المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي وطء المرضع، وهو الغيل - تحفة المودود بأحكام المولود - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي استحبابِ طَلبِ الوَلدِ

- ‌الباب الثانيفي كَراهةِ تَسخُّطِ البناتِ

- ‌الباب الثالثفي استحبابِ بشارةِ من وُلد له ولدٌ وتهنئتهِ

- ‌الباب الخامسفي استحبابِ تَحنيكه

- ‌الباب السَّادسفي العَقيقةِ وأحكامِها

- ‌تحقيق رأي أبي حنيفة

- ‌الفصل السَّادسهل يُكْرهُ تَسميتُها عَقيقة

- ‌ الذبحُ في موضعهِ أفضلَ من الصَّدقة بثمنه

- ‌ يُستحبُّ أن يُقالَ عليها ما يُقالُ على الأضحيةِ

- ‌يُستحبُّ فيها ما يستحبُّ في الأضحيةِ

- ‌الفصل الثالث عشرفي كَراهةِ كَسْرِ عِظامِها

- ‌الفصل السَّادس عشرهل تُشرعُ العقيقةُ بغير الغَنم

- ‌القزع أربعة أنواع:

- ‌ استحباب(4)الأسماء المضافة إلى الله

- ‌ اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة

- ‌ حكمةِ خَفْضِ النِّساء:

- ‌«مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَمْ منه طِبٌّ فهو ضَامِنٌ»

- ‌فصلٌ في وقت الفطام

- ‌فصلفي وَطءِ المُرْضعِ، وهو الغَيلُ

- ‌ما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام

- ‌فصلفي مقدارِ زمانِ الحَمْلِ واختلافِ الأَجِنَّة

- ‌فصلفي ذِكرِ أَحوالِ الجنِينِ بعد تَحرِيكِه وانقِلابهِ عندَ تَمامِ نِصفِ السَّنَةِ

- ‌ وعلوَّ أَحدِهما سببٌ لمجانسة الولد للعالي ماؤه

- ‌ فهرس مراجع ومصادر التَّحقيق

الفصل: ‌فصلفي وطء المرضع، وهو الغيل

تمكينهم منه بقدر، لضعفهم عن احتمال العطش باستيلاء الحرارة.

فصل

ومما ينبغي أن يُحذر: أن يُحمَل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانفتال والاعوجاج بسبب ضعفها وقبولها لذلك. واحذر كلَّ الحذر أن تحبس عنه ما يحتاج إليه من قيء أو نوم أو طعام أو شراب أو عطاس أو بول أو إخراج دم، فإنَّ لِحَبْسِ ذلك عواقبَ رديئةً في حق الطفل والكبير.

‌فصل

في وَطءِ المُرْضعِ، وهو الغَيلُ

(1)

عن جُدَامَةَ

(2)

بنتِ وَهبٍ الأَسَدِيَّةِ قالت: حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أُناسٍ وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغِيلَةِ، فنظرتُ في الرُّومِ وفَارِسٍ، فإذا هم يُغِيلُونَ أولادَهُمْ، فلا يَضُرُّ أوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شيئًا» ثم سألوه عن العَزْلِ فقال: «ذلكَ الوَأْدُ الخفيُّ» ، وهي:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير/ 8]. رواه مُسْلِمٌ في «الصحيح»

(3)

.

(1)

وانظر: زاد المعاد: 5/ 147 ـ 148.

(2)

قال الإمام مسلم عقب هذا الحديث: أما خَلَف فيقول: جذامة، والصحيح ما قاله يحيى بالدال.

(3)

كتاب النكاح، باب جواز الغيلة: 2/ 1067 برقم (1442). قال أهل اللغة: (الغِيلَة) هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغَيْل بفتح الغين مع حذف الهاء. و (الغِيَال) بكسر الغين كما ذكره مسلم .. واختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث وهي الغيل، فقال مالك في الموطأ، والأصمعي وغيره من أهل اللغة: أن يجامع امرأته وهي مرضع، يقال منه: أغالَ الرجل وأغْيَلَ، إذا فعل ذلك، وقال ابن السّكِّيت: هو أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه: غالت وأغيلت. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 10/ 16، والتلخيص في معرفة أسماء الأشياء لأبي هلال العسكري: 1/ 12 - 13.

ص: 346

وروى في «صحيحه» أيضًا: عن أُسامةَ بنِ زيدٍ، أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أَعْزِلُ عن امرأتي. فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمَ تفعلُ ذلك؟ فقال الرجل: أُشْفِقُ على وَلَدِهَا، أو على أوْلَادِهَا

(1)

. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضرَّ فارسَ والرُّومَ»

(2)

.

وعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقتُلوا أَوْلادَكم سرًّا، فو الَّذي نفسي بيدِه إنَّه لَيُدْرِكُ الفَارسَ فَيُدَعْثِرُهُ» . قالت: قلت: ما يعني؟ قالت: الغِيلَة؛ يأتي الرجلُ امرأتَهُ وهي تُرْضِعُ. رواه الإمام أَحْمَد وأبو داود

(3)

.

(1)

«فقال له .. أولادها» ساقط من «أ» .

(2)

أخرجه مسلم في الموضع السابق: 2/ 1076 برقم (1443).

(3)

أخرجه الإمام أحمد: 6/ 453، وفي طبعة الرسالة: 45/ 543، وأبو داود في الطب، باب في الغيل: 5/ 361 (مع شرح ابن القيم)، وابن ماجه في النكاح: 1/ 648، وابن حبان، ص 317 من (موارد الظمآن)، والطحاوي في مشكل الآثار: 9/ 284. ومعنى يدعثره: يصرعه ويسقطه.

ص: 347

وقد أشكل الجمع بين هذه الأحاديث على غير واحدٍ من أهل العلم، فقالت طائفة: قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممتُ أن أَنْهَى عن الغَيْلِ» أي أحرِّمِه فأمنع منه. فلا تنافي بين هذا، وبين قوله في الحديث الآخر:«ولا تقتُلوا أولادَكم سرًّا» فإن هذا النهي كالمشورة عليهم، والإرشاد لهم إلى ترك ما يُضْعِفُ الولد ويقتُلُه

(1)

.

قالوا: والدليل عليه: أن المرأة المُرْضِع إذا باشرها الرجل حرَّك منها دم الطَّمْثِ، وأهاجَه للخروج، فلا يبقى اللَّبَن حينئذٍ على اعتداله وطيب رائحته، وربَّما حبلتِ الموطوءةُ، فكان ذلك من شرِّ الأمور وأضرِّها على الرضيع المغتذي

(2)

بلبنها، وذلك أن جيِّد الدم حينئذ ينصرف في تغذية الجنين الذي في الرَّحِمِ، فينفذ في غذائه، فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه مما لا يحتاج إليه ملائمًا له لأنه متصل بأمه اتِّصال الغرس بالأرض، وهو غير مفارق لها ليلًا ولا نهارًا، وكذلك ينقص دم الحامل

(3)

، ويصير رديئًا فيصير اللَّبَنُ المجتمع في ثديها يسيرًا رديئًا. فمتى حملت المرضع، فمن تمام تدبير الطفل أن يمنع منها، فإنه متى شرب من ذلك اللبن الرديء قتله، أو أثَّر في ضعفه تأثيرًا يجده في كِبَرِهِ،

(1)

انظر: زاد المعاد: 5/ 147، وعقد الطحاوي بابًا في مشكل الآثار: 9/ 284 - 294 لبيان «مشكل ما روي في الغَيْل من كراهة له، ومن همٍّ بنهيٍ عنه، ومن نُهي عنه، وما سوى ذلك مما كان منه فيه» فيحسن مطالعته.

(2)

في «أ» : المتغذي.

(3)

في «أ» : ولذلك ينقص دم الحائض.

ص: 348

فيُدَعْثِرُه عن فَرَسِه. فهذا وجه المشورة عليهم، (والإرشاد إلى تركه، ولم يحرِّمْه عليهم)

(1)

، فإن هذا لا يقع دائمًا لكل مولود، وإن عَرَضَ لبعض الأطفال، فأكثرُ الناس يجامعونَ نساءَهم وهنَّ يُرضِعْنَ، ولو كان هذا الضَّررُ لازمًا لكلِّ مولودٍ لاشتركَ فيه أكثرُ النَّاسِ، وهاتانِ الأمَّتانِ الكبيرتانِ فارس والروم

(2)

تفعلُه، ولا يعمُّ ضررُه أوْلَادَهُمْ.

وعلى كلِّ حال: فالأحْوَطُ إذا حبلتِ المرضعُ أن يُمْنَعَ منها الطفلُ ويلتمسَ مرضعًا غيرها

(3)

. والله أعلم.

فصل

ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلُقهِ، فإنَّه ينشأ على ما عوَّده المربِّي في صغره؛ من حَرَدٍ وغضب، ولجَاجٍ وعَجَلَةٍ، وخفَّةٍ مع هَوَاهُ، وطَيْشٍ وحدَّةٍ وجَشَعٍ، فيصعب عليه في كِبَرِه تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاقُ صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز، فَضَحَتْه ـ ولا بدَّ ـ يومًا مّا. ولهذا تجد أكثرَ الناس منحرفةً أخلاقُهم، وذلك من قِبَلِ التربية التي نشأ عليها.

ولذلك يجب أن يجنَّب الصبيُّ إذا عقل: مجالسَ اللهو والباطلِ، والغناء، وسماع الفحش، والبدع، ومنطق السُّوء؛ فإنه إذا علق بسمعه،

(1)

«والإرشاد

عليهم» ساقط من «أ» .

(2)

«فارس والروم» ساقط من «ب، د» .

(3)

وانظر ما كتبه الدِّهلوي حول هذه الأحاديث في كتابه حجة الله البالغة: 2/ 992 ـ 993.

ص: 349

عَسُرَ عليه مفارقتُه في الكبر وعزَّ على وليِّه استنقاذُه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبُه إلى اسْتِجْدَادِ طبيعة ثانية. والخروجُ عن حكم الطبيعة عَسِرٌ جدًّا.

وينبغي لوليه أن يجنِّبه الأخذ من غيره غاية التجنب؛ فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي. ويعوِّده البذل والإعطاء، وإذا أراد الولي أن يعطي شيئًا أعطاه إيَّاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنِّبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع، فإنه متى سهَّل له سبيل الكذب والخيانة أفْسَدَ عليه سعادة الدنيا والآخرة وحَرَمَه كلَّ خيرٍ.

ويجنِّبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يُجِمُّ نَفْسَه وبَدَنَهُ للشُّغل، فإنَّ للكسل والبطالة عواقب سُوءٍ، ومغبَّة ندمٍ، وللجدِّ والتَّعبِ عواقبُ حميدةٌ، إما في الدنيا، وإما في العُقْبَى، وإما فيهما، فأرْوَح

(1)

النَّاس أتعبُ الناس، وأتعب الناس أروح الناس؛ فالسيادة في الدنيا والسعادة في العُقْبَى لا يُوصَل إليها إلا على جسر من التعب. قال يحيى بن أبي كثير

(2)

: لا يُنال العلم براحة الجسم

(3)

.

(1)

في «أ» : فأرواح.

(2)

الإمام الحافظ الحجة أبو نصر، يحيى بن صالح الطائي مولاهم، كان طلابة للعلم، توفي سنة (129)، ترجمته في السِّيَر للذهبي: 6/ 27 وما بعدها.

(3)

رواه عنه الإمام مسلم في باب أوقات الصلوات الخمس: 1/ 428 برقم (1421).

ص: 350

ويُعَوِّدُه الانتباهَ آخر الليل، فإنَّه وقت قسم الغنائم، وتفريق الجوائز، فمستقلٌّ ومستكثرٌ ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرًا سهل عليه كبيرًا.

فصل

ويجنِّبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الآثام، فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوِّت على العبد خير دنياه وآخرته.

ويجنِّبه مضارَّ الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب، فإن تمكينه من أسبابها والفَسْح له فيها يُفْسِده فسادًا يعزُّ عليه بعده صلاحه، وكم ممن أشْقَى ولدَه وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته. ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرتَ الفساد في الأولاد رأيتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباء.

فصل

والحذرَ كلَّ الحذرِ من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مُسْكِر وغيره، أو عِشْرِةِ من يخشى فساده، أو كلامه له، أو الأخذ في يده، فإن ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد استسهل الدِّيَاثَةَ

(1)

، «ولا

(1)

الدِّياثة: فعل الديُّوث، وهو الرجل الذي لا غيرة له على أهله. انظر: المصباح المنير: 1/ 205.

ص: 351

يَدْخُلُ الجنَّة دَيُّوثٌ»

(1)

فما أفسد الأبناءَ مثلُ تغفُّل

(2)

الآباء وإهمالهم، واستسهالهم شرر النار بين الثياب!

فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمد العدوُّ الشديد العداوة مع عدوِّه، وهم لا يشعرون. فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة، وعرَّضه لهلاك الدنيا والآخرة. وكلُّ هذا عواقبُ تفريطِ الآباء في حقوق الله. وإضاعتُهم لها، وإعراضُهم عمَّا أوجب اللهُ عليهم من العلم النافع، والعمل الصالح= حَرَمَهُم الانتفاعَ بأولادهم، وحَرَم الأولادَ خيرَهم ونَفْعَهم لهم، وهو من عقوبة الآباء

(3)

.

فصل

ويجنِّبه لُبْسَ الحرير، فإنه مُفسد له، ومخنِّث لطبيعته، كما يجنِّبه

(4)

اللواط، وشرب الخمر، والسرقة والكذب؛ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «حُرِّم

(1)

أخرجه الطيالسي في مسنده برقم (642)، وبلفظ: ثلاثة لايدخلون الجنة .. وذكر منهم الديوث. وأخرجه النسائي في الكبرى: 1/ 83 برقم (2354)، وعبد الرزاق في المصنف (الجامع لمعمر): 11/ 242، والحاكم في المستدرك: 1/ 72، والبيهقي في السنن: 10/ 226. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (2562). وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري: 5/ 10

(2)

في «ب» : تفضل.

(3)

في «ب» : عقوق الآباء.

(4)

في (أ، ج، د): يخنثه، وهو تصحيف.

ص: 352

الحريرُ والذَّهبُ على ذكورِ أُمَّتي، وأُحِلَّ لإناثِهم»

(1)

.

والصبيُّ وإن لم يكن مكلّفًا، فوليُّه مكلَّف لا يحلُّ له تمكينه من المحرَّم، فإنه يعتاده، ويعسر فطامه عنه. وهذا أصح قولي العلماء.

واحتجَّ من لم يره حرامًا عليه: بأنه غير مكلَّف؛ فلم يحرَّم لبسه للحرير كالدابَّة

(2)

.

وهذا من أفسد القياس؛ فإنَّ الصبي وإن لم يكن مكلَّفًا؛ فإنَّه مستعدٌّ للتكليف؛ ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء؛ ولا من الصلاة عُرْيَانًا ونجسًا؛ ولا مِن شُرب الخَمْر والقِمَار واللِّواط.

فصل

وممَّا ينبغي أن يُعتمد: حالُ الصبيِّ وما هو مستعدٌّ له من الأعمال ومهيَّأ له منها؛ فيعلَّم أنه مخلوق له؛ فلا يحمله على غير ما كان مأذونًا فيه شرعًا. فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌّ له لم يفلح فيه، وفاتَه ما هو مهيَّأ له. فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيِّد الحفظ واعيًا، فهذه من علامات قَبوله وتهيُّئِه للعلم، فَلْيَنْقُشْه في لوح قلبه ما دام خاليًا،

(1)

أخرجه الترمذي في اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب: 4/ 217 عن أبي موسى الأشعري. وقال: «هذا حديث حسن صحيح» . وقال: «وفي الباب عن عمر وعلي وعقبة بن عامر وأنس وحذيفة وأم هانئ وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحان وابن عمر والبراء وواثلة بن الأسقع» ، وبنحوه أخرجه النسائي في باب تحريم لبس الذهب برقم (5170).

(2)

انظر: المغني: 2/ 310 - 311، بدائع الصنائع: 5/ 130، روضة الطالبين: 2/ 67.

ص: 353

فإنه يتمكَّن فيه ويستقرُّ، ويزكو معه. وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعدٌّ للفروسيَّة وأسبابها من الرُّكوب والرَّمي، واللعب بالرُّمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يُخْلَقْ له= مكَّنه من أسباب الفروسيَّة والتمرُّن عليها، فإنه أنفع له وللمُسلمين. وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعدًّا لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس= فليمكنه منها.

هذا كلُّه بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميَسَّر على كلِّ أحد؛ لتقوم حُجَّةُ الله على العبد، فإنَّ له على عباده الحجَّة البالغةَ، كما له عليهم النعمة السابغة، والله أعلم.

ص: 354

الباب السَّابع عشر

في أَطوارِ ابنِ آدمَ من وقتِ كَوْنهِ نُطفةً إلى استِقرَارهِ في الجنَّة أو النَّارِ

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون/ 12 ـ 16].

فاستوعب ـ سبحانه ـ ذِكْرَ أحوال ابن آدم قبل كونه نطفةً، بل ترابًا وماءً إلى حين بعثه يوم القيامة؛ فأول مراتب خلقه أنه سُلالةٌ من طين، ثم بعد ذلك سُلالة من ماء مَهِين، وهي النطفة التي اسْتُلَّت من جميع البدن، فتمكث كذلك أربعين يومًا، ثم يقلب الله سبحانه تلك النطفة التي انسلَّت علقة. وهي قطعة سوداء من دم، فتمكث كذلك أربعين يومًا أخرى، ثم يصيِّرها ـ سبحانه ـ مُضَغَة، وهي قطعة لحم، أربعين يومًا. وفي هذا الطور تقدَّر أعضاؤه وصورته، وشكله وهيئته.

ص: 355

واختلف في أول ما يتشكل ويخلق من أعضائه

(1)

:

قال قائلون: هو القلب.

وقال آخرون: إنه الدماغ.

وقال آخرون: هو الكبد.

وقال آخرون: فقار الظهر.

فاحتج أرباب القول الأول، بأن القلب هو العضو والأساس الذي هو معدن الحرارة الغريزية الذي هو مركب الحياة

(2)

، فوجب أن يكون هو المقدَّم في الخلق. قالوا: وقد أخبر المشرِّحون أنهم وجدوا في النطفة ـ عند كمال انعقادها ـ نقطةً سوداء.

واحتج من قال إنه الدماغ: بأن الدماغ

(3)

من الحيوان هو العضو الرئيس من الإنسان، وهو مجمع الحواس، وأن الأمر المختص بالحيوان هو الحسُّ والحركة الإرادية، وأصل ذلك من الدماغ، ومنه ينبعث، وإذا كان الخاص بالحيوان هو الحس والحركة الإرادية، وكانا عن هذا العضو، كان هو المقدم

(4)

في الإيجاد والتكوين.

(1)

انظر هذا البحث أيضًا في التبيان في أيمان القرآن للمصنف ص 525 - 528، ومفتاح دار السعادة: 2/ 19.

(2)

في «أ» : الذي هي تركب الحياة.

(3)

بأن الدماغ. ساقط من «أ» .

(4)

في «أ» : للقدم.

ص: 356

واحتج من قال إنه الكبد: بأنه العضو الذي منه النمو والاغتذاء الذي به قوام الحيوان. قالوا: فالنظام الطبيعيُّ يقتضي أن يكون أول متكون: الكبد، ثم القلب، ثم الدماغ، لأن أول فصل الحيوان هو النمو، وليس به في هذا الوقت حاجة إلى حسٍّ، ولا إلى حركة إرادية، لأنه يُعَدُّ بمنزلة النبات، فلا حاجة به حينئذ إلى غير النمو. ولهذا إنما تصير له قوة الحس والإرادة عند تعلُّق النفس به، وذلك في الطور الرابع من أطوار تخليقه، فكان أول الأعضاء خلقًا فيه هو آلة النمو، وذلك الكبد. والذي شاهده أرباب التشريح، حتى إنهم متفقون عليه، أنه أول ما يتبين في خلق جثة الحيوان ثلاث نقط متقاربة بعضها من بعض، يتوهم أنها رسم الكبد والقلب والدماغ ثم يزداد بعضها من بعض بعدًا على امتداد أيام الحمل، فهذا القدر هو الذي عند المشرِّحين، فأما أيّ هذه النقط أقدم وأسبق، فليس عندهم عليه دليل إلا الأَخْلَقُ والأَوْلَى والقياسُ، والله أعلم.

فصل

ثم تُقَدَّرُ مفاصلُ أعضائه، وعظامه وعروقه وعصبه، ويُشَقُّ له السمع والبصر والفم، ويفتق حلقه بعد أن كان رَتْقًا، فيُركَّب فيه اللسان، ويُخطّط شكله وصورته، وتُكْسَى عظامه لحمًا، ويُربَط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه، وهو الأسْر الذي قال فيه:{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان/ 28]. ومنه الإسار الذي يربط به، ومنه الأسير

(1)

.

(1)

«الذي قال

ومنه الأسير» ساقط من «ب» .

ص: 357

قال الإمام أحمد: حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا أبو هلال، حدّثنا ثابت، عن صفوان بن محرز، قال: كان نبيُّ الله داودُ عليه السلام إذا ذَكرَ عذابَ الله تخلَّعت أوْصَالُه ما يُمْسِكُها إلا الأسْرُ، فإذا ذَكَرَ رحمةَ الله رجعتْ

(1)

.

فصل

قال «بقراط» في المقالة الثالثة من «كتاب الأجنَّة» : أنا أحدِّثك كيف رأيت المَنِيَّ ينشأ.

كانت لامرأة من الأهل جارية نفيسة، ولم تكن تحب أن تحبل لئلا ينقص ثمنها، فسمعت الجَارِيَة النساء يقلن: إن المرأة إذا أرادت أن تحمل لم يخرج منها مَنِيُّ الرجل، بل يبقى محتبسًا، ففهمت ذلك، وجعلت ترصده من نفسها، فأحسَّت في بعض الأوقات أنه لم يخرج منها، فبلغني الخبر، فأمرتها أن تطفر إلى خلفها، فطفرت سبع طفرات، فسقط منها المنيُّ بِوَجْبَةٍ شبيهًا بالبيضة غير مطبوخة قد قشر عنها القشر الخارج، وبقيت رطوبتها في جوف الغشاء.

قال: وأنا أقول أيضًا إنه يجري من الأم فضول الرَّحِم ليتغذى بها

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 13/ 202، وأبو نعيم في الحلية: 2/ 328، وهنّاد في الزهد: 1/ 545. والأوصال: الأعضاء. والأسْر: الشد والعصب. وانظر التبيان في أيمان القرآن للمصنف ص 55 ـ 57.

ص: 358

الجنين، وقال: إن الذي

(1)

يظهر هي الأعصاب الدقاق البيض، وهي التي رأيت في وسط السُّرَّة، وليست في موضع آخر غير السُّرَّة، لأن الروح إنما يشق طريقًا للنفس هناك.

ثم قال: وأقول شيئًا آخر ظاهرًا يعرفه كل من يرغب في العلم، وأوضحه بقياسات، وأقول: إن المنيَّ هو في الحجاب، وإنه يغتذي من الدم الذي يجتمع من المرأة وينزل إلى الرحم.

وقال: إن المني يجتذب الهواء، فيتنفس فيه في هذه الحجب في الأسباب التي ذكرنا، ويربو من الدم الذي ينحدر من المرأة.

وقال: إن الطَّمْث لا ينحدر ما دامت المرأة حاملًا إن كان طفلها صحيحًا، وذلك منذ أول شهر من حَبَلها إلى الشهر التاسع، ولكن جميع ما ينزل من الدم من البدن كلُّه يجتمع حول الجنين على الحجاب الأعلى مع اجتذاب النفس، والسرَّةُ طريق وصوله إلى الجنين، فيدخل الغذاء إليه فيغذيه ويزيد في تربيته

(2)

.

وقال: إذا أقام المنيُّ حينًا، خُلقت له حجب أُخَرُ، فتمتدُّ داخلًا من الحجاب الأول، وتكون مختلفة الأنواع كثيرة، وأما كونها، فمثل الحجاب الأول.

(1)

في (ب، ج): التي. وهو تحريف.

(2)

ساقط من «ج» .

ص: 359

وقال: إنَّ الحُجُب منها ما يُخلق أولاً، ومنها ما يُخلق من بعد الشهر الثاني، ومنها ما يُخلق في الشهر الثالث

(1)

، وكلها لا تظهر منافعها أول ما يخلق، ولكنَّ بعضها يمتدُّ على المنيِّ، فتظهر منافعها أولًا، وبعضها لا يظهر إلا أخيرًا، فلذلك يخلق بعضها في الشهر الأول، وبعضها في الشهر الثاني، وبعضها في الثالث، وهي السرَّة كأنها مربوط بعضها ببعض، في وسط الحجب تكون السرَّة التي يتنفس منها ويتربى.

وإذا نزل الدم واغتذى الجنين منه حالت الحجب

(2)

بينه وبين الجنين، ولهذا يقول تعالى:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر/ 6]. فإن كل حجاب من هذه الحجب له ظلمة تخصه، فذكر سبحانه أطوار خلقه ونقله فيها من حال إلى حال، وذكر ظلمات الحجب التي على الجنين، فقال أكثر المفسِّرين

(3)

: هي ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المَشِيمَة، فإن كلَّ واحد من هذه حجاب على الجنين.

وقال آخرون: هي ظلمة أصلاب الآباء، وظلمة بطون الأمهات،

(1)

ساقط من «د» .

(2)

«تكون السرة التي .. حالت الحجب» ساقط من «د» بسبب انتقال النظر.

(3)

انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري: 23/ 196 (طبعة الحلبي)، وتفسير عبدالرزاق: 2/ 171، وزاد المسير: 7/ 163 ـ 164، والمحرر الوجيز: 12/ 504، والدر المنثور: 12/ 635.

ص: 360

وظلمة المشيمة.

وأضعف من هذا القول قول من قال: ظلمة الليل، وظلمة البطن، وظلمة الرَّحم؛ فإن الليل والنهار بالنسبة إلى الجنين سواء.

وقال «بُقْرَاط» : إن المرأة إذا حبلت، لم تألم من اجتماع الدم الذي ينزل ويجتمع حول رحمها، ولا تحسُّ بضعف كما تحسُّ إذا انحدر الطَّمْثُ، لأنها لا يثور دمها في كل شهر، لكنه ينزل إلى الرحم في كل يوم قليلًا قليلًا نزولًا ساكنًا من غير وجع، فإذا أتى إلى الرحم اغتذى منه الجنين ونمَا.

ثم قال: وعلى غير بعيد من ذلك، إذا خلق للجنين لحم وجسد تكون الحجب، وإذا كبر كبرت الحجب أيضا، وصار لها تجويف خارج من الجنين، فإذا نزل الدم من الأم جَذبَه الجنين واغتذى به، فيزيد في لحمه، والرديء من الدم الذي لا يصلح للغذاء ينزل إلى مجاري الحُجُب. وكذلك تسمى الحُجُب التي إذا صار لها تجويف يقبل الدم: المَشِيمَة.

وقال: إذا تمَّ الجنين، وكملت صورته، واجتذب الدم لغذائه بالمقدار اتَّسعت الحُجُب، وظهرت المَشِيمَة التي تكون من الآلات التي ذكرنا، فإنِ اتَّسع داخلها اتَّسع خارجها لأنه أولى بذلك، لأن له موضعًا يمتد إليه.

قلت: ومن ها هنا لم تَحِضِ الحامل، بل ما تراه من الدم يكون دم

ص: 361

فسادٍ ليس دم الحيض المعتاد

(1)

. هذه إحدى الروايتين عن عائشةَ رضي الله عنها، وهو المشهور من مذهب أَحْمَد الذي لا يعرف أصحابه سواه، وهو مذهب أبي حنيفة

(2)

.

وذهب الشّافِعِيُّ وعَائِشَة ـ في رواية عنها ـ والإمام أَحْمَد ـ في رواية عنه اختارها شيخنا

(3)

ـ إلى أن ما تراه من الدم في وقت عادتها يكون حيضًا.

وحجة هذا القول ظاهرة، وهي عموم الأدلة الدَّالة على ترك المرأة الصوم والصلاة إذا رأت الدم المعتاد في وقت الحيض، ولم يستثن الله ورسوله حالة دون حالة.

وأما كون الدم ينصرف إلى غذاء الولد، فمن المعلوم أن ذلك لا يمنع أن يبقى منه بقية تخرج في وقت الحيض تَفْضُل عن غذاء الولد.

(1)

وقال في تهذيب السنن 3/ 109: «وقد أفردت لمسألة الحامل هل تحيض أم لا؟ مصنفًا مستقلًا» . ولذلك جعل الشسخ بكر أبوزيد ضمن مؤلفات المصنف «الحامل هل تحيض أم لا؟» . انظركتابه: ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره وموارده، ص 241. وذكر المصنف هذه المسألة أيضا في التبيان في أيمان القرآن، ص 539 ـ 540، وفي زاد المعاد: 5/ 731 ـ 739.

(2)

انظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 238 ـ 241، ومختصر اختلاف العلماء للجصاص: 1/ 171، وفتح القدير لابن الهمام: 3/ 280، والمغني لابن قدامة: 1/ 443 ـ 445، وتنقيح التحقيق لابن الجوزي: 1/ 243 ـ 244.

(3)

في مجموع الفتاوى: 19/ 239، والاختيارات الفقهية ص 59.

ص: 362

فلا تنافي بين غذاء الولد وبين حيض الأم.

وأصحاب القول الآخر، يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تُوطَأُ حاملٌ حتى تَضعَ، ولا حائلٌ حتى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ»

(1)

فجعل الحيضة دليلًا على عدم الحمل، فلو حاضت الحامل لم تكن الحيضة عَلمًا على براءة رحمها.

والآخرون يجيبون عن هذا: بأن الحيضة عَلَمٌ ظاهرٌ، فإذا ظهر بها الحمل، تبينَّا أنه لم يكن دليلًا، ولهذا يحكم بانقضاء العِدَّة بالحيض ظاهرًا، ثم تبين المرأة حاملًا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قسم النساء إلى قسمين: امرأة معلومة الحمل، وامرأة مظنون أنها حامل، فجعل استبراء الأولى بوضع الحمل، والثانية بالحيضة، وهذا هو الذي دلَّ عليه الحديث، لم يدلَّ على أن ما تراه الحامل من الدم في وقت عادتها تصوم معه وتصلي. والله أعلم.

فصل

قال «بُقْراط» : إنَّ العظام تصلب من الحرارة، لأن الحرارة تصلب العظام، وتربط بعضها ببعض، مثل الشجرة التي ترتبط بعضها ببعض.

(1)

أخرجه أبو داود في النكاح، باب وطء السبايا: 3/ 74 ـ 175، والإمام أحمد: 3/ 62، وفي طبعة الرسالة: 18/ 140، والبيهقي: 5/ 359، والطحاوي في مشكل الآثار: 8/ 53 برقم (3048)، وصححه الحاكم: 2/ 195 وسكت عنه الذهبي. وقال ابن حجر في الفتح: 4/ 424: «وليس على شرط الصحيح» وحسّنه في التلخيص الحبير: 1/ 172. وانظر: تنقيح التحقيق: 1/ 234، ونصب الراية: 4/ 252.

ص: 363

وقال: إن العصب جُعِل داخلًا وخارجًا، وجُعِل الرأس بين العاتقين، والعضدان والساعدان في الجانبين، وفرِّج ما بين الرجلين أيضًا، وجُعل في كل مَفْصِلٍ من المَفَاصِل عصب يوثقه ويشدُّه.

قلت: وهو الأسر الذي شُدَّ به الإنسان.

قال: وجُعل الفم ينفتح من تلقاء نفسه، وركب الأنف والأذنان من اللحم، وثُقِبَت الأذنان ثم العينان بعد ذلك، ومُلِئَتا رطوبة صافية.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذي خلَقَهُ وصوَّرهُ وشقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ»

(1)

. و «الواو» وإن لم تقتضِ ترتيبًا، فتقديمُ السمع في اللفظ يناسب تقدُّمَه في الوجود. ثم تتسع الأمعاء بعد ذلك، ويصير لها تجويف، وترتبط المفاصل، ويرتفع النَّفَس إلى الفم والأنف، ويدخل الاستنشاق في الفم والأنف، وينفتح البطن والأمعاء، ويخرج النَّفَس إلى الفم بدل السُّرّة. فإذا تمَّ ما ذكرنا حضر وقت خروج الجنين، ونزلت فضول من معدته وأمعائه إلى المثانة، ويكون لها طريق من المعدة والأمعاء إلى المثانة، ومنها إلى مجرى البول، وإنما تنفتح هذه كلها ويتسع تجويفها بالاستنشاق، وبه ينفصل بعضها عن بعض على قدر أشكالها.

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه: 1/ 535 برقم (771) من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 364

وقال: إذا اتَّسع البطن، وتبيَّن تجويف الأمعاء، صار فيها طريق إلى المَثانة والإحْليل اضطرارًا.

قال: والمَنِيُّ إذا تركَّب، يجتمع كل شيء منه إلى صاحبه، العظام إلى العظام، والعصب إلى العصب، وكذلك جميع الأعضاء، ثم يُركَّب الجنين.

ثم قال: إنا قد رأينا كثيرًا من النساء قد فسدت الأجنَّة فيهنَّ، ثم خرجت بعد ثلاثين يومًا.

ثم قال: ألا ترى أنه إذا سقط الجنين من بعد ثلاثين يومًا رأيت مفاصله مركبة.

وقال: يُدْرَك هذا بالنظر إلى السِّقْط، لأنه إذا سقط ليس يسقط من حيلنا، بل من قِبَل نفسه. ثم قال: إذا تركَّب الجنين، وائتلفت مفاصِلُه

(1)

، وكبرت أعضاؤه، وصَلبت عظامه، وتحرَّكت، جَذَبت من البدن دمًا دسمًا

(2)

، ويحتبس ذلك، ويتحرك في رؤوس العظام مثل تحرُّك رؤوس الشجر.

قال: وكذلك يتحرك

(3)

الجنين وينقلب.

(1)

تصحفت في المطبوع إلى (أتلفت مفاصله).

(2)

في «أ، ب» : دمًا ذميمًا. وفي «د» : دمًا دمًا.

(3)

ساقطة من «د» .

ص: 365

فصل

وقال في المقالة الثانية من كتابه هذا: ثم يتركَّب الجنين، ويتمُّ الذَّكَرُ إلى اثنين وثلاثين يومًا، والأنثى إلى اثنين وأربعين يومًا، وربما زاد على هذه الأيام قليلًا، وربما نقص قليلًا.

وقال: إن الجنين يتمُّ ويتصوَّر إن كان ذكرًا في اثنين وثلاثين يومًا. وإن كان أنثى، ففي اثنين وأربعين يومًا.

وقال: إنَّا نرى ذلك من نقاء المرأة، لأنها إن ولدت أنثى فإنها تَنْقَى في اثنين وأربعين يومًا، وهو أكثر ما تحتبس المرأة، إلى أن تَنْقَى في اثنين وأربعين يومًا

(1)

عند ولادة الأنثى، وربما كان في الفرد، وتَنْقَى في خمسة وثلاثين يومًا، فإذا ولدت ذكرًا، فإنها تَنْقَى في اثنين وثلاثين يومًا إذا احتبست كثيرًا، وربما بقيت في الفرد في خمسة وعشرين يومًا إذا احتبس كثيرًا

(2)

.

وقال: إن دم الطَّمْث يخرج من حيث يخرج الجنين، وكما أن الذَّكَر يتصوَّر في اثنين وثلاثين يومًا، كذلك يكون نقاء أمه من بعد ولاده في اثنين وثلاثين يومًا، وتَنْقَى المرأة إذا ولدت أنثى في اثنين وأربعين يومًا بعدد الأيام التي تركيبها فيها.

ثم قال: إنما يجري الدم من النُّفَساء بعد ولادها أيامًا كثيرة، لأنها إذا

(1)

«في اثنين وأربعين يومًا» ساقط من «د» .

(2)

«إذا احتبس كثيرًا» ساقط من «أ، ج» .

ص: 366

حملت لم يحتج الجنين أول ما يخلق إلى غذاء كثير حتى يتم. فإذا تمَّ له اثنان وأربعون يومًا اغتذى كما ينبغي. وما اجتمع في الأيام الأربعين من الدم الذي ينزل إلى الجنين بقي إلى وقت ولاد المرأة، فإذا ولدت نزل أربعين يومًا.

قلت: في هذا الفصل حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكرهما ونذكر تصديق أحدهما للآخر، ثم نتَعقَّب كلام بقراط، ونبيِّن ما فيه بحول الله وقوته وتوفيقه وتعليمه وإرشاده.

ففي «الصحيحين» من حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: حدّثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصَّادقُ المصْدُوقُ: «إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُه في بطن أُمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ في ذلك مُضْغَةً مثلَ ذلك، ثم يُرسِلُ اللهُ المَلَكَ فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربعِ كلماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وشقيٌّ أو سعيدٌ، فَوَالذِي لا إلهَ غيرُه، إنَّ أحدَكُم لَيَعْملُ بعملِ أهل الجنَّةِ حتى ما يَكُونُ بينَه وبينَها إلا ذراعٌ، فيَسْبِقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النَّار فيدخلُها، وإنَّ أحدَكم لَيعملُ بعملِ أهلِ النَّار حتى ما يكونُ بينَها وبينَه إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة فيدخلُها»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: 6/ 303 وفي الأنبياء وفي القدر، ومسلم في القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2036 ـ 2037 برقم (2643).

ص: 367

وفي طريقٍ أُخْرَى: «إنَّ خَلْقَ ابنِ آدمَ يُجمعُ في بَطْنِ أُمِّه أربعينَ»

(1)

.

وفي أُخْرى: «أَربعينَ ليلةً»

(2)

.

وقال البُخَاريُّ: «أربعينَ يومًا، أو أربعينَ ليلةً»

(3)

.

وفي بعض طرقه: «ثمَّ يبعثُ الله مَلَكًا بأربعِ كلماتٍ: فيكتبُ عَمَلَهُ، وأجَلَهُ، ورِزْقَهُ، وشقيٌّ أوسعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح

» الحديث

(4)

.

وفي «صحيح مُسْلِم» : من حديث حُذَيْفَةَ بنِ أسيد، يبلغ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«يدخلُ المَلَكُ على النُّطفة بعد ما تستقرُّ في الرَّحِم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا ربِّ أشقيٌّ أو سعيدٌ؟ فيُكْتَبان، فيقول: أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ فيُكتَبان، ويُكتبُ عملُه، وأثرُه، وأجَلُه، ورزقُه، ثم تُطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ»

(5)

.

وقال الإمام أَحْمَد: حدّثني سفيان، عن عَمْرو، عن أبي الطُّفَيْل، عن حُذيفةَ بن أَسيد الغفاريّ، قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدخُل

(1)

في المواضع السابقة.

(2)

في صحيح مسلم، الموضع السابق.

(3)

في الصحيح، كتاب التوحيد: 13/ 440.

(4)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء: 6/ 363.

(5)

أخرجه مسلم في القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2037، برقم (2644).

ص: 368

المَلَكُ على النُّطفةِ بعد ما تستقرُّ في الرَّحِمِ بأربعينَ ليلةً، فيقولُ: يا ربِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول الله عز وجل. فيكتبانِ، فيقولانِ: أذكرٌ أم أنثى؟ فيقولُ الله عز وجل. فيكتبانِ، فيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وأثَرُهُ، ومُصِيبَتُهُ، ورِزْقُهُ، ثمَّ تُطْوَى الصَّحِيْفَةُ فلا يُزْادُ على مَا فِيْهَا وَلا يُنْقَصُ»

(1)

.

وفي «صحيح مُسْلِمٍ» : عن عامرِ بنِ وَاثِلَةَ، أنَّه سمعَ عبدَ الله بنَ مسعودٍ يقول: الشقيُّ من شَقِيَ في بطنِ أُمِّهِ، والسَّعيدُ من وُعِظَ بغيره، فأتى رجلًا من أصحابِ رسولِ الله يقالُ له: حُذيفةُ بن أَسِيْدٍ الغِفَارِيّ فحدَّثه بذلك مِنْ قولِ ابنِ مسعودٍ. فقال: وكيفَ يَشْقَى رجلٌ بغير عملٍ؟ فقال له الرجلُ: أتعجبُ من ذلك؟ فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مرَّ بالنطفة ثنتانِ وأربعونَ ليلةً، بعثَ اللهُ إليها مَلَكًا، فَصَوَّرهَا، وخَلَقَ سَمْعَها وبَصَرَهَا وجِلْدَهَا ولَحْمَها وعِظَامَها، ثمَّ قالَ: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ فيقضي ربُّكَ ما شاءَ، ويكتبُ المَلَكُ، ثم يقولُ: يا ربِّ أجلُه؟ فيقضي ربُّك ما شاء، فيكتب المَلَكُ، ثم يقول: يا ربِّ رِزْقُه؟ فيقضي ربُّك ما شاءَ. ويكتب المَلَكُ، ثم يَخرجُ الملَك بالصحيفةِ في يده، فلا يزيدُ على ما أُمرَ ولا يَنْقُصُ»

(2)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد: 4/ 7، وفي طبعة الرسالة: 26/ 64 - 65، وأخرجه مسلم في القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2036 - 2037 برقم (2645).

(2)

أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (2645).

ص: 369

وفي لفظ آخر: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأذنيَّ هاتَيْنِ يقول: «إنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ في الرَّحِم أَرْبَعِيْنَ ليْلَةً، ثمَّ يَتَسوَّرُ عليها المَلَكُ» قال زهير: حَسِبْتُهُ قالَ: «الّذي يَخْلُقُهَا، فيقولُ: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ فيجْعَلُهُ اللهُ ذكرًا أو أنثى، فيقولُ: يا ربِّ أسَوِيٌّ أمْ غيرُ سويٍّ، فيجعله الله سويًّا أو غيرَ سَوِيٍّ، ثم يقولُ: يا ربِّ ما رزقُه؟ وما أجَلُه؟ وما خُلُقُه؟ ثمَّ يجعلُه اللهُ شقيًّا أو سَعِيدًا»

(1)

.

وفي لفظٍ آخرَ: «أنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بالرَّحِم، إذا أرادَ اللهُ عز وجل أن يخلُقَ شيئًا بإذنِ اللهِ لِبِضْعٍ وأَرْبَعِينَ ليلةً

» ثمَّ ذكر الحديث

(2)

.

فاتَّفق حديثُ ابنِ مسعودٍ، وحديثُ حذيفةَ بن أَسيد، على حُدُوثِ شأنِ وحَالِ النُّطفة بعد الأربعينَ، وحديثُ حذيفةَ مفسَّرٌ صريحٌ بأنَّ ذلك يُكتَبُ بعد الأربعينَ قبلَ نَفْخِ الرُّوح فيه، كما تقدم في رواية البُخَاريّ.

وأما حديثُ ابنِ مسعودٍ، فأحدُ ألفاظِه موافقٌ لحديثِ حذيفةَ، وإنْ كان ذلك التقديرُ والكتابةُ بعد الأربعينَ قبلَ نفْخِ الرُّوحِ فيه، كما تقدَّم من رواية البُخَاريّ، ولفظُه:«ثمَّ يَبعثُ اللهُ إليه مَلَكًا بأربعِ كلماتٍ، فيكتب عمله، ورزقه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح» . فهذا صريحٌ أنَّ الكتابةَ وسؤالَ الملَك قبلَ نفخِ الرُّوح فيه، وهو موافقٌ لحديثِ حذيفةَ في ذلك.

(1)

أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (2645).

(2)

الموضع السابق نفسه.

ص: 370

وأما لفظُه الآخرُ: «فينفخُ فيه الروح، ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ» فليس بصريحٍ؛ إذِ الكلماتُ المأمورُ بها بعد نفخِ الروح، فإنَّ هذه الجملةَ معطوفةٌ بالواو، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة التي تليها، ويجوز أن تكون معطوفةً على جملةِ الكلامِ المتقدِّمِ. أي: يجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بكَتْبِ رزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ. ووسَّط بين الجُمَلِ قولَه:«ثم ينفخ فيه الروح» بيانًا لتأخُّر نفْخِ الرُّوح عن طَوْرِ النُّطفة والعَلَقَة والمُضْغَة. وتأمَّلْ كيفَ أتى بـ «ثمَّ» في فَصْلِ نَفْخِ الرُّوحِ، وبِالوَاوِ في قَوْلِه:«ويُؤمَرُ بأربعِ كلمات» فاتَّفَقَتْ سَائرُ الأحاديثِ بِحَمْدِ الله.

وبقيَ أنْ يُقالَ: حديثُ حذيفةَ يدلُّ على أن ابتداءَ التخليقِ عقيبَ الأربعينَ الأُوْلَى، وحديثُ ابنِ مسعودٍ يدلُّ على أنَّه عقيبَ الأربعينَ الثالثةِ. فكيف يُجْمَعُ بينهما

(1)

؟

قيل: أمَّا حديثُ حذيفةَ، فصريحٌ في كَوْنِ ذلكَ بعد الأربعين، وأمَّا حديثُ ابنِ مسعود، فليس فيه تَعرُّضٌ لوقتِ التصويرِ والتَّخْليقِ، وإنمَّا فيه بيانُ أطوارِ النطفةِ وتنقُّلِهَا بعد كلِّ أربعينَ، وأنه بعد الأربعين الثالثة يُنفخ فيه الرُّوح. وهذا لم يتعرَّضْ له حديثُ حذيفةَ، بل اختصَّ به حديثُ ابنِ مسعود، فاشترك الحديثانِ في حدوثِ أمرٍ بعدَ الأربعينَ الأُوْلَى.

واختصَّ حديثُ حذيفةَ بأنَّ ابتداءَ تصويرِها وخَلْقِها بعد الأربعين الأولى.

(1)

انظر في هذا الجمع: طريق الهجرتين: 1/ 156 ـ 162، والتبيان في أيمان القرآن، ص 517 وما بعدها، وشفاء العليل، ص 39 ـ 44.

ص: 371

واختصَّ حديثُ ابنِ مسعودٍ بأنَّ نَفْخَ الرُّوْحِ فيه بعد الأربعينَ الثالثةِ.

واشتركَ الحديثانِ في استئذانِ المَلَكِ ربَّهُ ـ سبحانه ـ في تقدير شأنِ المولودِ في خلالِ ذلكَ، فتصادقتْ كلماتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وصدَّق بعضُهَا بعضًا.

وحديثُ ابنِ مسعودٍ فيه أمران: أمْرُ النُّطْفةِ وتنقُّلها، وأَمْرُ كتابةِ الملَك ما يقدِّر اللهُ فيها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبر بالأمْرَينِ في الحديثِ.

قال الإمامُ أَحْمَد: حدّثنا هُشَيْم، أنبأنا عليّ بنُ زيد، قال سمعت أبا عُتْبَةَ بنَ عبدِ الله يحدِّث قال: قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ النُّطفةَ تكونُ في الرَّحِمِ أربعينَ يومًا على حَالهَا لا تتغيَّرُ، فإذا مضتْ له أربعونَ صارتْ عَلَقةً، ثم مُضْغَةً كذلك، ثم عظامًا كذلك، فإذا أرادَ أن يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بعثَ اللهُ إليهِ المَلَكَ، فيقولُ الملَكُ الذي يليه: أيْ ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ، أقصيرٌ أم طويلٌ، أناقصٌ أم زائدٌ، قُوْتُهُ وأَجَلُهُ، أصحيحٌ أم سقيمٌ؟» قال: «فيَكْتبُ ذلك كلَّه»

(1)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد: 1/ 375 وفي طبعة الرسالة: 6/ 13 - 14. وإسناده ضعيف ومنقطع، أبو عبيدة بن عبدالله لم يسمع من أبيه، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف. وانظر: فتح الباري: 11/ 481.

ص: 372

فهذا الحديث فيه الشِّفاءُ. وإنَّ الحادثَ بعد الأربعينَ الثالثةِ: تسويةُ الخلْقِ عند نفخِ الرُّوح فيه.

ولا ريب أنَّه عند نفخِ الرُّوح فيه وتَعَلُّقِهَا به يَحدُثُ له في خلْقه أمورٌ زائدة على التخليق الذي كان بعد الأربعينَ الأُولى، فالأوَّلُ كان مبدأَ التخليقِ. وهذا تسويتُه وكمالُ ما قُدِّر له، كما أنَّه ـ سبحانه ـ خلقَ الأرضَ قبل السماء، ثم خلقَ السماءَ، ثم سوَّى الأرضَ بعد ذلك، ومهَّدَها وبَسَطَها، وأكْمَلَ خَلْقَها، فذلك فِعْلُه في السَّكَن، وهذا فِعْلُهُ في السَّاكن. على أن التَّخليقَ والتَّصويرَ ينشأُ في النُّطفة بعد الأربعينَ على التَّدريج شيئًا فشيئًا، كما ينشأ النباتُ، فهذا مشاهَدٌ في الحيوان والنّباتِ، كما إذا تأمَّلتَ حالَ الفرُّوجِ في البَيْضَةِ، فإنَّما يقعُ الإشْكالُ مِن عَدَم فَهْم كلامِ الله تعالى ورسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فالإشكالُ في أفهامنا، لا في بَيَانِ المعصومِ، واللهُ المسْتَعَانُ.

وقد أغناك هذا ـ بحمد الله ـ عن تكلُّف الشَّارحينَ، فتأمَّلْهُ ووَازِنْ بينَه وبينَ هذا الجَمْعِ، وبالله التَّوفيقُ.

فصل

وقد قال بُقْراط في «كتاب الغذاء» : تصوير

(1)

الجنين يكون في خمسة وثلاثين يومًا، وحركتُه في سبعين صباحًا، وكمالُه في مائة وعشرة

(1)

في (ب، ج): تصور.

ص: 373

أيام، ويتصوَّر أجنَّة أُخَر في خمسين صباحًا، ويتحركون التحرُّك الأول في مائة صباح، ويكملون في ثلاثمائة، ويتصور أجنة أُخَر في أربعين صباحًا، ويتحركون في ثمانين صباحًا، ويولدون في مائتين وأربعين صباحًا، ويتصور أجنة أخر في خمسة وأربعين صباحًا، ويتحركون في تسعين صباحًا، ويولدون في مائتين وسبعين صباحًا.

قال: فأما الولادة فتكون في الشهر السَّابع والثامن والتاسع والعاشر.

قلت: الحركة حركتان: حركة طبيعيَّة غير إراديَّة، فهذه قد تكون قبل تعلُّق الروح به، وأما الحركة الإراديَّة فلا تكون إلا بعد نفخ الروح.

ولهذا فرَّق بقراط بين التحرُّك الأول والثاني.

قلت: الذي دلَّ عليه الوحي الصَّادق عن خالق

(1)

البشر، أنَّ الخلق ينتقل في كل أربعين يومًا إلى طور آخر، فيكون أولًا نطفة أربعين يومًا ثم عَلَقَة كذلك، ثم مُضْغَةً كذلك، ثم ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يومًا. فهذا كأنك تشاهده عِيَانًا، وما خالفه فليس مع المخبِر به عِيان، وغاية ما معه قياس فاسد، أوتشريح لا يحيط علمًا بمبدأ

(2)

ما شاهده منه، أو تقليد لواحد غير معصوم

(3)

، وكل من جاء به مشى خلفه فيه، فيعتقد المعتقِد أن هذا أمر متفق عليه بين الطبائعيين. وأصله كلُّه

(1)

في «أ، ج، د» : خلاق.

(2)

في «أ، ج، د» : بمبدأ يكون.

(3)

في «د» : أو تقليدًا لواحد معصوم. وفي «ج» : لواحد معصوم.

ص: 374

واحد

(1)

، أخطأ فيه، ثم قلَّده مَن بعده، والقوم لم يشاهدوا ما أخبروا به من ذلك.

وغاية ما معهم أنهم شرَّحوا الحاكي أحياء وأمواتًا، فوجدوا الجنين في الرَّحِم على الصفة التي أخبروا بها، ولكن لا علم لهم بما وراء ذلك من مبدأ الحمل وتغير أحوال النطفة.

فإن ضيَّق مقلِّدُهم الفرضَ وقال: نفرض أنهم اعتبروا بِكْرًا من حيث وُطِئَت، ثم جعلوا يعدُّون أيامها إلى أن بلغت ما ذكروه. ثم شرَّحوها فوجدوا الأمر على الصفة التي أخبروا بها= فهذا غاية الكذب والبَهْت، فإن القوم لم يدَّعوا ذلك

(2)

، وكيف يمكنهم دعواه

(3)

وهم يخبرون أنَّ بعد ذلك بكذا وكذا يومًا يصير شأن الحَمْل كذا وكذا! وإنَّما مع القوم كليِّات

(4)

وأقيسة، وينبغي أن يكون كذا وكذا، والنظام الطَّبَعِيُّ يقتضي كذا وكذا.

وكثيرٌ منهم يأخذ ذلك من حركات القمر وزيادته ونقصانه، ومن حركات الشمس، ومن التثليث والتربيع والتسديس، والمقابلة.

وردَّ عليهم آخرون منهم، وأبطلوا ذلك عليهم من وجوه، وأحالوا به

(1)

في «ب» : وأصل كل واحد.

(2)

في «د» : يرجو.

(3)

في «ب، ج، د» : دعواهم.

(4)

في «أ، ب» : كلمات.

ص: 375

على الأَخْلَق والأَوْلى والأنسب.

وأحال به آخرون على حركات الكواكب وتنقلها، وأحال آخرون على

(1)

أيام البحارين وتغيُّر الطبيعة فيها، وردَّ بعض هؤلاء على بعض، وأبطل قوله بما تركناه مخافة التطويل.

وأصحُّ ما بأيديهم: التشريح والاستقراء التام الذي لا يُخْرَم. ونحن لا ننكر ذلك، ولكن ليس فيه ما يخالف الوحيَ عن خلاف

(2)

الأجنة أبدًا.

ومما يدلُّ على أن القوم لم يخبروا في ذلك عن مشاهدة: قولهم إنَّ الجنين الذي يُولد في الشهر السَّابع يصير ديديًّا

(3)

في تسعة أيام، ودمويًّا في ثمانية أيام أُخَر، ولحميًّا في تسعة أيام أخَر، ويقبل الصورة في اثني عشر يومًا أُخَر، فإذا اجتمعت هذه الأيام صارت خمسة وثلاثين يومًا، فجعلوه مضغة في الأربعين الأولى. وهذا كذب ظاهر قطعًا، وإنما يصير لحميًّا بعد الثمانين، ومثل هذا لا يُدرك إلا بوحي أو مشاهدة، وكلاهما مفقود عندهم، وإنما بأيديهم قياس اعتبروا به أحوال الأجنَّة من شهور ولادها، فحكموا على كل جنين ولد في شهر من شهور الولادة، على أنه ينبغي أن يكون ديديًّا، أي: نطفة، كذا وكذا يومًا،

(1)

«حركات .. آخرون على» ساقط من «أ، ب» .

(2)

كذا في جميع النسخ الخطية، ولعلها: خلق.

(3)

في (أ، ج): زيديًا. وسيأتي أن معناها: نطفة.

ص: 376