الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلمي يتجدد فما نجمت ضلالة إلا وكان فيما جاء به حجة دامغة لها وما زال المحو العلمي كذلك يتجدد والإسلام ينتشر من نفسه انتشارا لا يلحقه فيه غيره ممن ينفقون في نشر نحلهم الأموال الطائلة ويسخرون القوات المتنوعة الهائلة وليس انتشاره في خصوص الأمم المنحطة بل في الأمم الراقية والذين سبقوا إليه منها هم علماء مما يدل على أن أكبر آيات الإسلام هي آياته العلمية الخالدة. فالمحو يتجدد تجددا مشاهدا مستمرا بهذا النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام.
«وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي»
الحشر: الجمع وتقدير الكلام على أثر قدمي وجمع الناس على أثر قدمه كناية عن اتباعهم له. والمعنى: أن الله يجمع الناس كلهم على شريعته جمعا تشريعيا فلا يقبل من أحد شيئا إلا باتباعه في شريعته والسير على أثر إقدامه، سواء أكان من أهل الملل الأخرى أو من أهل ملته فلا نجاة لكافر من ضلال الكفر إلا باتباع شريعته، ولا نجاة لمسلم من ضلال البدعة إلا باتباع سنته.
ويفيد المضارع في قوله (يحشر) أن هذا الجمع متجدد لأن شريعته دائمة وسنته باقية فما من جيل إلا وهو مكلف بالسير على قدمه وذلك معنى تجدد جمع الناس جمعا تشريعيا على اتباعه. وأسند الحشر لنفسه في قوله الحاشر لأنه الكاسب المباشر المبلغ عن الله شرعه لعباده وقال يحشر بإسناد الحشر إلى الله وحذف الفاعل للعلم به من المعنى وسياق الكلام، لأنه هو الخالق المشرع. على أوزان قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} ، وقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} .
«وَأَنَا الْعَاقِبُ» :
هو الذي يخلف شيئا ويأتي بعده، وهو صلى الله عليه وآله وسلم جاء بعد جميع الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة
والسلام- وخلفهم. وقد جاء في رواية مسلم مفسرا فقال: «وأنا العاقب الذي لا نبي بعده» وعند غير مسلم «الذي لا نبي بعدي» وأفاد بالتفسير أنه لا يعقبه غيره فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
تقدم لنا في صدر الدرس أن قوله- صلى الله عليه وآله وسلم لي خمسة أساء يقتضي اختصاصه بها وهو اقتضاء صحيح ومطابق للواقع فهذه الأسماء ليست إلا له إذ لم يسم الله نبيا ولا رسولا بواحد منها فهو مختص بالتسمية بها من الله بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام-.
نعم قد سمى بعض العرب أبناءهبم محمدا قبل البعثة بقليل، وهم نفر قليل ولم يعرفوا بنبوة، ومنهم من أسلم فكان من أتباع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك القليل النادر في حكم العدم، على أن القصود بتخصيصه تخصيصا من بين سائر الانبياء والشيء إنما يفضل بالنسبة لمن في منزلته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم لما تذكر فضائله وخصوصياته إنما تذكر بالنسبة للأنبياء والمرسلين فإذا قلنا أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم خص بكذا بهذا الاسم مثلا فمعنى ذلك أننا لا نجده لمثله من الأنبياء والمرسلين. فهذا الاختصاص اللفظي بهذه التسمية.
وكذلك هو مختص بها من جهة معانيها فله من الكمالات التي يتحلى بها والإنعامات التي جعله الله سببا فيها والمواقف التي يقفها ما ليس لغيره، فليس ينال غيره من الحمد مثل ما يكون له من الله ومن الناس وهو يقابل تلك النعم الربانية عليه بالحمد، فلا يكون الحمد من أحد مثل الذي يكون منه لله. وكفى في هذا حديث الشفاعة الثابت المشهور فإنه لما يخر ساجدا لله يفتح عليه بأنواع من الحمد لم
يكن يعرفها هو من قبل فقد بلغ في حمده لله مقاما لم يبلغه أحد. ولما يتقبل الله شفاعته العامة في فضل القضاء يحمده أهل الموقف كلهم في ذلك المقام المحمود، فقد بلغ من حمد الناس له مقاما لم يبلغه غيره. فبان اختصاصه- صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى الإسمين الشريفين محمد وأحمد دون جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وكذلك الاسم الثالث فإنه مختص بمعناه. وإذا راجعنا تواريخ الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- فإننا لا نجد أحدا منهم محي به من الكفر ما محي بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم ولنقتصر على هذين النبيين الكريمين موسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- فأنتم تعرفون من القرآن ما قاسى موسى من بني إسرائيل الذين ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهه آلهة. وما تقصه كتبهم يدل أنهم لم ترسخ لهم قدم في الإيمان، فأي محو هنا؟ وأما عيسى- عليه الصلاة والسلام فقد رفعه الله إليه وما آمن به إلا أفراد ثم بقيت دعوته مغمورة. وما انتشرت النصرانية المنسوبة إليه باطلا إلا بعد ثلاثمائة سنة على يد ملك بيزنطا قسطنطين. على أنهما- عليهما الصلاة والسلام- لم يرسلا رسالة عامة حتى يعم المحو بهما وإنما أرسلا رسالة خاصة لبني إسرائيل كما لم يأتيا من الآيات بمثل ما أتى به لمحو كل كفر وباطل، وكفى بآية القرآن الخالدة على الزمان المتجددة على الأجيال. فهذا يبين لكم أن المحو العلمي والعملي بأكمله وأشمله إنما هو خصوصية له عليه الصلاة والسلام.
ولعلكم تقولون أن العرب قد ارتدت بعد موته- صلى الله عليه وآله وسلم فأين هو المحو؟ فالجواب: أن الردة لم تكن عامة، فإن الأكثر والأظهر هم الذين ثبتوا على الإسلام والطاعة لخليفة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبدلوا شيئا، وطائفة كثيرة
بقيت على الإسلام وإنما امتنعت عن أداء الزكاة، وهذه هي التي توقف عمر وغيره في قتالها وشرح الله صدر أبي بكر لقتالها ورجع الصحابة- رضي الله عنهم إليه، وطائفة أخرى ارتدت عن الإسلام جملة كأصحاب طليحة وسجاح- راجعا الاسلام بعد- والأسود ومسيلمة وكان في غمار هؤلاء المرتدين أفراد من المؤمنين يقاومون وتوقفت طائفة تنتظر لمن تكون الغلبة.
وكان السر الأكمل في هذه الردة على تفصيلها أن يتبين للناس أن الذين اتبعوه اتبعوه لأنه نبي لا لأنه عربي.
لقد ثبت المحو به مباشرة في الأكثر الأظهر وثبت المحو بواسطة خليفته ومن معه ممن انطبق عليهم قول الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . والمحو على يد هؤلاء السادة محو به. وهكذا كل محو يقع على يد أتباعه إلى يوم الدين فهو محو به وله مثل حسنات مباشريه على قاعد السابق للخير والبارىء به والداعي إليه.
وكذلك الإسم الرابع فهو مختص بمعناه لأن الله لم يجمع الناس جمعا تشريعيا على نبي قبله فقد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل هو صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس عامة.
وكذلك الإسم الخامس فهو المختصر، بختم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
هذه الأسماء الشريفة نأخذ منها حظ العلم وحظ العمل فأما حظ العلم فقد تقدم، وأما حظ العمل فعلينا إذ علمنا معنى اسمه محمد
أن نستكثر من الأخلاق الطيبة والأعمال النافعة والمواقف الشريفة مما ننال به الحمد من الله والناس.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه أحمد أن نكثر من حمد الله على نعمه نعم الخلقة ونعم الهداية، فنحمده إجمالا وتفصيلا، ويتضمن هذا علمنا بهذا النعم وذلك يقتضي توسيع دائرة معلوماتنا بخلقه وبشرعه فنتناول كل ما نستطيع من العلوم والمعارف التي توصلنا إلى ذلك وقدلنا عليه.
وعلينا إذا علمنا معنى اسمه الماحي أن نعمل على محو الكفر والضلال والشر والباطل وكل ما ينهي عنه الإسلام وما ابتدعه المبتدعون وحملوه إياه. نمحو ذلك كله من أنفسنا وحيثما استطعنا ولا سبيل إلى هذا المحو إلا بالعلم والعمل وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح فأعظم ما محى به الكفر سلفنا الصالح هو هديهم وسلوكهم وتطبيقهم للإسلام تطبيبقا صحيحا على الحياة في أنفسهم وفي غيرهم في جميع الأحوال.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه الحاشر أن نتقيد بشريعته وسنته فلا نقول ولا نعمل ولا نعتقد إلا مالا يخرج عنهما فيكون قولنا دائما ماذا قال محمد- صلى الله عليه وآله وسلم وماذا فعل وكيف كان في مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال في كل ما نقفه من مواقف وما يعترضنا من أحوال وبهذا نكون قد حشرنا أنفسنا على اثره. وعلينا أن ندعو الناس إلى اتباع شريعته وسنته بما نبين لهم من براهين الحق وأدلة الصدق وبما نذكر لهم من محاسنه ومحاسن ما جاء به وبذلك نكون قد عملنا على حشر ما استطعنا من الناس على شريعته وجمعنا ما أمكننا من القلوب على تعظيمه ومحبته، وفي ذلك الخير والسعادة للناس أجمعين.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه العاقب وهو الخاتم أن نرد كل ما يحدثه
المحدثون من زيادة في شريعته، ونعد كل من يأتي ذلك ويتظاهر بالإسلام دجالا من الدجاجلة وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه يكون بعده دجاجلة وكذابون وأولهم مسيلمة والمتنبؤون الكذبة فلا قول إلا قوله ولا هدى إلا هديه ولا إسلام إلا ما جاء به.
…
ها ان مالكا- رحمه الله تعالى ورضي عنه وجازاه عنا أحسن الجزاء- قد ختم كتابه الجليل بهذا الحديث الشريف المشتمل على هذه- الأسماء النبوية الكريمة فهل هنالك من نكتة؟
إن هذا الموطأ هو أقدم كتاب لنا ألفه إمام عظيم من أتباع التابعين، وهو كتاب يعلمنا العلم والعمل ويعرفنا كيف نفهم وكيف نستنبط وكيف نبني الفروع على الأصول، يعطينا هذا كله وأكثر منه بصريح بيانه وبأسلوب ترتيبه للأحاديث والآثار والمسائل. وإن شراح هذا الكتاب الجليل لم يوفوه حقه- في نظري القاصر- من هذه الناحية وهي من أعظم نواحيه.
ومما هو مشهور من ابتكار مالك في كتابه هذا الكتاب الجامع الذي ختم به الموطأ، فإنه نظر إلى مسائل عديدة من أمهات الشريعة في العقائد والأخلاق والآداب والأحكام وغيرها فنظمها في سلك واحد وسماها بالكتاب الجامع، وهذه الأصول التي نظمها في هذا الباب بنى عليها من جاء بعده فروعا وعقد عليها أبوابا كالبخاري وغيره.
وإن مالكا لم يذكر في موطئه كتابا خاصا بالسيرة النبوية كما فصل ذلك غيره ممن جاء بعده ولكنه ذكر أسماءه الشريفة- صلى الله عليه وآله وسلم فكفاه وذكر أسمائه متضمنا لسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم فكفاه في ذكر حياته- صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر أسماءه.
ولما كانت سيرته من بدايتها إلى نهايتها هي المثال الصادق للشريعة كلها والسفر الجامع للدِّين الإسلامي كله- ختم كتابه بهذا الحديث المشتمل على هذه الأسماء المتضمنة لها. وهو كالتحصيل بعد التفصيل.
ونكتة أخرى وهو أن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية. والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الطيبة فهذا الحديث بعد ما تقدمه من الكتاب كله مثل الغاية من الوسيلة.
فسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم هي الجامعة لمحاسن الإسلام والغاية لكل كمال.
ومن أبدع المناسبة لختم الكتاب أن كان آخر هذه الأسماء الشريفة هو العاقب والعاقب هو الخاتم، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الآل والتابعين أفضل الصلاة وأزكى التسليم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1).
(1) ش: ج7، م 15، ص 332 - 344 غرة رجب 1348هـ - أوت 1939م.