَضْلَة في الكلام- أولى من حذفه مع الفاعل الذي لابدَّ منه ولا غِنَى عنه، وليتصل بما يعود إليه ويقرب منه، نعم قد يُضاف إليه "بعض" وهو مفعول، إذا كان (ق/ 50 ب) البعض الآخر مجرورًا
(2)
، كقولك: خلطت القومَ بعضهم ببعض؛ لأن رتبة المفعول هاهنا التقديم على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم على المفعول، فحق
(3)
الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو أهم بالتقديم.
فائدة
(4)
إذا قلت: "إنما يأكلُ زيدٌ الخبزَ"، حَقَّقت ما يتصل ومَحَّقْت ما ينفصل، هذه عبارة بعض النحاة، وهي عبارة أهل سمرقند يقولون في "إنما": وُضِعت لتحقيق المتصل وتمحيق
(5)
المنفصل، وتلخيص هذا الكلام: أنها نفي وإثبات، فأثبتَّ لزيدٍ أكْلَ الخبز المتصل به في الذكر ونفيت ما عداه، فمعناه: ما يأكل زيدٌ إلا الخبز، فإن قدَّمت المفعول فقلت:"إنما يأكل الخبزَ زيدٌ" انعكس المعنى والقصد.
فائدة بديعة
الوصلات في كلامهم التي وضعوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام:
(1)
(ظ ود): "منهما".
(2)
من قوله: "وليتصل بما يعود
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3)
تحرفت في (ق) إلى "نحو".
(4)
"نتائج الفكر": (ص/ 175).
(5)
(ظ ود): "وتحقيق" وهو خطأ.
أحدها: حروف الجرِّ التي وضعوها ليتوصلوا بالأفعال إلى المجرور بها، ولولاها (ظ/ 37 أ)، لما نفذ الفعل إليها ولا باشرها.
الثاني: حرف "ها" التي للتنبيه، وضِعَت ليتوصل بها إلى نداء ذي الألف واللام.
الثالث: "ذو" وضعوه وصلة إلى وصلة النكرات بأسماء الأجناس غير المشتقة، كـ "رجل ذي مال".
الرابع: "الذي" وضعوه وَصْلة إلى وصف المعارف بالجمل ولولاها لما جرت صفاتها عليها.
الخامس: "الضمير" الذي جُعِل وَصْلة إلى ارتباط الجمل بالمفردات خبرًا وصفة وصلة وحالاً، فأتوا بالضمير
(1)
وصلة إلى جريان الجمل على هذه المفردات أجوالاً وأخبارًا، وصفاتٍ وصِلات. ولم يصفوا المعرفة بالجملة مع وجود هذه الوصلة المصححة، كما وصفوا بها النكرة لوجهين
(2)
.
أحدهما: أنَّ النكرة مفتقِرَة إلى الوصف والتبيين، فعُلِم أن الجملة بعدها تبيينٌ لها وتكملة: لفائدتها.
الوجه الثاني: أَنَّ الجملة تتنزل منزلة النكرة؛ لأنها خبر، ولا يخبر المخاطب إلا بما يجهله لا بما يعرفه، فصلح أن يوصف بها النكرة، بخلاف المعرفة، فإنك لو قلتَ:"جاءني زيد قائم أبوه"
(3)
، على جهة الوصف، لَمَا ارتبط الكلام بعضه ببعض؛ لاستقلال كل
(1)
(ق): "الضمة"!.
(2)
"نتائج الفكر": (ص/ 177).
(3)
"النتائج": "أبو قائم". وبعده فى (ظ): "على وجه
…
".
واحد منهما بنفسه، فجاءوا بالوصلة التي توصلوا بها إلى وصف النكرة باسم الجنس وهي:"ذو"، فقالوا:"جاءني زيد ذو قام أبوه"، وهذه لغة طيء وهي الأصل.
ثم إن أكثر العرب لما رأوها اسمًا قد وصف بها المعرفة، أرادوا تعريفه ليتفق الوصف والموصوف في التعريف، فأدخلوا الألف واللام عليه، ثم ضاعفوا اللام، كيلا يَذْهب لفظها بالإدغام ويذهب ألف الوصل في الدَّرْج، فلا يظهر التعريف، فجاء منه هذا اللفظ تقديرًا:"الذو" فلما رأوا الاسم قد انفصل عن الإضافة حيث صار معرفة قلبوا "الواو" منه "ياءً"، إذ ليس في كلامهم "وأو" متطرِّفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب "ياء" كـ "أدلي وأحق"، فصار "الذي".
وإنما صحَّت الواو في قولهم: "ذو"؛ لأنها كانت في حكم التوسط؛ إذ المضاف مع المضاف إليه كالشيء الواحد.
وفي معنى "ذو" بمعنى
(1)
"الذي" طرف من معنى "ذا" التي للإشارة، لأن كلًّا منهما يَبِيْن بأسماء الأجناس، كقولك:"هذا الغلام وهذا الرجل"، فيتصل بها على وجه البيان، كما يتصل بها "ذو" على جهة الإضافة، ولذلك قالوا في المؤنث من الذي:"التي"، بالتاء، كما قالوا في المؤنث من "هذا": هاتا وهاتين
(2)
.
فإن قيل: فلِمَ أُعْرب "الذي" في حال التثنية؟.
قيل: لأن الألف التي فيه هي بعينها
(3)
علامة الرفع في الأسماء المعربة، فدار الأمرُ بين ثلاثة أمور:
(1)
(ظ ود): "وبمعنى".
(2)
كذا ولعلها: هاتي.
(3)
(ظ ود): "بعضها".
أحدها: أن يبنوه وفيه علامة الإعراب، وهو مُسْتَشنع وصار بمنزلة من تعطل عن التصرف وفيه آلته.
الثاني: أن يسقطوها منه ليعطوه حظه من البناء فيبطل معني التثنية، فرأوا الثالث أسهل شيء عليهم، وهو إعرابه، فكان ترك مراعاة علة البناء أهون عليهم من إيطال معنى التثنية، ولهذه العِلَّة (1) بعينها أعربوا:«اثني عشره و"هذين» (2) ، وطَرْدُ هذا أن يكون «ياء» هذين مُعْربًا وهو الصحيح، وممن نص عليه السُّهَيْلي (3) وأَحْسَنَ ما شاء، فإن الألف لا يكون علامة بناء بخلاف الضمة فإنها تكون للبناء، كحيث ومنذ، فتأمَّل هذا الموضع.
فإن قلت: هذا ينتقض عليك بالجمع فإنهم (4) بنوه - أعني : الذين - وهو على حدِّ التثنية (ظ / 37 ب) وفيه علامة الإعراب؟.
قلت : الفرق بين الجمع والتثنية من وجهين:
أحدهما: أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات ؛ نعم، وقد يكون الجمع اسماً واحدًا في اللفظ كقومٍ ورَهْط.
الثاني : أن الجمع في حال (5) نصبه وخفضه يُضَارع لفظه لفظ الواحد، من حيث كان آخره ياء مكسورًا ما قبلها، فحملوا (6) الرفع الذي هو أقلُّ حالاته على النصب والخفض، وغلَّبوا عليه البناء،
(1) ليست في (ظ ود).
(2)
سقطت من (ق).
(3)
"نتائج الفكر": (ص/ 179).
(4)
في الأصلين: «فإنه".
(5)
في حال، سقطت من (ظ ود).
(6)
(ظ و د): فجعلواه.
حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء. وليس كذلك التثنية، لأن ياءَها مفتوح ما قبلها
(1)
، فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد.
وأما "النون" في "الذين" فلا اعتبار بها؛ لأنها ليست في الجمع ركنًا من أركان صيغته، لسقوطها في الإضافة وفي
(2)
الشعر، كما قال:
* وإِنَّ الذي حَانَتْ بِفَلجٍ دِمَاؤهم
(3)
*
هذا تعليل السُّهيلي
(4)
.
وعندي فيه علة ثانية وهي: أَن التثنية في "اللذين" خاصة من خواص الاسم، قاومت شَبَه الحرف، فتقابل المقتضيان فرجع إلى أصله (ق/ 51 ب) فأعرِب، بخلاف "الذين"، فإن الجمع وإن كان من خواص الأسماء؛ لكن هذه الخاصة ضعيفة في هذا الاسم؛ لنقصان دلالته مجموعًا عما يدل عليه مفردًا، فإن "الذي" يصلح للعاقل وغيره، و"الذين" لا يستعمل إلا للعقلاء خاصَّة، فنقصت دلالته فضعفت خاصية الجمع فيه فبقي موجب بنائه على قوَّته، وهذا بخلاف المثنَّى، فإنه يقال على العاقلين وغيرهما، فإنك تقول:"الرجلان اللذان لقيتهما" و"الثوبان اللذان لبستهما"، ولا تقول:"الثياب الذين لبستهم"، وعلى هذا التعليل فلا حاجة بنا إلى ركوب ما تعسَّفه رحمه الله من
(1)
(ظ ود): "التثنية، تاءها مفتوحة"!.
(2)
(ظ ود): "من"، و"النتائج":"وفي ضرورة الشعر" ..
(3)
البيت لأشهب بن رميلة، وعجزه:
* هم القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالدٍ *
وهو من شواهد "الكتاب"، انظر:"الخزَانة": (6/ 25).
(4)
في "نتائج الفكر": (ص/179 - 180).
مضارعة الجمع للواحد وشَبَهه به، وتكلُّف الجواب عن تلك الإشكالات، والله أعلم.
فائدة بديعة
(1)
قول النحاة: "إن "ما" الموصولة بمعنى "الذي""، إن أرادوا بها أنها بمعناها من كل وجهٍ فليس بحق، وإن أرادوا أنها بمعناها من بعض الوجوه فحق، والفرقُ بينهما: أن "ما" اسم مبهم في غاية الإبهام، حتى إنها تقع على كلِّ شيء، وتقع على ما ليس بشيء، ألا تراك تقول:"إن الله يعلم ما كان وما لم يكن"، ولفَرْط إبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى تُوْصَل بما يوضحها، وكل ما وُصِلَتْ يه يجوز أن يكون صلةٌ لـ "الذي"، فهو يوافق "الذي" في هذا الحكم، وتخالفها [في] أنها لا تكون
(2)
نعتًا لما قبلها ولا منعوتة؛ لأن صلتها تغنيها عن
(3)
النعت، -وأيضًا- فلو نُعِتت بنعتٍ زائد على الصلة لارتفع إبهامُها، وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلانُ حقيقتها، وإخراجها عن أصل موضوعها.
وتفارق "الذي" -أيضًا- في امتناعها من التثنية والجمع، وذلك -أيضًا- لفرط إبهامها، فإذا ثبت الفرق بينهما؛ فاعلم أنه لا يجوز أن توجد إلا موصولة؛ لإبهامها، أو موصوفة، ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع؛ لأنها لا تخلو من الإبهام أبدًا، ولذلك كان في لفظها ألف آخرة، لِمَا في الألف من المدِّ والاتساع
(1)
"نتائج الفكر": (ص/180).
(2)
(ظ ود): "في إبهامها لا تكون"! والمثبت من (ق) و"النتائج" وما بين المعكوفين من الأخير.
(3)
(ظ ود): "بعينها غير".
في هواء
(1)
الفم، مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس. فإذا أوقعوها على نوعٍ بعينه، وخصوا به من يعقل وقصروها عليه، أبدلوا الألف نونًا ساكنة، فذهب امتداد الصوت، فصار قصرًا للَّفظِ موازنًا لقصر
(2)
المعنى.
وإذا وكان أمرها كذلك [ووقعت على جنْسٍ من الأجناس]
(3)
، وجب أن يكون ضميرُها العائد عليها من الصلةَ التي لابد للصلة (ظ/ 38 أ) منه، ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة له، فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه في الإعراب والمعنى. فإذا وقعَتْ على ما هو فاعل في المعنى، كان ضميرها فاعلاً في المعنى واللفظ، (ق/ 52 أ)، نحو:"كرهت ما أصابك". فـ "ما" مفعولة لكرهت في اللفظ، وهي فاعلة لـ "أصاب" في المعنى، فالضمير الذي في "أصاب" فاعل في اللفظ والمعنى.
وإذا وقعت على مفعول كان ضميرها مفعولاً لفظًا ومعنى، نحو:"سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته". فهي في المعنى مفعولة؛ لأنها عبارة عن الملبوس، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى، وكذلك إذا وقعت على المصدر
(4)
؛ كان ضميرها مفعولاً مطلقًا؛ لأن المصدر كذلك، وإن وقعت على الظرف؛ كان ضميرُها
(5)
مجرورًا بـ "في"؛ لأن الظرف كذلك في المعنى، إلا أنها لا تقع [من]
(6)
المصادر إلا
(1)
(ظ): "هذا"!.
(2)
(ظ ود): "قصير اللفظ موازنًا لقصير".
(3)
ما بين المعكوفين من "النتائج": (ص/ 181).
(4)
(ظ ود): "اللفظ".
(5)
من قوله: "مفعولاً
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(6)
(ظ ود): "على" و (ق): "إلا على" والمثبت من "النتائج".
على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها.
فإن قيل: فكيف وقعت على من يعقل، كقوله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 3]، وأمثال ذلك؟.
قيل: هي في هذا كُلِّه على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام، لم يُرَد بها ما يُراد بمَنْ مِن التعيين لما يعقل والاختصاص دون الشياع، ومن فَهِم حقيقةَ الكلام وكان له ذوق؛ عرفَ هذا واستبانَ له.
أما قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فهذا كلام وَرَد في معرض التوبيخ والتبكيت للَّعِين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجودُ لما يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه؛ إذ لا ينبغي التكبر لمخلوق على مخلوقٍ
(1)
مثله، إنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول -سبحانه-: لمَ عصيتني وتكبَّرْت على ما لم تخلُقه وخلفَتُه أنا، وشرَّفتُه وأمرتُكَ بالسجودِ له؟! فهذا موضع "ما"؛ لأن معناها أبلغ ولفظها أعمُّ. وهو في الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقطع، فلو قال: ما منعك أن تسجدَ لمن خلقت؟ لكان استفهامًا مجوَّدًا من توبيخ وتبكيت، ولتُوُهِّم أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلَّة موجودة في ذاته وعينه، وليس المراد كذلك، وإنما المراد: توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له، ولهذا عَدَل عن اسم "آدم" العَلَم مع كونه أخص، وأتى بالاسم الموصول الدَّال على أن
(2)
جهة
(1)
ليست في (ظ ود).
(2)
(ظ): "على جهة".
التشريف المقتضية لإسجاده له كونه
(1)
خلقه بيديه، وأنت لو وضعتَ مكان "ما"
(2)
لفظة "من" لما رأيت هذا المعنى باديًا على صفحاتها، لتعينها وتخصيصها، بخلاف ما في لفظة "ما" في الإبهام الدال على أن المراد المعنى
(3)
المذكور في الصلة، وأن "ما" جيء بها وَصْلة إلى ذكر الصّلة فتأمَّل ذلك، فلا معنى إذًا للتعيين بالذكر؛ إذ لو أُريْد التعيين لكان بالاسم العَلَم أولى وأحرى.
وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]؛ لأن (ق/52 ب) القَسَم تعظيم للمُقْسَم يه، واستحقاقه للتعظيم من حيث بنى وأظهر هذا الخلقَ العظيمَ الذي هو السماء، ومن حيث سواها بقدرته، وزينها بحكمته. فاستحق التعظيم وثبتت قدرته، فلو قال:"ومن بناها"، لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم به
(4)
، من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورًا على ذاته ونفسه دون الإيحاء إلى أفعاله الدالة على عظمته، المنبئة عن حكمته، المفصِحَة باستحقاقه للتعظيم من خليقته.
وكذلك قولهم: "سبحان ما يسبحُ الرعد بحمده"؛ لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث [سبَّحته]
(5)
العظيمات من خلقه، لا من (ظ/38 ب) حيث كان يعلم، ولا تقل:"يعقل" في هذا الموضع.
(1)
من قوله: "وأمره بالسجود
…
" ساقط من د.
(2)
سقطت من (ق).
(3)
من قوله: "باديًا على
…
" ساقط من (ظ ود).
(4)
من (ق).
(5)
في الأصول "يستحقّه"، والمثبت من "النتائج".
فإذا تأملت ما ذكرناه، استبان لك قصور من قال: إن "ما" مع الفعل في هذا كلِّه سوى الأول في
(1)
تأويل المصدر، وأَنه لم يَقْدر المعنى حق قدره، فلا لصناعةِ النحو وُفِّق، ولا لفهم التفسير رُزِق، وأنه تابع الحَزَّ وأخطأَ المَفصِل، وحامَ ولكن ما وَرَدَ المنهل.
وأما قوله عز وجل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 2 - 3] فـ "ما" على بابها، لأنها واقعة على معبوده صلى الله عليه وسلم على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به؛ فقوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} [الكافرون: 5] أي: أنتم لا
(2)
تعبدون معبودي، ومعبوده هو صلى الله عليه وسلم كان غارفًا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.
وقال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة، أي: لا تعبدون عبادتي، ويلزم من تبريتهم عن عبادته تبريهم
(3)
من المعبود؛ لأن العبادة متعلِّقة به، وليس هذا بشيء! إذ المقصود براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده -تعالى- فالمقصود المعبود لا العبادة.
وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلى الله عليه وسلم حسدًا له، وأَنَفَةً من اتباعه، فهم لا يعبدون معبودة، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه صلى الله عليه وسلم، وحرصًا على مخالفته في العبادة، وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمغنى الرفيع إلا لفظ "ما"؛ لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
(1)
(ظ ود): "فمن".
(2)
(ظ): "لا أنتم".
(3)
(ظ): "تبريهم عن عبادته تنزيههم".
وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قَصْد ازدواج الكلام [أصلٌ]
(1)
في البلاغة والفصاحة، مثل قوله تعالى:{نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فكذلك:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 2] ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدَوَجَ مع هذا الكلام قوله تعالى:(ق/53 أ){وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 5]، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في
(2)
الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا "من" كقوله تعالى:{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} ، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: 31]، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} [يونس: 31] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] إلى أمثال ذلك.
وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو: أن المقصود هنا ذِكْر المعبود الموصوف بكونه أهلاً للعبادة مستحقًّا لها، فأتى بـ "ما" الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة "من"؛ لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذِكْر الصِّلة تعريفًا لا أنه هو جِهَة العبادة، ففَرْقٌ بين أن
(3)
كونه -تعالى- أهلاً لأن يعبد تعريفٌ محض، أو وصف مقتضٍ لعبادته، فتأمله فإنه بديع جدًّا.
وهذا معنى قول محققي النحاة: إن "ما" تأتي لصفات من يعلم، ونظيره:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لما كان المراد
(1)
من "النتائج".
(2)
ليست في (ظ ود).
(3)
(ظ ود) زيادة: "يكون".
الوصف وأنه هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب، فتنكح المرأة الموصوفة به، أتى بـ "ما" دون "من "، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.
وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية زائدة
(1)
على ذلك وهي: تكرير الأفعال فى هذه السورة.
ثم فائدة ثالثة وهي: (ظ/39 أ) كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي.
ثم فائدة رابعة وهي: أنه جاء في نفي عبادة
(2)
معبودهم عنه بلفظ الفعل
(3)
المستقبل، ونجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.
ثم فائدة خامسة وهي: كون أداة النفي هنا "لا" دون "لن".
ثم فائدة سادسة وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا: أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للخفي والإثبات، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله"، فلِمَ جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سرُّ ذلك؟ ..
وفائدة سابعة وهي: ما حِكْمة تقديم نفي
(4)
عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟.
(1)
من (ق).
(2)
(ق): "عبادة نفي" وكذا في السطر الآتي.
(3)
سقطت من (ق).
(4)
(ق): "أما حكم نفي".
وفائدة ثامنة وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7]{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] ولم يجئ: {يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟.
وفائدة تاسعة وهي: هل في (ق/53 ب) قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] معنى زائد على النفي المتقدم؟ فإنه يدلّ على اختصاص كلٍّ بدينه ومعبوده، وقد فُهِم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟.
وفائدة عاشرة وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم
(1)
والاختصاص. وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.
وفائدة حادية عشرة وهي: أَنَّ هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الإخبار:
أحدهما: براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدًا.
الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم، فهل هذا مُتَارَكَة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار؟ أم الآية باقة على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة؟.
فهذه عشر مسائل فى هذه السورة قد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهى وقوع "ما" فيها بدلاً عن "من "
(2)
فنذكر المسائل التسع مُسْتمدين
(1)
(ق): "التقديم".
(2)
(ظ ود): "بلا عن"!.
من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ فما كان من
(1)
صوابٍ فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
فأما المسألة الثانية: وهي فائدة تَكْرَار الأفعال، فقيل فيه وجوه؛ أحدها: أن قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} ، نفي للحال والمستقبل، وقوله تعالى:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} ، مقابله أي: لا تفعلون ذلك، وقوله تعالى:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} ، أي: لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي، فقال:{مَا عَبَدْتُمْ (4)} ، فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} ، مقابله، أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا.
وعلى هذا فلا تَكْرَار أصلًا، وقد استوفت الآياتُ أقسام النفي ماضيًا وحالاً ومستقبلاً، عن عيادته وعبادتهم، بأوجز لفظ وأخصَرِه وأبيَنِهِ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها، فلنقتصر عليه ولا
(2)
نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي
(3)
قيلت في مواضعها، فعليك بها.
وأما المسألة الثالثة وهي: تكرير الفعل
(4)
بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه (ظ/39 ب)، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.
ففي ذلك سرٌّ وهو: الإشارة والإيماء إلى عِصمة الله له عن الزيغ
(1)
"كان من" سقطت من (ق).
(2)
سقطت من (ظ ود).
(3)
ليست في (ق).
(4)
سقطت من (ظ ود).
والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً ولا يبغي عنه حِوَلاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءَهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم بصَدَد أن يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره، فقال:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، يعني: الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} أنا الآن -أيضًا- ثم قال:(ق/ 54 أ){وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} يعني: ولا أنا فيما يُسْتَقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون. وأشبهت "ما" هنا رائحةُ الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول:"مهما عبدتم من شيءٍ فلا أعبده أنا".
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة فما أبعد الشرط منها؟!.
قلنا: لم نقل أنها شرط نفسُها، ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه؟ لوقوعها على غير معَيَّن وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديًا على صفحاته. فإذا قلت لرجلٍ ما -تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل ما تفعل، ألستَ ترى معنى الشرط قائمًا قي كلامِكَ وقصدك؟ وأن روح هذا الكلام: مهما فعلتَ من شيءٍ فإني لا أفعله. وتأمل ذلك في "مَنْ"، مثل قوله تعالى:{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} [مريم: 29] كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى
(1)
وقع الفعل بعد "مَنْ" بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى: مَنْ كان في المهد
(1)
(ق)"معنى الشرط فيه حين".
صبيًا فكيف نكلمه؟ في هذا هو المعنى الذي حامَ حوله من قال من المفسرين والمعربين: إن "كان" هنا
(1)
بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إله من بابه، بل ألقوه عُطْلاً من تقدير وتنزيل، وعزب عن
(2)
فهم غيرهم هذا للُطْفه ودقَّته، فقالوا:"كان" زائدة، والوجه ما أخبرتك به، فخده عَفْوًا، لك غُنمه
(3)
وعلى سِوَاك غرمه، هذا مع أن "مَن"
(4)
في الآية قد عمل فيها الفعل، وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} ، وهذا كلُّه مفهومٌ من كلام فحول النحاة، كالزَّجَّاج
(5)
وغيره.
فإذا ثبت هذا، فقد وضَحَت
(6)
الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} ، بخلاف قوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} ، لبعد "ما" فيها عن معنى الشرط؛ تنبيهًا من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.
وأما المسألة الرابعة وهي: أنه لم يأتِ النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارةً وباسم الفاعل أُخرى، فذلك -والله أعلم- لحكمة بديعة، وهى: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولاً بصيغة الفعل الدالة
(1)
(ظ ود): "أنه كان نبيًّا".
(2)
من (ق).
(3)
(ظ): "عزمه".
(4)
(ظ): "هل على من"!.
(5)
هو: إبراهيم بن السَّريّ بن سهل، أبو إسحاق الزجَّاج النحوي ت (311).
انظر: "معجم الأدباء": (1/ 130)، و"إنباه الرواة":(1/ 194).
(6)
(ظ ود): "صحت".
على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غيرِ اللهِ (ق/54 ب) لا تكون فعلًا لي ولا وصفًا، فأتى بنفيين لحنفيَّين مقصودَيْن (ظ/ 40 أ) بالنفي.
وأما في حقهم؛ فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، أي: إن الوصف الثابت اللازم للعابد
(1)
لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتًا لكم وإنما يثبت لمن خص اللهَ وحدَه بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونُفِيَ الوصفُ؛ لأن من عبدَ غيرَ اللهِ، لم يكن ثابتاً على عبادة الله موصوفًا بها.
فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه: عابدُ الله وعبدُه والمستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته وتبتَّل إليه تبتيلًا لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره؛ فليس عابدًا لله ولا عَبْدًا له، وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص،
(1)
(ظ): "العائد".
التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن
(1)
، وهذا لا يفهمه كلُّ أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة.
وأما المسألة الخامسة وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة "لا" دون "لن"
(2)
، فلِمَا تقدم تحقيقُه عن قربٍ: أن النفي بـ "لا" أبلغ منه بـ "لن"، وأنها أدل على دوام النفي وطوله من "لن"، وأنها للطول: والمد الذي في لفظها طال النفي بها وامتد
(3)
، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة، وأن "لن" إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدَّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق
(4)
، فالإتيان بـ "لا" مُتَعين هنا؟ والله أعلم.
وأما المسألة السادسة وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض؛ فهذا هو خاصَّة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءةٍ من
(1)
أخرجه الترمذي رقم (2895)، وأحمد:(3/ 147)، وابن عدي في "الكامل":(3/ 333)، والبيهقي: في "الشُّعَب": (5/ 453) من طريق سلمة بن وَرْدان، عن أنس، وفيه: أن "قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن".
وسلمة ضعيف الحديث، وهذا الحديث عن مناكيره، لكن حسنه الترمذي.
وأخرجه الترمذي رقم (2893)، والبيهقي في "الشعب":(5/ 454) من طريق الحسن بن سَلْم العجلي، عن ثابت، عن أنس.
قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ" ومثله قال أبو أحمد الحاكم كما في "التهذيب": (2/ 280).
وله شاهد من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما وفيه ضعف. انظر: "لمحات الأنوار": (3/ 1048) وما بعدها، و 1069 - 1079، للغافقي. "وتخريج الكشاف":(4/ 307) للزيلعي.
(2)
(ظ): "أن" في جميع المواضع وهو خطأ.
(3)
(ظ ود): "في نفيها طال النفي بها وأشد"!.
(4)
انظر ما تقدم: (ص/ 166 - 169).
الشرك، كما جاء في وصفها:"أنها بَرَاءةٌ مِنَ الشِّرْك"
(1)
، فمقصودُها الأعظم هو البراءة المطلقة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحًا فقوله:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} براءة محضة، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} إثبات أن له معبودًا يعبده وأنهم
(2)
بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قولَ إمام الحنفاء:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27]، وطابقت قول الفِتْية
(3)
الموحدين: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] فانتظمت حقيقةَ لا إله إلا الله، ولهذا (ق/55 أ) كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في سنة الفجر وسنة المغرب
(4)
، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعَي التوحيد
(5)
، الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد
(1)
أخرجه أبو داود رقم (5055)، والترمذي (3403)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (801)، وابن حبان "الإحسان":(3/ 69 - 70)، والحاكم:(2/ 538) وغيرهم من حديث نوفلٍ الأشجعي -والحديث صححه الحاكم وابن حبان، وله شواهد عن غير واحد من الصحابة. انظر:"لمحات الأنوار": (3/ 1071 - 1079).
(2)
(ظ ود): "وأنتم".
(3)
(ظ ود): "الفئة".
(4)
أما قراءتهما في سنة الفجر؛ فعند مسلم رقم (726) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكذا عن جماعة من الصحابة في السنن وغيرها، انظر:"فتح الباري": (3/ 57).
أما قراءتهما في سنة المغرب؛ فعند الترمذي (431)، وقال: غريب، وابن ماجه (1166) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وسنده فيه ضَعْف.
(5)
سقطت من (ظ).
المتضمِّن تنزيه الله عما لا يليق به مِن الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أَحَدٌ صَمَد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد (ظ/ 40 ب) الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمنت السورةُ إثبات ما يليق بجلالة من صفات الكمال ونفي ما لا يليقُ به من الشريك أصلًا وفرعًا في نظيرًا، فهذا توحيد العِلْم والاعتقاد.
والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته عباده، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نَوْعَي التوحيد وأخلصتا له، فكان صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما النَّهار. في سُنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب
(1)
. وفي "السنن"
(2)
أنه. كان يوتر بهما، فيكونا خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار
(3)
، ومن هنا تخريجُ جواب: المسألةِ السابعةِ وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتْبعها ببراءَتهم من معبوده فتأمله فإنه واضح
(4)
.
وأما المسألة الثامنة وهي: إثباته هنا بلفظ: "يا أيها الكافرون" دون: "يا أيها الذين كفروا"؛ فسرُّه -والله أعلم-: إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه؛ فهو حقيقٌ أن يتبرأَ اللهُ.
(1)
انظر ما تقدم قريبًا.
(2)
أخرجه أبو داود رقم: (1424)، والترمذي رقم (463) وابن ماجه رقم (1173). من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: حسن غريب، وقوَّاه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي.
(3)
انظر: "زاد المعاد": (1/ 316) نقَلَه فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر "مجموع الفتاوى":(17/ 107 - 108) بنحوه.
(4)
"فإنه واضح" ليست في (ظ ود).
منه، ويكون هو -أيضًا- بريئًا من الله، فحقيق بالموحِّد البراءة منه، فكان ذكره
(1)
في معرض البراءة التي هي غاية البعد
(2)
والمجانية بحقيقةِ حاله التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازمٌ لكم ثابتٌ لا تنتقلون عنه؛ فمجانبتكم والبراء
(3)
منكم ثابت دائم أبدًا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدَّال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر، وهذا واضح.
وأما المسألة التاسعة وهي: ما هي الفائدة في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} وهل أفاد هذا معنًى زائدًا على ما تقدَّم؟.
فيقال: في ذلك من الحكمة -والله أعلم- أنَّ النفيَ الأول أفاد البراءة، وأنه لا يُتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم، وهم -أيضًا- لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفادَ آخرُ السورة إثبات ما تضمنه ذلك الخفي مِنْ توحيده له، وأنه حظه ونصيبه وقسمه، فإن ما تضمنه الخفي من
(4)
جهتهم من الشرك والكفر هو حظهم وقسْمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم (ق/55 ب) هو وغيره أرضًا فقال له:"لا تدخل في حَدِّي ولا أدخل في حَدك، لك أرضك ولي أرضي"، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنّا اقتسمنا حِصَّتنا
(5)
بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان؛ فهو نصيبُنا وقَسْمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقَسْمكم
(1)
ليست في (ظ ود).
(2)
(ظ ود): "العبد"!.
(3)
(ظ ود): "البراءة".
(4)
من قوله: "توحيده له، .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(5)
(ظ ود): "خِطتنا".
الذي تختصون به لا نشرككم فيه.
فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه. وهذه المعاني ونحوها إذا تجلَّت للقلوب رافِلَةً قي حُللها فإنها تَسْبي القلوبَ وتأخذ بمجامِعِها، ومن لم يصادف من
(1)
قلبه حياة؛ فهي:
* خَوْدٌ
(2)
تُرَفُّ إلى ضَرِيرٍ مُقعدِ *
فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها، ونسأله تمام نِعْمته.
وأما المسألة العاشرة وهي: تقديم قِسْمهم ونصيبهم على قَسْمه ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم، فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحولُ البلاغة وفرسائها، فإن السورةَ لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضيَ كلٌّ بقسمه، وكان المحِقُّ هو صاحب القسمة، وقد برز النصيبين وميَّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أَرْدَأ منه، وأنه هو قد استولى على القسم (ظ/ 41 أ) الأشرف
(3)
والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشِفاء، فرضيَ مُقاسِمة بالسمِّ، فإنَّه يقول له: لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك ولي قسمي.
فتقديم ذكر قسمة هاهنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول:"هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم"، فكان في تقديم ذِكر قسْمِه من التهكُّم به والنداء على سوء
(1)
ليست في (ق).
(2)
الخَود: الشابة الحسناء.
(3)
ليست في (ظ).
اختاره وقُبْح ما رضيه لنفسه من الحُسْن والبيان ما لا تجده في ذكر تقديم قسم نفسه. والحاكم في هذا هو الذوقُ، والفَطِنُ يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجعُ فيه كثرةُ البيان.
ووجهٌ ثانٍ وهو: أن مقصود السورة براءته صلى الله عليه وسلم من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبّها ومَغْزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملًا لبراءته ومحققًا لها
(1)
، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أولِ السورة، ثم جاء قوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ} مطابقًا لهذا المعنى، أي: لا أُشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه، بل هو دينٌ تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدًا، فطابقَ آخرُ السورةِ أوَّلَها، فتأمَّلْهُ.
وأما المسألة الحادية عشرة وهي: أن هذا الإخبار (ق/56 أ) بأنَّ لهم دينَهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا
(2)
نسخ في الآية ولا تخصيص؟.
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف
(3)
؛ لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقرُّون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط مَحْض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نصٌّ محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها،
(1)
(ق): "لذاته وتحقيقًا".
(2)
(ظ ود): "لولا".
(3)
وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ
(1)
فيه.
وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدَّم، ومنشأُ الغلطِ: ظنُّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ.
وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتابَ لهم، فقالوا: هذا مخصوص، ومعاذَ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكارِ عليهم وعيب دينهم وتقبيحِه والنهي عنه والتهديد لهم
(2)
والوعيد كل وقت وفي كل ناد. وقد سألوه أن يكفَّ عن ذكر آلهتهم، وعَيْب دينهم، ويتركونه وشأْنَه؛ فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟! معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدَّم، وأن ما هم عليه من الدين لا أوافقكم عليه أبدًا، فإنه دينٌ باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصُّل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدَّعى النسخ أو التخصيص؟ أفتَرَى إذا جُوهِدُوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة، لا يصح أن يقال لهم
(3)
: لكم دينكم ولي دين. بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين (ظ/ 401 ب) والكافرين إلى أن يطهِّر الله منهم عبادَه وبلاده.
(1)
من قوله: "في مضمونها
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(2)
من (ق).
(3)
من (ق).