الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر
في كَراهةِ كَسْرِ عِظامِها
قال الخَلّال في "جامعه": "باب كراهة كَسْرِ عَظمِ العَقِيقَةِ وأنْ تُقطع آرابًا"
(1)
.
أخبرني عبدُ الملك بنُ عبدِ الحميد: أنَّه سمع أبا عبد الله يقول في العَقِيقَة: لا يُكسَرُ عظمُها، ولكنْ يُقطعُ كلُّ عظمٍ من مِفْصَلِه، فلا تُكْسَرُ العظامُ.
أخبرنا عبد الله بن أَحْمَد، قال: قلتُ لأَبي: كيف يُصنع بالعَقِيقَة؟ قال: تُفْصَلُ أعضاؤها، ولا يُكْسَرُ لها عظمٌ
(2)
.
ثم ذكر عن صَالحٍ، وحَنْبَل، والفَضْلِ بنِ زيادٍ، وأبي الحارث، وأبي طالب، أنَّ أبا عبد الله قال في العَقِيقَة: تُفصَل تفصيلًا، ولا يُكسَر لها عظمٌ، وتفصل جُدُولًا
(3)
.
وقد ذكر أبو داود في "كتاب المراسيل"
(4)
: عن جعفر بنِ محمَّد
(1)
في "ب": إربًا. و (الإرْب): العضو، والجمع (آراب). انظر: المصباح المنير: 1/ 11.
(2)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية عبدالله: 3/ 879.
(3)
انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 401.
(4)
كتاب المراسيل، ص 278 ـ 279 برقم 379. ومن طريقه أخرجه البيهقي: 9/ 302. ورجاله ثقات، وفيه انقطاع. وانظر: زاد المعاد: 2/ 332.
عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في العَقِيقةِ التي عقَّتْها فاطمةُ عن الحَسنِ والحُسَين:"أن ابْعَثُوا إلى القَابِلَة منها برِجْلٍ، وكلُوا وأَطْعِمُوا ولا تَكْسِروا منها عظمًا".
وذكر البَيْهَقِيُّ: من حديث عبد الوارث
(1)
، عن عامر الأَحْوَل، عن عطاء، عن أمِّ كُرْزٍ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الغُلامِ شاتانِ مكافِئتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ"
(2)
.
وكان عطاء يقول: تقطع
(3)
جُدُولًا، ولا يكسر لها عظم: أظنُّه قال: وتُطبخ
(4)
.
ورواه ابن جُرَيْجٍ عن عَطاء وقال: تقطع آرابًا، وتُطبَخُ بماءٍ ومِلْحٍ، وتُهدَى في الجِيرانِ
(5)
.
ورُوِيَ في ذلك عن جابرِ بنِ عبدِ الله قولَهُ، وعن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ.
(1)
في "أ، ج، د": عبدالوهاب. وهو خطأ.
(2)
انظر: سنن البيهقي: 3/ 302، وشعب الإيمان: 15/ 104. وتقدم تخريجه فيما سبق (ص 50).
(3)
ساقطة من "أ".
(4)
انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 321، والاستذكار: 5/ 559، والمحلى لابن حزم: 7/ 529.
(5)
انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 5/ 559.
فرَوَى ابن المُنْذِر، عن عطاءٍ، عن أبي كُرْزٍ وأمِّ كُرْزٍ، قالا: قالت امرأةٌ من أهل عبد الرَّحمن بن أبي بكر: لما ولدتْ امرأةُ عبدِ الرَّحمنِ، نَحَرْنَا جَزُورًا، فقالت عَائِشَةُ: لا، بلِ السنَّةُ شاتانِ مكافئتانِ، يُتَصَدَّق بهما عن الغُلامِ، وشاةٌ عن الجَارِيَة، تُطبَخُ ولا يُكْسَرُ لها عظمٌ، فتأكل وتطعم وتتصدَّق، ويكون ذلك في السَّابع، فإن لم يفعل، ففي الرابع عشر، فإن لم يفعل، ففي إحدى وعشرين
(1)
.
قال ابن المُنْذِر: وقال الشّافِعِيّ: العَقِيقَة سنَّة واجبةٌ، ويُتَّقى فيها من العيوب ما يُتَّقى في الضَّحايا، ولا يُباع لحمُها ولا إهَابُها، ولا يُكسر لها عظمٌ، ويأكل
(2)
أهلُها منها، ويتصدَّقون
(3)
، ولا يُمَسّ الصبيُّ بشيء من دَمِها
(4)
.
قال أبُو عُمَر: وقولُ مالكٍ مثلُ قولِ الشّافِعِيّ، إلا أنه قال: يكسر عظامها ويطعم منها الجيران، ولا يُدعى الرجال كما يُفعل بالوليمةِ
(5)
.
(1)
انظر: الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 3/ 417 ـ 418. وقال ابن حزم في المحلى 7/ 529: "هذا لا يصح؛ لأنه من رواية عبدالملك بن أبي سليمان العرزمي".
(2)
في "أ": ولا يأكل.
(3)
في "ج": ولا يتصدقون.
(4)
انظر: الإشراف لابن المنذر: 3/ 418.
(5)
انظر: التمهيد: 4/ 321، والاستذكار: 5/ 558 ـ 559.
قال: وقال ابنُ شِهَابٍ: لا بأسَ بِكَسْرِ عظامِها. وهو قولُ مالك
(1)
.
والذين رأوا أنه لا بأس
(2)
بكسر عظامها، قالوا: لم يصحَّ في المنع من ذلك ولا في كراهته سنَّةٌ يجب المصير إليها، وقد جرت العادةُ بكسر عظامِ اللحمِ، وفي ذلك مصلحةُ أَكْلِهِ وتمام الانتفاع به، ولا مصلحةَ تمنعُ من ذلك.
والذين كرهوا كسر عظامها: تمسَّكوا بالآثار التي ذكرناها عن الصحابةِ والتَّابعِينَ، وبالحديث المُرسَل الذي رواه أبو داود.
وذكروا في ذلك وجوهًا من الحكمة:
(أحدها): إظهارُ شرفِ هذا الإطعامِ وخطرِه إذْ كان يُقدَّم للآكلينَ ويُهْدَى إلى الجيران، ويُطعَم للمساكين، فاستحبَّ أن يكون قطعًا، كلُّ قطعة تامة في نفسها، لم يُكسر من عظامها شيء، ولا نقص العضو منها شيئًا، ولا ريب أن هذا أجلُّ موقعًا، وأدخلُ في باب الجود من القِطَع الصِّغار.
(المعنى الثاني): أنَّ الهديةَ إذا شَرُفَت وخرجتْ عن حدِّ الحقارة، وقعتْ موقعًا حسنًا عند المُهْدَى إليه، ودلَّت على شرَف نفسِ المُهْدِي
(1)
وهو قول مالك. ساقط من "ج". وانظر: المصدر السابق، والمحلى:
7/ 528 - 529.
(2)
والذين رأوا أنه لا بأس. هذه الجملة ساقطة من "ج".
وكِبَرِ همَّتِه، وكان في ذلك تفاؤلٌ بكِبَرِ نفسِ المولود، وعلوِّ همَّته وشرفِ نفسهِ.
(المعنى الثالث): أنها لما جرتْ مجرى الفداءِ، استُحِبَّ أن لا تُكْسرَ عظامُها تفاؤلًا بسلامة أعضاء المولود وصحَّتِها وقوَّتها، وبما زال من عظام فدائِه من الكَسْر، وجرى كَسْرُ عظامِها عند مَنْ كرهه مجرى تسميتها عَقِيقَة، فهذه الكراهةُ في الكسر نظيرُ تلكَ الكراهةِ في الاسمِ، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر
في السِّنِّ المُجْزئ فيها
قال الخَلّال في "الجامع": "باب ما يستحبُّ من الأسنان في العَقِيقة".
ثم ذكر من مسائل أبي طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن العَقِيقَة، تجزئ بِنَعْجَةٍ أو حَمَلٍ كبيرٍ؟ قال: فَحْلٌ خيرٌ، وقد روي "ذكرانًا
أو إناثًا"
(1)
، فإن كانت نعجة، فلا بأسَ، قلتُ: فالحَمَلُ؟ قال: الأسنُّ خيرٌ.
وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من وُلِد له مولودٌ، فأحبَّ أن يَنْسُكَ عنه فلْيفعَلْ" كالدليل
(2)
على أنه إنما يجزئ فيها ما يجزئ
(3)
في النُّسُك سواها من الضحايا والهدايا. ولأنه ذَبحٌ مسنون، إمَّا وجوبًا وإمَّا استحبابًا، يجري مجرى الهَدْي والأُضْحِيَةِ في الصدقة، والهدية، والأكل، والتقرُّب إلى الله تعالى، فاعْتُبِرَ فيها السنُّ الذي يجزئ فيهما. ولأنه شُرِع بوصف التمام والكمال، ولهذا شُرع في حق الغُلام شاتان،
(1)
تقدم تخريجه فيما سبق، ص (50).
(2)
في "ج": فالدليل.
(3)
في "أ، ج، د": يجري. بالمهملة في الموضعين.
وشُرع أن تكونا مكافئتين لا تنقص إحداهما عن الأخرى، فاعتُبِر أن يكون سنُّهما سنَّ الذبائح المأمور بها، ولهذا جرت مجراها في عامة أحكامها.
قال أبو عُمرَ بنُ عبد البَرِّ: "وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز في العَقِيقَة إلا ما يجوز في الضَّحايا من الأزواج الثمانيةِ، إلا من شذَّ ممَّن لا يُعَدُّ قولُه خلافًا.
وأمَّا ما رواه مالكٌ في "الموطأ" عن ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرَّحمنِ، عن محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ أنَّه قالَ: سمعتُ أبي يقول: "تُسْتَحَبُّ العَقِيقَةُ ولَوْ بِعُصْفُورٍ"
(1)
فإنه كلامٌ خرجَ على التَّقليلِ والمبالَغَةِ، كقوله صلى الله عليه وسلم لعُمَرَ ـ في الفَرَسِ ـ:"لا تأخذْهُ ولَو أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ"
(2)
وكقوله في الجَارِيَة: "إذا زَنَتْ فَبِيعُوهَا ولَو بِضَفِيرٍ"
(3)
.
وقال مالك: العقيقةُ بمنزلة النُّسُكِ والضَّحايا، ولَا يجوزُ فيها
(1)
الموطأ، كتاب العقيقة، باب العمل في العقيقة: 1/ 419.
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة، باب هل يشتري صدقته؟ 3/ 352 وفي مواضع أخرى، ومسلم في الهبات، باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه: 3/ 1620.
(3)
أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع المدبر: 6/ 421، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة: 3/ 1329 رقم (1703). قال ابن شهاب الزهري: والضفير الحبْل.
عَوْرَاءُ، ولَا عَجْفاءُ، ولا مَكْسُورَةٌ ولا مريضةٌ، ولا يُباعُ من لحمِهَا شيءٌ ولَا جلدُهَا، ويُكْسَرُ عِظَامُهَا، ويَأكلُ أَهلُها منها، ويتصدَّقون"
(1)
.
(1)
انتهى ما نقله عن ابن عبدالبر. انظر: التمهيد: 4/ 320، والاستذكار: 5/ 558. وانظر: المغني: 13/ 396، وفتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 116، والحاوي للماوردي: 15/ 129.
الفصل الخامس عشر
أنَّه لا يَصحُّ الاشتراكُ فيها ولا يُجزئُ الرَّأس إلَّا عن رأسٍ
هذا مما
(1)
تخالف فيه العَقِيقَةُ الهديَ والأضحيةَ. قال الخَلّالُ في "جامعه": "بابٌ: حُكْمُ الجَزُورِ عن سبعةٍ":
أخبرني عبد الملك بنُ عبدِ الحميدِ أنَّه قال لأبي عبد الله: تَعُقُّ جزورًا
(2)
؟ فقال: أليسَ قد عُقَّ بجَزُورٍ؟ قلت: يُعَقُّ بجزور عن سبعة؟ قال: لم أسمع في ذلك بشيء. ورأيته لا ينشط بجزور عن سبعة في العُقُوقِ.
قلتُ: لما كانت هذه الذبيحةُ جاريةً مجرى فداءِ المولودِ، كان المشروعُ فيه دمًا كاملاً لتكون نفسٌ فداءَ نفسٍ.
وأيضًا: فلو صحَّ فيها الاشتراكُ لمَا حصل المقصودُ من إراقةِ الدم عن الولدِ، فإنَّ إراقة الدم تقعُ عن واحدٍ، ويحصل لباقي الأولاد إخراجُ اللحمِ فقط، والمقصودُ نفسُ الإراقةِ عن الولد.
(1)
في "ج": هذا بتمامه.
(2)
في "أ": يعق بجزور.
وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظَه مَنْ منعَ الاشتراكَ في الهدي والأضحية
(1)
.
ولكنَّ سنَّةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحقُّ وأَوْلَى أن تُتَّبَعَ، وهو الذي شرعَ الاشتراكَ في الهدايا، وشرعَ في العَقِيقَةِ عن الغُلام دَمَينِ مُسْتقِلَّينِ، لا يقوم مَقامَهُما جَزُورٌ ولا بَقَرةٌ. والله أعلم.
(1)
قال الخرقي: "ويجوز أن يشترك السبعة، فيضحوا بالبدنة والبقرة". وقال ابن قدامة في المغني 13/ 392: "وجملته: أنه يجوز أن يشترك في التضحية بالبدنة والبقرة سبعة، واجبًا كان أو تطوعًا، سواء كانوا كلهم متقربين، أو يريد بعضهم القربة وبعضهم اللحم. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: لا يجوز الاشتراك في الهدي. وقال أبو حنيفة: يجوز للمتقربين، ولا يجوز إذا كان بعضهم غير متقرب؛ لأن الذبح واحد، فلا يجوز أن تختل نية القربة فيه".
وانظر: فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 170 ـ 171.