الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقَزَعُ: أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه
(1)
.
قال شيخنا: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه
(2)
، لأنَّه ظلمٌ للرأس حيث ترك بعضَه كاسيًا وبعضَه عاريًا.
ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل
(3)
فإنه ظلم لبعض بدنه. ونظيره: نهى أن يمشيَ الرجلُ في نَعْلٍ واحدة، بل إمَّا أن يُنْعِلَهُمَا أو يُحْفِيَهُما
(4)
.
و
القزع أربعة أنواع:
(أحدها): أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا. مأخوذ من
(1)
انظر: النهاية لابن الأثير: 4/ 59.
(2)
"قال شيخنا .. ويترك بعضه" ساقط من "د".
(3)
أخرجه ابن ماجه في الأدب برقم (3722) عن بريدة وأخرج الإمام أحمد في المسند: 3/ 414، وفي طبعة الرسالة: 24/ 147 عن أبي عياض عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُجلس بين الضِّحِّ والظِّل، وقال:"مجلس الشيطان"، وصححه الحاكم: 4/ 271 ووافقه الذهبي. وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الجلوس بين الشمس والظل: 13/ 245 ـ 246.
(4)
أخرجه البخاري في اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة: 10/ 309، ومسلم في باب استحباب لبس النعال في اليمنى وكراهية المشي بنعل واحدة: 3/ 1660 برقم (2907).
تَقَزُّعِ السَّحاب وهو تَقَطُّعُه.
(الثاني): أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شَمَامِسَةُ النَّصارى.
(الثالث): أن يحلق جوانبه ويترك وسطه، كما يفعله كثير من الأوباش والسفل.
(الرابع): أن يحلق مقدّمه ويترك مؤخَّره، وهذا كلُّه من القَزَع. والله أعلم.
الباب الثامن
في ذِكْر تسميتهِ وأَحكَامِها ووقتِها
وفيه عشرة فصول:
الفصل الأول: في وقت التَّسمية.
الفصل الثاني: فيما يستحب من الأسماء، وما يحرم منها وما يكره.
الفصل الثالث: في استحباب تغيير الاسم إلى غيره لمصلحة.
الفصل الرابع: في جواز تكنية المولود بأبي فلان.
الفصل الخامس: في أن التسمية حق للأب دون الأم.
الفصل السَّادس: في الفرق بين الاسم والكنية واللقب.
الفصل السَّابع: في حكم التسمية باسم نبينا صلى الله عليه وسلم والتكنِّي بكنيته إفرادًا وجمعًا، وذكر الأحاديث في ذلك.
الفصل الثامن: في جواز التسمية بأكثر من اسم واحد.
الفصل التاسع: في بيان ارتباط معنى الاسم بالمسمى والمناسبة التي بينهما.
الفصل العاشر: في بيان أن الخلق يُدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم.
الفصل الأول
في وقتِ التَّسميةِ
قال الخَلّال في "جامعه": "باب ذكر تسمية الصبي": أخبرني عبدُالمَلِكِ بنُ عبدِ الحميدِ قال: تذاكرنا، لِكَمْ يُسمَّى
(1)
الصبيُّ؟
فقال لنا أبو عبد الله: أمَّا ثابتٌ فروى عن أنس: أنه كان يسمَّى ليلتَه
(2)
، وأما سَمُرَةُ: فيسمَّى يوم السَّابع، يعني حديث سَمُرَة، فيقتضي التسمية يوم السَّابع.
أخبرني جعفر بن محمَّد، أن يَعقوب بن بُخْتَان حدَّثهم، أن أبا عبدالله قال: حديث أنس يسمَّى ليلتَه، وحديث سَمُرَة، قال: يسمَّى يوم سابعه. وذكر حديث سَمُرَة.
حدّثنا محمَّد بن علي، حدّثنا صالح أن أباه قال: كان يستحب أن يسمَّى يوم السَّابع
…
وذكر حديث سَمُرَة
(3)
.
وقال ابن المُنْذِر في "الأوسط"
(4)
: "ذكر تسمية المولود يوم سابعه"
(1)
في "أ": نسمّي.
(2)
تحرّف في النسخ والمطبوعات هنا وفي الموضع الآتي إلى: "لثلاثة". ويشير الإمام أحمد إلى حديث ثابت عن أنس مرفوعًا: "وُلد لي الليلةَ غلامٌ فسمَّيتُه باسمِ أَبي إبراهيم"، وسيأتي قريبًا.
(3)
"حدثنا محمد بن علي .. سمرة" ساقط من "أ، د".
(4)
وهو ليس في القسم المطبوع منه. وانظر: الإشراف: 3/ 421.
جاء الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أن يُسمَّى المولود يومَ سابعه. وقد ذكرنا إسناده من حديث عبد الله بن عَمْرو.
قلت: وأراد حديث ابن إسْحَاق عن عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه: أمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين سابع المولود بتسميتِه وعقيقتِه، ووضعِ الأذى عنه. وقد تقدَّم ذِكْره وذِكْرُ حديثِ سَمُرَةَ.
وقال البَيْهَقِيُّ في "سننه"، باب تسمية المولود حين يولد:"وهو أصحُّ من السَّابع"
(1)
.
ثم روى
(2)
من حديث حمَّاد بن سلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنس، قال: ذهبتُ بعبد الله بن أبي طَلْحَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وُلِدَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَهْنَأُ بعيرًا له، فقال له:"هل معك تمرٌ؟ ". قلت: نعم! فناولتُه تمراتٍ، فألْقَاهُنَّ في فيه، فَلَاكَهُنَّ، ثم فَغَرَ فَا الصبيِّ فمَجَّه في فِيْهِ، فجعل الصبيُّ يتلَمَّظُهُ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حِبُّ الأنصارِ التمرَ".
أخرجاه في "الصحيحين" من حديث أنس بن سِيرِين عن أنس بن مالك
(3)
.
(1)
سنن البيهقي: 9/ 305.
(2)
أي البيهقي، في الموضع السابق من السنن.
(3)
أخرجه البخاري في العقيقة، باب تسمية المولود: 9/ 587، ومسلم في الأدب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته: 3/ 1689 برقم (2144).
ومعنى "يهنأ": يطليه بالقَطِران، وهو الهَناء، يقال: هنأت البعيرَ أهنَؤه. وقوله "فغر فاه": فتح فمه، وقوله "حبّ الأنصار التمر": روي بضم الحاء وكسرها. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 14/ 123.
وذكر حديث يَزِيدَ بنِ عبدِ الله عن أَبي بُرْدَةَ عن أبي مُوسَى، قال: وُلِدَ لي غلامٌ فأتيتُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيمَ وحنَّكه بتمرةٍ
(1)
.
قلت: وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد السَّاعديِّ، قال: أُتي بالمُنْذِرِ بنِ أبي أُسَيْد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وُلِدَ، فوَضَعَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على فَخِذِهِ، وأبو أُسَيْد جالسٌ، فَلَهِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ بين يَدَيْهِ، فأمرَ
أبو أُسَيد بابنه فاحْتُمِل من على فخذ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الصبيُّ؟ " فقال أبو أُسيد: قلَّبْنَاهُ يا رسولَ الله! فقال: "ما اسمُه؟ " قال: فلانٌ. قال: "لا، ولكنِ اسمُه المُنْذِرُ"
(2)
.
وفي "صحيح مُسْلِمٍ" من حديثِ سليمانَ بنِ المغيرةِ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وُلِدَ ليَ الليلةَ غلامٌ، فسمَّيتُه باسْمِ أَبي إبْرَاهِيمَ"، وذكر باقي الحديث في قصَّةِ موتِه
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 305.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه:10/ 575، ومسلم في الأدب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه: 3/ 1692 برقم (2149).
وقوله: "فَلَهِيَ" معناه: اشتغل بشيء بين يديه. و"قلّبناه" أي صرفناه إلى منزله.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته- صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه: 4/ 1807، برقم (2315).
وقال أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ في "الاستيعاب": ولدتْ له مَارِيَةُ القِبْطِيَّةُ سُرِّيَّتُهُ إبْراهِيمَ في ذِي الحجَّة سنةَ ثمانٍ.
وذكر الزُّبَيْر
(1)
عن أشْيَاخِهِ، أنَّ أمَّ إبراهيمَ ولدت بالعَالِيَةِ
(2)
، وعقَّ عنه بكبشٍ يومَ سابعهِ، وحلقَ رأسَه أبو هندٍ، فتصدَّق بِزِنَةِ شَعْرِهِ فضّةً على المساكين، وأمرَ بشَعْرِه فدُفِنَ في الأرضِ، وسمَّاه يومئذٍ.
هكذا قال الزُّبَيْر: وسماَّه يومَ سَابعِه. والحديثُ المرفوعُ أصحُّ من قَوْلهِ وأَوْلَى
(3)
.
ثم ذكر
(4)
حديث أنس: وكانت قَابِلَتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى زوجها أبي رافع، فأخبرتْه أنَّ ماريةَ ولدت غلامًا، فجاء
أبو رافعٍ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فبشَّرَهُ، فوَهبَ له غلامًا
(5)
.
قلت: وفي قصة مارية وإبراهيم أنواعٌ من السُّنَن:
أحدها: استحباب قَبول الهدية.
الثاني: قَبول هدية أهل الكتاب.
(1)
هو ابن بكار. وطبع من كتبه: الأخبار الموفقيات، ونسب قريش. ولم أجده فيهما. وصرّح ابن كثير في التفسير (1/ 27) أنه في كتاب النسب، ثم قال عن إسناده: "لا يثبت، وهو مخالف لما في الصحيح
…
".
(2)
موضع قريب من المدينة النبوية.
(3)
الاستيعاب لابن عبدالبر: 1/ 54.
(4)
يعني ابن عبدالبر.
(5)
الاستيعاب: 1/ 54. وانظرالطبقات الكبرى لابن سعد: 1/ 135.
الثالث: قَبول هدية الرقيق.
الرابع: جواز التّسَرِّي.
الخامس: البشارة لمن ولد له مولود بولده.
السَّادس: استحباب إعطاء البشير بشراه.
السَّابع: العَقِيقَة عن المولود.
الثامن: كونها يوم سابعه.
التاسع: حلق رأسه.
العاشر: التصدُّق بزنة شعره وَرِقًا.
الحادي عشر: دفن الشعر في الأرض، ولا يُلْقى تحت الأرجل.
الثاني عشر: تسمية المولود يوم ولادته.
الثالث عشر: جواز دفع الطفل إلى غير أمِّه، تُرْضِعُه وتَحْضُنُه.
الرابع عشر: عيادة الوالد ولدَه الطفلَ. فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سمع بوجعه انطلق إليه يعوده في بيت أبي سيفٍ القَيْنِ، فدعا به وضمَّه إليه وهو يكيد بنفسه
(1)
، فدمعت عيناه وقال:"تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقولُ إلا ما يُرْضِي الرّبَّ، وإنَّا بكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"
(2)
.
الخامس عشر: جواز البُكاءِ على الميت بالعين.
(1)
أي يجود بها. والمراد النَّزْع.
(2)
أخرجه البخاري في الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا بك لمحزونون": 3/ 172، ومسلم في الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان: 4/ 1807.
وقد ذُكِرَ في مناقب الفُضَيلِ بنِ عِيَاضٍ، أنه ضحك يومَ موتِ ابنِه عليّ، فسُئِل عن ذلك، فقال: إن الله سبحانه وتعالى قضى بقضاءٍ، فأحببتُ أن أَرضى بقضائِه
(1)
.
وهَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكْمَلُ وأفْضَلُ، فإنَّه جمع بين الرِّضا بقضاء ربِّه تعالى وبين رحمة الطفل، فإنه لما قال له سعدُ بنُ عبادةَ: ما هذا يا رسولَ الله؟ قال: "هذه رحمةٌ، وإنَّما يرحمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ"
(2)
.
والفُضَيْلُ ضاقَ عن الجمع بين الأَمْرَينِ، فلم يتَّسع للرِّضا بقضاء الربِّ وبكاءِ الرَّحمةِ للولدِ. هذا جواب شيخنا سمعته منه
(3)
.
السَّادس عشر: جواز الحزن على الميِّت، وأنه لا ينقص الأجر ما لم يخرج إلى قولٍ أو عمل لا يُرضي الربَّ، أو تركِ قولٍ أو عملٍ يُرضيه.
السَّابع عشر: تغسيلُ الطفل، فإنَّ أبا عُمَرَ وغيره ذكروا أنَّ مُرْضِعَتَهُ أمَّ بُرْدَةَ ـ امرأة أبي سيفٍ ـ غسَّلتْهُ، وحملتْه مِن بيتها على سريرٍ صغيرٍ إلى لَحْدِهِ
(4)
.
(1)
بنحوه في الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا، ص 108، ومن طريقه في حلية الأولياء لأبي نُعيم الأصبهاني: 8/ 100.
(2)
أخرجه البخاري في الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببكاء أهله: 3/ 151، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت: 2/ 636، برقم (923).
(3)
انظر: زاد المعاد: 1/ 449، وهو بنحوه في التحفة العراقية لشيخ الإسلام ص 37.
(4)
الاستيعاب: 1/ 56. وانظر: التمهيد: 6/ 334 وما بعدها.
الثامن عشر: الصلاة على الطفل.
قال أبُو عُمَرَ: "وصلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكبَّر عليه أربعًا. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح.
وكذلك قال الشعبي: مات إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستة عشر شهرًا فصلَّى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وروى ابن إسْحَاق عن عبدِ الله بنِ أبي بكرٍ، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عَائِشَةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دَفَنَ ابنَه إبراهيمَ ولم يُصَلِّ عَلَيْهِ".
قال
(2)
: "وهذا غيرُ صحيحٍ، لأنَّ الجمهور قد أجمعوا على الصَّلاة على الأطفالِ إذا استهلُّوا، وِرَاثةً وعملاً مستفيضًا عن السّلف والخَلَف، ولا أعلم أحدًا جاء عنه غير هذا، إلا عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُب".
قال: "وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ معنى حديثِ عَائِشَة: أنَّه لم يصلِّ عليه في جماعةٍ، وأمَرَ أصحابَه فصلَّوا عليه ولم يَحْضُرْهُمْ، فلا يكون مخالفًا لما عليه العلماءُ في ذلك، وهو أَوْلَى ما حُمِل عليه". انتهى
(3)
.
(1)
الاستيعاب: 1/ 58. وأخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 379، وفي طبعة القبلة: 7/ 467، وعبد الرزاق: 3/ 532، وابن سعد في الطبقات: 1/ 140، ووصله البيهقي: 4/ 9.
(2)
أي الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله.
(3)
أي انتهى ما نقله عن الحافظ ابن عبدالبر.
وقد قال غيره: إنَّه اشتغل عن الصَّلاة عليه بأمرِ الكسوفِ وصلاتِهِ، فإنَّ الشمسَ كَسَفَتْ يومَ موتهِ
(1)
، فشُغِل بصلاة الكُسُوفِ فإنَّ الناس قالوا: كَسَفَتِ الشمسُ لموتِ إبراهيمَ، فخطب النبيّ صلى الله عليه وسلم خطبة الكُسُوف، وقال فيها:"إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ الله، لا يَنْكَسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لحيَاتِهِ، ولكنْ يخوِّف اللهُ بهما عِبادَهُ"
(2)
.
وقد قال أبو داود في "سننه"
(3)
: باب الصلاة على الطفل. ثم ساق حديثَ عَائِشَةَ من طريق محمَّدِ بنِ إسْحَاق، قال: مات إبراهيمُ ابنُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانيةَ عَشَرَ شهرًا، فلم يصلِّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق في الباب عن البَهِيِّ، قال: لمَّا مات إبراهيمُ ابن النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المَقَاعِدِ
(4)
.
(1)
"وصلاته
…
موته" ساقط من "أ".
(2)
أخرجه البخاري في الكسوف، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يخوّف الله بهما عباده": 2/ 536، ومسلم في الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: 2/ 536، برقم (901).
(3)
سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في الصلاة على الطفل: 10/ 469 ـ 470، وأخرجه الإمام أحمد: 6/ 267.
(4)
أبو داود في الموضع السابق: 10/ 471، ورواه أيضًا في "المراسيل" برقم (431)، والبيهقي في السنن: 4/ 9. و"المقاعد": بفتح الميم، هي دكاكين كانت عند دار عثمان رضي الله عنه بالمدينة. وقيل: موضع بقرب المسجد اتُّخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. انظر: مجمع بحار الأنوار للفتني: 4/ 306.
وهذا مُرْسَلٌ. والبَهِيُّ: هو أبو محمَّد عبدُ الله بنُ يَسارٍ
(1)
، مَوْلَى مُصْعَبِ بنِ الزُّبَير، تابعيٌّ.
ثم ذكر بعده عن عطاءِ بنِ أبي رَبَاح، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنهِ إبراهيمَ وهو ابنُ سبعينَ ليلةً
(2)
.
وهذا مرسل أيضًا، وكأنه وهم، والله أعلم في مقدار عمره.
وقال البَيهَقِيُّ: هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تُشْبهُ الموصولَ، ويشدُّ بعضُها بعضًا. وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وذلك أَوْلَى من رواية مَنْ روى أنه لم يصلِّ عليه
(3)
.
والموصول الذي أشار إليه هو حديث البَراء بنِ عازبٍ قال: صلَّى رسولُ الله على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابنُ ستةَ عشرَ شهرًا، وقال:"إنَّ في الجنَّة مُرْضِعًا تتمُّ رَضَاعَهُ، وهو صدِّيق"
(4)
.
(1)
في "أ": بشار.
(2)
في الموضع السابق: 10/ 471. وانظر: فتح الباري: 3/ 174، وعمدة القاري: 6/ 141، وبذل المجهود: 10/ 470 ـ 471.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 4/ 9.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4/ 289، وفي طبعة الرسالة: 30/ 456 و 520، وابن سعد في الطبقات: 1/ 141، وأبو يعلى برقم (1696)، وعبد الرزاق برقم (14013). قال الهيثمي في المجمع 9/ 162:"فيه جابر الجعفي وهو ضعيف، ولكنه من رواية شعبة عنه ولا يروي عنه شعبة كذبًا، وقد صحَّ من غير حديث البراء".
وهذا حديث لا يثبت لأنه من رواية جابر الجُعْفِيِّ، وهو لا يُحْتَجُّ بحديثه، ولكنَّ هذا الحديثَ مع مُرْسَلِ البَهِيِّ وعَطَاءٍ والشَّعبيِّ يقوِّي بعضُها بعضًا.
وكان بعض الناس يقول: إنما ترك الصلاة عليه لاستغنائه عنها بأبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استغنى
(1)
الشهداء عنها بشهادتهم.
وهذا من أفْسَدِ الأقوالِ وأبعدِها عن العِلْم، فإنَّ الله سبحانه شرع الصلاةَ على الأنبياءِ والصدِّيقينَ، وقد صلَّى الصحابةُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والشهيدُ إنّما تُرِكَتِ الصلاةُ عليه، لأنّها تكون بعد الغسل وهو لا يُغسل.
التاسع عشر: إنَّ الشمس كَسَفَتْ يومَ موتِه، فقال الناس: كَسَفَتْ لموتِ إبراهيمَ، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطبة الكُسُوف وقال:"إنَّ الشَّمسَ والقمرَ لا يَنْكَسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ"
(2)
.
وفيه ردٌّ على من قال: إنه مات يوم عاشر المُحَرَّم، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادةَ التي أوجبتْها حكمتُه، بأنَّ الشمسَ إنَّما تُكسف ليالي السّرار، كما أن القمر إنما يكسف في الإبْدَار، كما أجرى العادةَ بطلوعِ الهلال أوَّلَ الشهرِ وإبْدَارِهِ في وَسْطِهِ ومُحاقِه في آخرهِ.
(1)
"عنها بأبوَّة
…
استغنى" ساقط من "د".
(2)
تقدم تخريجه فيما سبق ص (158).
العشرون: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ له مُرْضِعًا تُتمُّ رَضاعه في الجنَّة. وهذا يدل على أنَّ الله سبحانه وتعالى يُكمِلُ لأهل السعادة مِنْ عِبَاده بعد مَوْتِهم النقصَ الذي كان في الدنيا. وفي ذلك آثارٌ ليس هذا موضعها، حتى قيل: إنَّ من مات وهو طالبٌ للعلم، كُمِّل له حصولُه بعد موته، وكذلك من مات وهو يتعلَّم القرآنَ. والله أعلم.
الحادي والعشرون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوْصَى بالقِبْطِ خيرًا وقال: "إنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا"
(1)
، فإن سُرّيَّتَي الخَلِيلَينِ الكَريمَيْنِ إبراهيمَ ومحمَّدٍ
ــ صلوات الله عليهما وسلامه ــ كانتا منهم، وهما: هَاجَرُ ومَارِيَةُ؛ فأمَّا هاجر: فهي أمُّ إسماعيل أبي العرب، فهذا الرَّحِمُ.
وأما الذمَّة: فما حصل من تَسَرِّي النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَارِيَةَ وإيلادِهَا إبراهيم، وذلك ذِمَامٌ يجب على المُسْلِمينَ رعايتُه ما لم تضيِّعه القِبْطُ، والله أعلم.
وقد روى البُخَاريُّ في "صحيحه"، عن السُّدّيِّ قال: سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ: كم كانَ بلغَ إبراهيمُ ابنُ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان قد ملأَ مَهْدَهُ، ولو بقِيَ لكان نبيًّا، ولكن لم يكنْ لِيَبْقَى، لأن نبيَّكم آخرُ الأنبياءِ
(2)
.
(1)
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإنَّ لهم ذمة ورَحِمًا". أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر: 4/ 1970، برقم (2543). والقبط ـ بالكسر ـ نصارى مصر. الواحد: قبطي.
(2)
أخرجه الإمام أحمد: 3/ 280، وفي طبعة الرسالة: 21/ 402، وابن سعد: 1/ 157. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 10/ 579: "رواه أحمد وابن منده". ولم أجده في صحيح البخاري.
وقد روى عيسى بنُ يُونُسَ عن ابنِ أبي خالدٍ قال: قلت لابنِ أَبي أَوْفَى: أرأيتَ إبراهيمَ ابنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات وهو صغيرٌ، ولو قُدِّر أن يكون بعد محمَّدٍ نبيٌّ لعاشَ، ولكنّه لا نبيَّ بعد محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال ابنُ عبدِ البَرِّ
(2)
: "ولا أدري ما هذا، وقد وَلَدَ نوحٌ ــ عليه السلام ــ مَنْ ليس بنبيٍّ. وكما يلد غيرُ النبيّ نبيًّا، فكذلك يجوز أن يلد النبيُّ غيرَ نبيٍّ، ولو لم يلد النبيُّ إلا نبيًا لكان كلُّ أحدٍ نبيًّا، لأنَّه من وَلَدِ نوحٍ، وآدمُ نبيٌّ مكلَّم، ما أعلم في ولده لصُلْبِهِ نبيًّا غيرَ شِيثٍ". والله أعلم.
وهذا فصلٌ معترضٌ يتعلَّق بوقت تسميةِ المولود، ذكرناه استطرادًا، فلنرجع إلى مقصود الباب، فنقول:
إن التسمية لما كانت حقيقتُها تعريفَ الشيء المسمَّى، لأنه إذا وجد وهو مجهولُ الاسمِ لم يكن له ما يقعُ تعريفُه به، فجاز تعريفُه يوم وجودِه، وجاز تأخيرُ التعريفِ إلى ثلاثة أيام، وجاز إلى يوم العقيقَةِ عنه، ويجوزُ قبلَ ذلك وبعدَه، والأمرُ فيه واسعٌ.
(1)
أخرجه البخاري في الأدب، باب من سمّى بأسماء الأنبياء: 10/ 579.
(2)
في الاستيعاب: 1/ 60.
الفصل الثاني
فيما يُستحبُّ من الأسماءِ وما يُكْره منها
(1)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّكم تُدْعَوْنَ يومَ القيامةِ بأسمائِكم وبأسماءِ آبائِكم فَأَحْسِنُوا أسْماءَكُمْ" رواه أبو داود بإسناد حسن
(2)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحبَّ أسمائِكم إلى الله عز وجل: عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن" رواه مسلم في "صحيحه"
(3)
.
(1)
عقد المصنف في زاد المعاد: 2/ 334 ـ 352 فصلًا في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى. وانظر: مفتاح دار السعادة: 2/ 242 وما بعدها.
(2)
في السنن، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء: 13/ 348 ـ 349، وقال:"ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء" فهو منقطع، والإمام أحمد: 5/ 194، وفي طبعة الرسالة: 36/ 23، والدارمي في الاستئذان، باب في حسن الأسماء: 2/ 294، وابن حبان برقم (8158)، والطبراني في الكبير برقم (973)، والبغوي في شرح السنة: 12/ 327 برقم (3360)، والبيهقي: 9/ 306 وقال: "هذا مرسل ـ يعني منقطع ـ ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء".
(3)
كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء: 3/ 1682 برقم (2132).