المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة - تحفة المودود بأحكام المولود - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي استحبابِ طَلبِ الوَلدِ

- ‌الباب الثانيفي كَراهةِ تَسخُّطِ البناتِ

- ‌الباب الثالثفي استحبابِ بشارةِ من وُلد له ولدٌ وتهنئتهِ

- ‌الباب الخامسفي استحبابِ تَحنيكه

- ‌الباب السَّادسفي العَقيقةِ وأحكامِها

- ‌تحقيق رأي أبي حنيفة

- ‌الفصل السَّادسهل يُكْرهُ تَسميتُها عَقيقة

- ‌ الذبحُ في موضعهِ أفضلَ من الصَّدقة بثمنه

- ‌ يُستحبُّ أن يُقالَ عليها ما يُقالُ على الأضحيةِ

- ‌يُستحبُّ فيها ما يستحبُّ في الأضحيةِ

- ‌الفصل الثالث عشرفي كَراهةِ كَسْرِ عِظامِها

- ‌الفصل السَّادس عشرهل تُشرعُ العقيقةُ بغير الغَنم

- ‌القزع أربعة أنواع:

- ‌ استحباب(4)الأسماء المضافة إلى الله

- ‌ اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة

- ‌ حكمةِ خَفْضِ النِّساء:

- ‌«مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَمْ منه طِبٌّ فهو ضَامِنٌ»

- ‌فصلٌ في وقت الفطام

- ‌فصلفي وَطءِ المُرْضعِ، وهو الغَيلُ

- ‌ما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام

- ‌فصلفي مقدارِ زمانِ الحَمْلِ واختلافِ الأَجِنَّة

- ‌فصلفي ذِكرِ أَحوالِ الجنِينِ بعد تَحرِيكِه وانقِلابهِ عندَ تَمامِ نِصفِ السَّنَةِ

- ‌ وعلوَّ أَحدِهما سببٌ لمجانسة الولد للعالي ماؤه

- ‌ فهرس مراجع ومصادر التَّحقيق

الفصل: ‌ اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة

والفطرةُ فِطْرَتَانِ: فطرةٌ تتعلَّقُ بالقلب، وهي معرفةُ الله ومحبتُه وإيثارُه على ما سواه، وفطرةٌ عمليَّةٌ، وهي هذه الخصالُ.

فالأولى تزكِّي الروحَ وتطهِّر القلبَ، والثانية تطهِّر البدنَ، وكلٌّ منهما تمدُّ الأخْرَى وتقوِّيها، وكان رأسُ فطرةِ البدنِ: الختان، لما سنذكره في الفصل السَّابع إن شاء الله تعالى.

وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنَ الفِطْرَةِ ـ أو الفطرةُ ـ: المضمضةُ، والاستنشاقُ، وقصُّ الشاربِ، والسِّواكُ، وتقليمُ الأظافر، وغَسْلُ البَراجِمِ، ونَتْفُ الإبْطِ، والاسْتِحْدَادُ، والاختتانُ، والانْتِضَاحُ"

(1)

.

وقد‌

‌ اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة

، وأخْذِ الفضلات المستقذَرةِ التي يألفها الشيطان، ويجاورها من بني آدم، وله بالغُرْلَةِ اتصالٌ واختصاص ستقف عليه في الفصل السَّابع إن شاء الله.

وقال غير واحدٍ من السَّلَف: من صلَّى وحجَّ واخْتَتَنَ فهو حنيفٌ، فالحجُّ والختانُ: شعارُ الحنيفيَّة، وهي فطرةُ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عليها.

(1)

المسند: 4/ 264، وفي طبعة الرسالة: 30/ 268، وأخرجه أبو داود في الطهارة، باب السواك من الفطرة: 1/ 342 ـ 344، وابن ماجه في الطهارة برقم (294)، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 229، والطيالسي في المسند برقم (641).

ص: 234

قال الرَّاعي

(1)

يخاطبُ أبا بكرٍ رضي الله عنه:

أَخَلِيْفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّا مَعْشَرٌ

حُنَفَاءُ، نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيْلَا

عَرَبٌ، نَرَى لله في أمْوِالِنَا

حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلًا

(1)

الراعي النُّميري في ديوانه، ص 206 من قصيدة يمدح بها عبدالملك بن مروان، ويشكو من السُّعاة الذين يأخذون الزكاة من قِبَل السلطان. انظر: جمهرة أشعار العرب للقرشي: 2/ 929. وذكر المصنف البيت في كتابه شفاء العليل ص 574 فقال: قال الشاعر. ولم يذكر أبا بكر.

ص: 235

الفصل الرابع

في الاختلافِ في وُجُوبه واستحبابهِ

اختلف الفقهاءُ في ذلك؛ فقال الشَّعْبِيُّ، ورَبِيعَةُ، والأَوْزَاعِيُّ، ويَحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، ومالكٌ، والشّافِعِيّ، وأحمد: هو واجب

(1)

.

وشدَّد فيه مالكٌ، حتى قال: من لم يختتن لم تَجُزْ إِمامتُه ولم تُقبَلْ شَهَادَتُه

(2)

. ونقل كثيرٌ من الفقهاء عن مالك أنَّه سنَّة، حتى قال القاضي عِيَاض: "الاختتانُ عند مالكٍ وعامّةِ العُلماءِ

(3)

سُنَّةٌ"

(4)

.

(1)

انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 354 - 355، والبيان للعمراني:1/ 95، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 430 - 431، والمجموع للنووي: 1/ 164، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، وتفسير القرطبي: 2/ 99 - 100.

(2)

قال المالكية: الأغلف الذي لا عذر له في الختان لا تجوز شهادته لإخلال ذلك بالمروءة. انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 6/ 87.

وكذلك قال الحنفية: لا تقبل شهادة الأقلف؛ إذا كان من غير عذر؛ لأنه مستخفٌّ بالختان، ومع الاستخفاف به لا يكون عدلًا. انظر: فتح باب العناية بشرح النّقاية للملا على القاري: 3/ 138، فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 45.

(3)

في "أ": الفقهاء.

(4)

شرح صحيح مسلم للقاضي عياض: 2/ 65. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار 10/ 20: فإن بعضهم جعل الختان فرضًا، واحتج بأن إبراهيم اختتن، وأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم. ثم قال: ولا حجة فيما احتج به؛ لأن من ملة إبراهيم سنةً وفريضةً، وكلٌّ يتّبع على وجهه. وانظر له أيضًا: الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 558.

ص: 236

ولكن السُّنَّة عندهم يأثم بتركها، فهم يُطْلِقُونهَا على مرتبة بين الفرض وبين النَّدْب، وإلا فقد صرَّح مالك بأنَّه لا تقبل شهادة الأقْلَفِ، ولا تجوز إمامتُه.

وقال الحَسَن البصريُّ وأبو حنيفةَ: لا يجب، بل هو سُنَّة

(1)

، وكذلك قال ابنُ أبي مُوسَى

(2)

من أصحابِ أَحْمَدَ: هو سُنَّة مؤكَّدة.

ونصَّ أَحْمَد في رواية: أنه لا يجبُ على النساءِ

(3)

.

واحتجّ الموجبون له بوجوهٍ:

(أحدها): قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل/ 123]. والختان من مِلَّتِه لما تقدم.

(1)

قال الملا علي القاري في "فتح باب العناية" 1/ 37: "وسُنَّ الختان للرجال، وهو من الفطرة. وعُدَّ مكرمة للنساء؛ لحصول الكرامة لهنَّ به عند أزواجهنّ، وقُدِّر وقته بسبع سنين ـ وهو مختار أبي الليث ـ أو تسع أو عشر. وقيل بما يطابق المراد بالبلوغ. ويُترك لو ولد شبيهًا بالمختون، أو أسلم كبيرًا وخيف عليه منه. وإن تركه أهل بلد قُوتِلوا عليه، لأنه من شعائر الإسلام، فصار كالأذان". وانظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 45.

(2)

في كتابه "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" ص 391.

(3)

انظر: الترجل للخلال، ص 86، المغني لابن قدامة: 1/ 115 ـ 116.

ص: 237

(الوجه الثاني): ما رواه الإمام أحمد، حدّثنا عبد الرزَّاق، عن ابن جُرَيج قال: أُخبرت عن عُثَيمِ بنِ كُلَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنه جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد أسلمتُ، قال:"أَلْقِ عَنْكِ شَعْرَ الكُفْرِ" يقول: احْلِقْ. قال: وأخبرني آخرُ معه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لآخر:"ألَقِ عَنْكَ شَعْرَ الكُفْرِ وَاخْتَتِنْ". ورواه أبو داود عن مَخْلَدِ بنِ خَالِد عن عبدِ الرزَّاق

(1)

. وحَمْلُه على النَّدْب في إلقاء الشعر، لا يلزمُ منه حمله عليه في الآخر.

(الوجه الثالث): قال حربٌ في "مسائله" عن الزُّهْرِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أسْلَمَ فَلْيَخْتَتِنْ وإنْ كانَ كَبيرًا"

(2)

.

وهذا وإن كان مُرْسَلًا، فهو يصلح لِلاعْتِضَادِ.

(الوجه الرابع): ما رواه البَيهَقِيّ، عن موسى بن إسماعيل بن جعفر

(1)

أخرجه عبدالرزاق: 6/ 10، وأبو داود في الطهارة، باب في الرجل يُسلم فيؤمر بالغسل: 2/ 575 - 577، والإمام أحمد: 3/ 415، وفي طبعة الرسالة: 24/ 163، والبيهقي في السنن: 1/ 172، وفي معرفة السنن والآثار: 9/ 4365 برقم (4633)، والطبراني في الكبير: 22/ 395 - 396 برقم (360). قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام 5/ 43: "إسناده في غاية الضعف مع الانقطاع". وانظر: البدر المنير لابن الملقن: 8/ 741 - 743، والتلخيص الحبير لابن حجر 4/ 82.

(2)

انظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 4/ 82 فقد عزاه أيضًا لحرب. وقال السيوطي في الدر المنثور 1/ 597: "أخرج البيهقي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أسلم .. " وهو مرسل.

ص: 238

ابن محمَّد بن علي بن حسين بن علي، عن آبائه واحدًا بعد واحدٍ، عن علي رضي الله عنه قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيفة: "أنَّ الأقْلَفَ لا يترك في الإسلام حتى يختتن، ولو بلغ ثمانين سنة". قال البَيهَقِيُّ: هذا حديث ينفرد به أهل البيت بهذا الإسناد

(1)

.

(الوجه الخامس): ما رواه ابنُ المُنْذِرِ من حديث أبي بَرْزَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأقْلَفِ: "لا يحجّ بيتَ الله حتى يختتنَ"

(2)

. وفي لفظ: سألْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أقْلَف، يحج بيت الله؟ قال:"لا، حتَّى يختتنَ". ثم قال: لا يثبت، لأن إسناده مجهول

(3)

.

(الوجه السَّادس): ما رواه وَكِيعٌ عن سالم أبي العلاء المُرَادِيِّ، عن عَمْرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عبَّاس، قال: الأقْلَفُ لا تُقْبَلُ له صلاةٌ

(4)

، ولا تُؤكَل ذَبِيحَتُه

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمَّد بن عبيد عن سالم المرادي، عن

(1)

سنن البيهقي: 8/ 324.

(2)

رواه ابن المنذر في الإشراف: 3/ 424، والبيهقي: 8/ 324

(3)

انظر: الإشراف: 3/ 424،.

(4)

الأقلف لا تقبل له صلاة. ساقط من "ج".

(5)

أخرجه عبدالرزاق: 4/ 483، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 325، وفي شعب الإيمان: 6/ 396. قال ابن التركماني: فيه مجهول. وقال ابن عبدالبر: لا يثبت. وانظر: فتح الباري: 9/ 637.

ص: 239

عَمْرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عبَّاس: لا تُؤكَلُ ذبيحةُ الأقْلَفِ

(1)

.

وقال حَنْبَل في "مسائله": حدّثنا أبُو عُمَر الحَوضيّ

(2)

، حدّثنا هَمَّام، عن قَتَادَة، عن عِكْرِمَة، قال: لا تؤكل ذبيحة الأقْلَف

(3)

.

قال: وكان الحَسَنُ لا يرى ما قال عِكْرِمَة

(4)

. قال: وقيل لعِكْرِمَة: ألَه حجٌّ؟ قال: لا

(5)

.

قال حَنْبَل: قال أبو عبد الله: لا تُؤكَل ذبيحتُه، ولا صلاةَ له، ولا حجَّ حتى يطَّهر، وهو من تمام الإسلام

(6)

.

قال حَنْبَل: وقال أبو عبد الله: الأقْلَفُ لا يَذْبَحُ، ولا تُؤْكَلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له.

وقال عبد الله بن أَحْمَد: حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم، حدّثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قَتَادَة، عن جابر بن زيد، عن

ابنِ عبَّاس، قال: الأقْلَفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تُؤكل له ذبيحةٌ،

(1)

الأثر ساقط من "ج" سندًا ومتنًا. وأخرجه الخلال في الترجل ص 86.

(2)

في"ب": الحرزي، وفي "ج": الحرضي.

(3)

انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق: 9/ 4759.

(4)

"قال: وكان الحَسَن لا يرى ما قال: عِكْرِمَة". ساقط من "أ".

(5)

انظر: المصنف لعبد الرزاق: 11/ 175.

(6)

أخرجه الخلال في الترجل برقم (178).

ص: 240

ولا تجوز له الشهادة

(1)

.

قال قَتَادَة: وكان الحَسَنُ لا يرى ذلك

(2)

.

(الوجه السَّابع): أنَّ الختانَ من أظْهَرِ الشَّعائرِ

(3)

التي يُفَرَّقُ بها بين المُسْلِم والنَّصرانيِّ

(4)

، فوجوبُه أظهرُ من وجوبِ الوترِ، وزكاةِ الخيل، ووجوبِ الوضوء على من قَهْقَهَ في صلاته، ووجوبِ الوضوء على من احْتَجَمَ أو تقيَّأ أو رَعَفَ، ووجوبِ التيمم إلى المِرْفَقَيْنِ، ووجوبِ الضَّربتين على الأرض، وغير ذلك، ممَّا وجوبُ الختان أظْهَرُ مِن وُجُوبِه وأقوَى، حتى إن المُسْلِمين لا يكادون يعدُّون الأقْلفَ منهم.

ولهذا ذهب طائفةٌ من الفقهاء إلى أنَّ الكبيرَ يجبُ عليه أن يختتنَ

(1)

انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية عبدالله: 1/ 151، والترجّل للخلال ص 84.

(2)

انظر: المصنف لعبد الرزاق: 11/ 175. وقال ابن المنذر في الإشراف

3/ 434 - 435: "اختلفوا في أكل ذبيحة الأقلف؛ فممن قال لا تؤكل ذبيحته: ابن عباس والحسن البصري. وقد اختلف فيه على الحسن. وقال حماد بن أبي سلمان: لا بأس به، وهو يشبه مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وعوام أهل الفتيا من علماء الأمصار. وبه نقول؛ لأن الله تعالى لما أباح ذبائح أهل الكتاب، وفيهم من لا يختتن؛ كانت ذبيحة المسلم الذي ليس بمختون أوْلى، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وهذا داخل في جملة ذلك".

(3)

في "أ": الشرائع.

(4)

انظر: أعلام الحديث للخطابي: 3/ 2154.

ص: 241

ولو أدَّى إلى تَلَفِه، كما سنذكره في الفصل الثاني عشر إن شاء الله تعالى.

(الوجه الثامن): أنَّه قطعٌ شُرِعَ لله، لا تُؤْمَنُ سِرَايَتُهُ

(1)

، فكان واجبًا كقطع يد السَّارقِ.

(الوجه التاسع): أنه يجوز كَشْفُ العورةِ له لغير ضرورةٍ ولا مداواةٍ، فلو لم يجب لما جازَ، لأنَّ الحرامَ لا يُلْتَزَمُ للمحافَظَةِ على المسْنُونِ

(2)

.

(الوجه العاشر): أنَّه لا يُسْتَغْنَى فيه عن تَرْكِ وَاجِبَيْنِ وارتكابِ محظُورينِ، أحدهما: كشفُ العورةِ في جانبِ المختونِ، والنظرُ إلى عورةِ الأجنبيِّ في جانب الخاتنِ. فلو لم يكن واجبًا لما كان

(3)

قد تُرِك له واجبانِ وارتُكِبَ محظُورانِ.

(الوجه الحادي عشر): ما احتج به الخَطَّابيُّ قال: "أمَّا الختانُ، فإنه ــ وإن كان مذكورًا في جملة السُّنَنِ ــ فإنَّه عند كثير من العلماء على الوجوب، وذلك أنَّه شعارُ الدِّين، وبه يُعْرَفُ المُسْلِمُ من الكافرِ، وإذا وُجِدَ المختونُ بين جماعةٍ قَتْلَى غير مختتنينَ: صُلِّي عليه، ودُفِن في

(1)

قال في المصباح المنير 1/ 257: سرى الجرحُ إلى النفس، معناه دام ألمُه حتى حدث منه الموت. وقطع كفَّه فسرى إلى ساعده: أي تعدَّى أثرُ الجرح.

(2)

انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والمجموع للنووي: 1/ 164، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 100، وأعلام الحديث للخطابي: 3/ 2154، وشرح صحيح مسلم للقاضي عياض: 2/ 65.

(3)

في (ب، ج): فلو لم يكن واجبًا لكان.

ص: 242

مقابر المُسْلِمين"

(1)

.

(الوجه الثاني عشر): أن الوليَّ يُؤْلِمُ فيه الصبيَّ، ويُعَرِّضُهُ للتَّلَف بالسِّرَايَةِ، ويُخرِج من ماله أجرةَ الخاتنِ وثمنَ الدواءِ، ولا يضمنُ سِرَايَتَهُ بالتَّلف، ولو لم يكن واجبًا لما جاز ذلك؛ فإنَّه لا يجوز له إضاعةُ مالِه وإيلامُهُ الألمَ البالغَ، وتعريضُه للتَّلَف بفِعلِ ما لا يجبُ فِعْلُه، بل غايتُه أن يكونَ مستحبًّا. وهذا ظاهرٌ بحمد الله.

(الوجه الثالث عشر): أنَّه لو لم يكن واجبًا لما جاز للخاتن الإقدامُ عليه، وإن أَذِنَ فيه المختونُ أو وليُّه؛ فإنه لا يجوز الإقدامُ على قَطْعِ عضوٍ لم يأمرِ اللهُ ورسولُه بقَطْعِهِ، ولا أوجبَ قَطْعَهُ

(2)

، كما لو أذِن له في قَطْعِ أُذُنِه أو إصْبعِه، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يَسْقُطُ الإثمُ عنه بالإذْنِ، وفي سقوط الضَّمانِ عنه نزاعٌ

(3)

.

(الوجه الرابع عشر): أنَّ الأقْلَفَ معرَّضٌ لفَسَادِ طَهَارتِهِ وصلاتِه، فإن القُلْفَة تستر الذَّكَرَ كلَّه، فيصيبُها البَوْلُ، ولا يمكن الاسْتِجْمَارُ لها. فصحَّةُ الطهارةِ والصلاةِ موقوفةٌ على الختانِ. ولهذا مَنَعَ كثيرٌ من

(1)

انظر: معالم السنن للخطابي: 1/ 42 مع مختصر المنذري وشرح ابن القيم.

(2)

انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والمجموع للنووي: 1/ 164 - 165.

(3)

انظر: مجمع الضمانات للبغدادي: 1/ 136 - 137، وبدائع الصنائع للكاساني: 7/ 236 - 237، وفتح القدير لابن الهمام: 7/ 206، والشرح الكبير للدردير: 4/ 213، ونهاية المحتاج للرملي: 7/ 248 - 296، والإقناع للحجاوي: 4/ 147.

ص: 243

السَّلَف والخَلَف إمامتَهُ وإنْ كان معذورًا في نفْسِهِ، فإنَّه بمنزلة مَن به سَلَسُ البَوْلِ ونحوه.

فالمقصود بالختان: التحرُّزُ من احتباسِ البولِ في القُلْفَةِ، فتفسد الطهارةُ والصلاةُ. ولهذا قال ابن عبَّاس ـ فيما رواه الإمام أَحْمَد وغيره ـ: لا تُقْبَلُ لهُ صلاةٌ. ولهذا يَسقطُ بالموتِ؛ لِزَوَالِ التَّكْلِيفِ بالطَّهارةِ والصَّلاةِ.

(الوجه الخامس عشر): أنه شعار عُبَّاد الصَّليبِ وعُبَّاد النَّار الذين تميَّزوا به عن الحُنَفَاء، والختانُ شعارُ الحنفاءِ في الأصل، ولهذا أوَّل من اختتن إمامُ الحنفاء، وصار الختانُ شِعارَ الحنيفيَّة، وهو ممَّا توارثه بنو إسماعيلَ وبنو إسرائيلَ عن إبراهيمَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز مُوَافَقَةُ عُبَّادِ الصَّليبِ القُلْفِ في شعارِ كُفْرِهم وتَثْلِيثِهمْ.

فصل

قال المُسْقِطُونَ لوجوبه:

قد صرَّحت السنَّة بأنه سنَّةٌ، كما في حديث شدَّاد بنِ أوْسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الخِتَانُ سُنَّةٌ للرِّجَالِ، مَكْرُمَةٌ للنِّسَاءِ". رواه الإمام أَحمد

(1)

.

(1)

في المسند: 5/ 75، وفي طبعة الرسالة: 34/ 319، وابن أبي شيبة في المصنف: 6/ 223، وفي الأدب برقم (186)، والخلال في الترجل ص 88 برقم (192)، والطبراني في الكبير: 7/ 329، والبيهقي في السنن: 8/ 325، وفي معرفة السنن والآثار برقم (4369) قال:"ولا يثبت رفعه، ورواه الحجاج بن أرطاة من وجهين آخرين ولا يثبت"، وابن عدي في الكامل: 1/ 44. وقال ابن الملقن البدر المنير 8/ 743 ـ 745: "هذا الحديث ضعيف بمرة، وهو مروي من طرق" ثم ذكر طرقه. وانظر: فتح الباري: 10/ 341.

ص: 244

قالوا: وقد قَرَنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمسْنُونَاتِ دُوْنَ الوَاجبَاتِ، وهي: الاسْتِحْدَادُ، وقَصُّ الشَّاربِ، وتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، ونَتْفُ الإبْطِ.

قالوا: وقال الحَسَنُ البَصْريُّ: قد أسلمَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الناس: الأسودُ، والأبيضُ، والرُّوميُّ، والفَارِسيُّ، والحَبَشِيُّ، فما فتَّشَ أحَدًا منهم، أو ما بَلَغَنِي أنَّه فتَّش أحدًا منهم

(1)

.

وقال الإمام أَحْمَد: حدّثنا المعتمر، عن سَلْم بن أبي الذَّيال

(2)

، قال: سمعت الحَسَنَ يقول: يا عجبًا لهذا الرجل ـ يعني أَميرَ البصرةِ ـ لقي أشياخًا من أهل كسكر

(3)

، فقال: ما دينكم؟ قالوا: مُسْلِمين، فأمَرَ بِهِمْ فَفُتِّشُوا، فوُجِدُوا غيرَ مختُونينَ، فَخُتِنُوا في هذا الشِّتاءِ، وقد بَلَغَنِي أنَّ بعضَهم ماتَ! وقد أَسْلَمَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرُّومِيُّ، والفارسيُّ، والحبشيُّ،

(1)

أخرجه الخلال في الترجل برقم (182)، وابن هانئ في المسائل: 2/ 151.

(2)

في "ج": سالم بن أبي الدنيا. وفي "ب": سالم بن أبي الزياد. في "أ، د": سالم بن أبي الذيال. والتصويب من التهذيب للمزي ومراجع التخريج.

(3)

في "أ": لبكر. وفي "ب": كيكم. و (كسكر): بلدة في بلاد فارس. وهي معرَّب كاشتكار، ومعناه عامل الزرع.

ص: 245

فما فتَّش أحدًا منهم

(1)

.

قالوا: وأمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فالملَّةُ هي الحَنِيْفيَّةُ، وهي التَّوحِيْدُ، ولهذا بيَّنهَا بقَوْلِهِ:{حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل/ 123].

وقال يُوسفُ الصِّدِّيقُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف/ 37 ـ 38].

وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران/ 95].

فالملَّةُ في هذا كلِّه هي أصلُ الإيمانِ من التَّوحيدِ والإنابةِ إلى الله، وإخلاصِ الدِّينِ لهُ.

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعلّمُ أصحابَه إذا أَصْبَحُوا أنْ يَقُولُوا: "أَصْبَحْنَا على فِطْرَةِ الإسْلامِ، وكَلِمَةِ الإخْلَاصِ، وَدِيْنِ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ ومِلَّةِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيْفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشْرِكينَ"

(2)

.

(1)

أخرجه الخلال في كتاب الترجّل برقم (191)، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (1251) وفي طبعة دار القلم (76)، وصححه الألباني في صحيح الأدب برقم (947).

(2)

أخرجه الإمام أحمد: 3/ 406 وفي طبعة الرسالة: 24/ 77، والدارمي في السنن، كتاب الاستئذان، باب ما يقول إذا أصبح: 2/ 292، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 134 برقم (3)، والطبراني في الدعوات الكبير برقم (26 و 27)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، ص 20 برقم (34). قال الهيثمي في المجمع 10/ 116:"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما جال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار 2/ 402: "رجاله محتج بهم في الصحيح، إلا عبدالله بن عبدالرحمن وهو حسن الحديث".

ص: 246

قالوا: ولو دخلت الأفعالُ في الملَّة، فمُتَابَعَتُهُ فيها أن تُفْعَلَ على الوَجْهِ الذي فَعَلَهُ، فإنْ كان فَعَلَها على سبيلِ الوجوبِ، فاتِّباعُه أن يَفْعَلَها كذلك، وإن كان فَعَلَها على وجه النَّدْبِ، فاتِّباعُه أن يفعلَها على وجه النَّدْبِ

(1)

. فليس معكم حينئذٍ إلا مجرَّدُ فِعْلِ إبراهيمَ، والفِعْلُ هل هو على الوجوبِ أو النَّدْبِ؟ فيه النزاع المعروف. والأقوى: أنه إنَّما يدلُّ على النَّدبِ إذا لم يكن بيانًا لواجبٍ، فمتى فعَلْنَاهُ على وجْهِ النَّدبِ كنا قد اتَّبعناهُ.

قالوا: وأمَّا حديثُ عُثَيْمِ بنِ كُلَيْب، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ:"أَلْقِ عنْكَ شَعْرَ الكُفْرِ واخْتَتِنْ"

(2)

، فابنُ جُرَيْجٍ قال فيه: أُخبرتُ عن عُثَيْمِ ابنِ كُلَيب.

قال أبو أحمد بنُ عَدِيٍّ: هذا الذي قالَ ابن جُرَيْج في هذا الإسناد:

(1)

انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 10/ 20.

(2)

تقدم فيما سبق، ص (238).

ص: 247

ــ أُخبرت عن عُثيم بن كُليب ــ إنما حدَّثه إبراهيم بن أبي يحيى، فكنَّى عن اسمه. وإبراهيمُ هذا مُتَّفَقٌ على ضَعْفِهِ بين أهْلِ الحديثِ، ما خلا الشّافِعيّ وَحْدَهُ

(1)

.

قالوا: وأمَّا مُرْسَلُ الزُّهْرِيّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَسْلَمَ: فَلْيَخْتَتِنْ وإنْ كانَ كَبِيْرًا"

(2)

. فمَراسيلُ الزُّهْرِيّ عندَهُمْ مِنْ أضْعَفِ المراسِيْلِ، لا تصلحُ للاحتجاجِ.

قال ابنُ أبي حَاتمِ: حدّثنا أَحْمَد بنُ سِنَان، قال: كان يحيى بنُ سعيد القَطَّان لا يرى إرسال الزُّهْرِيّ وقَتَادَةَ شيئًا، ويقول: هو بمنزلةِ الرِّيح

(3)

.

وقُرِئَ على عبَّاس الدُّوريِّ، عن يحيى بن مَعِيْن، قال: مَراسيلُ الزُّهْرِيّ ليست بشيء

(4)

.

قالوا: وأمَّا حديثُ مُوسَى بنِ إسماعيلَ بنِ حفْصٍ عن آبائِه، فحديثٌ لا يُعْرَفُ، ولم يَرْوِه أهلُ الحديثِ، ومَخْرَجُهُ من هذا الوجهِ وحدَه تفرَّدَ به موسى بنُ إسماعيلَ عن آبائه بهذا السَّنَدِ، فهو نَظِيْرُ أمثاله من الأحاديث التي تفرَّد بها غيرُ الحفَّاظِ المعروفينَ بِحَمْلِ الحديث.

(1)

الكامل لابن عدي: 1/ 220. وانظر: تهذيب الكمال: 5/ 124.

(2)

تقدم فيما سبق، ص (138). والمرسل هو الحديث الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

انظر: تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، ص (246) كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ونصب الراية للزيلعي: 3/ 422 ـ 423.

(4)

انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 398.

ص: 248

قالوا: وأمَّا حديث أبي بَرْزَةَ، فقال ابن المُنْذِر: حدّثنا يحيى بن محمَّد، حدّثنا أَحْمَد بن يونس، حدَّثَتْنَا أمُّ الأسود، عن منية، عن جَدِّها أَبي بَرْزَةَ

فذكره

(1)

.

قال: ابن المُنْذِر هذا إسنادٌ مجهولٌ لا يَثْبُتُ.

(2)

قالوا: وأمَّا استدلالُكُمْ بقَولِ ابنِ عبَّاسٍ: "الأقْلَفُ لا تُؤكَلُ ذَبيحتُه ولا تُقبَلُ له صلاةٌ" فقولُ صحابيٍّ تفرَّدَ به.

قال أَحْمَد: وكان يشدِّد فيه، وقد خالفَه الحَسَنُ البصريُّ وغيرُه.

وأمَّا قولُكم: "إنه من الشَّعائر". فصحيحٌ لا نزاعَ فيه، ولكنْ ليس كلُّ ما كان مِن الشعائرِ يكون واجبًا.

فالشعائرُ منقسمةٌ إلى واجبٍ: كالصلواتِ الخمسِ، والحجِّ، والصِّيامِ، والوُضُوءِ، وإلى مُسْتَحَبٍّ: كالتَّلبِيَةِ، وسَوْقِ الهَدْي وتَقْلِيدِه، وإلى مختلَفٍ فيه: كالأذانِ، والعيدينِ، والأُضحيةِ، والختَانِ.

فمن أين لكم أنَّ هذا مِنْ قِسْمِ الشَّعائرِ الواجبةِ؟

وأمَّا قولُكم: "إنه قطعٌ شُرِعَ لله لا تُؤمَن سِرَايَتُهُ، فكان واجبًا كقَطْعِ يَدِ السَّارقِ" فمِنْ أَبْرَدِ الأَقْيِسَةِ!

(1)

انظر فيما سبق ص 239.

(2)

انظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر: 3/ 424.

ص: 249

فأين الختانُ من قَطْعِ يدِ اللصِّ؟ فيا بُعْدَ ما بينَهما!

ولقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ مَنْ قاسَ أحدَهما على الآخَرِ، فالختانُ إكْرَامُ المختونِ، وقطعُ يدِ السَّارقِ عُقُوبةٌ له، وأينَ بابُ العقوباتِ من أبوابِ الطَّهاراتِ والتَّنظيف؟!

وأمَّا قولُكم: "يجوزُ كشفُ العورةِ لهُ لغيرِ ضَرورةٍ ولا مُداواةٍ فكان واجبًا".

لا يلزمُ من جَوازِ كَشْفِ العَوْرةِ له وُجُوبُه، فإنَّه يجوز كَشْفُهَا لغير الواجبِ إجماعًا، كما تُكْشَفُ لنَظَرِ الطبيبِ ومُعَالجَتِه، وإنْ جازَ تَرْكُ المعالجةِ.

وأيضًا: فوَجْهُ المرأةِ عورةٌ في النَّظَرِ، ويجوزُ لها كَشْفُهُ في المعَامَلَةِ التي لا تجبُ، ولِتَحَمُّلِ الشهادةِ عليها حيثُ لا تجبُ.

وأيضًا: فإنَّهم جوَّزوا لغاسلِ الميِّت حَلْقَ عَانَتِهِ، وذلك يستلزمُ كَشْفَ العورةِ أو لمسها لغير واجبٍ.

وأمَّا قولكم: "إنَّ به يُعرف المُسْلِمُ من الكافرِ، حتى إذا وُجِدَ المختونُ بين جماعةٍ قتلى غير مختونين صُلِّيَ عليه دُوْنَهم".

ص: 250

ليس كذلك؛ فإنَّ بعضَ الكفَّار يختتنونَ، وهمُ اليهودُ، فالختانُ لا يميِّز بين المُسْلِمِ والكافِرِ إلا إذا كان في محلٍّ لا يَخْتَتِنُ فيه إلا المُسْلِمونَ، وحينئذٍ يكونُ فرقًا بين المُسْلِم والكافر. ولا يلزمُ من ذلك وجوبُه، كما لا يلزمُ وجوبُ سائرِ ما يفرِّق بين المُسْلِم والكافرِ.

وأمَّا قولُكم: "إن الوليَّ يُؤلِمُ فيه الصبيَّ، ويُعرِّضهُ للتَّلَفِ بالسِّرايَةِ ويُخْرِجُ من مَالِه أُجْرَةَ الخَاتِنِ وثَمَنَ الدَّوَاءِ".

فهذا لا يدلُّ على وُجُوبِه، كما يُؤلمهُ بضَرْبِ التَّأديبِ لمصلحتِه، ويُخْرِجُ مِن ماله أُجرةَ المؤدِّب والمعلِّم، وكما يضحِّي عنه.

قال الخَلّال: "باب الأُضحية عن اليتيم" أخبرني حَرْبُ بنُ إسماعيلَ قال: قلت لأَحْمَدَ: يُضحَّى عن اليتيم؟ قال: نعم، إذا كان له مالٌ. وكذلك قال سفيان الثَوْريُّ.

قال جعفر بن محمَّد النَّيسَابُورِيُّ: سمعتُ أبا عبدِ الله يُسألُ عن وصيِّ يتيمةٍ يَشْتَرِي لها أُضْحِيَةً؟ قال: لها مالٌ؟ قال: نعم، قال: يشتري لها.

وقولُكم: "لو لم يكن واجبًا لما جاز للخاتن الإقدامُ عليه

" إلى آخره.

ينتقض بإقدامه على قَطْع السِّلْعَةِ

(1)

، والعُضْوِ التَّالف، وقَلْعِ السنِّ،

(1)

السِّلْعَة: خُرَّاج كهيئة الغُدّة بين الجلد واللحم، تخرج في رأس الإنسان وجسده. قال الأطباء: هي ورم غليظ غير ملتزق باللحم، يتحرك عند تحريكه، كأنه منفصل عن البدن، وله غلاف،. أما السَّلعة ـ بالفتح ـ فهي الشجّة. قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن. انظر: التنوير في الاصطلاحات الطبية للقمَري، ص 32، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري، ص 503، والمصباح المنير للفيومي: 1/ 285.

ص: 251

وقَطْعِ العُروق، وشَقِّ الجلد للحجامة والتَّشْريْطِ. فيجوز الإقدام على ما يُباح للرجل قَطْعُه فضلًا عما يُستحبُّ له ويُسنُّ، وفيه مصلحةٌ ظاهرة.

وقولُكم: "إن الأقلَف معرَّضٌ لفسادِ طهارتِه وصلاتِه".

فهذا إنما يُلام عليه إذا كان باختياره. وما خرج عن اختياره وقدرته لم يُلَمْ عليه، ولم تفسد طهارتُه؛ كسَلَسِ البول والرّعَاف، وسَلَسِ المَذِي، فإذا فعل ما يقدر عليه من الاستجمار والاستنجاء، لم يؤاخَذْ بما عَجَزَ عنه.

وقولُكم: "إنَّه من شِعار عُبَّاد الصُّلْبان، وعبَّاد النيرانِ، فموافقتُهم فيه موافقةٌ في شِعار دينهِم".

جوابه: أنهم لم يتميَّزوا عن الحُنَفَاءِ بمجرَّد تَرْك الختان، وإنما امتازوا بمجموع ما هم عليه من الدِّين الباطل. ومُوافقةُ المُسْلِمِ لهم في تَرْكِ الختانِ لا يسْتلزمُ موافقتَهم في شعار دينهم الذي امتازوا به عن الحنفاء.

ص: 252

قال الموجبون: الختان عَلَمُ الحنيفيَّة، وشعارُ الإسلامِ، ورأسُ الفِطْرَةَ، وعُنْوانُ المِلَّةِ، وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد قال:"مَنْ لم يأْخُذْ شَارِبَهُ فليسَ منَّا"

(1)

. فكيف يكون

(2)

من عطَّل الختان، ورضي بشعار القُلْفِ عُبَّادِ الصُّلْبانِ؟

ومن أظهر ما يفرّق بين عُبَّاد الصلبان وعُبَّاد الرَّحمن: الختانُ، وعليه استمرَّ عمل الحنفاءِ من عهد إمامِهم إبراهيمَ إلى عهد خاتَمِ الأنبياء، فبُعِثَ بتكميل الحنيفية وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها.

ولما أمر الله ـ تعالى ـ به خَليلَهُ، وعَلِمَ أنَّ أَمْرَهُ المطاعُ؛ وأنّه لا يجوز أن يُعَطَّل ويُضَاعَ؛ بَادرَ إلى امتثالِ ما أمرَ بهِ الحيُّ القيُّومُ، وختنَ نفْسَه بالقدُّوم، مبادرةً إلى الامتثال؛ وطاعةً لذي العزَّة والجلالِ، وجعَله فطرةً باقيةً في عَقِبِهِ إلى أن يَرِثَ الأرضَ ومَنْ عليها، ولذلك

(3)

دعا جميعُ الأنبياءِ مِن ذُرِّيَّتهِ أُممَهُمْ إليها حتَّى عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ابنُ العذراءِ

(1)

أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في قص الشارب: 5/ 93، وقال:"هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الطهارة، باب قص الشارب: 1/ 15 برقم (13) وبرقم (4962)، والإمام أحمد: 1/ 15، وصححه ابن حبان برقم (5596)، ورواه أيضًا: عبدبن حميد 266)، والطبراني في الأوسط (529 و 8112)، والطحاوي في مشكل الآثار (1152).

(2)

ساقط من "ب، ج".

(3)

في "أ": كذلك.

ص: 253

البَتُولِ، فإنَّه اختتنَ متابعةً لإبراهيمَ الخليلِ؛ والنَّصارى تُقِرُّ بذلك، وتعترفُ أنَّه مِنْ أحكامِ الإنْجِيْلِ، ولكنِ اتَّبَعُوا أهواء قومٍ قد ضلُّوا مِن قَبْلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ.

حتى لقد أذَّن عالِمُ أهلِ بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عبدُ اللهِ بنُ عبَّاس أذانًا سمعه الخاصُّ والعامُّ: أن من لم يختتن فلا صلاة له؛ ولا تُؤكل ذبيحته

(1)

؛ فأخرجه من جملة أهل الإسلام.

ومِثْلُ هذا لا يُقال لتارك أَمْرٍ هو بَيْنَ تَرْكِه وفِعْلِه بالخيار؛ وإنَّما يُقال لما عُلِم وجوبُه علمًا يَقْرُبُ من الاضطرار؛ ويكفي في وجوبه أنَّه رأس خصال الحنيفيَّة التي فَطَرَ اللهُ عِبَادَه عليها، ودعتْ جميع الرُّسل إليها، فتاركُهُ خارجٌ عن الفطرة التي بعث اللهُ رسُلَهُ بتكميلها؛ وموضِعٌ

(2)

في تعطيلها، مؤخِّرٌ لما يستحقُّ التقديم، راغبٌ عن مِلَّة أبيه إبراهيمَ:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة/ 131 ـ 132].

فكما أنَّ الإسلامَ رأسُ الملَّة الحنيفيَّة وقوامُها، فالاستسلامُ لأمْرِهِ كمالُهَا وتمَامُهَا.

(1)

انظر فيما سبق، ص (239).

(2)

أي مسرع.

ص: 254

فصل

وأمَّا قولُه في الحديث: "الخِتَانُ سنَّةٌ للرِّجالِ مَكْرُمَةٌ للنِّساءِ".

فهذا حديث يُرْوَى عنِ ابنِ عبَّاسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ. والمحفوظُ أنَّه موقوفٌ عليه.

ويُرْوَى أيضًا عن الحجَّاج بن أرْطَاة ـ وهو ممن لا يُحتجُّ به ـ عن أبي المليح ابن أُسامةَ، عن أبيه، عنه. وعنه عن مَكْحُولٍ، عن أبي أيوب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ.

ذكر ذلك كلَّه البَيْهَقِيُّ، ثم ساق عن ابن عبَّاس: أنه لا تُؤكلُ ذبيحةُ الأقْلَفِ، ولا تُقْبَل صلاتُه، ولا تجوزُ شهادتُه.

ثم قال: وهذا يدلُّ على أنَّه كان يُوجِبُهُ، وأنَّ قولَه:"الختان سنة" أراد به سنَّةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سنَّهُ وأَمَرَ به فيكونُ واجبًا. انتهى

(1)

.

والسنَّةُ: هي الطريقة، يقال: سننت له كذا: أي شرعت. فقوله: "الختانُ سنَّة للرِّجَالِ" أي مشروعٌ لهم، لا أنه

(2)

نَدْبٌ غيرُ واجبٍ.

فالسُّنَّةُ: هي الطريقةُ المتَّبَعَةُ وجوبًا واستحبابًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَغِبَ

(1)

أي النقل من البيهقي. انظر: السنن: 8/ 325.

(2)

في "أ": إلا أنه.

ص: 255

عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"

(1)

. وقوله: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ مِنْ بَعْدِي"

(2)

.

وقال ابن عبَّاس: من خالف السنة كَفرَ

(3)

.

وتخصيصُ السنَّةِ بما يجوز تَرْكُه اصطلاحٌ حادثٌ، وإلا فالسنَّة ما سَنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمته من واجبٍ ومستحبٍ. فالسنَّةُ: هي الطريقةُ، وهي الشِّرْعَةُ، والمِنْهَاجُ، والسَّبيلُ

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح: 9/ 104، ومسلم في باب استحباب النكاح: 2/ 1020 برقم (1401).

(2)

أخرجه أبو داود في السنة: 7/ 11، 12 (تهذيب المنذري)، والترمذي في العلم: 7/ 438 - 441، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في المقدمة: 1/ 16، والدارمي: 1/ 44 - 45، وصححه الحاكم: 1/ 95، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 4/ 126، 127. وانظر:"جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص (243 ـ 244).

(3)

انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة: 1/ 338، جامع العلوم والحكم، الموضع السابق.

(4)

راجع في معاني السنة وإطلاقاتها: الكليّات، للكَفَوِيّ: 3/ 9 - 12، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 4/ 53 ــ 57، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 18/ 191، 192، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني: 2/ 384، 385، الموافقات للشاطبي: 4/ 3 - 7، السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص (47 ــ 49).

ص: 256

وأمَّا قولكم: "إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَنَهُ بالمسْنُونَاتِ".

فدلالةُ الاقترانِ لا تَقْوَى على مُعَارَضَةِ أدلَّة الوجوبِ

(1)

، ثم إنَّ الخصالَ المذكورةَ في الحديث، منها ما هو واجبٌ، كالمضمضةِ والاستنشاقِ والاستنجاءِ، ومنها ما هو مستحبٌّ كالسِّواكِ.

وأمَّا تقليمُ الأظفَارِ؛ فإنَّ الظُّفُرَ إذا طالَ جدًّا بحيثُ يجتمعُ تحتَهُ الوَسَخُ: وَجَبَ تقليمُه لصحَّةِ الطَّهارةِ.

وأمَّا قصُّ الشَّارب؛ فالدَّليلُ يقتضي وجوبَه إذا طالَ، وهذا الذي يتعيَّن القولُ به؛ لأمْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم به، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ لم يَأخذْ شاربَه فليس منَّا"

(2)

.

وأمَّا قولُ الحَسَنِ البَصْريِّ: "قد أسلمَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الناسُ، فما فتَّشَ أحدًا منهم".

فجوابه: أنَّهم استغنَوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان، فإنَّ العرب قاطبةً كلهم كانوا يختتنون، واليهود قاطبة تختتنُ، ولم يَبْقَ إلا النَّصارى. وهم فرقتان: فرقةٌ تختتنُ، وفرقةٌ لا تختتنُ.

وقد عَلِمَ كلُّ من دخلَ في الإسلامَ منهم ومِنْ غيرهم أنَّ شعارَ

(1)

في "أ": دلالة الوجوب.

(2)

تقدم قبل قليل ص (253).

ص: 257

الإسلامِ: الختانُ، فكانوا يُبَادِرُونَ إليه بعد الإسلامِ كما يبادرون إلى الغُسْلِ. ومن كان منهم كبيرًا يشقُّ عليه ويخافُ التَّلفَ: سقطَ عنهُ.

وقد سُئل الإمامُ أَحمدُ عن ذبيحة الأقْلَفِ ـ وذُكِر له حديثُ ابن عبَّاس: لا تؤكل ـ، فقال: ذلك عندي إذا وُلِدَ بين أبَوينِ مُسْلمَينِ فكَبِرَ ولم يختتنْ، وأمَّا الكبيرُ إذا أسلمَ وخافَ على نَفْسه الختانَ، فلهُ عندي رخصةٌ

(1)

.

وأمَّا قولكم: "إنَّ الملَّة هي التوحيدُ".

فالمِلَّةُ هي الدِّينُ، وهي مجموعةُ أقوالٍ وأفعالٍ واعتقاد، ودخول الأعمال في المِلَّة كدخول الإيمان

(2)

.

فَالمِلَّةُ: هي الفِطْرَةُ وهي الدِّين

(3)

. ومحالٌ أن يأمر الله سبحانه باتِّباعِ إبراهيمَ في مجرَّدِ الكلمةِ دون الأعمالِ وخصالِ الفطرة، وإنما أمر بمتابعته في توحيدِه وأقوالِه وأفعالِه، وهو صلى الله عليه وسلم اختتن امتثالًا لأمر ربِّه الذي أمرَه به وابتلاه به، فوفَّاه كما أُمِرَ، فإن لم نفعلْ كما فعلَ، لم نكن متَّبعينَ له.

(1)

بنحوه في طبقات الحنابلة: 1/ 206 من رواية عبدالرحمن بن عمرو، أبي زرعة الدمشقي.

(2)

في "أ": لدخول الإيمان.

(3)

انظر معاني الملة في: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص 373، عمدة الحفاظ للسمين الحلبي، ص 550.

ص: 258

وأمَّا قولُكم: "قد حُكِمَ في حديث عُثَيْمِ بن كُلَيْب، عن أبيه، عن جده بأنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى".

فالشّافعيُّ كان حَسَنَ الظنِّ به، وغيرُه يضعِّفه، فحديثُه يصلح للاعتضاد بحيث يتقوَّى به، وإن لم يحتجَّ به وحده.

وكذلك الكلامُ في مُرْسَلِ الزُّهْرِيّ، فإذا لم يحتجَّ به وَحْدَهُ، فإنَّ هذه المرفوعاتِ والموقوفاتِ والمراسيلَ يشدُّ بعضها بعضًا.

وكذلك الكلامُ في حديث موسى بنِ إسماعيلَ وشبهه.

وأمَّا قولُكم: "إن ابن عبَّاس تفرَّد بقوله في الأقْلَفِ: لا تُؤكَلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له".

فهذا قول صحابيٍّ، وقد احتجَّ الأئمةُ الأربعةُ وغيرهم بأقوال الصحابة، وصرَّحوا بأنها حُجَّة

(1)

، وبالغ الشّافعيُّ في ذلك، فجعل مخالفتَها

(2)

بدعةً. كيف ولم يحفظ عن صحابيٍّ خلافُ ابنِ عبَّاس!

ومثل هذا التَّشديدُ والتَّغليظ لا يقولُه عالمٌ مثلُ ابنِ عبَّاسٍ في تَرْكِ مندوبٍ يُخيَّر الرجلُ بين فِعْله وتَرْكه.

(1)

انظر: أصول السرخسي: 2/ 105 وما بعدها، إعلام الموقعين عن رب العالمين للمصنف: 1/ 29 وما بعدها، و 4/ 120 ـ 165.

(2)

في "أ": مخالفها.

ص: 259

وأمَّا قولكم: "إنَّ الشَّعائر تنقسمُ إلى مستحبٍّ وواجبٍ".

فالأمر كذلك، ولكنْ مِثْلُ هذا الشِّعارِ العظيمِ الفارقِ بين عُبَّادِ الصليبِ وعُبَّاد الرَّحمنِ الذي لا تتمُّ الطهارةُ إلا به، وتَرْكُه شِعارُ عُبَّاد الصَّليبِ، لا يكونُ إلا من أعْظَمِ الواجباتِ.

وأمِّا قولُكم: "أين بابُ العقوباتِ من باب الخِتَان؟ "

فنحن لم نجعل ذلك أصلًا في وجوب الختان، بل اعْتَبَرْنَا وجوبَ أحدِهما بوجوبِ الآخرَ، فإنَّ أعضاء المُسْلِم وظَهْرَهُ ودمَهُ حمًى إلَّا مِنْ حدٍّ أو حقٍّ، وكلاهما يتعيَّن إقامتُه، ولا يجوز تعطيلُهُ.

وأمَّا كَشْفُ العورةِ له، فلو لم تكن مصلحتُه أرجحَ من مفسدة كَشْفِها والنظرِ إليها ولمسِهَا، لم يجز ارتكابُ ثلاثِ مفاسدَ عظيمةٍ لأمرٍ مندوبٍ يجوزُ فعْلُه وتَرْكُهُ.

وأمَّا المداواةُ، فتلك من باب

(1)

الحياةِ وأسبابِها التي لا بدَّ للبِنْيَةِ منها، فلو كان الختان من باب المندوبات لكان بمنزلة كَشْفِها لما لا تدعو الحاجةُ إليه، وهذا لا يجوز.

وأمَّا قولُكم: "إنَّ الوليَّ يُخرِج من مال الصبيِّ أجرةَ المعلِّمِ والمؤدِّبِ".

(1)

في (ب، ج): تمام.

ص: 260

فلا رَيبَ أنَّ تعليمَه وتأديبَه حقٌّ واجبٌ على الوليِّ، فما أخرجَ مالَه إلا فيما لا بُدَّ له منه في صلاحه في دنياهُ وآخرتِهِ، فلو كان الختانُ مندوبًا محضًا لَكَانَ إخراجُه بمنزلةِ الصَّدقةِ التَّطوّعِ عنه، وبذْلِه لمن يحجُّ عنه حجَّ

(1)

التَّطوّعِ ونحو

(2)

ذلك.

وأمَّا الأضحيةُ عنه، فهي مختلَفٌ في وجوبها، فمَنْ أوجبها لم يُخْرِج مالَه إلا في واجبٍ، ومن رآها سنَّةً قال: ما يحصلُ بها من جَبْرِ قَلبِه والإحسانِ إليه وتَفْريحِه أعظمُ من بقاءِ ثمنِها في مِلْكه

(3)

.

(1)

في (ب، ج): حجة.

(2)

في "أ": يجوز.

(3)

انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 361، وجامع أحكام الصغار للأسروشني: 2/ 185 ـ 186.

ص: 261

الفصل الخامس

في وقتِ وجوبهِ

ووقتُه عند البلوغ؛ لأنَّه وقتُ وجوبِ العبادات عليه، ولا يجبُ قبل ذلك

(1)

.

وفي "صحيح البُخَاريّ" من حديث سعيد بن جبير، قال: سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ ــ رضي الله عنهما ــ: مِثْلُ مَنْ أنتَ حين قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذٍ مختونٌ. وكانوا لا يختنونَ الرَّجلَ حتى يُدْرِكَ

(2)

.

وقد اختُلِفَ في سنِّ ابنِ عبَّاس عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الزُّبَير والوَاقِدِيُّ: وُلِد في الشِّعب قبل خروجِ بَنِي هَاشمٍ منه قَبْلَ الهجرةِ بثلاثِ سنينَ، وتُوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وله ثلاثَ عَشْرَةَ سنة.

وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عبَّاس: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنُ

(1)

انظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 46، والكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر: 2/ 558، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والبيان للعمراني: 2/ 196، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 433 - 434، والمجموع للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، والإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 3/ 424.

(2)

أخرجه البخاري في الاستئذان، باب الختان بعد الكِبَر، ونتف الإبط: 11/ 88.

ص: 262

عشرِ سنينَ، وقد قرأتُ المُحْكَمَ، يعني المفصَّل

(1)

.

قال أبُو عُمَرَ: روينا ذلك عنه من وجوه. قال: وقد رُوِيَ عن ابنِ إسْحَاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس: قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا خَتِينٌ أو مختونٌ. ولا يصحُّ

(2)

.

قلت: بل هو أصحُّ شيءٍ في الباب، وهو الذي رواه البُخَاريُّ في "صحيحه" كما تقدَّم لفظُه.

وقال عبد الله ابن الإمام أَحمد: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا شُعْبَة، عن أبي إسْحَاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عبَّاس قال: تُوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنة

(3)

.

قال عبد الله: قال أَبي: وهذا هو الصَّوابُ.

قلت: وفي "الصحيحين" عنه قال: أقبلتُ راكبًا على أَتَانٍ، وأنا يومئذ قد نَاهَزْتُ الاحتلامَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بالنَّاس بمِنًى إلى غير جدارٍ،

(1)

الاستيعاب لابن عبدالبر: 3/ 66.

(2)

انتهى كلام ابن عبدالبر في الاستيعاب، الموضع السابق.

(3)

مسند الإمام أحمد: 1/ 373، وفي طبعة الرسالة: 5/ 475 قال المحقق: وهو صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الطيالسي برقم (2640)، وصححه الحاكم: 3/ 533، والطبراني: 10/ 235 (10578). قال الهيثمي في المجمع 9/ 285: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".

ص: 263

فمررتُ بينَ يدَي بعضِ الصفِّ

الحديث

(1)

.

والذي عليه أكثرُ أهلِ السِّيَرِ والأخبارِ، أنَّ سنَّه كان يوم وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة، فإنه وُلِد في الشِّعب، وكان قبل الهجرة بثلاث سنين، وأقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشرًا، وقد أخبرَ أنّه كان حينئذٍ مختونًا.

قالوا: ولا يجبُ الختانُ قبلَ البُلُوغِ، لأنَّ الصبيَّ ليس أهلًا لوجوبِ العباداتِ المتعلِّقة بالأبدانِ، فما الظنُّ بالجَرْحِ الذي وَرَدَ التَّعَبُّدُ به

(2)

؟

ولا ينتقضُ هذا بالعِدَّة التي تجبُ على الصغيرةِ، فإنَّها لا مُؤنةَ عليها فيها، إنَّما هي مُضِيُّ الزَّمانِ.

قالوا: إذا بلغ الصبيُّ وهو أَقْلَفُ، أو المرأةُ غير مختونةٍ، ولا عُذْرَ لهما، ألْزَمَهما السُّلطانُ به.

وعندي: أنه يجب على الوليِّ أن يختنَ الصبيَّ قبل البلوِغ بحيثُ

(1)

أخرجه البخاري في العلم، باب متى يصح سماع الصغير: 1/ 171، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الصلاة، باب سترة المصلي: 1/ 361 برقم (504).

(2)

انظر: فتح باب العناية للقاري: 1/ 37، وجُمَلُ الأحكام للنَّاطفي، ص 191، والكافي لابن عبدالبر: 2/ 588، والمقدمات الممهدات لابن رشد:

3/ 447 - 448، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والبيان للعمراني: 2/ 196، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 443، والمجموع للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، والإشراف لابن المنذر: 3/ 424.

ص: 264

يبلغُ مختونًا، فإنَّ ذلك ممالا يتمُّ الواجبُ إلّا بهِ

(1)

.

وأمَّا قولُ ابنِ عبَّاس: وكانوا لا يختنونَ الرَّجلَ حتى يُدْرِكَ، أي حتى يُقارِبُ البلوغَ، كقوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق/2]. وبعد بلوغِ الأجَلِ لا يتأتَّى الإمساكُ، وقد صرَّح ابن عبَّاسٍ أنه كان يومَ موتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مختونًا، وأَخْبرَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ التي عاشَ بعدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بضعةً وثمانينَ يومًا، أنّه كان قد نَاهَزَ الاحتلامَ، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الآباءَ أن يأمُروا أولادَهم بالصَّلاةِ لسبعٍ، وأنْ يَضْرِبُوهُمْ على تَرْكِهَا لِعَشْرٍ

(2)

، فكيفَ يَسُوغُ لهم تَرْكُ ختانِهم حتى يجاوزوا البلوغ، والله أعلم.

(1)

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسلم بالغ عاقل يصوم ويصلي، وهو غير مختون وليس مطهّرًا هل يجوز ذلك؟ ومن ترك الختان كيف حكمه؟

فأجاب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن؛ فإن ذلك مشروع مؤكَّد للمسلمين باتفاق الأئمة. وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقد اختتن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد ثمانين من عمره. ويُرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخَّره إلى زمان الخريف. انظر: مجموع الفتاوى: 21/ 114.

(2)

عن عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" أخرجه

أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة: 1/ 270 (تهذيب المنذري)، والترمذي في الصلاة، باب متى يؤمر الصبي: 2/ 245، والإمام أحمد: 2/ 180، وفي طبعة الرساله: 11/ 284.

ص: 265

الفصل السَّادس

في الاختلافِ في كَراهيةِ يومِ السَّابع

وقد اختُلِف في ذلك على قولين، هما روايتان عن الإمام أَحْمَد.

قال الخَلّال: «باب ذكر ختان الصبي» أخبرني عبد الملك بن

عبد الحميد، أنَّه ذَاكَرَ أبا عبدِ الله ختانَ الصبيِّ لِكَم يختتن؟ قال: لا أدري، لم أسمع فيه شيئًا. فقلت له: إنه يشقُّ على الصغير ابن عشر، يغلظ عليه، وذكرتُ له ابني محمَّدًا أنه في خمس سنين، فأشتهي أن أختنه فيها، ورأيته كأنه يشتهي ذلك، ورأيته يكره العشرة لغلظه عليه وشدته.

فقال لي: ما ظننتُ أنَّ الصَّغيرَ يشتدُّ عليه هذا.

ولم أرَهُ يكره للصغير الشَّهر أو السّنةَ، ولم يقلْ في ذلك شيئًا، إلا أنّي رأيتُه يَعْجَبُ من أنْ يكونَ هذا يُؤذي الصَّغيرَ.

قال عبد الملك: وسمعتُه يقولُ: كان الحَسَنُ يكره أن يختتنَ الصبيُّ يوم سابعه.

أخبرنا محمَّد بنُ عليّ السمسار، قال: حدّثنا مهنَّا، قال: سألتُ أبا عبدالله عن الرجلِ يختنُ ابنَه لسبعةِ أيامٍ؟ فكرهه، وقال: هذا فِعْلُ اليَهُودِ!

(1)

(1)

النص عن مهنا في طبقات ابن أبي يعلى: 3/ 317. انظر: مسائل أحمد برواية صالح: 2/ 206.

ص: 266

وقال لي أحمدُ بنُ حنبل: كان الحَسَنُ يكرهُ أن يختنَ الرجلُ ابنَهُ لسبعةِ أيامٍ، فقلت: من ذكره عن الحَسَن؟ قال: بعضُ البَصْرِيِّينَ.

وقال لي أَحْمَد: بلغني أنَّ سُفيانَ الثَوْريَّ، سأل سفيانَ بنَ عُيَيْنَة: في كم يُختَنُ الصبيُّ؟ فقال سفيان: لو قلتُ له: في كم خَتَنَ ابنُ عُمَرَ بَنِيه؟ فقال لي أَحمد: ما كان أَكْيَسَ سفيانَ بنَ عُيَينَة، يعني حين قال: لو قلت له: في كم ختن ابنُ عمرَ بَنِيه؟

أخبرني عصمة بن عصام، حدّثنا حَنْبَل، أن أبا عبد الله قال: وإن ختن يوم السَّابع فلا بأس، وإنما كرهه الحَسَنُ كيلا يتشبَّه باليهود، وليس في هذا شيء

(1)

.

أخبرني محمَّد بن علي، حدّثنا صالح أنه قال لأبيه: يُختَنُ الصبيُّ لسبعةِ أيامٍ؟ قال: يُرْوَى عن الحَسَنِ أنه قال: فعل اليهود

(2)

.

قال: وسُئل وَهْبُ بنُ مُنَبِّه عن ذلك؟ فقال: إنما يُستحبُّ ذلك في اليومِ السَّابعِ لخفَّتِه على الصِّبْيَانِ، فإنَّ المولودَ يُولَدُ وهو خَدِرُ الجَسَدِ كلِّه، لا يَجِدُ أَلَمَ ما أصَابَه سبعًا، وإذا لم يختتنْ لذلك، فَدَعُوهُ حتى يَقْوَى.

وقال ابن المُنْذِر

(3)

: «ذكر

(4)

وقت الختان»:

(1)

انظر: طبقات ابن أبي يعلى: 3/ 309.

(2)

انظر: مسائل أحمد برواية صالح: 2/ 206.

(3)

في الإشراف: 3/ 424. وانظر: المقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448.

(4)

في «أ» : وذكر.

ص: 267

«وقد اختَلفُوا في وقتِ الخِتَانِ: فكرهتْ طائفةٌ أن يُخْتَنَ الصبيُّ يومَ سابعِه، كَرِهَ ذلك: الحَسَنُ البَصريُّ، ومالكُ بنُ أنسٍ، خلافًا

(1)

على اليهود.

وقال الثَوْري: هو خطر.

قال مالك: والصوابُ في خلاف اليهود. قال: وعامَّة ما رأيت الختان ببلدنا إذا أَثْغَرَ

(2)

.

وقال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَل: لم أسمعْ في ذلك شيئًا.

وقال الليثُ بنُ سعدٍ: الختانُ للغلامِ ما بينَ السَّبع سنينَ إلى العشرةِ.

قال: وقد حُكِيَ عن مَكْحُولٍ أو غيره أنَّ إبراهيمَ خليلَ الرَّحمنِ ختن ابنَه إسْحَاق لسبعة أيام، وختن ابنه إسماعيل لثلاثَ عشرةَ سنة، ورُوِيَ عن أبي جعفر: أنَّ فاطمةَ كانت تختِنُ ولدَها يومَ السَّابعِ»

(3)

.

قال ابن المُنْذِرِ: «وليس في هذا الباب شيءٌ يثبت، وليس لوقت

(4)

الختان خبرٌ يُرْجَعُ إليه ولا سنَّةٌ تستعمل، فالأشياء على الإباحة، ولا

ص: 268

يجوز حَظْرُ شيءٍ منها إلا بحجَّةٍ، ولا نَعْلمُ مع مَن مَنَعَ أن يُختنَ الصبيُّ لسبعة أيامٍ حُجَّةٌ»

(1)

.

وفي «سنن البيهقيّ» من حديث زهير بن محمَّد، عن محمَّدِ بنِ المُنْكَدِر

(2)

، عن جابرٍ قال: عقَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحَسَنِ والحُسَيْنِ، وختَنهما لسبعةِ أيَّام

(3)

.

وفيها من حديث موسى بن عُلَيّ

(4)

بن رَباح، عن أبيه، أنَّ إبراهيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ وهو ابنُ سبعةِ أيامٍ

(5)

.

قال شيخنا

(6)

: ختنَ إبراهيمُ إسْحَاقَ لسبعة أيام، وختن إسماعيلَ عند بلوغه، فصار ختانُ إسْحَاق سُنّةً في بَنيْهِ، وختانُ إسماعيلَ سُنةً في بنيهِ، والله أعلم.

(1)

الإشراف: 3/ 425. وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 99، والبيان للعمراني: 1/ 95 ـ 96، والمجموع للنووي: 1/ 164.

(2)

في «أ» : المنذر.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 324.

(4)

هكذا ضبطه في الإكمال: 6/ 250.

(5)

المصدر نفسه: 8/ 326.

(6)

يعني شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد صرح بذلك في زاد المعاد: 2/ 333. وانظر: مجموع الفتاوى 21/ 113 ـ 114.

ص: 269

الفصل السَّابع

في بيان حِكْمةِ الختان وفوائدهِ

الختانُ من مَحاسِنِ الشَّرائعِ التي شَرَعَها اللهُ ـ سبحانه ـ لعِبَادِه، ويجمِّل بها محاسِنَهُم الظَّاهِرَةَ والبَاطِنَةَ، فهو مكمِّلٌ للفطرةِ التي فَطَرَهُمْ عليها، ولهذا كانَ من تمامِ الحنيفيَّة ملةِ إبراهيمَ.

وأصلُ مشروعيَّةِ الختانِ لتكميل الحنيفيَّة، فإنَّ الله عز وجل لما عَاهدَ إبراهيم وَعَدَهُ أن يجعله للناسِ إمامًا، ووَعَدَهُ أن يكونَ أبًا لشعوبٍ كثيرةٍ، وأن يكونَ الأنبياءُ والملُوكُ من صُلْبِهِ، وأن يَكْثُرَ نَسْلُه، وأخبرَهُ أنّه جاعلٌ بَيْنه وبينَ نَسْلِه علامةَ العَهْدِ أنْ يَخْتِنُوا كلَّ مَولُودٍ منهم، ويكون عهدي هذا ميسمًا في أجْسَادِهِمْ، فالختانُ عَلَمٌ للدُّخولِ في ملَّة إبراهيمَ. وهذا موافقٌ لتأويل مَنْ تأوَّلَ قولَه تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/ 138] على الختان

(1)

.

فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعُبَّاد الصَّليب، فهم يطهِّرونَ

(1)

وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والفرّاء والزجّاج. انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 8/ 107 و 12/ 427، وتفسير البغوي: 1/ 157، وتفسير القرطبي: 2/ 145، والوسيط للواحدي: 1/ 206.

ص: 270

أَوْلادَهم ـ بزعمهم ـ حين يَصْبُغُونَهُم

(1)

في المعموديَّة

(2)

، ويقولون: الآنَ صارَ نَصْرَانِيًّا، فشرع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفية، وجَعلَ مِيْسَمَهَا الختانَ فقال:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/ 138]

(3)

.

وقد جعل الله سبحانه السِّماتِ علامةً لمن يضافُ منها إليه المُعْلَمُ بها، ولهذا الناس يَسِمُون دوابَّهم ومواشِيَهُمْ بأنواع السِّماتِ، حتى يكون ما يضافُ منها إلى كلِّ إنسانٍ معروفًا بِسِمَتِهِ، ثم قد تكونُ هذه السمةُ مُتَوارَثةً في أمَّةٍ بعد أمَّةٍ.

فجعل الله سبحانه الختان عَلَمًا لمن يُضَافُ إليه وإلى دِيْنِه ومِلَّتِهِ، ويُنْسَبُ إليه بنسبةِ العُبُودِيَّةِ والحَنيفيَّةِ، حتى إذا جُهِلَتْ حالُ إنسانٍ في دِيْنِه عُرِف بِسِمَةِ الختانِ ورَنْكهِ

(4)

، وكانت العرب تُدْعَى بأُمَّة الختانِ،

(1)

في «ج» : يضعونهم.

(2)

انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 637.

(3)

قال ابن عباس: إن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماءٍ لهم أصفرَ، يقال له: المعمودي، وصبغوه به ليطهّروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيًا حقًّا. فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى. انظر: تفسير البغوي: 1/ 157.

(4)

كلمة فارسية بمعنى اللون والصبغة، وهي من مصطلحات العهد المملوكي وما بعده، وتجمع على "رُنُوك" وتعني: الشعار والسمة والشارة. وانظر: المعجم الذهبي: فارسي عربي ص 299، ومعجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى عبدالكريم الخطيب.

ص: 271

ولهذا جاء في حديثِ هِرَقْل: إني أجد ملك الختان قد ظهَرَ، فقال له أصحابه: لا يهمنَّك هذا، فإنما تختتن اليهود فاقتُلْهُم، فبينما هم على ذلك، وإذا برسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بكتابِه، فأَمرَ به أن يُكْشَف ويُنْظَرَ هل هو مختون؟ فوُجِدَ مختونًا. فلما أخبره أن العرب تختتن، قال: هذا مَلِكُ هذه الأمَّة

(1)

.

ولما كانت وقعة أَجْنَادِينَ بين المُسْلِمين والرُّوم، جعل هشامُ بنُ العَاصِ يقول: يا معشر المُسْلِمين إنَّ هؤلاء القُّلْفَ لا صَبْرَ لهم على السَّيف. فذكَّرَهُمْ بِشِعَارِ عُبَّادِ الصَّلِيْبِ ورَنْكِهِمْ، وجَعَلَه مما يُوجِبُ إقدامَ الحُنَفَاءِ عليهم وتَطْهيرَ الأرضِ منهم.

والمقصود أنَّ صبغة الله هي الحنيفية التي صبغتِ القلوبَ بمعرفتِه ومحبَّتهِ، والإخلاصِ له، وعبادتِهِ وحدَه لا شريكَ لهُ، وصَبغتِ الأبدانَ بِخِصَالِ الفِطْرةِ من الختانِ، والاسْتِحْدَادِ، وقَصِّ الشَّاربِ، وتقليمِ الأظفارِ، ونَتْفِ الإبْطِ، والمضْمَضَةِ، والاسْتِنْشَاقِ، والسِّواكِ، والاستنجاءِ، فظهرتْ فطرةُ الله على قلوبِ الحُنَفَاءِ وأَبْدَانِهم.

قال محمَّدُ بنُ جَرِيرٍ

(2)

في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} : يعني

(1)

قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في بدء الوحي: 1/ 31، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام: 3/ 1393 وما بعدها، برقم (1773).

(2)

في تفسيره جامع البيان: 3/ 117 وما بعدها.

ص: 272

بالصبغةِ صبغةَ الإسلامِ، وذلك أنَّ النَّصارى إذا أرادتْ أن تُنَصِّرَ أَطْفَالهَا

(1)

جعلتْهم في ماءٍ لهم

(2)

، تَزْعُمُ أنَّ ذلك لها تقديسٌ

(3)

بمنزلة الختانة

(4)

لأهل الإسلام، وأنّه صبغةٌ لهم في النَّصرانية

(5)

، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم ـ لما قال اليهود والنصارى:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/135 ـ 138].

قال قَتَادَةُ: إنَّ اليهود تصبغ أبناءَها يهودًا، والنَّصارَى تصبغُ أبناءَها نَصارَى، وإنَّ صبغةَ اللهِ الإسلامُ، فلا صبغةَ أحسن من الإسلام ولا أَطْهَر.

وقال مجاهد: صبغة الله: فطرة الله

(6)

.

(1)

في «أ، ب» : أطفالهم.

(2)

في (ج، د): مبالهم.

(3)

في «أ، ب» : مما يقدس. وفي «ج» جاءت العبارة هكذا: وتزعم أن ذلك مما يقدس.

(4)

في «ب» : الختان وفي «د» : الجنابة.

(5)

قال الفرّاء في معاني القرآن 1/ 82 ـ 83: «وإنما قيل:"صبغة الله"، لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه في ماء لهم، يجعلون ذلك تطهيرًا له كالختانة. وكذلك هي في إحدى القراءتين. قل"صِبغة الله" وهي الخِتَانة، اختتن بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال: قل: "صِبغة الله" يأمر بها محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجرت الصِبْغة على الخِتَانة لصَبغهم الغِلْمان فى الماء» .

(6)

انظر: تفسير مجاهد: 1/ 89 وتتمة كلامه: التي فطر الناس عليها.

ص: 273

وقال غيره: دين الله

(1)

.

هذا معَ ما في الختانِ من الطَّهارةِ والنَّظافةِ والتَّزْيِينِ، وتَحْسِيْنِ الخِلْقَةِ، وتَعْدِيلِ الشَّهْوَةِ التي إذا أَفْرَطَتْ أَلْحقَتِ الإنسَانَ بالحيوانَاتِ، وإنْ عَدِمَتْ بالكليَّة أَلْحَقَتْهُ بالجمَاداتِ، فالختانُ يعدلها، ولهذا تجدُ الأقْلَفَ من الرِّجال، والقَلْفَاءَ من النساءِ، لا يشبعُ من الجِماعِ.

ولهذا يُذَمُّ الرجلُ ويُشْتَم ويُعَيَّرُ بأنه ابنُ القَلْفَاءِ ـ إشارة إلى غُلْمَتِهَا ـ وأيُّ زينةٍ أحسن من أخْذِ ما طَالَ وجَاوَزَ الحدَّ من جلدةِ القُلْفَة، وشعرِ العَانَة، وشعر الإبط، وشعر الشَّارب، وما طال من الظفر. فإنَّ الشيطان يختبئ تحت ذلك كلِّه ويألفُه ويقطنُ فيه، حتى إنه ينفخ في إحْلِيْل الأقْلفِ وفَرْجِ القَلْفَاءِ ما لا يَنْفخُ في المختونِ، ويختبئُ في شَعر العَانَةِ، وتحت الأظفارِ. فالغُرْلَةُ أقبحُ في موضعها من الظُّفر الطويل والشاربِ الطويل والعانةِ الفاحشةِ الطُّولِ. ولا يخفى على ذي الحسِّ السليمِ قُبْحُ الغُرْلَةِ، وما في إزالتِهَا من التحسينِ والتنظيفِ والتزيين، ولهذا لمَّا ابتلى اللهُ خليلَه إبراهيمَ بإزالة هذه الأمورِ فأتمَّهنَّ، جعله إمامًا للناسِ. هذا مع ما فيه من بَهاءِ الوَجهِ وضِيائِه، وفي تَرْكِهِ من الكَسْفَةِ التي تُرَى عليهِ.

وقد ذكر حَرْبٌ في «مسائله» : عن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت للخاتنة: إذا خفضت فأشمِّي ولا تَنْهِكي، فإنَّه أسْرَى للوجهِ، وأَحْظَى لها

(1)

أخرج هذه الأقوال كلها الطبري في التفسير، الموضع السابق. وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 145، والوسيط للواحدي: 1/ 206.

ص: 274

عند زوجها

(1)

.

وروى أبو داود عن أمِّ عطيَّةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمر خَتَّانةً تَختِنُ فقال:«إذا ختنتِ فلا تَنْهَكِي، فإنَّ ذلك أَحْظَى للمرأةِ وأحبُّ للبَعْلِ»

(2)

.

ومعنى هذا أن الخافضةَ إذا استَأصلتْ جِلْدةَ الختانِ ضَعُفَتْ شهوةُ المرأةِ، فقلَّت حظْوَتُها عند زوجها، كما أنها إذا تركتْها كما هي لم تأخذْ

(1)

انظر: التلخيص الحبير: 4/ 83، فقد عزاه لحرب.

(2)

روي من طرق عن عدد من الصحابة، فأخرجه أبو داود من حديث أم عطية في الأدب، باب في الختان: 13/ 658، من طريق محمد بن حسان وقال عقبه:«محمد بن حسان مجهول الحديث ضعيف» . وبيّن ابن الملقن في (البدر المنير: 8/ 76) أنه المصلوب الكذاب. ثم أشار أبو داود للطريق الثانية وقال: «وليس هو بالقوي وقد روي مرسلًا» ، ومن حديث أنس أخرجه البيهقي: 8/ 324، وفي شعب الإيمان: 15/ 38، في معرفة السنن والآثار برقم (4368)، والطبراني في الأوسط: 3/ 133، وابن عدي في الكامل: 6/ 2223، ورواه الحاكم من حديث الضحاك بن قيس: 3/ 525. وقال الحافظ ابن حجر: «وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي: خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل، ورواه الطبراني في الصغير وابن عدي أيضًا عن أبي خليفة، عن محمد بن سلام الجمحي، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت، عن أنس نحو حديث أبي داود، قال ابن عدي: تفرد به زائدة، عن ثابت، وقال الطبراني: تفرد به محمد ابن سلام، وقد قال البخاري في زائدة: إنه منكر الحديث، وقال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سند يتبع». انظر: التلخيص الحبير: 4/ 83 وأصله البدر المنير لابن الملقن: 8/ 745 - 749.

والنَّهْكَ المُبالَغة في القطع. أي اقْطَعِي بعضَ النَّواةِ ولا تَسْتَأصِلِيها.

ص: 275