الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما هي صفة للاسم في حِيْن وجود الفعل خاصة، فالفعل بها أولى من الاسم، فعمل فيها دونه، فلما عمل فيها جاز تقديمها عليه، نحو:"ضاحكًا جاءَ زيدٌ"، و [تقديمها إليه، نحو]
(1)
: "جاء ضاحكًا زيد"، وتأخيرها بعد الفاعل
(2)
؛ لأنها كالمفعول لعمل الفعل فيها. والنعت بخلاف هذا كله.
وسنبين بعد هذا -إن شاء الله- فصلاً عجيبًا في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء: الفاعل، والمفعول به، والمصدر
(3)
، أو ما هو صفة لأحد هذه الثلاثة في حين وقوع الفعل، ويخرج من هذا الفصل ظرفا المكان والزمان، والنعوت، والأبدال والتوكيدات، وجميع الأسماء المعمول فيها، ونقيم هنالك البرهان القاطع على صِحَّة هذه الدَّعْوى.
فائدة بديعة
(4)
حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفةُ أن تكون جاريةً عليها
، ليتفق اللفظ. وأما نصب الصفة
(5)
على الحال فيضعف عندهم، لاختلاف اللفظ من غير ضرورة. ورد بعضُ محقِّقي النحاة
(6)
هذا القول بالقياس والسماع.
قال: أما القياس؛ فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة
(1)
الإكمال من "النتائج".
(2)
نحو: "جاء زيدٌ ضاحكًا".
(3)
"النتائج": "المفعول المطلق".
(4)
"نتائج الفكر": (ص/ 233).
(5)
سقطت من (ق).
(6)
هو: أبو الحسين بن الطراوة، شيخ السُّهَيلىِ، كما صرَّح به في "النتائج"، وقد تقدمت ترجمته.
والحال، كما إذا قلت:"جاءني زيدُ الكاتب، وكاتبًا"، وبينهما من الفرق ما تراه، فما المانع من الاختلاف كذلك في النكرة إذا قلت:"مررت برجلٍ كاتب، أو كاتبًا"؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى الحال من النكرة كما تدعو إلى الحال من المعرفة ولا فرق.
وأما السماع؛ فأكثر من أن يُحْصَر، فمنه:"وصلَّى خَلْفَه رجالٌ قِيامًا"
(1)
، وأما نحو:"وقع أمرٌ فَجْأة"، فحال من مصدرِ "وقعَ" لا من "أمر"، وكذلك:"أقبل رجلٌ مَشْيًا" حال من "الإقبال".
وهذا صحيحٌ؛ ولكن الأكثر ما قاله النحاة، إيثارًا لاتفاق اللفظ، ولتقارب ما بين المعنيين في النكرة، ولتباعد ما بينهما في المعرفة؛ (ق / 74 ب) لأن الصفة في النكرة مجهولة عند المخاطب حالاً كانت أو نعتًا، وهي في المعرفة بخلاف ذلك. ولو كانت الحال من النكرة ممتنعة لأجل تنكيرها لما اتفقت العرب على صحتها حالاً إذا تقدمت عليها كما أنشده سيبويه
(2)
:
* لميَّةَ مُوْحِشًا طَلَلُ
(3)
*
وقوله:
وتَحت العوالي والقَنَا مسْتكِنَّةً
…
ظباءٌ أعارتها العيون الجَاذرُ
(4)
(1)
أخرجه البخاري رقم (1113)، ومسلم رقم (412). من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظ البخاري:"وصلَّى وراءه قومٌ قيامًا".
(2)
في "الكتاب": (1/ 276).
(3)
تمامه: * يَلُوْحُ كأْنَّه خَلَل*.
والبيت لكُثيِّر عَزَّة، وانظر تخريجه فيما سيأتي (3/ 898).
(4)
البيت لذي الرُّمَّة "ديوانه": (2/ 1024) وفيه: (مستقِلَّة) بدل (مستكنة).
فإن قيل: فما حمل سيبويه وغيره على أن جعلوا "موحشًا" حالاً من "طلل"، و"قائمًا" حالاً من قولك: فيها قائمًا رجل، وهو لا يقول بقول الأخفش: إن رجلاً وطللاً فاعل بالاستقرار الذي تعلق به الجار
(1)
، فلو قال بهذا القول كان عذرًا له في جعلها حالاً منه، ولكن الاسم النكرة عنده مبتدأ وخبره في المجرور قبله، ولابد في خبر المبتدأ من ضمير يعود على المبتدأ تقدم الخبر أو تأخر، فلم لا تكون هذه الحال من ذلك الضمير ولا تكون من النكرة وما الذي دعاهم إلى هذا؟.
قيل: هذا سؤال حسن جدًّا يجب التقصِّي عنه والاعتناء به، فقد كعَّ عنه أكثرُ الشارحين لـ "الكتاب" والمؤلفين في هذا الباب، وما رأيت أحدًا منهم أشار فيه إلى جواب مقنع وأكثرهم لم يتنبَّه للسؤال ولا تعرَّض له.
والذي أقوله -وبالله التوفيق-: إن هذه المسألة في النحو (ظ/ 55 ب) بمنزلة مسائل الدَّور في الفقه، ونضرب فيه مثالاً فنقول: رجل شهد مع آخر في عبدٍ أنه حُر فَعَتَق العبد وقُبلت شهادته، ثم شهد ذلك الرجل مرةً أخرى فأريد تجريحه، فشهد العبد المُعْتق فيه بالجُرْحَة، فإن قبلت شهادته ثبتَ جرح الشاهد وبطل العتق، وإذا بطل العتق سقطت الشهادة، وإن سقطت شهادته لم يصح جرح الشاهد
(2)
، ودارت المسألة هكذا، وكلُّ فرعٍ يؤول إلى إسقاط أصله فهو أولى أن يسقطَ في نفسه، وكذلك مسألةَ هذا الفصل؛ فإنك إن جعلت الحال من قولك:"فيها قائمًا [رجل" من الضمير، لم يصح تقدير المضمر إلا مع تقدير فِعْل يتضمنه، ولا يصح تقدير فعل بعدَهُ مبتدأ؛ لأن
(1)
(ق): "حال".
(2)
من قوله: "وبطل العتق
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
معنى الابتداء يبطل ويصير المبتدأُ فاعلاً، وإذا صار فاعلاً بطل أن يكون في الفعل ضمير لتقدُّم الفعل على الفاعل، وإذا بطل وجود الضمير بطل وجود الحال منه، وهذا بديعٌ في النظر.
فإن قيل: إن المجرور يُنْوَى به التأخير؛ لأن خبر المبتدأ حقه أن يكون مؤخَّرًا.
قيل: وإذا نويت به التأخير لم يصح وجود الحال مقدمة على المبتدأ؛ لأنها لا تتقدم على عاملها إذا كان معنويًّا، فبطل كون الحال من شيءٍ غير الاسم النكرة الذي هو مبتدأ عند سيبويه وفاعل عند الأخفش، وهذا السؤال لا يلزم الإخفش على مذهبه، وإنما يلزم سيبويه ومن قال بقوله، ولولا الوَحْشَة من مخالفة الإمام أبي بشر لنصرتُ قولَ الأخفش نصرًا مؤزرًا وجلوتُ مَذْهَبَه في [مِنَصَّة]
(1)
التحقيق مُفَسَّرًا، ولكن النفس إلى مذهب سيبويه أَمْيَل". هذا كلام الفاضل
(2)
؛ وهو كما ترى كأنه سَيْل ينحطُّ من صَبَبٍ.
قلت: والكلام معه في ثلاثة مقامات: أحدها: تحقيق مذهب الأخفش في أن قولك: "في الدار رجل"، ارتفاع رجل بالظرف لا بالابتداء
(3)
. والمقام الثاني: أنَّ الحال من النكرة يمتنع أن يكون حالاً من الضمير في الظرف. والمقام الثالث: الكلام فيما ذكره من الدَّور في المسألة النحوية، وأنه ليس مطابقًا للدور في المسألة الفقهية.
فأما المقام الأول: فاعلم أنَّ الأخفش مذهبه إذا تقدَّم الظرف على
(1)
(ظ ود): "منصب" والمثبت من "النتائج".
(2)
يعني: العلامة السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 236).
(3)
(ظ ود): "بلانتقاء" وهو خطأ.
الاسم المرفوع نحو: "في الدار زيد" كان مرفوعًا ارتفاعَ الفاعلِ بفعله، ومذهبه -أيضًا-: أن المبتدأ إذا كان نكرة لا يسوغ الابتداء به إلا بتقديم الخبر عليه، وجبَ تقديمه عليه، نحو:"في الدار رجل"، فإنه
(1)
نصَّ على هذا وهذا، فلا ينبغي أن يبطل أحد كلاميه بالآخر، فـ "في الدار رجل" تقديم الظرف عنده واجبٌ وجوبَ تقديم الخبر على المبتدأ به، وعلى هذا فلا ضمير في الظرف بحال لو كان مذهبه أن المسألتين سواء في أن
(2)
الاسم مرفوع بالظرف، لم يلزم سيبويه أن يقول بقوله حتى يجعل الحال من النكرة، وذلك أن قولك:"في الدار رجل" ليس في الظرف ضمير، فإنه ليس بمشتق ولا يتحمل ضميرًا بوجه، أقصى ما يقال: إن عامله وهو الاستقرار يتضمن الضمير، وهذا لا يقتضي رجوع حكم الضمير إلى الظرف حتى ينصب عنه الحال، فإنه ليس واقعًا موقعه ولا بدلاً من اللفظ به.
ألا ترى أنك لو صرحت بالعامل لم تستغنِ عن الظرف، فلو قلتَ:"زيد مستقر"، لم تستغن عن قولك: في الدار، فعلم أنه إنما حذف حذفًا مستقرًّا لمكان العلم به، وليس الظرف نائبًا عنه ولا واقعًا موقعه ليصح تحمله الضمير، فتأمله فإنه من بديع النحو، وإذا كان كذلك فلا (ظ/56 أ) ضمير في الظرف فينصب عنه الحال بوجه، فلم يبق معك ما يصح أن يكون صاحب الحال إلا تلك
(3)
النكرة الموجودة، فلهذا جعل الإمام أبو بشر وأئمة أصحابه الحال منها لا من غيرها.
وأما المقام الثاني: فاعلم أن الظرفَ إذا تقدم وقدرتَ فيه الضمير
(1)
(ظ ود): "فإن".
(2)
(ظ ود): "سواء فإن"! والمثبت من "المنيرية".
(3)
تحرفت في (ظ ود).
صار بمنزلة الفعل العامل، فإنه لا يتحمل الضمير إلا وهو بمنزلة الفعل أو ما أشبهه، وإذا صار بمنزلة الفعل وهو مقدَّم وجب أن يتجرَّد عن الضمير قضاءً لحق التشبيه بالفعل وقيامه مقامه، فتعدِّي الضميرَ فيه ينافي تقديره.
فإن قيل: إنما قدرنا فيه الضمير الذي كان يستحقه وهو خبر، فلما قُدِّم وفيه ما يستحقه من الضمير، بخلاف ما إذا كان عاملاً محضًا؟.
قيل: فهلَاّ قدرتَ مثل هذا في: زيد قام، أنه يجوز أن يقدم "قام"، وتقول: قام زيد، ويكون مبتدأ وخبرًا! فلما أجمع النحاةُ على امتناع ذلك وقالوا: لا يجوز تقديم الخبر هنا؛ لأنه لا يُعْرف هل المسألة من باب الابتداء والخبر، أو من باب الفعل والفاعل. وكذلك ينبغي في نائب الفعل من الظرف سواء فتأمله.
وأما المقام الثالث: وهو ما
(1)
ذكره من الدور؛ فالدور أربعة أقسام: دَوْر حُكْمي، ودور عِلْمي، ودور مَعِي، ودور سَبْقي تقدُّمي.
فالحكمي: توقف ثبوت حكمين كل منهما على الآخر من الجهة التي توقف الآخر منها، وأخص من هذه العبارة: توقف كلٍّ من الحكمين على الآخر من جهةٍ واحدة.
والدور العلمي: توقف العلم بكل من المعلومين على العلم بالآخر.
والإضافي المعي: تلازم شيئين في الوجود لا يكون أحدهما إلا مع الآخر.
(1)
(ظ): "مما"، (د):"بما".
والدور السبقي التقدُّمي: توقف وجود كلِّ واحد منهما على سبق الآخر له، وهذا المحال.
والإضافي واقع، والدَّوْرَان الآخران فيهما كلام ليس هذا موضعه.
وإذا عُرِف هذا؛ فما ذكره من الصورتين الفقهية والنحوية ليس بدور؛ إذ ليس فيه توقف كل من الشيئين في ثبوته على الآخر، فإن قبول شهادةِ العبد موقوفة على قبول شهادة شاهد عِتْقه، وليست شهادة شاهد العتق موقوفة على شهادته، ولذلك تحمُّل الظرف للضمير موقوف على تقدير فعل يتضمنه، وتقدير الفعل غير موقوفٍ على تحمل الظرف للضمير فتأمله.
وإنما هذا من باب ما يقتضي إثباته إلى إسقاطه، فهو من باب الفروع التي لا تعود على أصولها بالإبطال، وإذا بطلت أصولها بطلت هي، فهي موقوفة على صحة أصولها، وصحةُ أصولها لا تتوقف عليها، ولكن وجه الدور في هذا: أنها لو أُبْطِلت أصولُها لتوقف صحة أصولها على عدم إفسادها لها، وهى متوقفة على اقتضاءِ أصولها لها، فجاء الدور من هذا الوجه، وكذلك نظائره.
فائدة
(1)
النعت إذا كان تمييزًا للمنعوت مثبتًا له، لم يقطع برفع ولا نصب؛ لأنه من تمامه، وإن كان غير تمييز له بل هي من أداة المدح أو الذم المحض، شاع قطعه تكررت النعوتُ أو لم تتكور، وإنما يُشترط تكرر النعوت إذا كانت للتمييز والتبيين، فيحصل الاتباع ببعضها ويسوغ قطع الباقي، فتفطَّن لهذه النكتة، والذي يدلك على (ظ/56 ب) ذلك
(1)
"نتائج الفِكْر": (ص/ 237) بنحوه.
قولُ سيبويه: سمعت العربَ يقولون: "الحمد لله ربُّ العالمين"، فسألت عنها يونس، فزعم أنها عربية.
وفائدة القطع من الأول أنهم إذا أرادوا تجديد مدح. أو ذمٍّ جدَّدوا الكلام؛ لأن تجديد غير اللفظ الأول دليل على تجدُّد المعنى، وكلما كَثُرت المعاني وتجدد المدح؛ كان أبلغ.
فائدة بديعة
(1)
القاعدةُ: أن الشيءَ يُعْطف على نفسه؛ لأن حروف العطف بمنزلة تَكْرار العامل؛ لأنك إذا قلت: "قام زيد وعَمْرو"، فهي بمعنى:"قام زيد وقام عَمْرو"، والثاني غير الأول، فإذا وجدت مثل قولهم:"كذبًا ومينًا"؟ فهو لمعنًى زائد في اللفظ الثاني، وإنْ خَفِيَ عنك.
ولهذا يبعد جدًّا أن يجيء في كلامهم: "جاءني عُمَر وأبو حفص"، و:"رضي الله عن أبي بكر وعَتِيْقٍ"، فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين، لا بين الشيء الواحد، فإذا كان في الاسم الثاني فائدة
(2)
زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرًا في العطف وتركه، فإن عطفتَ فمن حيث قصدتَ تَعْداد الصفات وهي متغايرة، وإن لم تعطف فمن حيث كان في كلٍّ منهما ضميرٌ هو الأول، فعلى الوجه الأول تقول:"زيد فقيه وكاتب"
(3)
، وعلى الثاني:"فقيه كاتب"
(4)
، كأنك عطفتَ بالواو الكتابةَ على الشعر، وحيث لم تعطف أتبعت الثاني الأول؛ لأنه هو
(1)
المصدر نفسه: (ص/ 238).
(2)
(د): "في المنعوت فائدة".
(3)
(ظ ود): "فقيه كاتب"، و"النتائج":"شاعر وكاتب"، وهو الموافق للسياق بعده.
(4)
(ظ ود): "فقيه وكاتب"، و"النتائج":"شاعر وكاتب".
هو من حيث اتحد الحامل]
(1)
للصفات.
وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى؛ فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف، نحو:"السميع العليم"، "العزيز الحكيم"، "الغفور الرحيم"، "الملك القدوس السلام" إلى آخرها، وجاءت
(2)
معطوفة في موضعين.
أحدهما: في أربعة أسماء، وهى:{الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
والثاني: في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل دوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 2 - 4] ونظيره: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 10 - 12] فأما ترك العطف في الغالب؛ فلتناسب معاني تلك الأسماء (ق / 75 أ) وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها عند
(3)
شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر
(4)
، وكذلك:{الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24].
وأما تلك الأسماء الأربعة؛ فهي ألفاظ متباينة المعاني، متضادَّة الحقائق في أصل موضوعها، وهى متفقة المعاني متطابقة في حق
(1)
إلى هنا ينتهي السقط في نسخة (ق)، وقد بدأ من قوله:"رجل من الضمير" ص/ 325.
(2)
(ق): "وكانت".
(3)
من (ق).
(4)
العبارة في (ق): "السميع انتقل الذهن منها إلى البصير".
الرب تعالى، لا يبقى منها معنى لغيره، بل هو أول كما أنه هو آخر، وظاهر كما أنه باطن. ولا يناقض بعضها بعضًا في حقِّه، فكان دخول الواو صَرْفًا لوهم المخاطب -قبل التفكر والنظر- عن توهم المحال. واجتماع
(1)
الأضداد؛ لأن الشيءَ لا يكون ظاهرًا باطنًا من وجهٍ واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين، فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة، هذا جواب السهيلي
(2)
.
وأحسن منه أن يقال: لما كانت هذه الألفاظ دالة على معانٍ متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تبايُنِها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات، إيذانًا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.
ووجه آخر وهو أحسن منهما (ظ/ 57 أ) وهو: أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره، فيكون في الكلام متضمِّنًا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير، وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه: إذا كان لرجل -مثلاً- أربع صفات هو: عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطَب لا يعلم ذلك أو لا يقر به، ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل، فإذا قلتَ: زيد عالم، وكأنَّ ذهنه استبعد ذلك، فتقول: وجواد، أي: وهو مع ذلك جواد، فإذا قدَّرتَ استبعاده لذلك، قلت: وشجاع، أي: وهو مع ذلك شجاع وغني، فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه، تدرأ به توهم الإنكار.
وإذا عرفت هذا؛ فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في
(1)
(ظ ود): "واحتمال".
(2)
في "نتائج الفِكْر": (ص/ 239).
موصوف واحد. فإذا قيل: هو الأول، ربما سَرَى الوهم إلى أن كونه أولاً يقتضي أن يكون الآخر غيره؛ لأن الأولية والآخرية من المتضايفات. وكذلك "الظاهر والباطن" إذا قيل: هو الظاهر ربما سَرَى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية، فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر لا غيره
(1)
، وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه، فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية (ق/75 ب) ودقيقها.
والذي يوضح لك ذلك: أنه إذا كان للبلد مثلاً قاض وخطيب وأمير، فاجتمعت في رجل، حَسُنَ أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير، وكان للعطف هنا مَزِية ليست للنعت المجرَّد، فعَطْف الصفات هاهنا أحسن، قطعًا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.
وأما قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فعَطَف في الاسمين الأوَّلين دون الآخرين. فقال السهيلي
(2)
: إنما حَسُن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال، وفعله سبحانه في غيره لا في نفسه، فدخل حرفُ العطفِ للمغايرة الصحيحة بين المعنيين، ولتنزلهما منزلةَ الجملتين؛ لأنه يريد تنبيهَ العبادِ على أنه يفعل هذا ويفعل هذا، ليرجُوْه ويؤمِّلوه. ثم قال:{شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، بغير واو؛ لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة، وهو معنى خارج عن صفات الأفعال، فصار بمنزلة قوله:{الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} وكذلك قوله: {ذِي الطَّوْلِ} ؛ لأن لفظ "ذي" عبارة عن ذاته.
(1)
من (ق).
(2)
في "نتائج الفِكْر": (ص/ 239).
هذا جوابه وهو كما ترى غير شافٍ ولا كافٍ، فإن شدة عقابه من صفات الأفعال، وطَوله من صفات الأفعال، ولفظة "ذي" فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل كقوله تعالى:{عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] بل لفظ الوصف بـ "غافر وقابل" أدل على الذات من
(1)
الوصف بـ "ذي"؛ لأنها بمعنى: صاحبِ كذا، فالوصف المشتق أدلُّ على الذات من الوصف بها، فلم يشفِ جوابُه رحمه الله بل زاد السؤال سؤالاً!!.
فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قِسْم، فابتدأها بـ "العزيز العليم"، وهما اسمان مطلقان، وصفتان
(2)
من صفات ذاته وهما مجردان عن العاطِف.
ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله فأدخل بينهما العاطف، ثم ذكر اسمين آخرين: بعدهما
(3)
وجرَّدهما من العاطف، فأما الأولان فتجريدهما من العاطف؛ لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله وهما (ظ/57 ب) متلازمان، فتجريدهما عن العطف هو الأصل، وهو موافق لسائر
(4)
ما في الكتاب العزيز من ذلك، كالعزيز العليم
(5)
، والسميع البصير، والغفور الرحيم
(6)
.
وأما {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} ؛ فدخل العاطف بينهما، لأنهما
(1)
"الذات من" سقطت: من (ظ)، و"على ذات" ساقطة من (د).
(2)
(ق): "نعم وصفيان".
(3)
بعدها في (ق) كلمة لم أتبينها ورسمها (عر)!.
(4)
(ظ ود): "لبيان".
(5)
(ق): "الحكيم".
(6)
"والسميع
…
الرحيم" ليست فى (ظ ود) وفي (ق) زيادة "واو" بين "السميع البصير".
في معنى الجملتين، وإن كانا مفرَدَيْن لفظًا فهما يعطيان معنى: يغفرُ الذنبَ ويقبل التوب، أي: هذا شأْنُه ووصفُه فى كلِّ وقت، فأتى بالاسم الدال على أن
(1)
هذا وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك، فعطف أحدهما على الآخر، على نحو عَطْف الجملِ بعضِها على بعض، ولا (ق/ 76 أ) كذلك الاسمان الأولان، ولما لم يكن الفعل ملحوظًا في قوله:{شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ؛ إذ لا يَحْسُن وقوع الفعل فيهما، وليس في لفظ "ذي" ما يُصَاغ منه فعل جَرَيا مجرى المفردين من كلِّ وجه، ولم يعطف أحدهما على الآخر، كما لم يعطف في العزيز العليم، فتأمَّلْه فإنه واضح.
وأما العطف في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3] فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال وهي جملة، دخلت الواو عاطفةً جملة على جملة، وإن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد، فالفعل مرادٌ مقصود، والعطف يُصَيِّر كلَّ
(2)
جملة منها مستقلة مقصودةً بالذكر، بخلاف ما لو أتى بها في خبر موصول واحد، فقيل:"الذي جعل لكم الأرضَ مِهادًا، وأنزلَ من السماءِ ماءً، وخلقَ الأزواجَ كلَّها"، كانت كلها في حكم جملة واحدة، فلما غايَرَ بين الجمل بذكر الاسم الموصول مع كلِّ جملةٍ دلَّ على أن المقصود وصفه بكل جملةٍ جملةٍ
(3)
من هذه الجمل على حِدَّتها، وهذا قريب من باب قطع النعوت، والفائدة هنا كالفائدة ثَمَّ، وقد تقدمت الإشارة إليها فراجعها، بل قطع النعوت إنما كان لأجل هذه
(1)
سقطت من (ظ ود).
(2)
(ظ ود): "على".
(3)
من قوله: "واحدة، فلما غاير
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
الفائدة، فذلك المقدر في النعوت المقطوعة لهذا المحققِ في النعوتِ المعطوفة، والحمد لله على ما منَّ به وأنعم، فإنه ذو الطَّولِ والإحسان.
تَتِمَّة
(1)
: تأمَّل كيف وقع الوصف بشديد العقاب بين
(2)
صفتي رحمة قبله
(3)
، وصفة رحمة بعده. فقبله:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وبعده: {ذِي الطَّوْلِ} ففي هذا تصديق الحديث الصحيح وشاهد له
(4)
، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَه فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي"
(5)
وفي لفظ: "سَبَقَتْ غَضَبِي"
(6)
وقد سَبَقت صفتا الرحمة هاهنا وغَلَبت.
وتأمل كيف أفتتح الآية بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [غافر: 2] والتنزيل يستلزم عُلوَّ المنزَّل من عنده، لا تعقل العربُ من لغتها بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة
(7)
إلا ذلك. وقد أَخْبرَ أن تنزيل الكتاب منه. فهذا يدل على شيئين: أحدهما: علوه تبارك وتعالى على خلقه. والثاني: أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده
(8)
لا غيره، فإنه أخبر أنه منه، وهذا يقتضي أن يكون منه قولاً كما أنه منه تنزيلاً، فإن غيره لو كان هو المتكلِّم به لكان الكتاب من ذلك الغير،
(1)
(د): "فائدة".
(2)
(ظ ود): "هي".
(3)
ليست في (ق).
(4)
"وشاهد له" ليست فى (ق).
(5)
أخرجه البخاري رقم (3194)، ومسلم رقم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
للبخاري رقم (7453)، ومسلم بعد الحديث السابق.
(7)
"السليمة الفطرة" ليست في (ق).
(8)
"من عنده" ليست في (ق).
فإن الكلام إنما يُضاف إلى المتكلِّم به.
ومثل هذا: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، ومثله:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، ومثله:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] فاستمسك بحرف "من" في هذه المواضع فإنه يقطع شَغَب
(1)
المعتزلة والجهمية.
وتأمل كيف قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ} ولم يقل: تنزيله، فتضمنت الآية إثبات علوه وكلامه
(2)
وثبوت الرسالة، ثم قال تعالى:{الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} ، فتضمَّن هذان الاسمان صفتي القدرة والعلم، وخلق أعمال العباد، وحدوث كل ما سوى الله؛ لأنَّ القدر
(3)
هو قدرة (ظ/58 أ) الله كما قال أحمد بن حنبل، فتضمنت إثبات القَدَر، ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه، أو أن يشاء ما لا يكون، فكمال عِزَّته تُبطل ذلك.
وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيءٍ، وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه؛ لأن كمالَ قدرته وعزته يبطل ذلك.
ثم قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} ، والذنب مخالفة شرعه وأمره، فتضمن هذان الاسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله، ثم قال:{شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، وهذا جزاؤه للمذنبين، وذو الطول
(4)
جزاؤه
(1)
(ق): "حُجج شغب".
(2)
(ق): "ومكانه".
(3)
(ظ ود): "القدرة".
(4)
من قوله: "هذان الاسمان
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
للمحسنين، فتضمنت الثواب والعقاب.
ثم قال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 3] فتضمن ذلك التوحيد والمعاد.
فتضمنت الآيتان إثبات صفة: العلو، والكلام، والقدرة، والعلم، والشرع، والقَدَر، وحدوث العالم، والثواب، والعقاب، والتوحيد والمعاد
(1)
، وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمن: الرسالة والنبوة، فهذه عشرة
(2)
قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة
(3)
، ولكن:
* خَوْدٌ تُزَفُّ إلى ضَرِيْرٍ مُقْعَدِ *
فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمَّن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها!! وهكذا سائر آيات القرآن: فما أشدَّها من حسرة وما أعظمها من غَبْنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه!! فالله المستعان
(4)
.
فائدة جليلة
(5)
العامل في المعطوف مقدر في معنى العامل في
(6)
المعطوف
(1)
من قوله: "فتضمنت
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2)
ليسِت في (ظ ود)، لكن بإضافة "الشرع" وهي من (ق) تصبح إحدى عشرة قاعدة.
(3)
ليست في (ق).
(4)
ليست في (ق).
(5)
"نتائج الفِكر": (ص/ 249).
(6)
"العامل في" سقطت من (ظ ود).
عليه، وحرف العطف أغنى عن إعادته وناب منابه، وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع.
أما القياس؛ فإن ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله، ولا يتعلق به إلا في باب المفعول معه؛ لأنه قد أخذ معموله ولا يقتضي ما بعد حرف العطف ولا يصح تسليطه عليه بوجه، فلا تقول:"ضربتُ وعَمْرًا"، فكيف يقال: إن عاملاً يعمل في شيءٍ لا يصح مباشرته إياه، وأيضًا: فالنعتُ هو المنعوت في المعنى ولا واسطة بينه وبين المنعوت، ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في المنعوت على القول الذي نصرناه سالفًا، وهو الصحيح، فكيف بالمعطوف (ق/ 77 أ) الذي هو غير المعطوف عليه من كلِّ وجه!؟.
وأما السماع؛ فإظهار العامل قبل المعطوف في مثل قوله
(1)
:
بل بني
(2)
النجَّار إنَّ لنا
…
فيهمُ قَتْلى وإنَّ تِرَهْ
يريد: لنا فيهم قتلى وتِرَة، وهذا مطرد في سائر حروف العطف ما لم يمنع مانع كما منع في المعطوف على اسم لا يصح انفراده عنه، نحو:"اختصم زيد وعَمْرو"، و"جلستُ بين زيد وعَمْرو"، فإن الواو هنا تجمع بين الاسمين في العامل، فكأنك قلت: اختصم هذان، واجتمع الرجلان، في قولك:"اجتمع زيد وعمرو"
(3)
. ومعرفة هذه الواو أصل يُبْنَى عليه فروع كثيرة، فمنها أنك تقول:"رأيت الذي قام زيد وأخوه"، على أن تكون الواو جامعة، وإن كانت عاطفة لم يجز؛ لأن
(1)
ذكره ابن هشام في "السيرة": (1/ 23) ونسبَه لخالد بن عبد العُزَّى.
(2)
في النسخ: "بل بنو" والمثبت من "السيرة".
(3)
"فإن الواو
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
التقدير يصير
(1)
: "قام زيد وقام أخوه"، فخَلَت الصلةُ من العائد.
ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة: 9] غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما، ولو قلت:"طلعَ الشمس والقمر"، لقَبُح ذلك كما يقبح:"قام هند وزيد"، إلا أن تريد الواو الجامعة لا العاطفة. وأما في الآية فلابد أن تكون الواو جامعة، ولفظ الفعل يقتضي ذلك.
وأما "الفاء"؛ فهي موضوعة للتعقيب، وقد تكون للتسبيب والترتيب (ظ / 58 ب)، وهما راجعان إلى معنى التعقيب؛ لأن الثاني بعدهما أبدًا إنما يجيء في عَقب الأول فالتسبيب نحو:"ضربته فبكى"، والترتيب [نحو]:{أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] دخلت الفاء لترتيب اللفظ؛ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر؛ لأن الاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. ومن هذا:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوه
…
ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلكَ جَدُّهُ
(2)
دخلت "ثم" لترتيب الكلام، لا لترتيب المعنى في الوجود، وهذا معنى قول بعض النحاة: إِنها تأتي للترتيب في الخَبَر لا في المُخْبر.
وعندي في الآية تقديران آخران أحسن من هذا:
أحدُهما: أَنْ يكون المراد بالإهلاك إرادة الهلاك، وعبَّر بالفعل عن الإرادة، وهو كثير، فترتَّب مجيءُ البأسِ على الإرادة ترتُّب المراد على الإرادة.
(1)
سقطت من (ظ ود).
(2)
البيت لأبي نُوَاس، "ديوانه":(ص/493) والرواية فيه:
قل لمن سادَ ثم سادَ أبوه
…
قبلَه، ثم قبلَ ذلك جدُّه
والثاني: -وهو ألطف- أن يكون الترتيب ترتيب تفصيل على جملة، فذكر الإهلاك، ثم فَصَلَه بنوعين: أحدهما: مجيء البأس بياتًا -أي: ليلاً- والثاني: مجيئه وقت القائلة، وخَصَّ هذين الوقتين؛ لأنهما وقت راحتهم وطمأنينتهم، فجاءَهم بأسُ اللهِ أَسْكَن ما كانوا وأَرْوَحَه، في وقت طمأنينتهم وسكونهم، على عادته -سبحانه- في أخذ الظالم في وقت بلوغ آماله
(1)
، وفرحه وركونه إلى ما هو فيه.
وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24] والمقصود: أن الترتيب هنا ترتيب التفصيل على الجمل، وهو ترتب علمي لا خارجي، فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولاً، ثم يطلب تفصيله بعد ذلك، وأما (ق/ 77 ب) في الخارج فلم يقع إلا مُفَصَّلاً، فتأمَّل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس، حتى ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الإخبار، أي: أنا أخبرناكم بهذا قبل هذا.
وأما قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] فعلى ما ذكرنا من التعبير عن إرادة الفعل بالفعل هذا هو المشهور.
وفيه وجه ألطف من هذا، وهو: أن العربَ تعبِّر بالفعل عن ابتداء الشروع فيه تارة، وتعبر به
(2)
عن انتهائه تارة، فيقولون: فعلتُ عند الشروع، وفعلتُ عند الفراغ، وهذا استعمال حقيقيٌّ، وعلى هذا فيكون معنى "قرأت" في الآية ابتداء الفعل، أي: إذا شرعتَ وأخذتَ في القراءة فاستعد، فالاستعاذة مرتبة على الشروع الذي هو مبادئ
(1)
(ظ ود) زيادة: "وكرمه".
(2)
(ق): "
…
فيه وتعبّر به عن
…
"، و (ظ ود): "فيه تارة وتعبر عن
…
".
الفعل ومقدمته وطليعته.
ومنه قوله: "فَصَلَّى الصُّبْحَ حِيْنَ طَلَعَ الفَجْرُ"
(1)
أي: أخذ في الصلاة عند طلوعه.
وأما قوله: "ثُمَّ صَلَاّهَا
(2)
مِن الغَدِ بَعْدَ أَنْ أسْفَرَ"
(3)
؛ فالصحيح أن المراد به الابتداء، وقالت طائفة: المراد به الانتهاء، منهم السهيلي
(4)
وغَلِطُوا في ذلك، والحديث صريح في أنه قدَّمها في اليوم الأول، وأخَّرها في اليوم الثاني ليبيِّن أوَّل الوقت وآخره.
وقوله في حديث جبريل
(5)
: "صَلَّى الظُّهْرَ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ"، هذا ابتداؤها ليس إلا.
وقوله: "صَلَّى العَصْرَ حِيْنَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلُهُ"؛ فذلك مراد به الابتداء.
وأما قوله: "وَصَلَّى الظُّهْرَ مِن الغَدِ حِيْنَ صَارَ ظِلُّ
(6)
الرَّجلِ مِثْلهُ"؟ ْفقيل: المراد به الفراغ منها، أي: فرغ منها في هذا الوقت، وقيل:
(1)
أخرجه مسلم رقم (613) من حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(2)
(ظ ود): "فصلاها".
(3)
قطعة من الحديث المتقدم.
(4)
في "نتائج الفكر": (ص/ 251).
(5)
أخرجه أحمد: (1/ 333)، وأبو داود رقم (393)، والترمذي رقم (149) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
والحديث قوَّاه ابن دقيق العيد، وصححه ابن عبد البر وغيره، وله شواهد من حديث جماعةٍ من الصحابة، انظر:"نصب الراية": (1/ 221 - 227)، و"التلخيص الحبير":(1/ 183).
(6)
من قوله: "كل شيءٍ
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
المراد به الابتداء، أي: أخَّرها إلى هذا الوقت بيانًا لآخر الوقت، وعلى هذا فتمسك به
(1)
أصحاب مالك في مسألة الوقت المشترك، والكلام في هذه المسائل ليس هذا موضعه.
فصل
(2)
وأما "حتى" فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية (ظ/59 أ) لما قبلها، وغايةُ كلِّ شيءٍ حَدُّه، ولذلك كان لفظُها كلفظِ الحدِّ فإنها:"حاءٌ" قَبْل تاءَين، كما أَنَّ "حاءَ"
(3)
الحدِّ قيل دالَيْن، والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر، فكانت لجَهْرها أولى بالاسم لقوَّته، والتاء لهمْسِها أولى بالحرفِ لضعفه، ومن حيث كانت "حتى" للغايةِ خفضوا بها كما يخفضون بـ "إلى"
(4)
التي للغاية.
والفرقُ بينهما: أن "حتى" غاية لما قبلها وهو منه، وما بعد "إلى" ليس مما قبلها، بل عنده انتهى ما قبل الحرف، ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها. ولم تكن "إلى" عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها، بخلاف "حتى"، ومن ثَمَّ دخلت "حتَّى" في حروف العطف، ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذا كانت خافضة، لا تقول:"قام القوم حتاك"، كما لا تقول:"قاموا وك"
(5)
، ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يَجُز في العطف:"قام زيد حتى (ق/78 أ) عَمْرو"، ولا:"أكلت خبزًا حتَّى تمرًا"؛ لأن الثاني ليس بحدٍّ للأولِ ولا طَرَفٍ.
(1)
سقطت من (ق).
(2)
"نتائج الفكر": (ص/ 252).
(3)
سقطت من (ق).
(4)
(ق): "إذا" وهو خطأ.
(5)
في "النتائج": "قام القوم وك".
تنبيه: ليس المراد من كون "حتى" لانتهاء الغاية، وأن ما بعدها طرفٌ
(1)
أن يكون متأخرًا في الفعل عما قبلها، فإذا قلت:"مات الناسُ حتى الأنبياء، وقَدِمَ الحاجُّ حتى المشاة"، لم يلزم تأخُّر موت الأنبياء عن الناس، وتأخُّر قدوم المشاة عن الحاجِّ.
ولهذا قال بعض الناس: إن "حتى" مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين، أحدهما: أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه، فلا تقول: قَدِم الناس حتى الخيل، بخلاف الواو. الثاني: أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة، وأما أن يُفهم منها الغاية والحدُّ فلا، والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين، ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وطرفًا، فاعلم أن المراد به أن يكون غايةً في المعطوف. عليه لا في الفعل، فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقِلَّة والكثرة، وإذا فهمت هذا فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل، والمشاة غاية للحُجَّاج
(2)
في الضعف والعجز، وأنت إذا قلت: أكلتُ السمكةَ حتى رأسها، فالرأسُ غايةٌ لانتهاء السمكة، وليس المرادُ أنَّ غايةَ أكلك كان الرأس، بل يجوز أد يتقدم أكلك للرأس وهذا مما أغفله كثير من النحويين ولم يُنبًّهوا عليه.
فائدة
(3)
"أو" وُضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه، من حيثُ كان الشكُّ ترددًا بين أمرين
(1)
في "الأصول": "ظرفا"!.
(2)
(ق): "للناس".
(3)
"نتائج الفكر": (ص/ 253).
من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، لا أنها وُضِعت للشكِّ؛ فقد تكون في الخبر
(1)
الذي لا شك فيه إذا أبهمتَ على المخاطب ولم تقصد أن تُبيِّن له، كقوله سبحانه:{إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]، أي: أنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم: هم مئة ألف أو يزيدون
(2)
، فـ "أو" على بابها دالَّة على أحد الشيئين؛ إما مئة ألف بمجردها، وإما مئة ألف مع زيادة، والمخبر في كل
(3)
هذا لا يشك.
وقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ذهب الزجَّاج في هذه كالتي
(4)
في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] إلى أنها "أو" التي للإباحة، أي: أبيح للمخاطبين أن يُشَبِّهوا بهذا أو هذا، وهذا فاسد، فإن "أو" لم توضع للإباحة في شيءٍ من الكلام، ولكنها على بابها؛ أما قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} ، فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في (ظ/59 ب) حالتين مختلفتين، فهم لا يخلون من أحدِ الحالين، فـ "أو" على بابها من الدلالة على أحد المعنيين. وهذا كما تقول:"زيد لا يخلو أن يكون في المسجد أو الدار"، ذكرتَ "أو"؛ لأنك أردت أحدَ الشيئين. وتأمل الآية مع ما قبلها، وأفهم المراد منها تجد الأمرَ كما ذكرتُ لكَ، وليس (ق / 78 ب) المعنى: أبحتُ لكم أن تُشَبِّهوهم بهذا وهذا.
وأما قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، فإنه ذكرَ قلوبًا ولم يذكر قلبًا واحدًا، فهي على الجملة قاسية، وعلى التعيين؛
(1)
(ق): "للخبر" وكذا نسخ "النتائج".
(2)
من قوله: "أي: أنهم
…
" إلى هنا ساقط من (د).
(3)
ليست في (ق).
(4)
(ظ ود): "ذهب فى هذه وكالتي
…
" والمثبت من (ق)، وبنحوه في "النتائج".
لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون كالحجارة، وإما أن تكون أشدَّ قسوة، ومنها ما هو كالحجارة
(1)
، ومنها ما هو أشد قسوة منها. ومن هذا قول الشاعر:
فقلتُ لهم
(2)
: ثنتان، لابُدَّ منهما
…
صُدُورُ رِماحٍ أُشْرِعَتْ أو سَلاسِلُ
أي: لابد منهما في الجملة، ثم فَصَّل الاثنين بالرماح والسلاسل، فبعضهم له الرماح قتلاً
(3)
، وبعضهم له السلاسل أسرًا، فهذا على التفصيل والتعيين، والأول على الجملة، فالأمران واقعان جملة وتفصيلهما بما
(4)
بعد "أو". وقد يجوز في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، أن يكون مثل "مائة ألف أو يزيدون".
وأما "أو" التي للتخيير فالأمر فيها ظاهر.
وأما "أو" التي زعَموا أنها للإباحة، نحو:"جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين"، فلم توجد الإباحة من لفظ "أو" ولا من معناها، ولا تكون "أو" قط للإباحة وإنما أخذت من لفظ الأمر الذي هو للإباحة، ويدل على هذا: أن القائلين بأنها للإباحة يلزمهم أن يقولوا: إنها للوجوب إذا دخلت بين شيئين لابد من أحدهما، نحو قولك للمكفِّر: أطعم عشرةَ مساكين أو اكسهم، فالوجوب هنا لم يؤخذ من "أو" وإنما أخذ من الأمر، فكذا جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين.
(1)
"ومنها ما هو كالحجارة" سقط من (د).
(2)
كذا، والبيت في "الأغاني":(13/ 47)، و"مغني اللبيب" رقم (96) والرواية فيهما: فقالوا لنا: ثنتان .. ، وهو لجعفر بن عُلْبَة الحارثي.
(3)
سقطت من (ق).
(4)
(ق): "وتفصيلاً وهما بما".
فصل
(1)
وأما "لكِنْ"؛ فقال السُّهيلي: "أصح القولين فيها أنها مركبة من "لا" و"إنَّ" و"كاف الخطاب" في قول الكوفيين. قال السهيلي: وما أراها إلا كاف التشبيه؛ لأن المعنى يدل عليها إذا قلت: "ذهب زيد لكنَّ عَمْرًا مقيم"، تريد: لا [كفعل]
(2)
عَمرو، فـ "لا" لتوكيد النفي عن الأول، و"إنَّ" لإيجاب الفعل الثاني، وهو المنفي عن الأول؛ لأنك ذكرتَ [الذهاب]
(3)
الذي هو ضده فدلَّ على انتفائه به.
قلت: وفي هذا من التعسف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى، وأيُّ حاجة إلى هذا بل هي حرف بشرطٍ
(4)
موضوع للمعنى المفهوم منها، ولا تقع إلا بين كلامين متنافِيَين.
ومن هنا قال: إنها رُكِّبت من: "لا والكاف وإن"، إلا أنهم لما حذفوا الهمزة المكسورة
(5)
كسروا الكاف إشعارًا بها، ولابدَّ بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجَبًا، شدَّدتَ نونها أو خفَّفتَ، فإن كان ما
(6)
قبلها منفيًّا اكتفيت بالاسم المفرد بعدها، إذا خُفِّفت النون منها، لِعِلْم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا الإيجاب، فلما اكتفت باسم مفرد -وكانت إذا خُفِّفت نونُها لا تعمل- صارت (ق/79 أ) كحروف العطف فألحقوها بها؛ لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من
(1)
"نتائج الفكر": (ص/ 255).
(2)
من "النتائج" وتحرّفت في النسخ.
(3)
في الأصول: "الذاهب" والمثبت من "النتائج".
(4)
كذا في (ظ)، وفي (ق): "حروف
…
" و (د) والمطبوعات: "حرف شرط"!.
(5)
في الأصول وبعض نسخ "النتائج": "المذكورة" والمثبت من إحدى نسخ النتائج.
(6)
(ظ ود): "ما في"!.
الدلالة، كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى، ليتفق اللفظ كما اتفق المعنى.
فإن قيل: أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي، وهي في كل
(1)
حال لا تقع إلا بين كلامين متضادَّيْن، فلم قالوا:"ما قام زيد لكن عَمْرو"، اكتفاءً بدلالة النفي على نقيضه، وهو الوجوب (ظ/ 60 أ)، ولم يقولوا:"قام زيد لكن عمرو"، اكتفاءً بدلالة الوجوب على نقيضه من النفي؟.
قيل: إن الفعل الموجب
(2)
قد يكون له معانٍ تضاده وتناقض وجوده، كالعِلْم فإنه يناقض وجوده الشك والظن والغفلة والموت، وأخصُّ أضدادِه به الجهل، فلو قلت:"قد علمت الخبر لكن زيد"، لم يُدْرَ ما أضفت إلى زيد، أظن أم شك أم غفلة أم جهل، فلم يكن بُدٌّ من جملة قائمة بنفسها ليعلم ما تريد، فإذا تقدَّم النفيُ نحو قولك:"ما علمتُ الخبرَ لكن زيد"، اكتفى باسم واحد؛ لِعِلم المخاطَب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجودُه؛ لأن النفي يشتمل على جميع الأضداد المنافية للعلم.
فإن قيل: فلم إذا خففت "لكن" وجبَ إلغاؤها، بخلاف "أَنَّ" و"إِنَّ" و"كأن"، فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف، كما قال:
*كَأَنْ ظَبْيةً تَعْطُو إِلى وَارِقِ السَّلَم
(3)
*
(1)
ليست في (ظ ود).
(2)
(ق): "من الوجوب".
(3)
صدره:
* ويومًا توافينا بوجهٍ مقسَّمٍ *
ذكره في "اللسان": (12/ 482) ونسبه إلى كعب بن أرقم اليشكري.
قيل: زعم الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خُفِّفن، فلذلك ألزموا "لكن" إذا خُفِّفت الإلغاء، تنبيهًا على أن ذلك هو الأصل في جميع الباب، وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها، فيقال له: فلم خُصَّت "لكن" بذلك دون "أنَّ" و"إنَّ" و [كأنَّ]
(1)
؟ ولا جواب له عن هذا!.
قال السهيلي
(2)
: وإنما الجواب عن ذلك أنها لما رُكِّبت من "لا" و"إن" ثم حُذِفت الهمزة اكتفاء بكسر "الكاف" بقي عمل "إنَّ" لبقاء العلة الموجبة للعمل، وهي فتح آخرها، وبذلك ضارَعَت الفعل، فلما حُذِفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة للتركيب ولم يبقَ إلا النون الساكنة، وجبَ إبطال حكم العمل بذهاب طرفيها وارتفاع عِلة المضارعة للفعل، بخلاف أخواتها إذا خُفِّفن، فإن معظم لفظها باقٍ، فجاز أن يبقى حكمها، على أن الأستاذ أبا القاسم الرَّمَّاك
(3)
قد حكى رواية عن يونس أنه حكى الإعمال في "لكن" مع تخفيفها، وكان يستغرب هذه الرواية.
* * *
واعلم أن "لكن" لا تكون حرف عطف مع دخول "الواو" عليها؛ لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف، فمتى رأيت حرفًا من حروف
(1)
من "النتائج".
(2)
في "نتائج الفكر": (ص/257).
(3)
هو: عبد الرحمن بن محمد أبو القاسم الأموي الإشبيلي المعروف بابن الرَّمَّاك ت (541).
انظر: "بغية الملتمس": (ص/ 346)، و"بغية الوعاة":(2/ 86) ووصفه السُّهيلي بأنه كان إمامًا في هذه الصناعة.
العطف
(1)
مع الواو، فالوَاوُ هِيَ العاطفة دونه؛ فمن ذلك "إما"، إذا قلت:"إما زيد وإما عَمَرو"، وكذلك "لا" إذا قلتَ:"ما قام زيد (ق / 79 ب) ولا عَمْرو"، ودخلت "لا" لتوكيد النفي، ولئلا يتوهم أن "الواو" جامعة، وأنك نفيتَ قيامهما في وقت واحد.
[فصل في لا العاطفة]
ولا تكون "لا"
(2)
عاطفة إلا بعد إيجاب، وشرطٌ آخر، وهو أن يكون الكلام قبلها يتضمَّن بمفهومِ الخطاب نفيَ الفعل عما بعدها، كقولك:"جاءني رجلٌ لا امرأة، ورجل عالم لا جاهل"، ولو قلتَ:"مررتُ برجل لا زيد"، لم يَجُز، وكذلك:"مررتُ برجل لا عاقل"؛ لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني، وهي لا تدخل إلا لتوكيد نفيٍ، فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ "غير"، فتقول:"مررتُ برجل غير زيد"، و"برجل غيرِ عالمٍ"، ولا تقول:"برجلٍ غير امرأة"، ولا:"بطويل غير قصير"؛ لأن في مفهوم الخطاب ما يغنيك عن مفهوم النفي الذي في "غير"، وذلك المعنى الذي دل عليه المفهوم حين قلتَ: بطويل لا قصير.
وأمَّا إذا كانا اسمين مُعَرَّفَين نحو: "مررت بزيد لا عَمْرو"، فجائز هنا دخول غير، لجمودِ الاسم العلم، فإنه ليس له مفهوم خطاب (ظ/60 ب) عند الأصوليين
(3)
، بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها، كرجل، فإنه: بمنزلة قولك: ذكر، ولذلك دلَّ بمفهومه على انتفاء
(4)
الخبر عن المرأة، ويجوز أيضًا:"مررتُ بزيد لا عَمْرو"؛
(1)
"فمتى رأيت حرفًا من حروف العطف" سقط من (ق).
(2)
سقطت من (ظ ود).
(3)
في "النتائج": "إلا الصيرفي من الشافعية".
(4)
في الأصول، ونسخ "النتائج":"انتقال" واستظهر محققه ما أثبتُّه.
لأنه اسم مخصوص بشخص فكأنه حين خَصَصْته بالذكر نفيتَ المرور عن عَمرو، ثم أكدتَ ذلك النفي بـ "لا".
وأما الكلام المنفيّ فلا يعطف عليه بـ "لا"؛ لأن نفيكَ الفعل عن "زيد" إذا قلت: "ما قام زيد"، لا يُفهم منه نفيه عن "عَمْرو"، فيؤكَّد بـ "لا".
فإن قلت: أُكِّدَ بها النفيُ المتقدِّم.
قيل لك: وأيُّ شيءٍ يكونُ حينئذٍ
(1)
إعراب "عَمْرو"، وهو اسم مفرد، ولم يدخل عليه عاطف يعطفه على ما قبله؟ فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي [له] بخبر، فتقول:"ما قام زيد لا عَمْرو هو القائم"، وأما إن أردت تشريكهما في النفي فلابُدَّ من الواو، إما وحدها وإما مع "لا"، ولا تكون "الواو" عاطفة ومعها "لا".
وأما قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} فإن معنى النفي موجود في "غير".
فإن قيل: فهلَاّ قال: " [لا]
(2)
المَغْضُوب عَلَيْهِمْ وَلا الضَالِّينَ"
(3)
.
قيل: في ذكر "غير" بيان للفضيلة للذين أنعم عليهم، و [تخصيص]
(4)
لنفي صِفَة الضلال والغضب عنهم، وأنهم الذين أنعم عليهم
(5)
بالنبوة والهدى دون غيرهم، ولو قال:"لا المغضوب عليهم"، لم يكن في
(1)
ليست في (ق).
(2)
من "النتائج".
(3)
من قوله: "فإن معنى
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(4)
تحرفت في الأصول، والمثبت من "النتائج".
(5)
من قوله: "وتخصيص
…
" إلى هنا ساقط من (د).
ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما تقول:"هذا غلام زيد لا عَمْرو"، أكدت نفيَ الإضافة عن عَمْرو، بخلاف قولك:"هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث"، فكأنك جَمَعتَ بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره، وبين نفي الصفة المذمومة عن الفقيه، فافهمه.
فإن قيل: وأي شيء أكَّدَت "لا" حين أدخلتَ عليها الواو، وقد (ق/ 80 أ) قلت: إنها لا تؤكد النفي المتقدم، وإنما تؤكد نفيًا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف "ما"، كقولك:"جاءني عالم لا جاهل"؟.
فالجواب: أنك حين قلت: " [ما] جاءني زيد"، لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عَمْرو كما تقدم، فلَما عُطِفت بالواو دلَّ الكلامُ على انتفاء الفعل عن عمرو، كما انتفى عن الأول لمقام الواو مقام تَكْرار حرف النفي
(1)
، فدخلت "لا" لتوكيد النفي
(2)
عن الثاني.
فائدة بديعة
"أم" تكون على ضربين؛ متصلة وهي المعادلة لهمزة الاستفهام، وإنما جعلوها معادلة للهمزة دون "هل" و" [متى]
(3)
" و"كيف"؛ لأن الهمزة هي أم الباب، والسؤال بها استفهام بسيط مطلق، غير مقيد بوقتٍ ولا حال، والسؤال بغيرها استفهام مركَّب مقيد؛ إما بوقت [كـ "متى"، وإما بمكان]
(4)
كـ "أين"، وإما بحال نحو "كيف"، وإما
(1)
(ق): "مقام بل إن حرف
…
"، و (ظ): "لقيام الواو مقام تكرار النفي".
(2)
(ق): "الفعل".
(3)
في الأصول: "من" والمثبت من "المنيرية".
(4)
ما بين المعكوفين من "المنيرية".
بنسبةٍ، نحو:"هل زيد عندك"؟ ولهذا لا يقال: "كيف زيد أم عَمرو"، ولا:"أين زيد أم عَمْرو". ولا: "من زيد أم عَمْرو"
(1)
.
وأيضًا؛ فلأنَّ الهمزة و"أم" يصطحبان كثيرًا، كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] ونحو قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} [النازعات: 27].
وأيضًا؛ فلأن اقتران "أم" بسائر أدوات النفي غير الهمزة يُفْسد معناها، فإنك إذا قلتَ: كيف زيد، فأنت سائل عن حاله، فإذا قلت: أم عَمْرو، كان خَلْفًا من الكلام، وكذلك إذا قلتَ: من عندك، فأنت سائل عن تعيينه، فإذا قلتَ: أم عَمْرو، فسد الكلام، وكذلك الباقي.
وأيضًا؛ فإنما عادَلَت الهمزة دون غيرها؛ لأن الهمزة من بين حروف الاستفهام تكون للتقرير والإثبات، نحو: ألم أُحْسِن إليك؟، فإذا قلت: أعندك زيد أم عَمْرو، فأنت (ظ/61 أ) مُقِر بأن أحدهما عنده، ومثبت لذلك، وطالب تعيينه، فأتوا بالهمزة التي تكون للتقرير دون "هل" التي لا تكون لذلك، إنما يستقبل بها الاستفهام استقبالاً.
وسرُّ المسألة: أن "أم" هذه مُشْرَبة معنى أي، فإذا قلت:"أزَيْد عندك أم عَمْرو"؟، كأنك قلت:"أيّ هذين عندك"، ولذلك يتعيَّن الجواب بأحدهما أو بنفيهما أو بإثباتهما. ولو قلت:"نعم" أو "لا"، كان خَلْفًا من الكلام، وهذا بخلاف "أو"، فإنك إذا قلتَ:"أزيد عندك أَو عَمْرو"، كنت سائلاً عن كون أحدهما عنده غير معين، فكأنك قلت:"أعندك أحدهما"، فيتعين الجواب بـ "نعم" أو "لا".
وتفصيل ذلك: أن السؤال على أربع مراتب في هذا الباب،
(1)
الجملة الأخيرة ليست في (ق).
الأول السؤال بالهمزة منفردة، نحو:"أعندك شيءٌ مما يُحتاج إليه"؟ فتقول: نعم، فتنتقل إلى المرتبة الثانية: بما
(1)
، فتقول: ما هو؟ فتقول: متاع، فتنتقل إلى المرتبة الثالثة: بأي، فتقول: إي متاع هو؟ فتقول: ثياب، فتنتقل إلى المرتبة الرابعة: فتقول: "أكتان هو أم قطن أم صوف"؟ وهذه أَخصُّ المراتب وأشدها طلبًا للتعيين، فلا يحسن الجواب إلا بالتعيين، وأشدها إبهاما السؤال الأول؛ لأنه لم يَدَّع فيه أن عنده شيئًا، ثم الثاني أقل إبهامًا منه؛ لأن فيه ادعاء شيءٍ عنده وطلب ماهيته، ثم الثالث أقل إبهامًا؛ وهو السؤال بأي؛ لأن فيه طلب تعيين ما عرف حقيقته، ثم السؤال الرابع بـ "أم" أخص من ذلك كله لأن فيه طلب تعيين فرد من أفراد قد عرفها وميزها، والثالث إنما فيه تعيين جنس عن غيره.
ولا بد في "أم" هذه من ثلاثة أمور تكون بها متصلة:
أحدها: أن تعادل بهمزة الاستفهام.
الثاني: أن يكون السائل
(2)
عنده علم أحدها دون تعيينه.
الثالث أن لا يكون بعدها جملة من مبتدأ وخبر، نحو قولك: أزيد عندك أم عندك عمرو، فقولك أم عندك عمرو، يقتضي أن تكون منفصلة، بخلاف ما إذا قلت "أزيد عندك أم عمرو"، فإذا وقعت الجملة بعدها فعلية لم تُخرجها عن الاتصال، نحو "أعطيت زيدًا أم حرمته".
وسرُّ ذلك كله: أن السؤال قام عن تعيين أحد الأمرين أو الأمور
(3)
،
(1)
من (ق).
(2)
(ق): "أن السائل يكون".
(3)
(ظ): "للأمر".
فإذا قلت: "أزيد عندك أم عمرو" كأنك قلتَ: أيهما عندك، وإذا قلت:"أزيد عندك أم عندك عمرو"، كان كل واحد منهما جملة مستقلة بنفسها، وأنت سائل هل عنده زيد أو لا؟ ثم استأنفت سؤالًا آخر: هل عنده عمرو أم لا؟ فتأمله فإنه من دقيق النحو وفقهه، ولذلك سُمِّيت متصلةً؛ لاتصال ما بعدها بما قبلها وكونه كلامًا واحدًا.
وفي السؤال بها معادلة وتسوية؛ فأما المعادلة؛ فهي بين الاسمين أو الفعلين؛ لأنك جعلت الثاني عديل الأول في وقوع الألف على الأول، و"أم" على الثاني. وأما التسوية؛ فإن الشيئين المسؤول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل وعلى هذا فقوله تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] هو على التقرير والتوبيخ، والمعنى: أي
(1)
المخلوقين أشد خلقًا وأعظم؟ ومثله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37].
فإن قيل: هذا ينقض ما أصَّلتموه، فإنكم ادعيتم أنها إنما يسئل [بها] عن تعيين ما عُلِم وقوعه، وهنا لا خير فيهِم ولا في قوم تُبَّع
(2)
؟.
قيل: هذا لا ينقض ما ذكرناه بل يشده ويقويِّه، فإن مثل هذا الكلام يخرج خطابًا على تقرير دعوى المخاطب، وظنه أن هناك خيرًا، ثم يدعي أنه هو ذلك المفضل، فيخرج الكلام مخرج التقريع والتوبيخ على زعمه وظنه، أي: ليس الأمر كما زعمتم، وهذا كما تُعاقِب شخصًا على ذنب لم يفعله مثله ويدعي أنك لا تعاقبه، فتقول: أنت خير أم فلان؟ وقد عاقبتُه بهذا الذنب أي: ولست خيرًا منه.
(1)
(ق): "أن"!.
(2)
هذا السؤال ساقط من (ق).
فصل
(1)
وأما "أم" التي للإضراب وهي المنقطعة، فإنها قد تكون "أم"
(2)
إضرابًا، ولكن ليس بمنزلة "بل" كما زعم بعضهم، ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم أدركك الشك، مثل قولهم: إنها لإِبلٌ أم شاء؟ كأنك أضربت عن اليقين ورجعت إلى الاستفهام حين أدركك الشك.
ونظيره قول الزَّبَّاء: "عسى الغوير أَبؤْسا"
(3)
، فتكلمت بـ "عسى الغوير " ثم أدركها اليقين فختمت كلامها بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم "عسى"؛ لأن "عسى" لا يكون خبرها اسمًا [غير]
(4)
حدث، فكأنها لما قالت: عسى الغُويَر قالته متوقعة شرًّا تريد الإخبار بفعل مستقبل متوقَّع كما تقتضيه عسى
(5)
، ثم هجم عليها اليقين، فعدلت إلى الإخبار باسم حدث يقتضي جملة ثبوتية محقَّقة، فكأنها قالت: صار الغوير أبؤسا، فابتدأت كلامها على الشك والتوقع، ثم ختمته بما يقتضي اليقين والتحقُّق.
فكذا "أم" إذا قلت: إنها لإبل، ابتدأت كلامك باليقين والجزم، ثم أدركك الشك في أثنائه، فأتيت بأم الدالة على الشك، فهو عكس طريقه "عسى الغوير أبؤسا" ولذلك قدرت بـ "بل" لدلالتها
(6)
على الإضراب، فإنك أضربت عن الخبر الأول إلى الاستفهام والشك،
(1)
"نتائج الفِكْر": (ص / 260) بنحوه، بزيادة كبيرة من المؤلف.
(2)
سقطت من (ق).
(3)
مثل ذكره الميداني في "مجمع الأمثال": (2/ 341).
(4)
(ق): "عن" والمثبت من "النتائج".
(5)
من قوله: "اسمًا غير
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(6)
(ق): "الدلالة ما".
فإنك أخبرت أولًا عما توهمته، ثم أدركَك الشكُّ فأضربتَ عن ذلك الإخبار، وإذا وقع بعد "أم" هذه الاسم المفرد، فلابدَّ من تقدير مبتدأ محذوف وهمزة استفهام، فإذا قلت: إنها لإبل أم شاء؟ كان تقديره: لا، بل أهي شاء؟ وليس الثاني خبرًا ثبوتيًّا كما توهمه بعضهم وهو من أقبح الغلط! والدليل عليه قوله تعالى:{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43]{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38]{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات: 156]{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35] فهذا ونحوه يدلك على أن الكلام بعدها استفهام محض، وأنه لا يُقدّر بـ "بل" وحدها، ولا يُقَدَّر -أيضًا- بالهمزة وحدها؛ إذ لو قُدِّر بالهمزة وحدها لم يكن بينه وبين الأول علقة؛ لأن الأول خبر، و" أم" المقدرة بالهمزة وحدها لا تكون إلا بعد استفهام فتأمله.
هذا شرح كلام النحاة وتقريره في هذا الحرف. والحقُّ أن يُقال: إنها على بابها وأصلها الأول من المعادلة والاستفهام حيث وقعت وإن لم يكن قبلها أداة استفهام في اللفظ، وتقديرها بـ "بل" والهمزة خارجٌ عن أصول اللغة العربية، فإن "أم" للاستفهام و "بل" للإضراب، ويا بعد ما بينهما!! والحروف لا يقوم بعضها مقام بعض على أصح الطريقين، وهي طريقة إمام الصناعة والمحققين من أتباعه، ولو قُدِّر قيام بعضها مقام بعض فهو فيما تقارب معناهما كمعنى "على" و"في" ومعنى "إلى" و"مع". ونظائر ذلك، وأما في مالا جامع بينهما؛ فلا
(1)
. ومن هنا كان زعم من زعم أن "لا" قد
(1)
(ق): "فكلا" و (د): "وكلا".
تأتي بمعنى الواو باطلًا، لبعد ما بين معنييهما، وكذلك " أو" بمعنى" الواو"، فأين معنى الجمع بين الشيئين إلى معنى الإثبات لأحدهما؟ وكذلك مسئلتنا، أين معنى "أم" من معنى "بل"؟ فاسمع الآن فقه المسألة وسرِّها:
اعلم أن ورود "أم" هذه على قسمين: أحدهما: ما يتقدمه استفهام صريح بالهمزة، وحكمها ما تقدَّم، وهو الأصل فيها والآخِيَّةُ
(1)
التي يرجع إليها ما خرج عن ذلك. والثاني: ورودها مبتدأة مجرَّدةً من استفهام لفظي سابق عليها، نحو قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف: 9] وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا}
(2)
[التوبة: 16]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} [المؤمنون: 69]، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ}
(3)
[الطور: 39]{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52]{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} [الروم: 35]، وهو كثير جدًّا تجد فيه "أم" مبتدأ بها ليس قبلها استفهام في اللفظ، وليس هذا استفهام استعلام، بل تقريع وتوبيخ وإنكار وليس بإخبار
(4)
فهو إذا متضمن لاستفهام سابق، مدلول عليه بقوة الكلام وسياقه، ودلت "أم" عليه؛ لأنها لا تكون إلا بعد تقدم استفهام،
(1)
الآخيّة هي: عروة الحبل تشدّ إليها الدابة، والمعنى: أنها الأصل المرجوع والمحتكم إليه. انظر: "اللسان": (14/ 23 - 24).
(2)
الآية ليست في (ظ، د).
(3)
الآية ليست في (ق).
(4)
"وليس بإخبار" ليست في (ق).
كأنه يقول: "أيقولون: صادق أم يقولون: شاعر؟ " وكذلك: أم يقولون: تَقَوَّله، أي: أتصدقونه أم تقولون: تَقَوَّله؟! وكذلك {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} ، أي أبلغك خبرهم أم حسبت أنهم من آياتنا عجبًا. وتأمل كيف تجد هذا المعنى باديًا على صفحات قوله تعالى:{مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] كيف تجد المعنى: أحَضَرَ أم كان
(1)
من الغائبين. وهذا يظهر كلَّ الظهور فيما إذا كان الذي دخلت عليه "أم" له ضد، وقد حصل الترددُ بينهما، فإذا ذُكِرَ أحدهما استُغْني به عن ذكر الآخر؛ لأن الضد يخطر بالقلب وهلة
(2)
عند شعوره بضده.
فإذا قلت: ما لي لا أرى زيدًا أم هو في الأموات؟ كان المعنى الذي لا معنى للكلام
(3)
سواه: أحيٌّ هو أم في الأموات. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] معناه: أهو خير مني أم أنا خير منه. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدَّر في قوة الكلام. فإذا قلت: لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك
(4)
كان معناه: أحسبت أني أعاقبك فأقدمت على العقوبة، أم حسبت أني لا أعاقبك
(5)
فجهلتها. وكذلك قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
(1)
من قوله: "على صفحات
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2)
(ظ ود): "وهو".
(3)
(ق): "لك".
(4)
العبارة في (ق): "لم فعلت أم حسبت أني لا
…
".
(5)
من قوله: "كان معناه
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد فتكونوا جاهلين، أم لم تحسبوا ذلك فتكونوا مفرِّطين. وكذلك إذا قلت: أم حسبت أن تنال العلم بغير جدٍّ واجتهاد معناه: أحسبت أن تناله بالبطالة والهوينا فأنت جاهل، أم لم تحسب ذلك فأنت مفرِّط.
وكذلك: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 21] أي: أحسبوا هذا فهم مغترون
(1)
، أم لم يحسبوه فما لهم مقيمون على السيئات. وعلى هذا سائر ما يَرِد عليك من هذا الباب.
وتأمل كيف يذكر -سبحانه- القِسْم الذي يظنونه ويزعمونه، فينكره عليهم وأنه مما لا ينبغي أن يكون، ويترك ذكر القسم الآخر الذي لا يذهبون إليه فتردد الكلامُ بين قسمين، فيصرح بإنكار أحدهما وهو الذي سيق الكلام
(2)
لإنكاره، ويكتفي منه بذكر الآخر، وهذه
(3)
طريقة بديعة عجيبة في القرآن نذكرها في باب الأمثال وغيرها، وهي من باب الاكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم لدلالته عليه، فأحدهما مذكور صريحًا والآخر ضمنًا. ولذلك أمثلة في القرآن يُحْذف منها الشيء للعلم بموضعه، فمنها قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا} {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} {وَإِذْ فَرَقْنَا} {وَإِذْ جَعَلْنَا} ، وهو كثير جدًّا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في "إذ"؛ لأن الكلام في سياق تَعْداد النعم وتكرار الأقاصيص، فيشير بالواو العاطفة إليها، كأنها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد. ولما خفي هذا على بعض ظاهرية
(1)
تحرفت في (ق) إلى: "مقرون".
(2)
من (ق).
(3)
في الأصول: "وهذا".
النحاة قال إن "إذ" زائدة هنا، وليس كذلك.
ومن هذا الباب "الواو" المتضمِّنة معنى "رُبَّ"، فإنك تجدها في أول الكلام كثيرًا إشارة منهم إلى تَعْداد المذكور بعدها
(1)
من فخر أو مدح أو غير ذلك. فهذه كلها معان مضمرة في النفس، وهذه الحروف عاطفة عليها، وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود:"دَعْ ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك"
(2)
.
ومن هذا الباب حذف كثير من الجوابات في القرآن لدلالة "الواو" عليها لعلم المخاطب أن "الواو" عاطفة، ولا يُعْطف بها إلا على شيء كقوله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وهو كثير
(3)
وهذا الباب واسع في اللغة.
فهذا ما في هذه المسألة، وكان قد وقع لي هذا بعينه أيام
(4)
المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضربُ عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيته بعدُ لفاضلين من النحاة؛ أحدهما: حامَ حوله وما وَرَدَ، ولا أعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السهيلي رحمه الله فإنه كَشَفَه وصرَّح به
(5)
، وإذا لاحت الحقائق؛ فكن أسعد الناس بها وإن جفاها الأغمار!! والله الموفق للصواب.
(1)
كذا بالأصول ونسخ "النتائج" واستظهر محققه أنها: "قبلها".
(2)
ورد بمعناه أحاديث مرفوعة عن جماعة من الصحابة، عن أبي أمامة، ووابصة ابن معبد، والنواس بن سمعان.
(3)
"وهو كثير" ليست في (ظ ود).
(4)
(ظ ود): "أمام".
(5)
في كتابه "نتائج الفِكر"، وقد تقدم العزو إليه.