الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَلِمَةُ الْمُحْتَفَلِ بِهِ
ختم الاستاذ عبد الحميد بن باديس حفلة تكريمه بكمة بليغة شكر بها الوفود الحاضرة، وعاد بهم إلى الماضي فوزع معاني التمجيد والتكريم التي تجلت عنها الحفلة- على الأصول التي كونته. فكانت كلمته درسا في التواضع وعرفان الجميل عرف منه الحاضرون ناحية نفسية من أخلاق الأستاذ المحتفل به. وقد حافظنا ما استطعنا على معاني تلك الكلمة إذ فاتنا أن ننقل ألفاظها، قال حفظه الله (1):
ــ
أيها الإخوان:
أنتم ضيوف القرآن. وهذا اليوم يوم القرآن. وما أنا إلا خادم القرآن.
فاجتماعكم على تنائي الديار وتباعد الأقطار هو في نفسه تنويه بفضل القرآن ودعوة جهيرة إلى القرآن في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعوة المسلمين إلى قرآنهم. فهل علمتم أنكم باحتفالكم هذا قمتم بواجبات أهونها ما سميتموه احتفالا بشخصي.
إن أقوال خطبائكم وشعرائكم كلها في الحقيقة اشادة بيوم القرآن ووفود القرآن وكل ما لي من فضل في هذا فهو أنني كنت السبب فيه.
أيها الإخوان.
أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي. وبكل من له يد في
(1) كلمة ألقاها الأستاذ الإمام ابن باديس بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.
[صورة]
الشيخ عبد الحميد يلقي كلمة شكر للمحتفين به بمناسبة ختم القرآن
----------
[صورة] تمثل تقديم الهدايا لفضيلة الأستاذ عبد الحميد بمناسبة الاحتفال بختم القرآن
تكويني. وان الانصاف الذي هو خير ما ربى عليه امرؤ نفسه- ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف التاريخي العظيم بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم على شخصي الضعيف من ثناء ومدح بالقول والفعل. فإني أشهد الله أنكم بالغتم في التحفي بي والتنويه بأعمالي، وأشهد أن هذا التحفي عسير عليَّ جزاؤه ثقيل علي حمله، فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر ووفيتها حقها من الاعتراف لها بالفضل توزعت حصصها من التنويه وتقاضت حقوقها من الثناء الذي أثقلتم به كاهلي. فأكون بذلك قد أرضيت ضميري وخففت عن نفسي.
إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربَّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة. ورضي لي العلم طريقة اتبعها ومشربا أرده وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا. وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر. ولأكل ما عجزت عنه من ذلك لله الذي لا يضيع جزاء العاملين.
ثم لمشائخي الذي علموني العلم وخطوا لي مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية، وهما من مشائخي اللذان تجاوزا بي حد التعليم المعهود من أمثالهما لأمثالي- إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة. أحد الرجلين الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله.
وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها وعهداً عهد بي إليَّ وأذكر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله فأجدني مدينا لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدَّد عليَّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت ولا أتخذ علمي مطية لها كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.
صورة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أخذت له بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.
وأذكر للثاني كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية وذلك انني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله. فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح.
فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها.
ثم لأخواني العلماء الأفاضل الذين وازوني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن حظ الجزائر السعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار أنه لم يجتمع في بلدٍ من بلدان الإسلام فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء وافرة الحظ من العلم مؤتلفة القصد والاتجاه مخلصة النية متينة العزائم متحابة في الحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألف بينها العلم والعمل- مثل ما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار فهؤلاء هم الذين ورى بهم زنادي وتأثل بطارفهم تلادي، أطال الله أعمارهم ورفع أقدارهم، ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير المنطوية على أصول الكمال ذات النسب العريق في الفضائل والحسب الطويل العريض في المحامد.
هذه الأمة التي ما عملت يوما- علم الله- لارضائها لذاتها. وإنما عملت وما أزال اعمل لارضاء الله بخدْمة دينها ولغتها ولكن الله سددها في الفهم وأرشدها إلى صواب الرأي فتبينت قصدي على وجهه وأعمالي على حقيقتها فأعانت ونشطت بأقوالها وأموالها وبفلذات
صورة أخذنت بمناسبة ختم القرآن في قاعة كلية الشعب يقسنطينة يوم الإثنين 14 ربيع الثاني 1357هـ - 1938م.