الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
في حُكم جنايةِ الخاتِن وسِرَايةِ الختان
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة/ 91]. وفي «السُّنَنِ» من حديث عَمْرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال
(1)
:
«مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَمْ منه طِبٌّ فهو ضَامِنٌ»
(2)
.
أمَّا جنايةُ يَدِ الخاتنِ، فمضمونةٌ عليه، أو على عاقِلَته كجنايةِ غيره، فإنْ زادتْ على ثلُثِ الدِّيةِ كانت على العَاقِلة، وإن نقصتْ عن الثُّلُث فهي في مالِهِ
(3)
.
(1)
أنه قال. ليست في «أ» .
(2)
أخرجه أبو داود في الديات، باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طبٌ فأعنت: 12/ 691، وقال:«هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري أصحيح هو أم لا؟» ، وأخرجه النسائي في القسامة، باب صفة شبه العمد، وعلى من دية الأجنّة: 8/ 52، وابن ماجه في الطب، من تطبب ولم يعلم منه طب: 2/ 1148 برقم (3466)، والبيهقي في السنن: 4/ 241 و 8/ 141، والدارقطني في الديات: 4/ 138 برقم (3402)، وصححه الحاكم: 4/ 212 ووافقه الذهبي. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 2/ 228 برقم (635).
(3)
وقال ابن المنذر في الإشراف 7/ 446: وإذا ختن الخاتن فأخطأ، فقطع الذكر أو الحشفة أو بعضها: فعليه عقل ما أخطأ به، تعقله العاقلة. وهذا قول كل من حفظت عنه من أهل العلم: مالك والشافعي وإسحاق وأحمد وأصحاب الرأي. وانظر: الإجماع ص 171 لابن المنذر، وفتح القدير لابن الهمام: 7/ 206.
وأمَّا ما تلف بالسِّرَايَةِ، فإنْ لم يكنْ مِن أهلِ العِلْمِ بِصِناعَتِه، ولم يُعْرفْ بالحِذْقِ فيها، فإنَّه يضمنُها، لأنها سِرَايةُ جرحٍ لم يجزْ له الإقدامُ عليه، فهي كسرايةِ الجِنَايةِ. وقد اتَّفقَ النّاسُ على أنَّ سِرَايَةَ الجنايةِ مَضْمُونةٌ.
واختلفوا فيما عَداها؛ فقال أَحمد ومالكٌ: لا يضمنُ سرايةَ مأذونٍ فيه، حَدًّا كان أو تأديبًا، مقدّرًا كان أو غير مقدَّر؛ لأنها سرايةُ مأذونٍ فيه فلم يَضْمَنْ كسراية استيفاء منفعة النكاح، وإزالة البكارة، وسراية الفَصْدِ والحجامة، والختان، وبَطِّ الدّمَّل، وقطع السِّلْعَة المأذون فيه لحاذق لم يتعدَّ
(1)
.
وقال الشّافعيّ: لا يضمنُ سرايةَ المقدَّر
(2)
حدًّا كانَ أو قِصَاصًا،
(1)
انظر: المغني لابن قدامة: 12/ 529.
(2)
في «ج» : المقرر.
ويضمنُ سرايةَ غير المقدَّر كالتَّعْزيرِ والتَّأدِيبِ، لأنَّ التَّلَفَ بهِ دليلٌ على التَّجَاوُزِ والعُدوانِ
(1)
.
وقال أبوحنيفةَ: لا يَضْمَنُ سِرَايَةَ الواجبِ خاصّةً، ويضمنُ سِرايةَ المقَدَّرِ
(2)
، لأنَّه إنما أُبِيحَ لَهُ الاسْتِيفَاءُ بشرط السلامة
(3)
.
والسنَّةُ الصحيحةُ تخالف هذا القول.
وإن كان الخاتنُ عارفًا بالصِّناعَةِ، وختَنَ المولودَ في الزَّمنِ الذي يختتنُ في مِثْلِهِ، وأعْطَى الصِّناعَةَ حقَّهَا، لم يَضْمَنْ سِرَايَةَ الجَرْحِ اتفاقًا، كما لو مَرِضَ المختونُ من ذلك وماتَ، فإنْ أذِنَ له أن يختِنَهُ في زَمَنِ حرٍّ مُفْرِط أو بَرْدٍ مُفْرِطٍ، أو حالِ ضعفٍ يُخَاف عليه منه، فإنْ كان بالغًا عاقلًا لم يضمَنْه، لأنه أَسقطَ حقَّه بالإذْنِ فيه، وإنْ كانَ صغيرًا ضَمِنَه، لأنه لا يُعْتبرُ إذنُهُ شرعًا، وإن أَذِن فيه وليُّه، فهو موضعُ نظرٍ، هل يجب الضمانُ على الوليِّ أو على الخاتنِ؟
(1)
انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 356، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 434.
(2)
في (أ، ج): القَوَد.
(3)
قال البغدادي في «مجمع الضمانات» 1/ 145 ـ 146: الفصَّاد والحجَّام والختَّان لا يضمنون بسراية فعلهم إلى الهلاك إذا لم يجاوز الموضع المعتاد المعهود المأذون فيه. ولو شرط عليهم العمل السليم عن السِّراية بطل الشرط؛ إذْ ليس في وسعهم ذلك. هذا إذا فعلوا فعلاً معتادًا ولم يقصِّروا في ذلك العمل
…
أما لو فعلوا بخلاف ذلك: ضَمِنُوا.
ولا رَيْبَ أنَّ الوليَّ مُتَسَبِّبٌ
(1)
، والخاتنَ مباشِرٌ، فالقاعدةُ تقتضِي تضمينَ المباشِرِ
(2)
؛ لأنَّه يمكنُ الإحالةُ عليه، بِخلافِ ما إذا تعذَّر تَضْمِينُه.
فهذا تفصيلُ القولِ في جناية الخاتن وسراية خِتَانهِ، والله أعلم.
(1)
في «أ، ب» : المتسبب.
(2)
قال ابن رجب في «تقرير القواعد وتحرير الفوائد» 2/ 597: «إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشرة وسبب: تعلَّق الضمان بالمباشرة دون السبب، إلا أن تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه، سواء كانت ملجئة إليه أو غير ملجئة، ثم إن كانت المباشرة والحالة هذه لا عدوان فيها بالكلية: استقلَّ السبب وحده بالضمان، وإن كان فيها عدوان شاركت السبب في الضمان» .
الفصل الحادي عشر
في أَحكامِ الأقْلَفِ في طهارتهِ، وصلاتهِ، وذبِيحتهِ،
وشَهادتهِ، وغير ذلك
قال الخَلّال: أخبرني محمَّدُ بنُ إسماعيلَ، حدّثنا وَكِيعٌ، عن سَالمٍ أبي العَلاءِ المُرَاديّ، عن عَمْرو بنِ هَرم، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابنِ عبَّاسٍ قال: الأقْلَفُ لا تُقْبَل له صلاةٌ، ولا تُؤكَلُ ذبيحتُهُ
(1)
.
قال وَكِيْعٌ: الأقْلَف إذا بلغَ فلم يختتِنْ لم تُقبلْ شهادتُه.
أخبرني عِصْمَةُ بنُ عِصَامٍ، حدّثنا حَنْبَل، قال حدّثني أبو عبدِ الله، حدّثنا محمَّد بنُ عُبَيد، عن سالم المرادي
(2)
، عن عَمْرو بن هرم، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابن عبَّاس: لا تُؤكَلُ ذبيحةُ الأقْلفِ
(3)
.
قال حَنْبَل: سمعتُ أبا عبدِ الله قال: لا يُعْجِبُنِي أن يَذبحَ الأقْلَفُ.
وقال حنبلٌ في موضعٍ آخرَ: حدّثنا أبُو عمرو الحوضي، حدّثنا هَمَّام، عن قَتَادَة، عن عِكْرِمَة، قال: لا تُؤكَلُ ذَبِيْحةُ الأقْلَفِ.
قال: وكان الحَسَنُ لا يرى ما قاله عِكْرِمَةُ. قال: قيل لعِكْرِمَة: ألَهُ
(1)
انظر: الترجل للخلال برقم (177 و 179). وفيما سبق ص (329).
(2)
في «ب» : الرازي.
(3)
أخرجه الخلال في الترجل برقم (174). وانظر ما سبق ص (240).
حجٌّ؟ قال: لا.
قال أبو عبد الله: لا تُؤكل ذبيحتُهُ، ولا صلاةَ له، ولا حجَّ لَهُ، حتى يتطهَّرَ، هو مِن تمامِ الإسلامِ
(1)
.
وقال حَنْبَل في موضع آخر: قال أبو عبد الله: الأقْلفُ لا يَذبحُ، ولا تُؤكلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له
(2)
.
وقال عبد الله بن أَحْمَد: حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، حدّثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ، عن قَتَادَة، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابنِ عبَّاس قال: الأقْلَفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تُؤكلُ ذبيحتُه، ولا تجوزُ له شهادةٌ. قال قَتَادَة: وكان الحَسَنُ لا يرى ذلك
(3)
.
وقال إسْحَاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله: ذَبِيْحَةُ الأقْلَفِ؟ قال: لا بأسَ بها
(4)
.
وقال أبو طالب: سألتُ أبا عبدِ الله عن ذبيحةِ الأقلف؟
(5)
فقال: ابن عبَّاس يشدّد في ذبيحتِه جدًّا
(6)
.
(1)
انظر: الترجل للخلال برقم (174).
(2)
أخرجه الخلال في الترجل برقم (178).
(3)
المرجع نفسه برقم (180).
(4)
وهو مذهب الحنفية. انظر: جامع أحكام الصغار، ص 185.
(5)
«قال لا بأس .. الأقلف» ساقط من «أ» .
(6)
أخرجه الخلال بنحوه رقم (177).
وقال الفضل بن زياد: سألتُ أبا عبد الله عن ذبيحةِ الأقْلَفِ؟ فقال: يُرْوَى عن إبراهيمَ والحَسَنِ وغيرهما: أنهم كانوا لا يرون بها بأسًا، إلا شيئًا يُروى عن جابرِ بنِ زيدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه كَرِهَهُ.
قال أبو عبد الله: وهذا يشتدُّ على النَّاس، فلو أنَّ رجلًا أسلمَ وهو كبيرٌ فَخَافُوا عَليهِ الختانَ، أفلا تُؤكل ذبيحتُه
(1)
؟
وذكر الخَلّال، عن أبي السَّمْح أَحْمَدَ بنِ عبد الله بنِ ثابتٍ، قال سمعت أَحْمَدَ بنَ حَنْبَل ــ وسئل عن ذبيحة الأقْلَفِ، وذكر له حديث ابن عبَّاس «لا تؤكل ذبيحته» ــ فقال أَحْمَد: ذاك عندي إذا كانَ الرَّجلُ يُولَد بين أبَوَيْن مُسْلِمَيْنِ؛ فيَكْبَر فلا يختتن
(2)
؛ فأمَّا الكبيرُ إذا أسْلمَ وخافَ على نَفْسِه الختانَ؛ فله عندي رخصةٌ.
ثم ذكر قصةَ الحَسَنِ مع أمير البَصرةِ الذي ختنَ الرجالَ في الشتاء، فماتَ بعضُهم.
قال: فكان أَحْمَد يقول: إذا أسلم الكبيرُ وخاف على نفسِه فله عندي عذرٌ
(3)
.
(1)
انظر: الترجل للخلال رقم (180).
(2)
في (ب، ج): فكيف لا يختتن.
(3)
بنحوه في الترجل للخلال برقم (179). وانظر فيما سبق ص (245 و 258).
الفصل الثاني عشر
في المُسْقِطَاتِ لوجُوبهِ
وهي أمورٌ:
(أحدها): أن يُولَدَ الرجلُ ولا قُلْفةَ له؛ فهذا مستغنٍ عن الختانِ؛ إذ لم يُخلَق له ما يجبُ ختانُه. وهذا متَّفقٌ عليه
(1)
.
لكنْ قال بعضُ المتأخِّرينَ: يستحبُّ إمرارُ الموسى على مَوْضِعِ الختانِ، لأنَّه ما يقدرُ عليه من المأمور به
(2)
؛ وقد قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
(3)
. وقد كان الواجبُ أمرين: مباشرةُ الحديدة، والقطعُ؛ فإذا سقط القطع؛ فلا أقلَّ من استحباب مباشرة الحديدة
(4)
.
(1)
انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، والبيان للعمراني: 1/ 95 - 96، والمجموع للنووي: 1/ 166.
(2)
انظر: الكافي لابن قدامة: 1/ 477، والإنصاف للمرداوي: 2/ 54 - 55، والمقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، فتح الباري: 10/ 340.
(3)
أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم: 13/ 251، ومسلم في الحج، باب فرض الحج في العمر مرة: 2/ 975، برقم (1337).
(4)
وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة ذكرها ابن رجب فقال: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها، هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا؟ فإن كان المقدور عليه ليس مقصودًا في العبادة بل هو وسيلة محضة إليها، كتحريك اللسان في القراءة وإمرار الموسى على الرأس في الحلق والختان، فهذا ليس بواجب، لأنه إنما وجب ضرورة القراءة والحلق والقطع، وقد سقط الأصل فسقط ما هو من ضرورته. وأوجبه القاضي في تحريك اللسان خاصة وهو ضعيف جدًا. انظر: تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب: 3/ 240.
والصَّوابُ: أنَّ هذا مكروهٌ
(1)
، لا يُتقرَّبُ إلى الله به؛ ولا يُتَعَبَّدُ بمثله؛ وتُنَزَّه عنه الشريعةُ، فإنَّه عبثٌ لا فائدةَ فيه، وإمرارُ الموسَى غيرُ مقصودٍ، بل هو وسيلةٌ إلى فِعْلِ المقصودِ، فإذا سقط المقصودُ لم يَبْقَ للوسيلةِ معنًى.
ونظير هذا: ما قاله بعضُهم: إن الذي لم يُخلق على رأسه شعرٌ يستحبُّ له في النُّسُك أن يُمِرَّ الموسَى على رأسِهِ
(2)
.
ونظيرُه قولُ بعضِ
(3)
المتأخِّرينَ مِنْ أصْحَابِ أَحْمَدَ وغيرِهم: إنَّ الذي لا يُحْسِنُ القِراءةَ بالكليَّة ولا الذِّكْرَ، أو الأخْرَسَ: يحرِّكُ لسانَهُ حَرَكةً مجرّدةً
(4)
.
(1)
نقل البهوتي هذا الحكم عن المصنف في كشاف القناع: 1/ 181.
(2)
انظر: المبدع لابن مفلح: 3/ 243.
(3)
ساقط من «د» .
(4)
قال إمام الحرمين الجويني في نهاية المطلب 7/ 10: «ذكر العراقيون عن نص الشافعي أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة يلزمه أن يحرك لسانه بدلًا عن تحريكه إياه في القراءة .. وهذا مشكل عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلًا بعيدٌ. ثم يلزم من قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد. وعلى الجملة: فلست أرى ذلك بدلًا عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلًا فالتحريك الكثير يلحق بالفعل الكثير» .
قال شيخنا
(1)
: ولو قيل: إنّ الصَّلاة تَبْطُلُ بذلك كان أقربَ، لأنّه عبثٌ يُنَافِي الخُشُوعَ، وزيادةُ عملٍ غير مشروعٍ.
والمقصود: أنَّ هذا الذي وُلِدَ ولا قُلفةَ له، كانت العرب تَزْعُمُ أنَّه إذا وُلِد في القمر تقلّصت قُلْفَتُه وتجمَّعت، ولهذا يقولون: خَتنَهُ القمر. وهذا غير مطّردٍ، ولا هو أمرٌ مستمرٌّ، فلم يزلِ النَّاسُ يُولَدونَ في القمر، والذي يُولد بلا قُلْفةٍ نادرٌ جدًا، ومع هذا فلا يكونُ زوالُ القُلْفَة تامًا، بل يظهرُ رأسُ الحَشَفَةِ، بحيثُ يَبِيْنُ مَخْرَجُ البَوْلِ، ولهذا لا بدَّ من خِتَانِه لتَظْهَرَ تمامُ الحَشَفَةِ. وأمَّا الذي يُسْقِطُ ختانَهُ، فأنْ تكونَ الحشفةُ كلُّها ظاهرةً.
وأخبرني صاحبنا محمَّدُ بنُ عثمانَ الخليليُّ المحدِّث ببيت المقدسِ: أنه ممَّن وُلِدَ كذلك، والله أعلم.
فصل
(الثاني) من مسقطاته: ضَعْفُ المولُودِ عن احْتِمَالِه، بحيث يُخافُ عليه من التَّلفِ، ويستمرُّ به الضَّعفُ كذلك، فهذا يُعذَرُ في تَرْكِهِ، إذْ غايتُه
(1)
هو شيخ الإسلام ابن تيمية. وانظر كلامه بنصه في الفتاوى الكبرى: 5/ 336، وفي الاختيارات الفقهية للبعلي ص 103، ونقله المرداوي في الإنصاف 2/ 54.
أنَّه واجبٌ، فيَسْقطُ بالعَجْزِ عنه كَسَائرِ الوَاجِبَاتِ
(1)
.
فصل
(الثالث): أن يُسْلِمَ الرجلُ كبيرًا، ويخافُ على نَفْسِه منه، فهذا يسقطُ عنهُ عند الجمهور
(2)
.
ونصَّ عليه الإمام أَحْمَدُ في رواية جماعةٍ من أصحابِه، وذكر قول الحَسَنِ أنه قد أسلمَ في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: الروميُّ والحبَشِيُّ والفَارِسِيُّ، فما فتَّش أحدًا منهم
(3)
.
وخالف سُحْنُونُ بنُ سَعِيدٍ الجمهورَ، فلم يُسْقِطْه عن الكبيرِ الخائفِ على نَفْسِه
(4)
. وهو قولٌ في مذهب أَحْمَدَ حكاه ابنُ تميمٍ وغيرُه
(5)
.
(1)
انظر: الإنصاف للمرداوي: 1/ 124، والبيان للعمراني: 1/ 95 - 96، والمجموع للنووي: 1/ 166، والحاوي للماوردي: 13/ 434.
(2)
انظر: جامع أحكام الصغار للأسروشني: 1/ 212 - 213، والمقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 365، والبيان للعمراني: 1/ 95 - 96، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 434، والمجموع للنووي: 1/ 166، وحاشية الروض المربع: 1/ 159.
(3)
انظر فيما سبق ص (245 - 246).
(4)
المقدمات الممهدات: 3/ 448.
(5)
انظر: مختصر ابن تميم في مذهب الإمام أحمد: 1/ 137 - 138.
فصل
وظاهرُ كَلامِ أصْحَابِنَا أنَّه يَسْقطُ وجوبُه فقط عند خوفِ التَّلَفِ، والذي ينبغي أنْ يمنعَ من فِعْلِهِ، ولا يجوزُ له، وصرَّح به في «شرح الهداية» فقال: يُمْنَعُ منهُ
(1)
.
ولهذا نظائرُ كثيرةٌ: منها الاغتسالُ بالماءِ البارد في حالِ قوَّة البَرْدِ والمرضِ، وصومُ المريضِ الذي يُخْشَى تَلَفُه بِصَوْمِهِ، وإقامةُ الحدِّ على المريضِ والحاملِ وغير ذلك، فإنَّ هذه الأعذارَ كلّها تمنعُ إباحةَ الفعلِ، كما تُسقِط وجوبَهُ. والله أعلمُ.
فصل
(الرابع): الموتُ؛ فلا يجبُ خِتَانُ الميِّتِ باتفاقِ الأُمَّة، وهل يستحبُّ؟
فجمهورُ أهلِ العلمِ، على أنَّه لا يُستحبُّ. وهو قولُ الأئمةِ الأربعة
(2)
.
وذكر بعضُ المتأخِّرينَ: أنه مستحبٌّ، وقَاسَهُ على أَخْذِ شَارِبِهِ،
(1)
انظر: الإنصاف للمرداوي: 1/ 124. والهداية لأبي الخطاب، وشرحه للمجد أبي البركات ابن تيمية بعنوان تتمة «الغاية» كما تقدم.
(2)
انظر: فتح القدير لابن الهمام: 1/ 451، والمجموع شرح المهذب للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 3/ 484.
وحَلْقِ عَانَتِهِ، ونَتْفِ إبْطِهِ.
وهذا مخالفٌ لما عليه عمل الأُمَّة، وهو قياسٌ فاسدٌ، فإنَّ أخْذَ الشَّاربِ، وتَقْلِيْمَ الظُّفُرِ، وحَلْقَ العَانةِ، من تمامِ طَهَارتِه وإزَالَةِ وَسَخِهِ ودَرَنِهِ.
وأمَّا الختانُ: فهو قَطْعُ عُضْوٍ من أعضائِه، والمعنى الذي لأجْلِهِ شُرِع في الحياةِ، قد زالَ بِالمَوْتِ فلا مَصْلَحَةَ في خِتَانِه، وقد أَخْبَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنه يُبعَث يومَ القيامة بِغُرْلَتِه غيرَ مختونٍ
(1)
، فما الفائدةُ أن يُقْطَعَ منه عند الموتِ عضوٌ يُبْعَثُ به يَوْمَ القيامةِ، وهو مِن تمامِ خَلْقِه في النَّشْأَةِ الأُخْرَى.
فصل
ولا يَمنعُ الإحرامُ من الختان، نصَّ عليه الإمام أَحْمَد ـ وقد سئل عن المُحْرِم ـ: يختتن؟ فقال: نعم.
ولم يجعلْه من باب إزالة الشعر وتقليم الظفر، لا في الحياة ولا بعد الموت.
(1)
إشارة إلى حديث عائشة رضي الله عنها: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا» أخرجه البخاري في الرقاق: 11/ 377 - 378، ومسلم في الجنة: 4/ 2194.
الفصل الثالث عشر
في خِتَانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
وقَدِ اخْتُلِفَ فيه على أقوالٍ
(1)
:
(أحدها): أنَّه وُلِد مختونًا.
و (الثاني): أنَّ جِبْرِيْلَ خَتَنَهُ حينَ شقَّ صَدْرَهُ.
(الثالث): أنَّ جدَّه عبد المطَّلب ختَنَهُ، على عادةِ العربِ في ختانِ أوْلَادِهِمْ.
ونحن نذكر قائلي هذه الأقوال وحُجَجَهُمْ.
فأمَّا من قال: ولد مختونًا، فاحتجُّوا بأحاديث:
أحدها: ما رواه أبُو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ، فقال:«وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ مختونًا، من حديث عبد الله بن عبَّاس، عن أبيه العبَّاس بن عبدالمطلب، قال: وُلِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مختونًا مسرورًا ـ يعني: مقطوع السُّرَّة ـ فأعجبَ ذلكَ جدَّهُ عبدَ المطَّلبِ وقال: لَيَكُونَنَّ لابْنِي هذا شأنٌ عظيمٌ»
(2)
.
(1)
وانظر أيضًا: زاد المعاد للمصنف: 1/ 81 وما بعدها.
(2)
رواه ابن عبدالبر في التمهيد: 23/ 140، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 3/ 411، وابن عدي في الكامل: 2/ 155، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 114، والحاكم في المستدرك: 2/ 602 وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مختونًا» فتعقبه الذهبي بقوله: «ما أعلم صحة ذلك، فكيف متواترًا» . قال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 387: «وهذا الحديث في صحته نظر» . وقال الصَّالحي في سبل الهدى والرشاد 1/ 420: سنده غير صحيح. وانظر: زوائد تاريخ بغداد للدكتور خلدون الأحدب: 1/ 348.
ثم قال ابنُ عبدِ البَرِّ
(1)
قلت: حديثُ ابنِ عمرَ رويناه من طريق أبي نُعَيْمٍ، حدّثنا أبو الحَسَن محمَّدُ بنُ أَحْمَد بنِ خالد الخطيب، حدّثنا محمَّد بنُ محمَّد بنِ سليمان، حدّثنا عبدُ الرَّحمن بنُ أيُّوب الحِمْصِيُّ، حدّثنا موسى بنُ أبي موسى المقْدِسِيّ، حدّثنا خالد
(2)
بنُ سلَمَةَ، عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ، قال: وُلِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَسْرورًا مَخْتُونًا
(3)
.
ولكن محمَّد بنَ سُليمانَ هذا، هو البَاغَنْدِيُّ، وقد ضعَّفوه، وقال الدَّارقُطْنِيُّ: كان كثيرَ التَّدْلِيْسِ، يحدِّث بما لم يسمعْ، وربَّما سرقَ الحديثَ
(4)
.
(1)
في الموضع نفسه من التمهيد.
(2)
في «ج» : خلف. وهو تحريف.
(3)
أخرجه أبو نعيم بهذا الإسناد في أخبار أصبهان: 1/ 156، وابن عساكر في التاريخ: 3/ 414.
(4)
انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 9/ 186، وميزان الاعتدال للذهبي: 6/ 175، ولسان الميزان لابن حجر: 3/ 173.
ومنها: ما رواه الخطيب بإسناده، من حديث سفيان بن محمَّد المصِّيصيّ، حدّثنا هُشَيْم، عن يُونسَ بنِ عُبيد، عن الحَسَنِ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«مِنْ كَرامَتي على الله أنّي وُلِدْتُ مختونًا ولم يرَ سَوْأتِي أحدٌ»
(1)
.
قال الخطيب: «لم يروه فيما يقال غير يونس، عن هُشَيْم، وتفرَّد به سفيانُ بنُ محمَّد المصِّيصيّ، وهو منكر الحديث»
(2)
.
قال الخطيب: أخبرني الأزهري، قال: سُئِل الدَّارَقُطْنِيُّ عن سفيان ابنِ محمَّد المصِّيصيِّ، وأخبرني أبو الطيِّب الطبريُّ، قال: قال لنا الدارقطني: شيخٌ لأهل المصِّيْصَة يقال له: سُفيانُ بنُ محمَّد الفَزَارِيّ، كان ضعيفًا سيِّء الحال في الحديث
(3)
.
قال صالح بنُ محمَّدٍ الحافظُ: سفيانُ بنُ محمَّدٍ المصيصيُّ لا شيءَ
(4)
.
(1)
رواه الخطيب في تاريخ بغداد: 1/ 329 من طرق كلها واهية. ورواه الطبراني في الصغير: 2/ 59، وفي الأوسط برقم (6327)، وابن عساكر: 3/ 423. قال الهيثمي: «فيه سليمان الفزاري وهو متهم به». انظر: مجمع الزوائد: 8/ 224، وزوائد تاريخ بغداد: 1/ 339 ـ 348.
(2)
انظر: تاريخ بغداد: 1/ 329.
(3)
تاريخ بغداد: 9/ 185.
(4)
تاريخ بغداد: 9/ 186.
وقد رواه أبو القَاسم ابنُ عَسَاكِرٍ، من طريق الحَسَنِ بن عَرَفَةَ، حدّثنا هُشَيْم، عن يُونس، عن الحَسَنِ، عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كرامتي على ربي عز وجل أنّي وُلِدْتُ مختونًا لم يرَ أحدٌ سَوْأَتِي»
(1)
. وفي إسناده إلى الحَسَنِ بنِ عرفةَ عِدَّةُ مجَاهِيْل.
قال أبو القاسم ابنُ عَسَاكِر: وقد سرقه ابنُ الجَارُودِ، وهو كذَّابٌ، فَرَواهُ عنِ الحَسَنِ بنِ عَرَفَةَ
(2)
.
ومما احتجَّ به أرباب هذا القول: ما ذكره محمَّدُ بنُ عليٍّ التّرْمِذِيُّ
(3)
في معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ومنها: أن صفيَّةَ بنتَ عبدِ المطَّلب قالت: أردتُ أن أعْرِفَ أذكرٌ هو أم أُنثى، فرأيتُه مختونًا.
وهذا الحديث لا يثبت، وليس له إسنادٌ يُعرَفُ به.
(1)
تاريخ دمشق لابن عساكر: 3/ 413.
(2)
الموضع السابق نفسه. وجاء في البداية والنهاية لابن كثير 3/ 388: «قلت ـ أي ابن كثير ـ قد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية مسألة في ذلك، فردَّ هذه السياقات كلها وضعّفها، وجعل بعضها موضوعًا. وقال: الصحيح أنه إنما خُتن كما تختن الغلمان، ختنه جدُّه عبدالمطلب، وعمل له دعوة جمع عليها قريشًا. والله أعلم» .
(3)
محمد بن علي بن الحسن بن بشر، المشهور بـ الحكيم الترمذي، توفي نحو (320 هـ) ومن كتبه:(نوادر الأصول في أحاديث الرسول) و (الصلاة ومقاصدها) و (بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب). انظر: الأعلام للزركلي: 6/ 272.
وقد قال أبو القاسم عُمَرُ بنُ أبي الحَسَن بنِ هبةِ الله بنِ أبي جرادة
(1)
في كتابٍ صنَّفهُ في ختانِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، يردُّ به على محمَّدِ بنِ طَلْحَةَ
(2)
في مُصنَّفٍ صنَّفهُ، وقرَّر فيه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وُلِد مختونًا: «وهذا محمَّد التّرْمِذِيّ الحكيمُ، لم يكنْ من أهلِ الحديثِ، ولا عِلْمَ له بطُرُقِهِ وصِنَاعَتِه، وإنَّما كان فيه الكلامُ على إشاراتِ الصُّوفية والطرائق، ودَعْوَى الكَشْفِ على الأمور الغامضةِ والحقائقِ، حتى خرج في الكلام على ذلك عن قاعدةِ الفقهاءِ، واستحقَّ الطعن عليه بذلك والإزراء، وطعنَ عليه أئمةُ الفقهاء والصوفيِّة
(3)
، وأخرجوه بذلك عن السيرة المَرْضِيَّة، وقالوا: إنه أدخل في علم الشريعة ما فارق به الجماعة، فاستوجب بذلك القَدْحَ والشَّناعةَ، وملأ كتبَه بالأحاديث الموضوعة، وحشَاها بالأخبار التي ليست بمرويَّةٍ ولا مَسْمُوعة، وعلَّل فيها خفيَّ
(1)
هو المشهور بـ «كمال الدين ابن العديم» المتوفى سنة (660 هـ) ولد بحلب، من كتبه «بغية الطلب في تاريخ حلب» و «الدراري في الذراري» و «الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة». وكتابه المشار إليه هو «الملحة في الرد على ابن طلحة» ذكره ابن حجر ونقل عنه في فتح الباري: 11/ 89، وذكر السخاوي في الإعلان بالتوبيخ ص (533) أنه ممن أفرد ختان النبي صلى الله عليه وسلم بالتأليف وأنه ولد مختونًا.
(2)
هو كمال الدين، محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن، أبو سالم القرشي العدوي الشافعي المتوفى سنة (652) ترجم له السبكي وغيره، وتصنيفه المشار إليه هو جزء أفرده في ختان النبي صلى الله عليه وسلم جمع فيه بين الروايات في الموضوع، وذكره السخاوي في الإعلان ص (553)، وابن حجر في الفتح: 11/ 89.
(3)
«واستحقَّ الطعن .. والصوفيِّة» ساقط من «أ» .
الأمورِ الشرعيَّة التي لا يُعْقَلُ معناها بعِلَلٍ ما أَضْعَفَها ومَا أَوْهَاهَا.
وممَّا ذكره في كتاب له وَسَمَهُ بـ «الاحتياط» : أن يسجد عَقِبَ كلِّ صلاةٍ يصلِّيها سجدتَي السَّهو وإن لم يكن سَهَا فيها
(1)
.
وهذا ممَّا لا يجوزُ فِعْلُه بالإجماعِ، وفاعلُه منسوبٌ إلى الغلوِّ والابتداعِ.
وما حكاه عن صفيَّة بقولها: «فرأيته مختونًا» ، يناقضُ الأحاديثَ الأُخَرَ، وهو قوله:«لم يَرَ سَوْأتي أحدٌ» ، فكلُّ حديثٍ في هذا الباب يناقضُ الآخرَ، ولا يَثبتُ واحدٌ منها، ولو وُلِدَ مختونًا فليس هذا من خصائصِه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ كثيرًا من الناس يولَد غيرَ محتاجٍ إلى الختانِ.
قال: وذكر أبو القاسم النسَّابة الزّيديّ، أنَّ أباه القاضي أبا محمَّدٍ الحَسَنَ بنَ محمَّدِ بنِ الحَسَنِ الزيديّ ولد غير محتاج إلى الختان. قال: ولهذا لقب بـ «المطهَّر» ، قال: وقال فيما قرأته بخطه: خُلِق أبو محمَّد الحَسَن مطهَّرًا لم يختن، وتوفي كما خُلِقَ. وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن من ولد كذلك لا يختن، واستحسن بعضهم أن يمرَّ الموسى على موضع الختان من غير قطع، والعوامُّ يسمُّون هذا ختان القمر. يشيرون في ذلك إلى أنَّ النموَّ في خِلْقَة الإنسان يحصلُ في زيادةِ القمر
(2)
، ويحصل
(1)
انظر: الاحتياطات للحكيم الترمذي، ص 330 - 331 مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 21895 ب.
(2)
«يشيرون
…
زيادةِ القمر» ساقط من «أ» .
النقصانُ في الخِلْقَة عند نقصانِه، كما يوجد ذلك في الجَزْرِ والمَدِّ، فينسبونَ النقصانَ الذي حصلَ في القُلْفَة إلى نقصانِ القمرِ.
قال: وقد وَردَ في حديثٍ رواه سيف بنُ محمَّد ابنُ أختِ سفيانَ الثَّوريّ، عن هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«ابنُ صيَّاد وُلِد مسرورًا مختونًا»
(1)
. وسيفٌ مطعونٌ في حَديثهِ.
وقيل: إنَّ قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ الذي وَرَدَ عليه امْرُؤ القَيس وُلِدَ كذلك، ودخل عليه امْرُؤ القَيس الحمّامَ فرآه كذلك، فقال يهجوه:
إنِّي حَلَفْتُ يَمِيْنًا غَيْرَ كَاذِبَةٍ
…
لَأَنْتَ أَغْلَفُ إلّا مَا جَنَى الْقَمَرُ
(2)
يعيِّره أنه لم يختتنْ، وجعل ولادته كذلك نقصًا. وقيل إنَّ هذا البيتَ أحدُ الأسبابِ الباعثةِ لِقَيْصَرَ على أنْ سَمَّ امرأ القَيْس فمات.
وأنشد ابنُ الأعْرَابيّ فيمن وُلدَ بلا قُلْفَةٍ
(3)
:
فَذَاكَ نِكْسٌ لا يَبِضُّ حَجَرُهْ
…
مُخَرَّقُ العِرْضِ حَدِيدٌ مَنْظَرُهْ
فِي لَيْلِ كَانُون شَدِيدٍ خَصَرُهْ
…
عَضَّ بِأَطْرَافِ الزُّبَانَى قَمَرُهْ
(1)
أخرجه ابن عدي في الكامل: 3/ 127.
(2)
البيت لامرئ القيس في ديوانه، ص 280، وهو من شواهد اللسان: 9/ 291.
(3)
ذكر ابن حمدون هذه الأبيات في التذكرة عن ابن الأعرابي باختلاف في بعض الألفاظ: 5/ 125 ـ 126. يقول: هو أقلف إلا ما جنى القمر. ويقال: من ولد والقمر في العقرب فهو نحس. وقال الأصمعي: إذا عض أطراف الزبانى القمر: فهو أشد ما يكون من البرد.
يقول: هو أقْلَف، ليس بمختونٍ إلا ما قلَّصَ منه القمرُ، وشبَّه قُلْفتَه بالزُّبانى: وهي قَرْنَا العقرب، وكانت العرب لا تعتدُّ بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلةَ في الختانِ نفسِه، وتَفْخَرُ بهِ.
قال: وقد بعثَ اللهُ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم مِن صَمِيْمِ العَربِ، وخصَّه بصفاتِ الكمالِ من الخَلْق والنَّسبِ، فكيف يجوز أن يكونَ ما ذَكَرَهُ من كَوْنِه مختونًا مما يتميَّز به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ويخصَّصُ.
وقيل: إنَّ الختانَ من الكلماتِ التي ابتلى اللهُ بها خلِيْلَه صلى الله عليه وسلم فأتمهنَّ وأكملهنَّ
(1)
، وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل.
وقد عدَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر مما يُضاعَف ثوابُ المبتلَى به وأجْرُهُ، والأَلْيَقُ بحال النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُسْلَب هذه الفضيلةَ، وأن يُكرمَه الله بها كما أكرمَ خليلَهُ، فإنَّ خصائصَه أعظمُ من خصائصِ غيرِه من النبيّينَ وأعْلَى.
وخَتْن الملَك إيَّاه ـ كما رُوِّيناه ـ أجْدَرُ مِن أن يكونَ من خصائصِه وأوْلَى». هذا كلُّه كلامُ ابنِ العَدِيْمِ.
ويريد بختن الملك، ما رواه من طريق الخطيب، عن أبي بكرة، أن جبريل ختن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين طهَّر قلبه
(2)
.
(1)
انظر: تفسير الطبري: 2/ 8، وتفسير البغوي: 1/ 144.
(2)
أخرجه الخطيب في التاريخ: 1/ 347، والطبراني في الأوسط برقم (5817)، وأبو نعيم في الدلائل:1/ 193، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 3/ 412. قال الهيثمي في المجمع: 8/ 224: «فيه عبدالرحمن بن عيينة ومسلمة بن محارب ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات». وقال الصَّالحيّ في السيرة 1/ 420: «قيل إن جبريل ختنه، ولا يصحُّ سنده» .
وهو مع كونه موقوفًا على أبي بكرة، لا يصح إسناده، فإنَّ الخطيبَ قال فيه: أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن عثمان بن محمَّد البَجَلِيّ، أنبأنا جعفر بن محمَّد بن نصير، حدّثنا محمَّد بن عبد الله بن سليمان، حدّثنا عبد الرَّحمن بن عُيَيْنَة البصري، حدّثنا عليُّ بنُ محمَّدٍ المدائنيُّ، حدّثنا مَسْلمةُ بنُ مُحارِب بن سليم بن زيادٍ، عن أبيه، عن أبي بَكْرَةَ. وليس هذا الإسنادُ مما يُحتجُّ به.
وحديثُ شَقِّ الملَكِ قلْبَهُ صلى الله عليه وسلم، قد رُوِي من وجوهٍ متعدِّدةٍ مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء منها أنَّ جبريل ختنه، إلا في هذا الحديث، فهو شاذٌّ غريبٌ.
قال ابنُ العَدِيْمِ: «وقد جاء في بعض الرِّوايَاتِ: أن جدَّه
عبدَ المطَّلب خَتَنَهُ في اليومِ السَّابع»
(1)
.
(1)
رواه ابن عبدالبر في التمهيد: 23/ 140، وقال الصَّالحيّ في السيرة 1/ 420:«وسنده غير صحيح» . وانظر: زوائد تاريخ بغداد، للدكتور خلدون الأحدب: 1/ 348.
ثم ساق من طريق ابنِ عبد البَرِّ
(1)
: «حدّثنا أبُو عَمرو أَحْمَد بن محمَّد بن أَحْمَد قراءة مني عليه، أن محمَّد بن عيسى حدَّثه قال: حدّثنا يحيى بن أيوب بن زياد العلاف، حدّثنا محمَّد بن أبي السري العسقلاني، حدّثنا الوليد بن مُسْلِم، عن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، عن عطاء الخُرَاسَانيّ، عن عِكْرِمَة
(2)
عن ابن عبَّاس: أنَّ عبدَ المطَّلبِ ختنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يومَ سابعِه، وجعل له مَأْدُبَةً، وسمَّاه محمَّدًا.
قال يحيى بنُ أيُّوب: ما وجدنا هذا الحديثَ عند أحدٍ إلا عند ابنِ أبي السّريّ، وهو محمَّد بن المتوكِّل بن أبي السّري». والله أعلم.
(1)
انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 23/ 140.
(2)
«عن عكرمة» ساقط من «أ» .
الفصل الرابع عشر
في الحِكمة التي لأجْلِها يُعادُ بَنو آدمَ غُرْلًا
لما وعد اللهُ سبحانه ـ وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده ـ أنَّه يُعيدُ الخَلْقَ كما بَدَأَهُمْ أوَّلَ مرة، كان مِن صِدْق وَعْدِه أن يُعيدَه على الحالةِ التي بدأه عليها من تمام أعضائِه وكمالِها.
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
(1)
كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء/ 104].
وقال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف/ 29].
وأيضًا: فإنَّ الختانَ إنما شُرِع في الدنيا لتكميلِ الطهارةِ والتنزُّهِ من البول، وأهلُ الجنَّة لا يبولون ولا يتغوَّطُونَ، فليس هناك نجاسةٌ تصيب الغُرْلةَ فيحتاج إلى التحرُّز منها، والقُلْفَةُ لا تمنع لَذَّة الجماع ولا تعوقُه. هذا إن قُدِّر استمرارُهم على تلك الحالة (التي بُعِثُوا عليها)
(2)
، وإلَّا فلا يلزمُ من كَوْنِهمْ يُبعثون كذلك أن يستمرُّوا على تلك الحالةِ، فإنهم يُبعَثُونَ حُفَاةً عُراةً بُهْمًا، ثم يُكْسَوْنَ، ويُمَدُّ خَلْقُهم، ويُزَاد فيه بعد ذلك،
(1)
في «أ، د» : «للكتاب» وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. انظر: زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 395.
(2)
ما بين القوسين ساقط من «أ، ج» .
يُزاد في خَلْق أهل الجنة والنار وإلا فوقت قيامِهم من القبور يكونونَ على صورتِهم التي كانوا عليها في الدُّنيا، وعلى صِفاتِهم وهيئاتِهم وأحوالِهم، فيُبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه، ثم يُنْشِئُهم الله سبحانه كما يشاء.
وهل تبقى تلك الغُرْلة التي كملت خلقهم في القبور أو تزول؟
يمكن هذا وهذا، ولا يُعلَمُ إلا بخبرٍ يجب المصير إليه، والله
ــ سبحانه وتعالى ــ أعلم.
الباب العاشر
في حُكمِ ثَقبِ أُذنِ الصَّبيِّ والبنتِ
(1)
أمَّا أُذُن البنتِ، فيجوز ثَقْبُها للزِّينة. نصَّ عليه الإمام أَحْمَد، ونصَّ على كراهته في حقِّ الصبيِّ
(2)
.
والفرق بينهما: أنَّ الأنثَى محتاجةٌ
(3)
للحِلْيَة، فثَقْبُ الأذُن مصلحةٌ في حقِّها، بخلاف الصبيِّ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعَائِشَةَ في حديث أمِّ زَرْعِ:«كنتُ لكِ كأَبي زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ»
(4)
. مع قولها: أَنَاسَ من حُلِيٍّ أُذنيَّ، أي ملأها من الحلي، حتى صار ينوس فيها، أي: يتحرك ويجول.
وفي «الصحيحين» لما حرَّض النبيّ صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة، جعلت المرأة تلقي خُرْصَهَا
…
الحديث
(5)
. و «الخُرْصُ» : هو الحَلْقة
(1)
في «أ، ج» : الأنثى. وسقطت كلمة (حكم) من العنوان في «ج» .
(2)
وانظر: المستوعب للسامري: 1/ 267، والآداب الشرعية لابن مفلح: 3/ 356، وجامع أحكام الصغار للأسروشني: 1/ 215.
(3)
في «ج» : تحتاجه.
(4)
قطعة من حديث أخرجه البخاري في النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل: 9/ 345، ومسلم في فضائل الصحابة، باب ذكر حديث أم زرع: 4/ 1896، برقم (2448).
(5)
عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى يومَ الفطرِ ركعتَينِ لم يصلِّ قبْلها ولا بعدَها ثمَّ أَتى النِّساءَ ومعه بلال فأمَرهُنَّ بالصَّدقةِ فجعلن يُلقينَ، تُلْقِي المرأةُ خُرْصَها وسِخَابَها.
أخرجه البخاري في العيدين، باب الخطبة بعد العيد: 2/ 453، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها: 2/ 602 برقم (884).
الموضوعة في الأذن.
ويكفي في جوازه علْمُ اللهِ ورسولِهِ
(1)
بفعل الناس له، وإقرارُهم على ذلك، فلو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن أو السنَّة.
فإن قيل: فقد أخبر الله ـ سبحانه ـ عن عدوه إبليس، أنه قال:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء/ 119] أي يقطعونها. وهذا يدلُّ على أنَّ قَطْعَ الأُذُنِ وشقَّهَا وثَقْبَها من أمر الشيطان، فإنَّ «البَتْك»: هو القَطْعُ، وثَقْبُ الأذنِ قطعٌ لها، فهذا مُلْحَقٌ بقَطْعِ أذُنِ الأنعامِ.
قيل: هذا من أفسد القياس، فإنَّ الذي أمرهم به الشيطانُ أنَّهم كانوا إذا وَلَدَتْ لهم الناقةُ خمسةَ أبْطُن فكان البطنُ السَّادسُ ذكرًا، شقُّوا أذُنَ الناقةِ، وحرَّموا ركوبَها والانتفاعَ بها، ولم تُطْرَدْ عن ماء ولا عن مَرْعَى، وقالوا: هذه بَحِيرَةٌ، فَشرَعَ لهم الشيطانُ في ذلك شريعةً من عنده.
فأين هذا من نَخْسِ
(2)
أذُنِ الصَّبِيَّة ليوضع فيها الحِلْيةُ التي أباحَ اللهُ لها أن تتحلَّى بها؟
وأما ثَقْبُ أذُنِ الصَّبِيِّ
(1)
، فلا مصلحةَ له فيه، وهو قطعُ عضوٍ من أعضائهِ، لا لمصلحةٍ دينيةٍ ولا دنيويةٍ، فلا يجوزُ.
ومن أعجب ما في هذا الباب، ما قال الخطيبُ في «تاريخه»: أخبرنا الحَسَنُ بنُ عليّ الجَوْهَرِيُّ، حدَّثنا محمَّد بنُ العبَّاسِ الخزَّازُ، حدّثنا أبُو عَمرو عثمانُ بنُ جعفر المعروف بابن اللبَّان
(2)
، حدّثنا أبو الحَسَنِ بنُ عليّ بنِ إسْحَاقَ بنِ راهُويَه، قال: ولد أبي من بطن أمِّه مثقوبَ الأذنين، قال: فمضى جدِّي رَاهُويَه إلى الفضل بن موسى السِّينانيّ، فسأله عن ذلك، وقال: ولد لي ولدٌ خرجَ من بطن أُمِّه مثقوبَ الأذنين. فقال: يكونُ ابنُك رأسًا إمَّا في الخير، وإمَّا في الشرِّ
(3)
.
فكأنَّ الفضل بنَ موسى ـ والله أعلم ـ تفرَّسَ فيه، أنَّه لما تفرَّد عن المولُودِيْنَ كلِّهم بهذه الخاصة أن يَنْفَرِدَ عنهم بالرئاسة في الدِّين أو الدُّنيا.
وقد كان رحمه الله رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنَّة، والجلالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكَسْرِ الجَهْمِيَّة وأهل البِدَعِ ببلاد خُرَاسَان، وهو الذي نشر السنَّة في بلاد خراسان، وعنه انتشرت هناك، وقد كان له مقاماتٌ محمودة عند
(1)
«ليوضع فيها الحلية
…
أذن الصّبي» ساقط من «ج» .
(2)
في «ج» : الكبار.
(3)
تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 347.
السلطان، يُظْفِرُه الله فيها بأعدائه ويخزيهم على يديه حتى تعجَّب منه السلطان والحاضرون، حتى قال محمَّد بن أَسْلَمَ الطُّوسيُّ: لو كان الثَوْري حيًّا لاحتاج إلى إسْحَاق. فأُخبر بذلك أَحْمَد بنُ سعيد الرّباطيّ فقال: والله لو كان الثَوْري، وابن عُيَيْنَة، والحمَّادان في الحياة، لاحتاجوا إلى إسْحَاق. فأُخبر بذلك محمَّد بن يحيى الصفَّار فقال: والله، لو كان الحَسَنُ البصريُّ حيًّا لاحتاج إلى إسْحَاق في أشياء كثيرة
(1)
.
وكان الإمام أَحْمَد يسمِّيه أميرَ المؤمنين. وسنذكر هذا وأمثاله في كتاب نُفْرِدُه لمناقبه إن شاء الله تعالى.
(2)
ونذكر حكاية عجيبة يُستدلُّ بها على أنه كان رأس أهل زمانه: قال الحاكم أبو عبد الله في «تاريخ نيسابور» أخبرني أبو محمَّد بن زياد قال: سمعت أبا العبَّاس الأزْهَرِيَّ قال: قال سمعت عليَّ بن سلَمَةَ يقول: كان إسْحَاق عند عبد الله بن طاهر وعنده إبراهيم بن أبي صالح، فسأل عبدُالله بن طاهر إسْحَاقَ عن مسألة. فقال إسْحَاق: السنَّة فيها كذا وكذا، وأما النُّعمان وأصحابه فيقولون بخلاف هذا.
فقال إبراهيم: لم يقل النعمان بخلاف هذا.
(1)
تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 349. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 371 وما بعدها.
(2)
ومن هنا جعل الشيخ بكر أبوزيد رحمه الله «مناقب إسحاق بن راهويه» ضمن كتب المصنف. انظر كتابه: ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره وموارده، ص 305.
فقال إسْحَاق: حفظتُه من كتاب جدِّك، وأنا وهو في كُتَّاب واحدٍ.
فقال إبراهيم للأمير: أصلحك الله، كذبَ إسْحَاقُ
(1)
على جَدِّي.
فقال إسْحَاق: يبعثُ الأميرُ إلى جزء كذا وكذا من «الجامع» فَلْيُحْضِرْهُ، فأُتي بالكتاب، فجعل الأمير يقلِّب الكتاب.
فقال إسْحَاق: عُدَّ مِنْ أوَّلِ الكتابِ إحدى وعشرين ورقةً، ثمَّ عُدَّ تسعةَ أسطرٍ. ففعلَ، فإذا المسألةُ على ما قال إسْحَاقُ.
فقال عبد الله بن طاهر: ليس العَجَبُ مِنْ حفظك إنَّما العجبُ بمثل هذه المشاهدة.
فقال إسْحَاق: ليومٍ مثل هذا، لكي يخزي الله على يدي عدوًا للسنَّة مثل هذا
(2)
.
وقال له عبد الله بن طاهر: قيل لي إنك تحفظ مائة ألف حديث! فقال له: مائة ألف، لا أدري ما هو، ولكني ما سمعتُ شيئًا قط إلا حفظتُه، ولا حفظتُ شيئًا قط فنسيته
(3)
.
والمقصود: صحَّة فراسةِ الفضل بن موسى فيه وأنَّه يكون رأسًا في الخير. والله أعلم.
(1)
ساقطة من «أ» .
(2)
انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 353 ـ 354.
(3)
تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 354.
الباب الحادي عشر
في حُكمِ بولِ الغُلام والجارِية قَبلَ أن يأكُلا الطَّعام
(1)
ثبت في «الصَّحَيحَينِ» و «السُّنَنِ» و «المَسَانِيدِ» عن أمِّ قَيْسِ بنتِ مِحْصَنٍ، أنَّها أتتْ بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكُلِ الطَّعَامَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فبَالَ على ثَوبهِ، فدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ عَليهِ، ولم يَغْسِلْهُ
(2)
.
وعن عليّ بنِ أَبي طالبٍ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«بَوْلُ الغُلامِ الرَّضيعِ يُنْضَحُ، وبَولُ الجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . قال قَتادة: هذا ما لم يَطْعَما، فإذا طَعِما غُسِلَا جميعًا
(3)
.
(1)
«الطعام» ساقطة من «أ، ب» . وانظر كلام المصنف عن هذه المسألة في: أعلام الموقعين: 2/ 59 ـ 60، 352 ـ 353، و 4/ 243.
(2)
أخرجه البخاري في الوضوء، باب بول الصبيان: 1/ 326، ومسلم في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع: 1/ 238 برقم (287). وأخرجه مالك في الطهارة برقم (177)، وأبو داود (374)، والترمذي في الطهارة (71)، والنسائي: 1/ 57، وابن ماجه (524)، والإمام أحمد: 6/ 355، وفي طبعة الرسالة: 44/ 548، والدارمي (741)، والبيهقي: 2/ 414، وابن خزيمة (285)، وابن حبان (1373)، والحاكم: 1/ 165، وابن المنذر في الأوسط (676).
(3)
«فإذا طعما» ساقطة من «ج» .
رواه الإمام أَحْمَد، والتّرْمذِيّ وقال: حديث حسنٌ، وصحَّحهُ الحاكمُ وقال: هو على شرط الشَّيخين
(1)
.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصبيٍّ يُحنِّكُه، فبالَ عليه، فأتبعه الماءَ. رواه البُخَاريّ ومُسْلِم، وزاد مُسلم
(2)
: «ولم يغسله»
(3)
.
وعن أمِّ كُرْزٍ الخُزَاعِيَّةِ قالت: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بغلامٍ فبالَ عليه، فأمر به
(1)
روه الإمام أحمد: 1/ 76، وفي طبعة الرسالة: 2/ 7، وأبو داود في الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب: 2/ 608، والترمذي في الصلاة، باب ما ذكر في نضح الغلام الرضيع: 2/ 509، وابن ماجة في الطهارة، باب بول الصبي الذي لم يطعم: 1/ 174 برقم (525)، وابن خزيمة في صحيحه برقم (284) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي: 1/ 165، وابن حبان برقم (1375)، والدارقطني: 1/ 129، وابن المنذر في الأوسط: 2/ 144 وقال: «وقد تكلم فيه بعض أهل العلم» . وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 38: «إسناده صحيح؛ إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني، وقال البزار: تفرَّد برفعه معاذ بن هشام، عن أبيه، وقد روي هذا الفعل من حديث جماعة من الصحابة، وأحسنها إسنادًا حديث علي» .
(2)
ساقطة من «ج» .
(3)
أخرجه البخاري في الوضوء، باب بول الصبيان: 1/ 325، ومسلم في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع: 1/ 237 برقم (286).
فنُضِحَ، وأُتي بجاريةٍ فبالتْ عليه، فأمَرَ به فغُسِلَ. رواه الإمام أَحْمَد
(1)
.
وفي «سنن ابن ماجه» من حديث عَمْرو بن شُعَيْب
(2)
، عن أمِّ كُرْزٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«بَوْلُ الغُلام يُنْضَحُ، وبَولُ الجَارِيَة يُغسَل»
(3)
.
وعن أمِّ الفَضْلِ، لُبابةَ بنتِ الحارثِ قالت: بالَ الحُسَيْن بنُ عليٍّ في حِجْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ الله أعطني ثوبَك والْبَسْ ثوبًا غيره حتى أَغْسِلَهُ. فقال: «إنَّما يُنضَحُ من بَوْلِ الذَّكَرِ، ويُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنْثَى» . رواه الإمام أَحْمَد، وأبو داود، وقال الحاكم: هو صحيح
(4)
.
(1)
في المسند: 6/ 422 و 464، وفي طبعة الرسالة: 45/ 369 و 604، والطبراني في الأوسط برقم (828). قال الحافظ في التلخيص الحبير 1/ 38:«وفيه انقطاع، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه، عن أبيه، عن جده كالجادة. أخرجه الطبراني في الأوسط وفي الباب عن أم سلمة رواه الطبراني وإسناده ضعيف، فيه إسماعيل بن مسلم المكي، لكن رواه أبو داود من طريق الحسن، عن أمه: أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية. وسنده صحيح، ورواه البيهقي من وجه آخر عنها موقوفًا أيضًا وصححه» . وانظر: مجمع الزوائد: 1/ 285.
(2)
في «ب، ج، د» : عن أبيه عن جدِّه. والصواب بدونها كما في «أ» وفي سنن ابن ماجه.
(3)
أخرجه ابن ماجة في الطهارة، باب بول الصبي الذي لم يطعم: 1/ 175 برقم (527)، وإسناده منقطع، لأن عمرو بن شعيب لم يسمع من أم كرز، ولكن له شواهد.
(4)
روه الإمام أحمد: 6/ 339، وفي طبعة الرسالة: 44/ 446، وأبو داود في الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب: 2/ 604، وابن خزيمة في صحيحه برقم (284) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي: 1/ 165: 1/ 174 برقم (522)، وأبو يعلى (7074)، والبيهقي في السنن: 2/ 414، والبغوي في شرح السنة (295).
وفي «صحيح الحاكم»
(1)
من حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْدِيّ، حدّثنا يحيى بنُ الوليدِ، حدّثني مُحِلّ
(2)
بنُ خليفةَ، حدّثني أبو السَّمْح، قال: كنت خادمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجيء بالحَسَنِ والحُسَيْن، فبالا على صدره، فأرادوا أن يغسلوه، فقال:«رُشُّوهُ رشًّا، فإنه يُغْسَل بول الجَارِيَة ويُرَشُّ بَولُ الغُلامِ» . قال الحاكم: هو صحيح. ورواه أهل السنن
(3)
.
(1)
هو المستدرك على الصحيحين، وفي إطلاق (الصحيح) عليه نوع من التجاوز. قال ابن الصلاح في علوم الحديث ص (22): واعتنى الحاكم أبو عبدالله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتاب سماه «المستدرك» أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين، مما رواه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرط البخاري وحده، أو على شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما. وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به. فالأوْلى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته، ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن، يحتج به ويعمل به، إلا إن ظهر فيه علة توجب ضعفه». وانظر ما كتبه المصنف في الفروسية ص 213 ـ 214
(2)
في (ب، ج): مجلى. و (محلّ) بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، كما في تقريب التهذيب.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 166 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو داود في الموضع السابق: 2/ 606 - 607، والنسائي في الطهارة، باب بول الجارية: 1/ 158 برقم (304)، وابن ماجه في الموضع السابق: 1/ 174، وصححه ابن خزيمة برقم (283)، ورواه الدارقطني في السنن: 1/ 13.
وذهب إلى القولِ بهذه الأحاديثِ جمهورُ أهلِ العلمِ من أهل الحديثِ والفقهِ، حتى ذهب داود إلى طهارةِ بولِ الغُلامِ. قال: لأنّ النّصَّ إنَّما ورد بنَضْحِه ورشِّه دون غَسله، والنَّضْحُ والرشُّ لا يُزيلُه
(1)
.
وقال فقهاء العراق: لا يجزئُ فيه إلا الغَسْلُ فيهما جميعاً. هذا قولُ النَّخْعِيِّ، والثَوْريِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابهِ؛ لعموم الأحاديث الواردة بغَسْل البول، وقياسًا على سائر النجاسات، وقياسًا لبول الغُلام على بول الجَارِيَة
(2)
.
والسنَّة قد فرقت بين البَوْلَين صريحًا، فلا يجوز التَّسويةُ بينَ ما صرَّحَتْ به السُّنَّةُ بالفَرْق بيْنَهُما.
وقالت طائفة؛ منهم الأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ ـ في رواية الوليد بن مُسْلِم عنه ـ: يُنضح بولُ الغُلام والجَارِيَة دفعًا للمشقَّة؛ لعموم الابتلاء بالتَّربية
(1)
انظر: المحلى لابن حزم: 1/ 100 - 102، والأوسط لابن المنذر: 2/ 142، ومختصر اختلاف العلماء للجصاص: 1/ 126 ـ 128.
(2)
انظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 142 ـ 145، والمغني لابن قدامة: 2/ 495. وهو قول الإمام مالك في المدونة: 1/ 4.
والحمل لهما
(1)
.
وهذا القول يُقَابِل قَوْلَ
(2)
مَنْ قال: يغسلان. والتفريق هو الصواب الذي دلَّتْ عليه السنَّةُ الصحيحةُ الصريحةُ
(3)
.
قال أبو البركات ابن تيميَّة: «والتفريق بين البَوْلين إجماع الصحابة.
(1)
انظر: المحلى: 1/ 102، ومختصر اختلاف العلماء: 1/ 126.
(2)
ساقطة من (ب، ج).
(3)
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 2/ 198: «اختلف العلماء في كيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح المشهور المختار: أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله كسائر النجاسات. والثاني: أنه يكفي النضح فيهما. والثالث: لا يكفي النضح فيهما. .. وممن قال بالفرق: عليُّ بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك رضي الله عنهما، وروي عن أبي حنيفة. وممن قال بوجوب غسلهما: أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما، وأهل الكوفة.
واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري، قال الخطَّابي وغيره: وليس تجويز من جوَّز النضح في الصبي من أجل أنَّ بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، فهذا هو الصواب. وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال ثم القاضي عياض عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر فينضح، فحكاية باطلة قطعًا». وانظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 144، وفتح العزيز للرافعي: 1/ 64 - 66.
رواه أبو داود عن عليّ بن أبي طالب. ورواه سعيد بن منصور عن أم سلَمَةَ، وقال إسْحَاق بن راهُويه: مضتِ السنّةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُرَشَّ بولُ الصبيِّ الذي لم يَطْعَمِ الطعامَ، ويُغْسَلَ بَوْلُ الجَارِيَة طعمت أو لم تطعم. قال: وعلى ذلك كان أهل العلم من الصحابة ومَنْ بعدهم. قال: ولم يُسمع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عمَّن بعده إلى زمان التَّابعِين أنَّ أحدًا سوَّى بين بول الغُلامَ والجَارِية». انتهى كلامه
(1)
.
والقياس في مقابلة السنَّة مردودٌ.
وقد فُرِّق بين الغُلامِ والجَارِيَة في المعنى بعدَّةِ فُرُوقٍ:
(أحدها): أنّ بول الغُلام يتطاير وينتشر هاهنا وهاهنا، فيشقُّ غَسْلُه، وبولُ الجارِيةِ يقع في موضعٍ واحد فلا يشقُّ غَسْله.
(الثاني): أنّ بَولَ الجَارِيَة أنتنُ من بول الغُلام، لأنَّ حرارةَ الذَّكَرِ أَقوى، وهي تؤثِّر في إنضاج البول وتخفيفِ رائحتهِ.
(الثالث): أنَّ حَمْلَ الغُلام أكثر من حمْل الجَارِيَة لتعلُّق القلوب به، كما تدلُّ عليه المشاهدة.
فإن صحَّت هذه الفروق، وإلا فالمعوَّل على تفريق السنَّة.
قال الأصحابُ وغيرهم: النَّضْحُ: أن يغرقه بالماء وإن لم يزل عنه
(2)
.
(1)
لم أجده في المطبوع من كتبه، ولعله في «الغاية شرح الهداية» فقد نقل عنه فيما سبق، وهو غير مطبوع.
(2)
انظر: المغني: 2/ 495، ومطالب أولي النهى: 1/ 226، والمطلع على المقنع، ص 36.
وليس هذا بشرطٍ، بل النَّضْحُ: الرشُّ، كما صرَّح به في اللفظ الآخر، بحيث يُكاثَرُ البول بالماء.
ولا يَبطلُ حكم النَّضْح بتَلْعِيقِ
(1)
العسل والشراب والتحنيك ونحوه، لئلا تتعطَّل الرُّخْصَة؛ فإنَّه لا يخلو من ذلك مولودٌ غالبًا، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان مِن عادته تحنيك الأطفالِ بالتمر عند ولادتهم، وإنمَّا يزول حُكْمُ النَّضْحِ إذا أكلَ الطعامَ وأرادهُ واشتهاهُ تغذِّيًا به. والله أعلم.
(1)
في «أ، ب، د» : بتعليق.
الباب الثاني عشر
في حُكم رِيقهِ ولُعَابهِ
هذه المسألة ممَّا تعمُّ به البَلْوَى، وقد عَلِم الشارعُ أنّ الطفل يَقِيءُ كثيرًا، ولا يمكن غَسْلُ فَمِهِ، ولا يزال ريقُهُ ولعابُه يسيلُ على من يربّيه ويحملُه، ولم يأمرِ الشارعُ بغَسْل الثياب من ذلك، ولا مَنَعَ من الصلاة فيها، ولا أَمرَ بالتحرُّز من رِيْق الطفل
(1)
.
فقالت طائفة من الفقهاء: هذا من النجاسة التي يُعفَى عنها للمشقَّة والحاجةِ، كطِيْنِ الشَّوارع، والنجاسةِ بعد الاسْتِجْمَار، ونجاسةِ أسفل الخُفِّ والحذاء بعد دَلْكِهِمَا بالأرض.
وقال شيخنا وغيره من الأصحاب
(2)
: بل رِيْقُ الطفل يطهِّر فمَه
(1)
قال ابن قدامة في المغني 1/ 113: «ولعاب الصبيان طاهر، وقد روى أبو هريرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملًا الحسين بن عليّ على عاتقه، ولعابه يسيل عليه. وحمل أبو بكر الحسن بن علي على عاتقه ولعابه يسيل، وعلي إلى جانبه، وجعل أبو بكر يقول:
وَا بأبي شِبْهَ النبيّ
…
لا شبيهًا بعليّ
وعلي يضحك».
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 21/ 474: «وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: المنع كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. والثاني: الجواز كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك وأحمد. والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة كما في طهارة فم الهرة بريقها وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو ذلك» . وانظر: الاختيارات الفقهية للبعلي، ص (56).
للحاجة، كما كان ريقُ الهرَّة مطهِّرًا لفمها، وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها ليستْ بِنَجَسٍ، مع علمه بأكلها الفأر وغيره. وقد فَهِمَ من ذلك أبو قَتَادَةَ طهارةَ فمِها وريقِها، وكذلك أصْغَى لها الإناءَ حتى شربتْ
(1)
.
وأَخبرت عَائِشَةُ رضي الله عنها، أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصْغِي إلى الهرة ماء حتى تشربَ
(2)
، ثم يتوضأُ بفَضْلِها. واحتمالُ ورودها على ماء كثير فوق القُلَّتَيْن في المدينة في غاية البُعْد، حتى ولو كانت بين مياهٍ كثيرة لم يكن هذا الاحتمال مُزيلًا لما عُلم من نجاسة فمِها لولا تطهيرُ الرِّيق له، فالريقُ مطهِّر فمَ الهرة وفمَ الطفل للحاجة، وهو أولى بالتطهير مِنَ
(1)
أخرج الإمام مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للصلاة: 1/ 24: عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك ـ وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري ـ أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه! فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوَّافين عليكم أو الطوَّافات» . وأخرجه أبو داود برقم (38) والترمذي (69) والنسائي (67) وابن ماجه (386).
(2)
من أول حديث عائشة إلى هنا ساقط من «أ» . والحديث أخرجه أبو داود في الطهارة، الموضع السابق.
الحَجَرِ في محلِّ الاسْتِجْمَار، ومِنَ التراب لأسفلِ الخُفِّ والحذاءِ والرِّجْل الحافِيَة على أحد القولين في مذهب مالك وأَحْمَد، وأولى بالتَّطهير من الشمس والرِّيح، وأَوْلى بالتَّطهير من الخَلِّ
(1)
وغيره من المائعات عند من يقول بذلك، وأَوْلى بالتَّطهير من مَسْحِ السَّيفِ والمرآة والسِّكّينِ ونحوها من الأجسام الصَّقِيلة بالخِرْقة
(2)
ونحوها، كما كان الصحابة يمسحون سيوفهم، ولا يغسلونها بالماء ويصلُّون فيها، ولو غُسِلت السيوفُ لصَدِئَتْ وذهب نَفْعُها
(3)
. وقد نظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سَيْفَي ابنَي عَفْراءَ، فاستدلَّ بالأثر الذي فيهما على اشتراكهما في قتل أبي جهل ـ لعنه الله تعالى ـ ولم يأمُرْهُمَا بغَسْلِ سيفَيهِما، وقد عَلِم أنهما يصلِّيان فيهما
(4)
. والله أعلم.
(1)
ساقط من «أ» .
(2)
ساقط من «أ» .
(3)
وانظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 167، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر للشيخ داماد: 1/ 59.
(4)
أخرجه البخاري في فرض الخُمس 6/ 246، ومسلم في الجهاد برقم (1752).
الباب الثالث عشر
في جوازِ حَمْل الأطفالِ في الصَّلاةِ وإنْ لم يُعلم حالُ ثيابهم
ثبت في «الصحيحين» عن أبي قَتَادَةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي، وهو حاملٌ أمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهي لأبي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، فإذا قام حمَلَهَا، وإذا سجدَ وضعَها
(1)
.
ولمُسْلِمٍ: حملها على عُنُقِهِ
(2)
.
ولأبي داود: بينما نحن ننتظرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الظُّهر أو العصر، وقد دعَاه بلالٌ إلى الصَّلاة
(3)
، إذْ خرج إلينا، وأمامةُ بنتُ أبي العَاصِ، بنتُ بنتِه
(4)
، على عُنُقِهِ، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مُصَلَّاهُ، وقُمْنا خَلْفَهُ، وهي في مَكانِهَا الذي هي فيه، فكبَّر
(5)
، فكبَّرْنَا، حتى إذا أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة: 1/ 590، ومسلم في المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة: 1/ 385 برقم (534).
(2)
في الموضع السابق نفسه.
(3)
في (أ، ج): للصلاة.
(4)
في (ب، ج): بنت زينب.
(5)
فكبر. ساقطة من «ب» .
أنْ يركعَ أخذَها فوضَعَها، ثمَّ ركعَ وسجَدَ حتى إذا فرغَ من سُجودِهِ ثمَّ قامَ، أخذَها فردَّها في مكانها، فما زال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصنعُ بها ذلك في كلِّ رَكعةٍ، حتى فرغَ من صلاتِه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وهذا صريحٌ أنه كان في الفريضة، وفيه ردٌّ على أهل الوَسْوَاسِ، وفيه أنَّ العمل المتفرِّقَ في الصلاة لا يُبْطِلُها إذا كان للحاجة، وفيه الرحمةُ بالأطفال، وفيه تعليمُ التَّواضُعِ ومكارمِ الأخلاقِ، وفيه أنَّ مسَّ الصغيرةِ
(2)
لا ينقضُ الوضوءَ
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في الصلاة، باب في العمل في الصلاة: 4/ 404 ـ 405.
(2)
في «أ، ب» : الصغير.
(3)
انظر: المغني لابن قدامة: 1/ 112 - 113، وفتح الباري لابن حجر:
1/ 590 - 591.
الباب الرابع عشر
في استحبابِ تَقبيلِ الأَطفالِ
في «الصحيحين» من حديث أبي هُرَيْرَةَ قال: قبَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بنَ عليٍّ، وعنده الأقرعُ بنُ حابِسٍ التَّمِيمِيُّ جالسٌ، فقال الأقرع: إنَّ لي عَشْرةً من الولد ما قبَّلت أحدًا منهم، فنظر إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«مَنْ لا يَرْحَم لا يُرْحَم»
(1)
.
وفي «الصحيحين» أيضًا: من حديث عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: قَدِمَ ناسٌ مِنَ الأعرابِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تقبِّلون صبيانَكُمْ؟ فقالوا: نعم، فقالوا: والله لكنَّا ما نقبِّلُ، فقال:«أوَ أمْلِكُ إنْ كان اللهُ نَزَعَ من قُلوبِكُمُ الرَّحمةَ»
(2)
.
وفي «المسند» من حديث أم سلَمَةَ قالتْ: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يومًا، إذْ قالتِ الخادمُ: إنَّ فاطمةَ وعليًّا رضي الله عنهما بالسُّدَّةِ، قالت: فقال لي: «قُومِي فَتَنَحَّي عَن أهْلِ بَيتي» ، قالت: فقمتُ فتنحَّيْت
(1)
أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته: 10/ 426، ومسلم في الفضائل، باب رحمته- صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه: 4/ 1809 برقم (2318).
(2)
أخرجه البخاري في الموضع السابق: 10/ 426، ومسلم في الموضع نفسه: 4/ 1808 برقم (2317) واللفظ له.
في البيت قريبًا، فدخل عليٌّ وفاطمة، ومعهما الحَسَنُ والحُسَيْن، وهما صَبِيَّان صغيران، فأخذ الصبيَّيْن فوضعهما في حجره فقبَّلهما، واعتنقَ عليًّا بإحدى يديه، وفاطمةَ باليد الأُخرى، فقبَّل فاطمةَ، وقبَّل عليًّا، وأغدفَ عليهما
(1)
خمَيصَةً سوداءَ، وقال:«اللهمَّ إليكَ لا إلى النَّار، أنا وأهلَ بيتي» . قالت: فقلت: وأنا يا رسولَ الله فقال: «وأنتِ»
(2)
. وفي طريق أخرى نحوه، وقال:«إنَّكِ إلى خَيْرٍ»
(3)
.
(1)
في «أ» : وأغدق عليهم. ومعنى أغدف: أسبل عليهما، والخميصة: كساء أسود معلّم الطرفين ويكون من خزٍّ أو صوف.
(2)
أخرجه الإمام أحمد: 6/ 296 وفي طبعة الرسالة: 44/ 161 - 162، وفي فضائل الصحابة برقم (994 ـ 496) وابن حبان برقم (6936)، وابن أبي شيبة: 12/ 73، وفي طبعة القبلة: 17/ 118 - 120.
(3)
في «ب» : إلى حين. والحديث في المسند: 6/ 292 وفي طبعة الرسالة: 44/ 118 - 119 بإسناد صحيح. وانظر كلام المصنف أيضَا في: إغاثة اللهفان: 1/ 152 و 157.
الباب الخامس عشر
في وجوبِ تأديبِ الأَولادِ، وتَعليمِهم، والعَدْلِ بَينَهم
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم/ 6]. قال عليٌّ رضي الله عنه: علِّموهم وأدِّبُوهُمْ
(1)
.
وقال الحَسَن: مُرُوهُمْ بطاعة الله وعلِّموهم الخير
(2)
.
وفي «المسند» و «سنن أبي داود» من حديث عَمْرو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاةِ لسبعٍ، واضْرِبُوهُمْ عليها لعَشْرٍ، وفرِّقُوا بينَهم في المضَاجِعِ»
(3)
.
ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمْرُهم بها، وضَرْبُهم عليها لعشر،
(1)
أخرجه الطبري: 23/ 491، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 144، والبغوي في التفسير: 8/ 169، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص (2).
(2)
أخرجه الطبري: 23/ 491 - 492، وعبدالرزاق: 3/ 49، والبغوي: 8/ 169، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 144.
(3)
أخرجه الإمام أحمد: 2/ 180، وفي طبعة الرسالة: 11/ 284 - 285 وإسناده حسن، وأخرجه أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة: 1/ 270 (مختصر السنن)، والترمذي مختصرًا في الصلاة، باب متى يؤمر الصبيّ: 2/ 245 وقال: «حديث حسن صحيح» .
والتَّفريقُ بينهم في المضَاجعِ.
وقد روى الحاكم
(1)
عن أبي النَّضر الفقيه، حدّثنا محمَّد بن محمويه
(2)
، حدّثنا أبي، حدّثنا النضر بن محمَّد، عن الثَوْري، عن إبراهيم بن مُهاجر، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«افْتَحُوا على صِبْيانِكم أوَّلَ كلمةٍ بلا إله إلا الله، ولَقِّنُوهُمْ عند الموت: لا إله إلا الله»
(3)
.
وفي «تاريخ البُخَاريّ» من رواية بِشْر بن يوسفَ، عن عامرِ بنِ أبي عامرٍ، سمع أيُّوبَ بنَ موسى القرشيّ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما نَحَلَ والدٌ ولدًا أفضلَ من أدَبٍ حَسَنٍ» .
قال البُخَاريّ: ولم يصحَّ سماعُ جدِّه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
في «أ» : الخلاّل. وهو تصحيف.
(2)
في (ب، ج): حمويه.
(3)
أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» ـ كما في جمع الجوامع للسيوطي: 1/ 126، والبيهقي في شعب الإيمان: 6/ 397، وفي الطبعة الهندية: 15/ 145 وقال: «متن غريب لم نكتبه إلا بهذا الإسناد» ، ورواه الديلمي في الفردوس: 1/ 71 برقم (207) وذكره الفتَّني في تذكرة الموضوعات، ص 210 وقال: موضوع، فيه مجهولان ومضعّف. وانظر: اللآلئ المصنوعة: 2/ 416، وتنزيه الشريعة المرفوعة: 2/ 365.
(4)
انظر: التاريخ الكبير للبخاري: 1/ 422. وأخرجه أيضًا: الترمذي في البر والصلة، باب أدب الولد: 4/ 338 وقال: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عامر ابن أبي عامر الخزاز، وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاصي، وهذا عندي حديث مرسل»، وأخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند: 4/ 77 وفي طبعة الرسالة: 27/ 265 ورواه البيهقي: 2/ 18، وفي شعب الإيمان: 4/ 310، و 15/ 150 ونقل قول البخاري فيه، ورواه الديلمي في الفردوس: 1/ 71، وابن حبان في المجروحين: 2/ 177، وصححه الحاكم: 4/ 263 فتعقبه الذهبي فقال: «بل مرسل ضعيف». وانظر: مجمع الزوائد:9/ 54.
وفي «معجم الطّبَرانيّ» من حديث سماك عن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يُؤَدِّبَ أحدُكُم وَلَدَهُ خيرٌ له مِنْ أنْ يتصدَّقَ كلَّ يومٍ بنصفِ صاعٍ عَلَى المسَاكِيْنِ»
(1)
.
وذكر البَيْهَقِيُّ من حديث محمَّد بن الفضل بن عطيةَ ـ وهو ضعيف ـ عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: قالوا: يا رسولَ الله! قد عَلِمْنَا ما
(1)
المعجم الكبير للطبراني: 2/ 246 برقم (2032)، وأخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في أدب الولد: 4/ 338، وقال:«هذا حديث غريب وناصح هو أبو العلاء كوفي ليس عند أهل الحديث بالقوي ولا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وناصح شيخ آخر بصري يروي عن عمار بن أبي عمار وغيره، هو أثبت من هذا» ، وأخرج عبدالله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند: 5/ 96، وفي طبعة الرسالة: 34/ 459، وقال: هذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث، وأملاه علىَّ في النوادر، والسهمي في تاريخ جرجان، ص 354، وصححه الحاكم 4/ 263 فتعقبه الذهبي. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني: 4/ 362 وما بعدها.
حقُّ الوَالدِ، فما حقُّ الوَلَدِ؟ قال:«أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ويُحْسِنَ أَدَبَهُ»
(1)
.
قال سفيان الثَوْريُّ: ينبغي للرجل أن يُكرِه ولدَه على طلبِ الحديثِ؛ فإنَّه مسؤولٌ عنه.
وقال: إنَّ هذا الحديث عزٌّ، من أرادَ بهِ الدُّنيا وَجَدَها، ومن أرادَ به الآخرةَ وَجَدَهَا
(2)
.
وقال عبد الله بن عمر: أدِّب ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عنه، ماذا أدَّبتَهُ؟ وماذا علَّمتَه؟ وهو مسؤولٌ عن بِرِّكَ وطَوَاعِيَتهِ لكَ
(3)
.
وذكر البَيْهَقِيُّ من حديث مُسْلِم بن إبراهيم، حدّثنا شدَّاد
(4)
بن سعيد، عن الجريري، عن أبي سعيد وابن عبَّاس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وُلِدَ له ولدٌ، فَلْيُحْسِنِ اسْمَهُ وأدَبَه، فإذا بلغ فلْيُزَوِّجْهُ، فإذا بلغ ولم يزوِّجْه فأصاب إثمًا، فإنَّما إثْمُهُ على أبيهِ»
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 6/ 401، وفي الطبعة الهندية: 15/ 155 - 156، ورواه الجصَّاص في أحكام القرآن من طريق أخرى: 3/ 574، وفيه ابن المغلّس، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 157 (الطبعة الهندية).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن: 3/ 84، وفي شعب الإيمان: 15/ 161، وقال محققه: وسنده جيد.
(4)
في «أ» : مسدد.
(5)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 6/ 401، وفي الطبعة الهندية: 15/ 165. وهو ضعيف. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة:2/ 163.
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا حزم، قال: سمعت الحَسَنَ ـ وسأله كثير بنُ زياد عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان/ 74].
فقال: يا أبا سعيد: ما هذه القرَّةُ الأعْيُن، أفي الدنيا أم في الآخرة؟
قال: لا، بل والله في الدنيا.
قال: وما هي؟
قال: والله أن يُرِيَ اللهُ العبدَ من زوجته، من أخيه، من حَمِيْمِهِ طاعةَ الله، لا والله ما شيءٌ أحبّ إلى المرء المُسْلِم من أن يَرى ولدًا، أو والدًا، أو حميمًا، أو أخًا مطيعًا لله عز وجل
(1)
.
وقد روى البُخَاريُّ في «صحيحه» من حديث نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فالأميرُ راعٍ على النَّاس فهوَ راعٍ عليهِم، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عنهم، وامرأةُ الرَّجُلِ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِهَا
(1)
أخرجه سعيد بن منصور ـ كما في فتح الباري 8/ 491 وتغليق التعليق: 4/ 271، وعلَّقه البخاري في التفسير: 8/ 491، وأخرجه الطبري في التفسير: 19/ 318، وابن أبي حاتم: 8/ 2742، والبغوي في التفسير: 6/ 99، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 167 - 168، وابن المبارك في البر والصلة، كما في فتح الباري: 8/ 491. وزاد السيوطي نسبته في الدر المنثور 11/ 299 لعبد بن حميد وابن المنذر.
وولدِهِ، وهي مسؤولةٌ عنهم، وعَبْدُ الرَّجُل راعٍ على مالِ سيِّدِهِ، وهو مسؤولٌ عنه، ألَا فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن: 1/ 304 (تحقيق البغا) وفي مواضع أخرى، ومسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل: 3/ 1459 رقم (1829).
فصل
ومن حقوقِ الأولادِ العدلُ بينهم في العطاءِ والمنعِ
ففي «السنن» و «مسند أَحْمَد» و «صحيح ابن حبان» ، من حديث النُّعْمَانِ بنِ بَشِير قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اعْدِلُوا بينَ أبنائِكُمْ، اعْدِلُوا بين أبنائِكُم، اعْدِلُوا بينَ أبنائِكُمْ»
(1)
.
وفي «صحيح مُسْلِم» أن امرأةَ بشيرٍ قالت له: انْحَل ابنِي غلامًا
(2)
، وأشهِدْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ ابنةَ فلانٍ سألتنِي أن أنحلَ ابنَها غلامًا، قالَ:«له إخوةٌ؟» قال: نعم، قال:«أكُلَّهُمْ أعطيتَ مثلَ ما أعطيتَهُ؟» قال: لا. قال: «فليسَ يَصْلُحُ هذا، وإنَّي لا أَشْهَدُ إلا على حَقٍّ»
(3)
.
(1)
أخرج أبو داود في الإجارة، باب في الرجل يفضل بعض ولده في النُّحل: 11/ 273، والنسائي في النُّحل، باب اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان: 6/ 262، وفي السنن الكبرى برقم (6481)، والإمام أحمد: 4/ 275 وفي طبعة الرسالة: 30/ 373، وابن حبان برقم (2046) من (موارد الظمآن). قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 3/ 96:«رواه أحمد عن غير واحد عن حماد وحاجب، وهو ثقة، وثّقه ابن معين وأحمد» .
(2)
قوله: (انحل ابني غلامًا) هو بفتح الحاء يقال: نَحَلَ يَنْحَلُ كذهبَ يذهبُ.
(3)
أخرجه مسلم في الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة: 3/ 1244 برقم (1623).
ورواه الإمام أَحمد، وقال فيه:«لا تُشْهِدْنِي على جَوْرٍ، إنَّ لِبَنِيْكَ عليكَ من الحقِّ أن تَعْدلَ بينَهُمْ»
(1)
.
وفي «الصحيحين» : عن النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ، أنَّ أباهُ أتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسولُ صلى الله عليه وسلم: «أكلَّ ولدِك نحلتَ مثلَ هذا؟» فقال: لا. فقال: «أرْجِعْهُ»
(2)
.
وفي رواية لمُسْلِم، فقال:«أَفَعَلْتَ هذا بولدك كلِّهم؟» قال: لا، قال:«اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا في أَوْلادِكم» . قال: فرجع أبي في تلك الصدقة
(3)
.
وفي لفظٍ في «الصَّحيح»
(4)
وهذا أمْرُ تهديدٍ لا إباحةٍ، فإنَّ تلك العطيَّةَ كانت جَوْرًا بنصِّ الحديثِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يأذَنُ لأحدٍ أن يَشْهَدَ على صِحَّةِ الجَوْر، ومَنْ ذَا الذي كانَ يشهدُ على تلك العطيَّة وقد أبَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَشْهَدَ عليها، وأخبر أنها لا تصلح وأنها جور، وأنها خلاف العدل!
(1)
أخرجه أحمد في المسند: 4/ 269، وفي طبعة الرسالة:30/ 320 - 321 وهو حديث صحيح بطرقه.
(2)
أخرجه البخاري في الهبة، باب الهبة للولد إذا أعطى بعض ولده شيئًا لم يجز حتى يعدل بينهم: 5/ 211، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة: 3/ 1241 ـ 1242 برقم (1623).
(3)
صحيح مسلم في الموضع السابق.
(4)
في «ب، ج» : وفي الصحيح. وانظر الموضع السابق في صحيح مسلم.
ومن العجب أن يُحْمَلَ قولُه: «اعْدِلُوا بين أَوْلَادِكُمْ» على غير الوجوب، وهو أمر مطلَقٌ مؤكَّد ثلاث مرات، وقد أخبر الآمِرُ به أنَّ خلافَه جَوْرٌ، وأنه لا يَصْلُحُ، وأنه ليس بحقٍّ، وما بعدَ الحقِّ إلا الباطلُ!
هذا والعدل واجبٌ على كلِّ حالٍ، فلو كان الأَمْرُ بهِ مطلقًا لَوَجَبَ حَمْلُه على الوجوب، فكيف وقد اقْتَرنَ به عشَرةُ أشياءَ تؤكِّدُ وُجُوبَه، فتأمَّلْها في ألفاظ القصَّة
(1)
!
وقد ذكر البَيْهَقِيُّ من حديث أبي أَحْمَد بن عَدِيّ، حدّثنا القاسمُ بنُ مَهْدِيّ، حدّثنا يَعقوب بنُ كاسبٍ، حدّثنا عبد الله بنُ مُعَاذ، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن أنسٍ: أن رجلًا كان جالسًا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجاء بُنَيٌّ له، فقبَّله، وأجْلَسَهُ في حِجْرِهِ، ثم جاءت بُنَيَّةٌ، فأخَذَهَا، فأَجْلسَهَا إلى جَنْبِه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فما عَدَلْتَ بينَهُما»
(2)
.
وكان السَّلَفُ يستحبُّون أن يعدلُوا بين الأولاد في القُبْلةِ.
وقال بعض أهلِ العِلْمِ: إنَّ الله سبحانه يسألُ الوالدَ عن وَلَدِهِ يومَ القيامةِ قبلَ أنْ يسألَ الولدَ عن وَالِدِهِ، فإنَّه كما أنَّ للأبِ على ابْنِه حقًّا، فللابنِ على أبيهِ حقٌّ؛ فكما قال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت/ 8]. قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
(1)
انظر: فتح الباري لابن حجر: 5/ 214 ـ 216.
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 12/ 526.
[التحريم/ 6]. قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: علِّمُوهُمْ وأدِّبُوهُمْ
(1)
.
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء/ 36].
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اعْدِلُوا بين أَوْلَادِكُمْ»
(2)
، فوصيَّةُ الله للآباءِ بأَوْلَادِهِمْ سَابِقةٌ على وصيَّة الأولادِ بآبَائِهِمْ.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء/ 31].
فمَنْ أهملَ تعليمَ ولدِه ما ينفعُهُ، وتركَه سُدًى، فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءةِ.
وأكثرُ الأولادِ إنَّما جاء فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الآباءِ وإهمالهِم لهم، وتَرْكِ تَعْليمِهم فرائضَ الدِّين وسُنَنِهُ، فأضاعُوهُمْ صغارًا، فلم يَنْتَفِعُوا بأنْفُسِهِمْ، ولم يَنْفَعُوا آباءَهُمْ كِبَارًا، كما عاتبَ بعضُهُم وَلَدَهُ على العُقُوقِ، فقال: يا أبَتِ إنَّك عَقَقْتَنِي صغيرًا، فعقَقْتُك كبيرًا، وأضَعْتَنِي وليدًا، فأضعتُك شيخًا كبيرًا!
(1)
انظر تخريجه فيما سبق، ص (328).
(2)
تقدم تخريجه فيما سبق، ص (334).
الباب السَّادس عشر
في فُصولٍ نافعَةٍ في تربيةِ الأطفالِ تُحْمَدُ عَواقبُها عند الكِبَر
فصل
يَنْبَغِي أنْ يكونَ رضاعُ المولودِ مِن غير أمِّه بعد وضْعِه يومينِ أو ثلاثةً، وهو الأجْوَدُ، لِما في لَبَنِهَا ذلكَ الوقتِ من الغِلظ والأخْلاطِ، بخلافِ لَبَنِ مَنْ قد استقلَّت
(1)
على الرّضاع. وكلُّ
(2)
العرب تعتني بذلك حتى تَسْتَرضِعَ أولادَها عند نساءِ البَوَادِي، كما اسْتُرْضِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بَني سَعْدٍ
(3)
.
فصل
وينبغي أن يُمنع مِنْ حَمْلِهِم، والطوافِ بهم حتى يأتيَ
(4)
عليهم ثلاثةُ أشهرٍ فصاعدًا؛ لقُرْب عَهْدِهِمْ ببطونِ الأمَّهاتِ، وضَعْفِ أبْدَانِهِمْ.
(1)
في «أ» : أسفلت.
(2)
في «أ» : وكان.
(3)
انظر: سيرة ابن إسحاق، ص 25 ـ 27 تحقيق محمد حميد الله.
(4)
في «أ» : والتطواف حتى يكون.
فصل
وينبغي أن يُقتصرَ بهم على اللَّبَنِ وحدَه إلى نباتِ أَسنانِهم؛ لضَعْفِ مَعِدَتِهم وقوَّتِهِمْ الهَاضِمَةِ عن الطعامِ، فإذا نبتتْ أسنانُه قَوِيَت معدته، وتغذَّى بالطعام، فإنَّ اللهَ ـ سبحانه ـ أخَّر إنباتَها إلى وقتِ حاجتِه إلى الطعامِ لحِكْمَتِه ولُطْفهِ، ورحمةً منه بالأُمِّ وحَلَمَةِ ثَدْيِها، فلا يعضُّه الولدُ بأَسْنَانِهِ.
فصل
وينبغي تَدْرِيْجُهم في الغذاءِ، فأوَّل ما يُطْعِمُونَهُمْ: الغذاء الليِّن، فيطعمونهم الخبزَ المنقوعَ في الماء الحار، واللبن الحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ، والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لَطُف جدًّا من اللحم بعد إحكام مضغه، أو رضّه رضًّا ناعمًا.
فصل
فإذا قَرُبوا من وقت التكلُّم، وأُريد تسهيل الكلام عليهم، فَلْتُدْلَكْ ألسنتُهم بالعسل والملح الأَنْدَرَانِيّ
(1)
لما فيهما من الجلاء للرُّطوبات الثقيلة المانعة من الكلام. فإذا كان وقتُ نُطْقِهم فلْيُلَقَّنُوا: «لا إله إلا الله محمَّد رسول الله» ، ولْيَكُن أوَّل ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه، وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا.
(1)
قال الزبيدي في «تاج العروس» 14/ 196: «صوابه (ذَرْآني) أي شديد البياض» . انظر: المفردات لابن البيطار: 2/ 164.
وكان بنو إسرائيل كثيرًا ما يسمُّون أولادهم بـ «عمانويل» ومعنى هذه الكلمة: إلهنا معنا
(1)
، ولهذا كان أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرَّحمن، بحيث إذا وَعَى الطفلُ وعَقَلَ، عَلِم أنه: عبد الله، وأنّ الله هو سيّده ومولاه.
فصل
فإذا حضر وقت نبات الأسنان، فينبغي أن تُدلَك لِثَاهُمْ
(2)
كلَّ يوم بالزُّبْد والسَّمْن، ويُمرَّخَ خَرَزُ العنق تمريخًا كثيرًا، ويُحْذَر عليهم كلَّ الحذر ـ وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوَّتها ـ من الأشياء الصُّلبة، ويُمنعون منها كلَّ المنع، لما في التَّمكين منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها وخللها.
فصل
ولا ينبغي أن يَشُقَّ على الأبوين بكاءُ الطفل وصُراخُه، ولاسيَّما لشربه اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعًا عظيمًا، فإنه يروِّض أعضاءه ويوسِّع أمعاءه، ويفسح صدره، ويسخِّن دماغه، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته الغريزية، ويحرِّك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول، ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره
(3)
.
(1)
انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 69.
(2)
اللِّثَى: جمع اللّثَةِ وهي لحم الأسنان. انظر: لسان العرب: 15/ 241.
(3)
وانظر: مفتاح دارالسعادة للمصنف: 1/ 273.
فصل
وينبغي أن لا يُهمل أمر قِمَاطِه ورباطه، ولو شقَّ عليه، إلى أن
(1)
يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يُمَرَّن، ويدرَّب على الحركة والقيام قليلًا قليلًا إلى أن يصير له مَلَكَةٌ وقوَّة يفعل ذلك بنفسه.
فصل
وينبغي أن يُوقَّى الطفل كلَّ أمر يُفزعه؛ من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإنَّ ذلك ربما أدَّى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كِبَرِه، فإذا عرض له عارض من ذلك، فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضدِّه، وإيناسه بما ينسيه إيَّاه، وأن يُلقم ثديه في الحال، ويسارع إلى رضاعه ليزول عنه ذلك المزعج له، ولا يرتسم في قوته الحافظة
(2)
، فيعسر زواله، ويستعمل تمهيده بالحركة اللطيفة إلى أن ينام، فينسى ذلك، ولا يهمل هذا الأمر، فإن في إهماله إسكان الفزع والروع في قلبه، فينشأ على ذلك، ويعسر زواله ويتعذَّر.
فصل
ويتغير حال المولود عند نبات أسنانه، ويهيج به القيء
(3)
،
(1)
في «أ» : إلا أن.
(2)
في «ج» : الحاضرة.
(3)
في «ب» : التقيؤ.