الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: يقول: باسم الله، ويذبحُ على النيَّة، كما يضحِّي بنيَّتِهِ، يقول: هذه عَقِيقَةُ فلانِ بنِ فلانٍ، ولهذا يقول فيها: اللهمَّ منكَ ولكَ.
و
يُستحبُّ فيها ما يستحبُّ في الأضحيةِ
، من الصدقة، وتفريقِ اللحمِ. فالذبيحةُ عن الولد، فيها معنى القُربانِ والشُّكران، والفِداء، والصدقةِ، وإطعامِ الطعام عند حوادث السرور العظام، شكرًا لله، وإظهارًا لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شُرِعَ الإطعامُ للنكاح الذي هو وسيلةٌ إلى خروجِ هذه النّسَمَة
(1)
، فَلأَنْ يُشرعَ عند الغاية المطلوبةِ أَوْلَى وأَحْرَى
(2)
.
وشُرِع بوصف الذَّبح المتضمنِ لما ذكرناه من الحِكَمِ
(3)
، فلا أحسنَ ولا أحلَى في القلوبِ من مثل هذه الشريعةِ في المولودِ!
وعلى نحو هذا جرتْ سنَّة الولائم في المناكح وغيرها، فإنَّها إظهارٌ للفرحِ والسُّرور بإقامةِ شَرائعِ الإسلامِ وخروجِ نَسَمَةٍ مُسْلِمةٍ يُكاثِرُ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأُممَ يومَ القيامة، تعبُّدًا لله، ويُرَاغِمُ عدوَّه.
ولما أقرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العَقِيقَةَ في الإسلامِ، وأكَّد أمْرَهَا، وأخبرَ أنَّ الغُلامَ مُرتَهنٌ بها: نَهَاهُمْ أن يجعلوا على رأس الصبيِّ من الدَّمِ شيئًا،
(1)
في "ب": حصول هذه النعمة.
(2)
انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 399 - 400.
(3)
في "أ": الحكمة.
وسنَّ لهم أن يجعلوا عليه شيئًا من الزَّعْفَرَانِ؛ لأنهم في الجاهليَّة إنَّما كانوا يلطِّخون رأسَ المولودِ بدم العَقِيقَةِ تبرُّكًا به، فإنَّ دمَ الذبيحةِ كان مباركًا عندهم، حتى كانوا يلطِّخون منه آلهتهم تعظيمًا لها وإكرامًا، فأُمِرُوا بترك ذلك، لما فيه من التشبُّه بالمشركين، وعُوِّضُوا عنه بما هو أنفع للأبَوَينِ وللمولودِ وللمساكين، وهو حَلْقُ رأسِ الطفل والتصدُّقُ بِزِنَةِ شعرِهِ ذهبًا أو فضةً. وسنَّ لهم أن يلطِّخوا الرأس بالزّعْفَران الطيِّبِ الرائحةِ، الحَسَنِ اللَّونِ، بدلاً عن الدَّم الخبيثِ الرائحة، النجسِ العينِ، والزَّعفرانُ من أطيبِ الطِّيب وألطفِه وأحسنِه لونًا. وكان حَلْقُ رأسه إماطةَ الأذى عنه، وإزالةَ الشَّعْرِ الضعيفِ، ليخلفه شَعْرٌ أقوى وأمْكَنُ منه، وأنفعُ للرأس، ومع ما فيه من التَّخفيف عن الصبيِّ، وفَتْحِ مَسَام الرّأسِ لِيَخْرجَ البخارُ منها بيُسرٍ وسهولةٍ، وفي ذلك تقويةُ بصرِه وشمِّه وسَمْعِهِ.
وشُرِعَ في المذبوح عن الذَّكَرِ أن يكون شاتين، إظهارًا لشرفه، وإبانة
(1)
لمحلِّه الذي فضَّله الله به على الأُنثى، كما فضَّله في الميراث والدِّيَة والشَّهادةِ.
وشُرع أن تكون الشَّاتان مُكَافِئَتَيْنِ
(2)
. قال أَحمد في رواية أبي داود: مُسْتَوِيَتَانِ أومُتَقارِبَتَان
(3)
. وقال في رواية الميموني: مِثْلانِ.
(1)
في "أ": إباحة.
(2)
في "د": مكافئتان.
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، ص 256.
وفي رواية جعفر بن الحارث: تُشْبِهُ إحداهُما الأُخرى، لأنَّ كلَّ شاةٍ منهما لمَّا
(1)
كانت بَدَلًا وفداءً، وجعلت الشاتان مكافئتين في الحُسْنِ
(2)
والسِّنّ، فجعلتا كالشَّاة الواحدة.
والمعنى: أنَّ الفداء لو وقع بالشاةِ الواحدةِ، لكان ينبغي أن تكونَ فاضلةً كاملةً، فلما وقع بالشَّاتين لم يُؤْمَنْ أن يُتَجَوَّز في إحداهما، ويُهَوَّنَ أمرُها، إذْ كان قد حصلَ الفداءُ بالواحدةِ، والأخرى كأنها تتمةٌ غير مقصودةٍ، فشُرِعَ أن تكونَا مُتكافِئَتَينِ دفعًا لهذا التَّوَهُّمِ.
وفي هذا تنبيهٌ على تهذيب العَقِيقَةِ من العيوبِ التي لا يصحُّ
(3)
بها القُرْبَانُ من الأضاحي وغيرها، ومنها فَكُّ رِهَانِ المولُودِ، فإنَّه مُرْتَهَنٌ بعقيقتهِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقد اختُلِفَ في معنى هذا الحَبْسِ والارْتِهَانِ:
فقالت طائفةٌ: هو محبوسٌ مرتهنٌ عن الشَّفاعة لوالدَيه، كما قال عطاء، وتبعه عليه الإمامُ أَحمد
(4)
.
(1)
في "ب": كذلك.
(2)
في "أ": الجنس.
(3)
في "ب": لا تصح.
(4)
انظر: زاد المعاد للمصنف: 2/ 326، ومعالم السنن للخطابي: 4/ 264.
وفيه نظرٌ لا يخفى، فإنَّ شفاعةَ الولدِ للوالد
(1)
ليستْ بأولى من العكس، وكونُه والدًا له، ليس بجهةٍ
(2)
للشَّفاعةِ فيه، وكذا سائرُ القَراباتِ والأرْحَام، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان/ 33].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة/ 48].
وقال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة/ 254].
فلا يشفع أحدٌ لأحدٍ يومَ القيامةِ، إلَّا مِنْ بعد أن يأذنَ اللهُ لمن يشاءُ ويَرْضَى، وإذْنُه ـ سبحانه ـ في الشَّفاعةِ موقوفٌ على عَمَلِ المشفُوعِ له مِنْ تَوْحيدِه وإخلاصِه.
ومرتبةُ الشَّافع: مِن قُربِه عند الله، ومنزلتِه، ليست مستحقَّةً بقرابةٍ ولا بُنُوَّةٍ ولا أُبوَّة، وقد قال سيِّدُ الشُّفَعَاءِ وأَوْجَهُهُمْ عند الله لعمِّه وعَمَّته وابنتِه:"لا أُغنِي عنكم مِنَ الله شيئًا"
(3)
.
(1)
في "د": في الوالد.
(2)
ساقطة من "ج، د".
(3)
أخرجه البخاري في الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب: 5/ 382، وفي التفسير، باب "وأنذر عشيرتك الأقربين": 8/ 501، ومسلم في الإيمان، باب قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} : 1/ 192 برقم (305).
وفي رواية "لا أمْلِكُ لكُمْ مِنَ اللهِ شيئًا"
(1)
.
وقال في شفاعتِهِ العُظْمَى لَّما يسجدُ بين يدي ربِّه ويشفعُ: "فَيَحُدُّ لي حدًّا فأُدْخِلُهُمُ الجنَّة"
(2)
.
فشفاعتُه في حدٍّ محدودٍ، يحدّهم اللهُ ـ سبحانه ـ له، لا تُجاوِزُهُمْ
(3)
شَفَاعتُه. فمِنْ أينَ يُقال: إنَّ الولدَ يشفعُ لوالدِهِ، فإذا لم يَعُقَّ عنه، حُبِسَ عن الشَّفاعَةِ له؟ ولا يُقال لمن لم يشفع لغيره: إنَّه مُرْتَهَنٌ، ولا في اللفظ ما يدلُّ على ذلك.
واللهُ ـ سبحانه ـ يخبر عن ارتهان العبد بكَسْبِهِ، كما قال الله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر/ 38]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام/ 70].
فالمرتَهنُ هو المحبوسُ، إمَّا بفعلٍ منه، أو فعلٍ من غيره، وأمَّا مَنْ لم يشفع لغيره، فلا يُقال له: مرتهنٌ على الإطلاق، بل المرتَهَنُ هو
(1)
أخرجه مسلم في الموضع السابق، برقم (203 و 204).
(2)
أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة البقرة، باب {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}: 8/ 160، ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: 1/ 181 برقم (193).
(3)
في "ج": يجاوزهم.
المحبوسُ عن أمرٍ
(1)
كان بصدد نَيْلهِ وحصُولهِ، ولا يَلْزمُ من ذلك أن يكونَ بسببٍ منه، بل يحصل ذلك تارةً بفِعْلِهِ، وتارةً بفعلِ غيره.
وقد جعل الله ـ سبحانه ـ النَّسِيكَةَ عن الولد سببًا لفكِّ رِهَانهِ من الشَّيطان الذي يَعْلَقُ به مِنْ حين خُروجِه إلى الدُّنيا وطَعن في خَاصِرَتِه
(2)
، فكانت العَقِيقَةُ فداءً وتخليصًا له من حَبْسِ الشَّيطانِ لهُ وسَجْنِهِ في أسْرِهِ، ومَنْعِه له من سَعْيِه في مَصالحِ آخِرَتِه التي إليها مَعَادُه، فكأنَّه محبوسٌ لذَبْح الشّيطانِ له بالسّكينِ التي أعدَّها لأتباعِه وأَوْلِيَائِه، وأقسمَ لربِّه أنَّه لَيَسْتَأصِلَنَّ ذُرّيَّة آدمَ إلا قليلًا منهم، فهو بالمِرْصَادِ للمولودِ من حين يخرجُ إلى الدُّنيا، فحين يخرج يَبْتَدِرُهُ عدوُّه ويضمُّه إليه ويحرصُ على أن يجعلَه في قبضتِه وتحت أسْرِه
(3)
، ومن جملةِ أوليائه وحِزْبِه، فهو أحرصُ شيءٍ على هذا.
وأكثر المولُودينَ من أقْطَاعِهِ
(4)
وجُنْدِه، كما قال تعالى:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء/ 64].
(1)
عن أمر. ساقطة من "أ".
(2)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} : 8/ 212.
(3)
في "ج": أمره.
(4)
الأقطاع جمع لكلمة قطيع. والمعنى من جملة أملاكه وأتباعه. لسان العرب: 8/ 281.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ/ 20].
فكان المولودُ بصَددِ هذا الارتهانِ، فشرَعَ اللهُ ـ سبحانه ـ للوالِدَيْنِ أن يَفُكَّا رهانَه بذِبْحٍ يكون فِدَاهُ، فإذا لم يُذْبَحْ عنه بَقِيَ مُرْتهَنًا به، فلهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعَقِيقَتِه، فأَرِيْقُوا عنه الدَّمَ، وأمِيْطُوا عنهُ الأذَى"
(1)
.
فأَمَرَ بإراقَةِ الدَّم عنه، الذي يخلُصُ به منَ الارتهانِ، ولو كان الارتهانُ يتعلَّق بالأبوين لقال: فأريقُوا عنكم الدّمَ لتَخْلُصَ إليكم شفاعةُ أَولَادِكم.
فلما أَمَر
(2)
بإزالةِ الأذى الظَّاهرِ عنه، وإراقةِ الدَّم الذي يُزِيْل الأذى الباطنَ بارتهانِه: عُلِمَ أنَّ ذلك تخليصٌ للمولُودِ من الأذى الباطنِ والظاهرِ. واللهُ أعلم بِمُرادهِ ورسولُهُ.
(1)
تقدم تخريجه فيما سبق ص (90).
(2)
في "ج": أمرنا.
الفصل الثاني عشر
في استِحْبابِ طَبْخِها دُوْنَ إخراجِ لَحمِها نِيئًا
قال الخَلّال في "جامعه": "باب ما يستحبُّ من ذبح العَقِيقَة": أَخْبَرنِي عبدُ الملكِ الميمونيُّ أنَّه قال لأَبي عَبدِ الله: العَقِيقَة تُطبخُ؟ قال: نعم
(1)
.
وأخبرني محمَّد بن علي، قال: حدّثنا الأَثْرَمُ أنَّ أبا عبد الله قال في العَقِيقَة: تُطبخ جُدُولًا
(2)
.
وأخبرني أبو داود أنّه قال لأبي عبد الله: تُطبخ العَقِيْقَة؟ قال: نعم. قيل له: إنّه يشتدُّ عليهم طَبْخُهُ، قال: يَتَحَمَّلُونَ ذلكَ
(3)
.
وأخبرني محمَّدُ بنُ الحُسَين
(4)
، أنَّ الفضلَ بنَ زيادٍ حدَّثهم أنَّ أبا عبدِ الله قيل له في العَقِيقَة: تُطبخ بماءٍ ومِلْحٍ؟ قال يُستحبُّ ذلكَ، قيل له:
(1)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 210، المغني لابن قدامة: 13/ 400 ـ 401.
(2)
في "أ، ب، د": جداول. والجُدول: جمع جدل ـ بكسر الجيم وفتحها ـ وهو كل عظم موفّر كما هو، لا يكسر ولا يخلط به غيره. أي عضوًا عضوًا. انظر: الغريبين لأبي عبيد:1/ 331، ولسان العرب:11/ 108.
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، ص 256.
(4)
في "أ": الحسن.
فإنْ طُبِختْ بشيءٍ آخَرَ؟ قال ما ضرَّ ذلكَ.
وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنةَ الطبخِ
(1)
، وهو زيادةٌ في الإحسان، وشُكْرُ هذه النَّعمةِ، ويَتَمَتَّعُ الجيرانُ والأولادُ والمساكينُ بها هنيئةً مكفيَّةَ المؤنةِ، فإنَّ من أُهدي له لحمٌ مطبوخٌ مهيَّأٌ للأكلِ مطيَّبٌ، كان فرحُه وسرورُه به أتمَّ من فرحِه بلحمٍ نيءٍ يحتاج إلى كُلْفَةٍ وتَعَبٍ، فلهذا قال الإمام أَحْمَد: يتحمَّلون ذلك.
وأيضًا: فإنَّ الأطعمةَ المعتادةَ التي تجري مَجْرى الشُّكْرانِ، كلُّها سبيلُها الطّبخُ
(2)
.
ولها أسماء متعدِّدةٌ:
- فالقِرَى: طعامُ الضِّيفَان.
- والمَأْدُبةُ: طعامُ الدَّعوة.
- والتُّحْفَةُ: طعام الزَّائرِ.
- والوَلِيمَةُ: طعام العُرسِ.
- والخُرْسُ: طعام الولادةِ.
- والعَقِيقَةُ: الذبحُ عنه يوم حلقِ رأسه في السَّابع.
(1)
المَؤونة ـ على وزن فَعُولَة ـ والمؤْنة: الثقل. المصباح المنير: 2/ 586
(2)
ساقطة من "أ، ب، د".
- والعَذِيْرَةُ: طعام الختانِ.
- والوَضِيْمَةُ: طعام المأتمِ.
- والنَّقِيْعَةُ: طعام القادم من سَفَرِه.
- والوَكِيرَةُ: طعام الفراغِ من البناءِ
(1)
.
فكان الإطعامُ عند هذه الأشياءِ أحسنَ من تفريقِ اللَّحمِ، وأدْخَلَ في مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ والجُودِ. والله أعلم.
(1)
انظر: فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، ص (264).