الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها شيئًا ازدادتْ غُلْمَتُهَا، فإذا أخذتْ منها وأبقتْ، كان في ذلك تعديلًا للخِلقة والشَّهوة.
هذا مع أنَّه لا يُنْكَر أن يكونَ قَطْعُ هذه الجلدةِ عَلمًا على العبوديَّة، فإنك تجد قطْعَ طرفِ الأُذُنِ وكيَّ الجبهةِ ونحو ذلك في كثيرٍ من الرَّقيق علامةً لرِقِّهِم وعبودِيَّتِهِم، حتى إذا أبَقَ رُدَّ إلى مالكه بتلك العلامة، فما يُنكر أن يكونَ قطْع هذا الطرف عَلَمًا على عبوديةِ صاحبِه لله ـ سبحانه ـ حتى يَعرفَ الناسُ أنَّ من كان كذلك فهو من عبيدِ الله الحنفاءِ، فيكون الختانُ عَلَمًا لهذه السنَّة التي لا أشرفَ منها، مع ما فيه من الطهارة والنظافة والزينة وتعديل الشهوة!
وقد ذُكِرَ في
حكمةِ خَفْضِ النِّساء:
أنَّ سارةَ لما وهبتْ هاجَرَ لإبراهيمَ أصابَها، فحملتْ منه، فغارتْ سارةُ، فحلفت لتقطعنَّ منها ثلاثةَ أعضاء، فخاف إبراهيمُ أنْ تَجْدَعَ أنْفَهَا وتقطعَ أُذُنَيْهَا، فأمرَها بِثَقْبِ أذنيها وختانها، وصار ذلك سُنَّة في النساء بَعْدُ
(1)
.
ولا يُنكر هذا، كما كان مبدأُ السَّعي، سعيَ هاجرَ بينَ جَبَلَيْنِ، تَبْتَغِي لابنها القُوتَ، وكما كان مبدأُ رَمْي الجِمَارِ حَصْبَ إسماعيلَ للشيطانِ لمَّا ذهب مع أبيه، فَشَرعَ اللهُ ـ سبحانه ـ لعبادِه تذكرةً وإحياءً لسنَّة خليله، وإقامةً لذِكْرِه، وإعظامًا لعُبوديَّته، والله أعلم.
(1)
انظر: شعب الإيمان للبيهقي: 15/ 138، التمهيد لابن عبدالبر: 21/ 59.
الفصل الثامن
في بيانِ القَدْرِ الَّذِي يُؤخَذُ في الخِتانِ
قال أبو البركات في كتابه «الغاية»
(1)
: ويُؤخذُ في ختانِ الرَّجلِ جلدةُ الحَشَفَةِ، وإن اقتصر على أخْذِ أكثرِها جازَ، ويُستحبُّ لخافِضَةِ الجَارِيَة أن لا تَحِيْفَ. نَصَّ عليه. وحُكِيَ عن عُمرَ أنه قال للخَاتِنةِ: أبْقِي منه شيئًا إذا خَفَضْتِ.
وقال الخَلّال في «جامعه» : «ذكر ما يقطع في الختان» : أخبرني محمَّد بن الحُسَين، أنَّ الفضل بنَ زياد حدَّثهم، قال سُئل أَحْمَدُ: كم يقطعُ في الخِتَانةِ؟ قال: حتى تَبْدُوَ الحَشَفَةُ.
وأخبرني عبد الملك الميموني قال: قلت: يا أبا عبد الله! مسألة سُئِلتُ عنها: ختَّان ختنَ صبيًا فلم يستقصِ؟
فقال: إذا كان الختانُ قد جازَ نصفَ الحشفة إلى فوق فلا يعتدُّ به؛ لأنَّ الحشفةَ تغلظُ، وكلما غلظتْ هي ارتفعتِ الختانةُ.
(1)
أبو البركات مجد الدين المتوفى سنة (652) هو جد شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعل كتابه هو «منتهى الغاية في شرح الهداية» لأبي الخطاب الكلوذاني. وذكر المرداوي أنه بيّض بعضه وبقي الباقي مسودة. انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل للدكتور بكر أبو زيد: 2/ 714.
ثم قال لي: إذا كانتْ دون النّصفِ أخافُ.
قلت له: فإنَّ الإعادةَ عليه شديدةٌ جدًّا، ولعلَّه قد يخافُ عليه الإعادةَ. قال لي: إيشٍ يخافُ عليه
(1)
، ورأيت سهولةَ الإعادةِ إذا كانت الختانةُ في أقلَّ من نصفِ الحَشَفَةِ إلى أسْفل.
وسمعته يقول: هذا شيءٌ لا بدَّ أن تتيسَّر فيه الختانةُ.
وقال ابنُ الصبَّاغ في «الشَّامل»
(2)
: الواجبُ على الرَّجُلِ أن يَقْطَعَ الجِلْدةَ التي على الحَشَفَةِ حتى تنكشفَ جميعُها، وأمَّا المرأةُ فلها عُذْرَتَانِ: إحداهُما: بَكَارَتُها. والأخرى: هي التي يجبُ قطْعُهَا، وهي كعُرْفِ الدِّيكِ في أعْلى الفَرْجِ بين الشُفْرَيْنِ، وإذا قُطعتْ يبقى أصلُها كالنَّواة
(3)
.
وقال الجُوَينِيُّ في «نهايته»
(4)
: «المستَحَقُّ في الرِّجالِ قَطْعُ القُلْفَةِ، وهي الجلدةُ التي تغشى الحَشَفَةَ، والغَرَضُ أن تَبْرزَ، ولو فرض مقدارٌ
(1)
«الإعادة. قال .. عليه» ساقط من «أ» .
(2)
أبو نصر الصبّاغ، محمد بن عبدالواحد بن جعفر المتوفى سنة (477) انتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي، وكتابه «الشامل» مخطوط في دار الكتب المصرية. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 122 وما بعدها، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، القسم الرابع ص 37.
(3)
شُفْرُ كلِّ شيء حَرْفُه. والجمع أشفار. ومنه شفر الفرج: أي حرفه. انظر: المصباح المنير: 1/ 317، الزاهر للأزهري ص 505.
(4)
نهاية المطلب لإمام الحرمين الجويني: 17/ 354.
منه على الكَمَرَةِ لا ينبسطُ على سطحِ الحَشَفَةِ، فيجب قَطْعُهُ حتى لا تبقَى الجلدةُ متدلِّيةً»
(1)
.
وقال ابنُ كَجّ: «عندي يكفي قَطْعُ شيءٍ من القُلْفَةِ وإنْ قلَّ، بِشَرْطِ أنْ يَسْتَوعبَ القطعُ تدويرَ رأسِهَا»
(2)
.
وقال الجُوينيُّ
(3)
: «المقدار المُسْتَحَقُّ في النساء ما ينطلقُ عليه الاسمُ» . قال: «وفي الحديث ما يدلُّ على الأمر بالإقْلالِ، قال صلى الله عليه وسلم لخاتنة: «أشمِّي ولا تَنْهَكِي» أي اتْرُكِي الموضعَ أشمَّ. والأشمُّ: المرتفع».
وقال الماوَرْدِيُّ: والسنَّةُ أن يستوعبَ القُلْفةَ التي تَغْشَى الحَشَفَةَ بالقَطْعِ مِن أصْلِهَا، وأقلُّ ما يجزئُ فيه أن لا يَتَغَشَّى بها شيءٌ من الحشَفَةِ، وأما خفضُ المرأةِ: فهو قطْعُ جلدةٍ في الفَرْجِ فوق مدخلِ الذَّكَرِ ومَخْرَجِ البَوْلِ على أصلٍ كالنَّواةِ، ويُؤخذ منه الجلدةُ المستعلِيةُ دونَ أصْلِهَا
(4)
.
وقد بان بهذا أنَّ القطعَ في الخِتَانِ ثلاثةُ أقسامٍ: سنةٌ، وواجبٌ، وغيرُ مجزئٍ ـ على ما تقدم ـ والله أعلم.
(1)
في النهاية: «حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ» بدلًا من: حتى لا تبقى الجلدة متدلِّية
(2)
نقله النووي في المجموع: 1/ 165 وحكاه عنه الرافعي.
(3)
في الموضع نفسه من نهاية المطلب.
(4)
الحاوي الكبير للماوردي: 13/ 433.
الفصل التاسع
في أنَّ حُكمه يَعُمُّ الذَّكر والأنثى
قال صالحُ بنُ أَحمدَ: إذا جامع الرجلُ امرأتهُ ولم يُنزِل، قال: إذا التقَى الخِتَانانِ وجب الغُسْلُ. قال أَحْمَد: وفي هذا أنَّ النساء كُنَّ يَخْتَتِنَّ.
وسُئِلَ عن الرَّجُل تُدْخَلُ عليه امرأتُهُ فلم يَجِدْهَا مختونةً أيجبُ عليها الختانُ؟ قال: الختانُ سنَّةٌ
(1)
.
قال الخَلّالُ: وأخْبرَني أبو بكر المروذيُّ، وعبدُ الكريمِ بن الهيثَم، ويوسفُ بنُ موسى ــ دخل كلامُ بعضِهم في بعضٍ ــ أنَّ أبا عبدِ الله سُئل عن المرأة تُدخَلُ على زوجها ولم تختتنْ: أيجبُ عليها الختانُ؟ فسكتَ والتفتَ إلى أبي حفْصٍ فقال: تعرفُ في هذا شيئًا؟ قال: لا. فقيل له: إنَّها أتَى عليها ثلاثونَ أو أربعونَ سنةً، فسكتَ. فقيل له: فإنْ قَدرتْ على أن تختتنَ؟ قال: يَحْسُنُ
(2)
.
قال: وأخبرني محمَّد بنُ يحيى الكحَّالُ، قال: سألتُ أبا عبدِ الله عن المرأة تختتن؟ فقال: قد خرَّجتُ فيه أشياءَ. ثم قال: فنظرتُ فإذا خبرُ
(1)
أخرجه الخلال في كتاب الترجل ص 86 برقم (185)، وابن هانئ في مسائل الإمام أحمد: 2/ 151.
(2)
أخرجه الخلال في الترجل ص 86 برقم (184).
النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين يَلتَقِي الخِتَانَانِ، ولا يكونُ واحدًا إنما هو اثْنَانِ، قلتُ لأبي عبدِ الله: فلا بدَّ منه؟ قال: الرجل أشدُّ، وذلك أنَّ الرجل إذا لم يختَتِنْ، فتلك الجلدةُ مُدلَّاة على الكَمَرَةِ، فلا يَنْقَى ما ثَمَّ، والنِّسَاءُ أهْوَنُ
(1)
.
قلت: لا خلافَ في استحبابِه للأُنثَى، واخْتُلِفَ في وُجُوبِه
(2)
، وعن أَحْمَدَ في ذلك روايتان، إحداهما: يجبُ على الرِّجالِ والنساءِ، والثانية: يختصُّ وجوبُه بالذُّكورِ. وحجَّةُ هذه الرواية حديثُ شدَّادِ بنِ أَوْسٍ: «الختانُ سنَّةٌ للرِّجال، مَكْرُمَةٌ للنِّساءِ» ففرَّقَ فيه بين الذُّكورِ والإناثِ.
ويحتجُّ لهذا القول بأنَّ الأمرَ به إنَّما جاء للرِّجال، كما أمرَ اللهُ
ــ سبحانه ــ به خَلِيْلَهُ ــ عليه السلام ــ، ففَعلَهُ امتثالًا لأمْرِهِ.
وأما ختانُ المرأةِ، فكان سبَبُه يمين سارةَ كما تقدم.
قال الإمام أَحمد: لا تحيفُ خافضةُ المرأةِ، لأنَّ عُمر قال لختَّانةٍ: أبْقِي منه شيئًا إذا خفضتِ
(3)
.
وذكر الإمامُ أَحمد عن أمِّ عطيّةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ ختَّانةً تختِنُ
(1)
أخرجه الخلال في الترجل ص 85 برقم (182). وانظر: المغني لابن قدامة: 1/ 115، حاشية الروض المربع لابن قاسم: 1/ 160 ـ 161.
(2)
انظر: المجموع للنووي: 1/ 164.
(3)
أخرجه الخلال في الترجل ص 87 برقم 185.
فقال: «إذا ختنتِ فلا تنهِكي، فإنَّ ذلك أحظى للمرأة، وأحبُّ للبَعْلِ»
(1)
.
والحكمةُ التي ذَكَرْنَاهَا في الخِتَانِ، تَعُمُّ الذَّكَرَ والأُنْثَى، وإنْ كانتْ في الذَّكَرِ أَبْيَنَ، واللهُ أعْلَمُ.
(1)
تقدم تخريجه فيا سبق، ص (275).