الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِظَامُ الْغِذَاءِ
.
«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ. فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» . رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح
ــ
إن الإنسان بجزئه الترابي، وهو بدنه- مخلوق أرضي، وبجزئه النوراني- وهو روحه- مخلوق سماوي، فإذا جذبه جزؤه الترابي بزمام الشهوة إلى السفليات الارضية، طار به جزؤه النوراني على بساط العقل إلى علويات السماء. وهو لن يزال دائما بين هذا وذاك في انحطاط واعتلاء.
لم يخلق الإنسان للأرض وإن خلق منها، وإنما خلق للسماء وللملأ الأعلى، وآخر كلمة قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:«اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» وإنما ينتهي إلى هذا بصفاء روحه واستنارة عقله، وما البدن الترابي إلا آلة لهما، لاستكمال قوتهما، ومظر لتلك الاستنارة وذلك الصفاء، وعيار على ما فيهما من قوة وضعف بما يكسبانه ويكتسبانه في طريق الاختبار والابتلاء. لينال الإنسان ما يستحقه على حسن تصرفه أو سوء تصرفه من عادل الجزاء، بعد خروجه من دار الفناء إلى دار البقاء.
فالجسد آلة بديعة للروح لازمة لها في الدنيا وملازمة لها في الأخرى، فمن العدل الإلهي أن يكون لها حظها هنالك، كما كان لها حظها هنا. ومن العدل الواجب على الإنسان أن يعطيها- كما يعطي الروح- حقها من الاعتناء، فكما يغذي روحه بما ينير عقلها
من العلوم والمعارف، وما يزكيها من الأخلاق والأداب، وما يقويها من صالح العمل، ومفيد السعي في وجوه الحياة ويحفظها من كل ما يغشى العقل من جهالات وأوهام، وما يدسي النفس من رذائل، وما يضعفها من كسل وبطالة، كذلك عليه أن يغذي بدنه بما ينميه وما يصلحه وما يقويه، ويحفظه من كل ما يفسده أو ينهكه أو يؤذيه.
يتوقف هذا البدن وصلاحه على الغذاء، وقد جعل الله فيه وعً، وأي وعاء، وهو المعدة، مخزن الغذاء وبيت الداء، وعلى حفط نظام هذا الوعاء تترتب الصحة والمرض والسقم والشفاء.
فإذا ملأ ابن آدم بطنه كان عليه شر وعاء، وانبعثت منه شر الأدواء: أسقام للبدن وأثقال على الروح وظلمات للعقل، فانقلب على الانسان مع انتفاع به إلى أصعب الشر وأقسى البلاء.
وإذا اقتصر على أكلات تقيم الصلب وتمسك البدن حصل من البدن على العمل، وسلم من آلام المرض، ونعم بالعافية، وكان انتفاعه بالآلة البدنية خالصا من شوائب الضرر.
واذا غلبته الشهوة، وكان- لا محالة- منقادا للذة، فليقف دون الشبع، ولا يملأ كل الملأ المعدة حتى لا تثقل حركتها في الهضم، وحتى لا تنتفخ في البطن فتسد مجاري النفس وبذلك يكون قد عدل بين أصول الحياة البدنية الثلاث: طعامه وشرابه ونفسه، فأعطى لكل واحد الثلث من بطنه.
غير أن الإنسان إذا كان هكذا تغلبه الشهوة، وتقوده اللذة، فإنه بمظنة أن يتجاوز- ولو في بعض الأحيان- العدل إلى الامتلاء. فشرع له الصوم ليقاوم شر ذلك بما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات واللذات وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء، هذا للمعتدل وللمالئي للبطن الملوك للشهوة بالأحرى والأولى، اما ذاك المقتصر على الاكلات فهو له