الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملك
النبوة
مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم الأول
ــ
تمهيد:
النبوة:
منزلة من الكمال التام البشري يهيء الله لها من يشاء من عباده فيكون بذلك مستعدا لتلقي الوحي والاتصال بعالم الملائكة ولتحمل أعباء ما يلقى إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل، وتحمل كل بلاء يلقاه في سبيل ذلك التبليغ.
و
الملك:
ولاية على المجتمع لحفط نظامه، تقتضي عموم النظر وشمول التصرف في روابط الناس ومعاملاتهم وتصرفاتهم، وتسييرهم في ذلك كله على أصول عادلة توصل كل أحد إلى حقه وتكـ فه (2) عن حق غيره، ليعيشوا في رخاء وسلام، ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة.
(1) 15/ 27 النمل.
(2)
كذا في الأصل، ولعلها:(وتصرفه).
وقد يتصف الشخص بالنبوة دون الملك فيكون مبلغا عن الله ولا يكون له التنفيذ والإدارة والتنظيم، وقد يتصف الشخص بالملك دون النبوة؛ وقد وجد الشخصان في شمويل وطالوت فكان الأول نبيا وكان الثاني ملكا كما قال تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (1) وقد يجمع بينهما مثل داود وسليمان عليهما السلام.
ثم إن الملك قد تكون الأصول التي يستند إليها مستمدة من أوضاع البشر لحفط مصالحهم في الحياة الدنيا ليكون ملكا بشريا. وقد تكون الأصول مستمدة من وحْي الله بما فيه حفظ مصالح العباد في الدنيا وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى فيكون ملك نبوة.
ومن طبيعة ملك النبوة إلتزام الحق ونصرته حيثما كان، بإقامة ميزان العدل في القول والحكم والشهادة بين الناس أجمعين، المعادين والموالين، كما قال تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2){وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (3){وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
(1) 7/ 2، 2 البقرة.
(2)
152/ 6 الانعام.
(3)
57/ 4 النساء.
(4)
9/ 5 المائدة.
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1). وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات كما قال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2)
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (3){وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (4)
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (5). وبغير هذا من وجوه إلتزام الحق ونصرته.
ومن طبيعته بث الخير بين الناس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان كما قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6){وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (7)
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
(1) 4/ 134 النساء.
(2)
1/ 5 المائدة.
(3)
152/ 6 الانعام.
(4)
191/ 16 لنحل.
(5)
92/ 16 النحل.
(6)
22/ 77 الحج.
(7)
195/ 2 البقرة.
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (1).
ومن طبيعة الدعوة إلى القوة والتنويه بها وبناء الحياة عليها، لكن في نطاق العدل والرحمة ولدفاع المعتدين، كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2){وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (3) وقبلها: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فقوة الحديد لحفظ الكتاب، والميزان وحمل الناس عليها. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4){وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (5).
ومن طبيعته الدعوة إلى الجمال والتحبيب فيه في جميع مظاهر الحياة لكن في نطاق الفضيلة والعفاف كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، (6)، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
(1) 8/ 60 الممتحنة.
(2)
8/ 61 الأنفال.
(3)
25/ 57 الحديد.
(4)
2/ 194 البقرة.
(5)
42/ 39 - 140 الشورى.
(6)
4/ 95 التين.
صُوَرَكُمْ} (1){أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (2){إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (3){حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (4){فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} (5){مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (6){قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (7){الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (8){قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (9).
ومن طبيعة الملك البشري- وإن روعيت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة- أنه لا يقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم فتراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال. ولا يرعى من العهود- في الغالب- إلَاّ ما لا يعارض مصلحته أو تلزمه براعاته قوة خصمه.
كما أنه يكاد يقصر بره وإحسانه على أبناء جلدته ومن كانوا من جنسه ولونه، كما أنه يبني أمره على القوة المطلقة فتندفع مع رغباته
(1) 40/ 64 المؤمنون.
(2)
50/ 20 طه.
(3)
6/ 37 الصافات.
(4)
24/ 10 يونس.
(5)
60/ 27 النحل.
(6)
5/ 22 الحج و7/ 50 ق.
(7)
31/ 7 الأعراف.
(8)
6/ 5 المائدة.
(9)
30/ 24 النور.
13
إلى أقصى ما يمكنها أن تصل إليه فيكون البغي والتسلط والعدوان. كما أنه تستهويه زينة الحياة الدنيا وزخارفها فتمتد يده إليها حيثما وجدها فتتنازعها الأيدي بالقوة والحيلة وتذهب في أفانينها الشهوات بالناس إلى النقص والرذيلة.
ثم إن طبيعة الملك من حيث أنه ملك- سواء أكان بشريا أم نبويا- مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة، لما جبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتأثر بها، وهذا إذا كان في الحق فهو محمود مطلوب وإذا كان للباطل والبغي والتحظيم النفسي فمذموم متروك. ومن الأول أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس- رضي الله عنه أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى تمر عليه كتائب المسلمين وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة، فحبسه العباس فجعلت الكتائب تمر به فيسأل العباس عن كل كتيبة فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال العباس: فقلت له: إنها النبوة، فقال: فنعم إذن. قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي ولم يرد نفي الملك جملة، ومنه ما كان معاوية بالشام: لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة فاستنكر ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد فسكت عمر وأقره. فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو
ملك وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب. فلما كان للحق والمصلحة أقره.
ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام.
نعم في مسند أحمد أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم خير من أن يكون نبيا ملكا أو يكون نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا. وكان ذلك تواضعا منه. ولا ينفي هذا أنه- صلى الله عليه وآله وسلم كما كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى كان قائما على الحكم والتنفيذ وإدارة الشؤون العامة وتنظيم المجتمع مما يسمى ملكا نبويا مستندا إلى الوحي الإلهي، لأن التخيير راجع إلى حالته الشخصية الكريمة فخير بين أن يكون لشخصه من مظاهر الملك مثل ما كان سليمان أو لا تكون له تلك المظاهر فاختار أن لا تكون وأن يكون مظهره مظهرا عاديا مثل مظهر العبد العادي. كما سليمان- عليه السلام الذي كان ملكا نبيا لم ينف ذلك عنه العبودية، وإنما ينفي عنه مظهرها العادي.
فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان، كان على إحداهما سليمان وعلى الأخرى محمد- عليهما الصلاة والسلام- وحالة أفضل النبيين أفضل الحالتين. وقد اختار عمر- رضي الله عنه الفضلى وأقر معاوية على الفاضلة الأخرى.
ولما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم جاء بملك النبوة كان القرآن العظيم جامعا للأصول التي ينبني عليها ذلك الملك، وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها ليبين صورة من صور ملك النبوة ومظهرا صادقا من مظاهره فيما قصت علينا من ملك سليمان-