الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد للمبحث:
سأسلط الضوء في هذا المبحث على منظور آخر وبمعنى آخر، والغرض من ذلك هو استشفاف مزيدٍ من الفوائد والنكت من آيات الله الجليلة في كتابه الكريم.
انتهت السورة العظيمة ــ سورة الفاتحة ــ بقوله تعالى:
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
وبدأت سورة البقرة بقوله تعالى:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
ومضة:
لاحظ
…
أن سورة الفاتحة انتهت بمعضلة.
وبداية سورة البقرة اشتملت على حل المعضلة التي ذُكرت في نهاية سورة الفاتحة.
تفصيل ما سبق:
في تلك الآية السابقة والتي تنتهي بها سورة الفاتحة نلاحظ أن هناك معضلتين وإشكالين كبيرين، هذان الإشكالان يتمثلان بفئتين هما:(المغضوب عليهم) و (الضالين)، وإِشكَالهُم الذي وقعوا فيه أن لديهم اعتقادات جذرية تبعدهم عن طريق
الهداية (الصراط المستقيم)، والدين القويم، مما جعلهم يضلون ويتركون الطريق الصحيح ويكفرون بالله.
فالصراط المستقيم طريق مخصوصٌ وَهِبَةٌ للذين أنعم الله عليهم فقط، بمعنى أنه لا يشاركهم فيه أحد من أهل الضلالة واتباع الهوى، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} .
وحتى تكتمل المنظومة في الفوائد القرآنية في هذا الكتاب العزيز فإن هاتين الفئتين تحتاجان توضيحًا لطريق
…
الهداية
(1)
تمامًا كما نحتاج إلى التحذير منهما وذمهما والرد عليهما، فلا يُكتفى بذمهما فقط
(2)
من غير السعي في علاج ما هم عليه من الضلال، بل هذه هي الدعوة إلى الله ومنهج القرآن
(3)
، ليبتعدوا على ما هم عليه من الباطل الذي يغضب الله تعالى وتقدس.
(1)
انظر تفسير الضوء المنير (1/ 80).
(2)
أنا لا أنكر ذمهما، ولكن ليس هذا هو المغزى الوحيد من إظهار القضية أو المعضلات.
(3)
عدم علاج الأمر يجعله ينتشر.
ولعل في الأمر حجة عليهم أيضًا، لأن الحق ظهر لهم فلا عذر ولا حجة بعد ذلك
(1)
.
فالمسألة لا تتعلق بذمهم والتقليل من شأنهم فقط، مع أنهم يستحقون أكثر من ذلك، وهو من المعاني الواضحة أيضًا بشأنهم، ولكن القرآن الكريم كتاب الوسطية والعدل، لا يوجد فيه ظلم أو إجحاف؛ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}
(2)
فلا يمكن أن نتغافل عن معانٍ أخرى لها نفس الأهمية، ويتضح من خلالها توازن وعدل هذا الكتاب العظيم، لذلك نجد أن في بداية سورة البقرة
(3)
آيات عظيمة تحمل قمة البلاغة والبيان بين طياتها ــ كسائر آيات القرآن
(1)
وإظهار الحجة هو منهج شرعي يلتزم فيه الشرع.
(2)
سورة فصلت.
(3)
وهذا يظهر من ربط الآيات عند تلاوة القرآن، فالقضية لا تنتهي بانتهاء قراءة سورة الفاتحة فقط، لا هذا لا يصلح ولكن ستظهر أمور كثيرة عندما نربط نهاية سورة الفاتحة ببداية سورة البقرة.
الكريم ــ لها كثيرٌ من المدلولات وتحتوي على فوائد جليلة، حيث إن من معانيها توضيح الطريق الصحيح للمخاطب
(1)
.
غير ما تحويه من جماليات رائعة للمشار إليه
(2)
والسر وراء كل هذه الفوائد من تلك الآيات أن الخطاب فيها عام وغير مخصص
(3)
.
ولا ضير، فهذا من رحمة الله تعالى التي تتجلى في كتابه العظيم امتدادًا لأول آية في القرآن الكريم (بسم الله الرحمن الرحيم) التي تبين وتُذَكِّر برحمة الله ولطفه
(4)
وحتى لا يقنط أحد من خلقه، فهو الرحمن الرحيم تعالى وتقدس
…
إذًا
…
(1)
علمًا أن المخاطب هنا للعاقل، والذي اشتملت عليه سورة الفاتحة والتي جاء فيها ثلاث فئات هم المقصودون من الخطاب، والذين هم عقلاء فهي مدح للمتقين وتوجيه للضالين والمغضوب عليهم.
هناك ثلاثة أصناف ذكرت في أواخر سورة الفاتحة للعاقل 1 ـ الذين أنعمت عليهم، 2 ـ المغضوب عليهم، 3 ـ الضالين، الخطاب سوف يحتويهم لأن الخطاب يكون للعاقل في القرآن الكريم. بمعنى آخر أن معنى الآيات يقصد به هذه الفئات المذكورة.
(2)
القرآن الكر يم في قوله تعالى: (ذلك الكتاب).
(3)
سنشرح ذلك بالتفصيل ــ إن شاء الله تعالى ــ عند الحديث عن قاعدة العبرة بعموم اللفظ.
(4)
انظر: المبحث الخاص بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) من هذا الكتاب.
المعضلة الأولى: والتي جاءت في نهاية سورة الفاتحة أن هناك المغضوب عليهم.
والثانية: أن هناك الضالين، ويجب أن يكون هناك حل لهاتين المعضلتين بغض النظر عن كفرهم وفسقهم وبُعدهم عن الحق.
والقارئ لكتاب الله يجد أن هذا أسلوبٌ قرآنيٌ فريدٌ، وهو ذكر المشكلة وإتباعها بحل للخروج من هذا الإشكال، ولإقامة الحجة أيضًا على من يخصه الموقف.
إن مقدمة سورة البقرة اشتملت على النصح والتوجيه والرد والتحذير (أين التحذير بـ[ألم])، فقد جاء في بدايتها دفاع عن القرآن الكريم دستورنا القويم قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} مما يدل على أن أحدًا ما تكلم وكذب وشكك في هذا القرآن العظيم وهم المغضوب عليهم والضالون ومن على شاكلتهم، فجاءت هذه الآية ردًّا عليهم، وبعد ذلك ذكرت صفات المتقين والتي هي بخلاف صفات المكذبين تمامًا.
ونلاحظ أن صفات المتقين هنا ليست فقط مدحًا للمتقين وإعلاءً لقدرهم وإظهارًا لمنزلتهم عند الله، بقدر أنها
أيضًا توجيه لمن قرأ أو سمع تلك الصفات كائنًا من كان بأن يلزمها حتى ينجو ويكون منهم، ويكون على الصراط المستقيم تحفيزًا لهم، إذن الآية ليست مجرد إخبار عن الكتاب، ولكن هي أيضًا ردٌّ على من أراد أن ينتقص من هذا الكتاب العظيم وأمور أخرى غير ذلك
(1)
.
تمامًا كما أن النظر في آيات شدة غضب الله على الفئة الضالة في آخر سورة الفاتحة واستثنائهم من الصراط المستقيم، فهي ليست فقط لإظهار غضب الله على الضالين وانتقاصهم، بل تحذير للمؤمنين أيضًا حتى لا يكونوا مثلهم ويبتعدوا عن طريقهم أشد البعد. ويتكرر أسلوب النصح والتوجيه في سورة البقرة بعد سرد سير ومنهج أهل الكفر والضلال، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
(2)
(1)
انظر (ص 149) الخرائط الذهنية، المخاطب في نهاية سورة الفاتحة وبداية سورة البقرة.
(2)
سورة البقرة، يقول الإمام أبو جعفر الطبري يرحمه الله: فأَمر ــ جل ثناؤه ــ الفريقين اللذَين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم =
هذه الآية الكريمة فيها الخطاب بالمدلول العام فبدأ بـ[يا أيها الناس](للجميع) وهي واضحة الدلالة
(1)
، ومغزاها حث الجميع على عبادة الله:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، بل وجاءت بعد ذكر صنفين من أصناف البشر بحسب معتقدهم وهم الكافرون
(2)
في قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
= ينذروا أنهم لا يؤمنون، لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعله على أبصارهم غشاوة، وعن فريق آخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قلبه: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع استبطانه خلاف ذلك، ومرض قلبه، وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك؛ وغيرهم من سائر خلقه المكلفين، بالاستكانة والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له، والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة؛ لأن الله ــ جل ذكره ــ هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، فقال لهم ــ جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر. تفسير الطبري (1/ 384، 385).
انظر تفسير القرطبي (1/ 340) أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها. وهذا حسن، كان المعنى على أوجه وجّه للمؤمنين ووجّه للكافرين كما بينا.
(1)
والظاهر أن الحديث هو عن الجميع تكرر معنا؛ فأول سورة الفاتحة خطاب للجميع، وهنا أيضًا خطاب للجميع، فليتنبه إلى ذلك.
(2)
يقول الطاهر بن عاشور: المذكورين هنا هم فريق من المشركين التحرير والتنوير (1/ 248).
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} والمنافقون
(1)
في الآية التي بعدها في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
وما هذا إلا لتوجيههم إلى الطريق الصحيح لحل المسائل التي هم واقعون فيها وجعلتهم في دائرة الكفر، وكل ذلك بعبادة الله ــ جل وعلا.
فعلى المسلم ألا يعيش فقط بين صفات المؤمنين والمتقين، وعليه أن ينظر إلى صفات أهل الكفر
(2)
حتى يتعظ ويتعرف على ما نحن فيه من نعيم، فالفرق شاسع بين الفريقين، وأيضًا لكي نتجاوز أخطاءهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، وحتى لا يكثر الغرور في القلب أو التكبر في الطاعات، فذلك بفضل من الله وحده أن جعلنا من المؤمنين.
(1)
يقول الطاهر بن عاشور: وهم المنافقون، التحرير والتنوير (1/ 248).
(2)
عرفت الشر لا للشر .. وكان سعيد بن المسيب يسأل عن الشر مخافة أن يقع فيه.
ومنهج القرآن الكريم في كثير من الآيات يحثنا على النظر في ما مضى من سنن وأحداث
(1)
حتى يكون الوعظ للنفس، يقول تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
(2)
وإذا بحثنا عن المناسبة لنهاية سورة الفاتحة بمقدمة سورة البقرة نجد فيها كل ما قدمنا له في هذا الفصل.
إن من أسباب ضلال المغضوب عليهم والضالين، البعد عن صفات المتقين؛ ومن أولاها الإيمان بالغيب لما له من أثر على الاعتقاد وأصول الدين، ووجود هذه الصفة هنا إنما هي إظهار لأعظم سبب للوصول لأرقى درجات الإيمان وهو التقوى، تمامًا كما أن عدم الإيمان بالغيب ــ عياذًا بالله ــ هو سبب ضلال الكفار بل أعظم سبب لضلالهم، لذلك جاءت أول صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب وكانت في مقدمتها.
من آثار عدم الإيمان بالغيب التشكيك في كثير من أمور الشرع، يشكك
(1)
انظر: تفسير ابن كثير (2/ 126)، بتصرف.
(2)
سورة آل عمران
في صحة القرآن (كما أسلفنا)، يشكك في صحة الرسل والرسالات، يشكك في وجود الله عياذًا بالله، وهكذا خطوة خطوة يدخل في أمور لا نهاية لها كلها ضلال في ضلال.
ولاحظ أيضًا كيف كان التحفيز حيث أوصلهم لطريقة الوصول لأعلى الدرجات
(1)
، ليس فقط دخول في إسلام أو زيادة إيمان! ! وهذا والله من حُسن النصيحة والإتقان سبحان الله لا كامل إلا هو.
والإيمان بالغيب هو من الإشكالات التي وقع فيها المنافقون والضالون والمغضوب عليهم. ولو أنهم آمنوا به حُلَّت جميعُ قضاياهم من جذورها، ومن غيره لن يستطيعوا، فهذه هي العقبة الأولى في منهجهم.
ملخص التوجيه: إذنْ من حلول هذه المشكلة أن يتصفوا بصفات المتقين، فيؤمنون بالغيب الذي يقودهم للهداية إلى الإسلام.
(1)
واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، [انظر القول المفيد شرح كتاب التوحيد (2/ 78)]، وانظر فتاوى ابن عثيمين (10/ 658).
إن الإيمان بالغيب جاء بعد ذكر القرآن، وجاء بعد التعريف بالمتقين؛ بمعنى أن الإيمان بالقرآن والوصول إلى درجة المتقين يحتاج إلى الإيمان بالغيبيات.
وهذا كله جاء بعد آية من معانيها رفع حالة التنبيه للحالة القصوى (الم).
سرد العلماء كثيرًا عن معاني الحروف المقطعة ولعلها من أكثر المسائل القرآنية بحثًا.
لكن ما أود أن أشير إليه أن (الم) تغير نسق السياق، مما يدخل عامل التعجب للقارئ، ويجعله يأخذ خطوات في التركيز بشدة إلى ما بعدها وربطها بما قبلها، وكذلك الأمر له رهبة في تلك الحروف المقطعة، تنعكس على رهبة في القلب، وتسارع في التفكير والسؤال: لماذا (الم)؟ إنه شيء مخيف ومقلق .. لذى علينا الانتباه والتركيز.
(1)
(1)
وقال الرازي: "الحروف تنبيهات، قُدمت على القرآن؛ ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق، والمعنى الفائق مفاتيح الغيب (28/ 120)، وانظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم (ص 3).