الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبذلك أجرى اللهُ العادةَ في إيجادِ ما يُوجِدُهُ من بين أَصْلَيْنِ، كالحيوان والنبات وغيرهما من المخلوقات. فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى، كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء، ولهذا قال الله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام/ 101]. فإنَّ الولد لا يتكوَّن إلا من بين الذَّكَرِ وصاحبتِه. ولا ينتقض هذا بآدم وحواء ـ أبَوَيْنَا ـ ولا بالمسيح، فإنَّ الله ـ سبحانه ـ مَزَجَ ترابَ آدم بالماءِ حتى صار طينًا، ثم أرسل عليه الهواء والشَّمسَ حتى صار كالفخَّار، ثم نفخَ فيه الرُّوحَ، وكانت حواء مستلَّةً منه، وجزءًا من أجزائِه، والمسيحُ خُلِقَ من ماءِ مريمَ ونفخةِ الملك، وكانت النفخةُ له كالأبِ لغيرهِ.
فصل
(الأمر الثاني): أنَّ سَبْقَ أحدِ المائين سببٌ لشَبَهِ السابق ماؤه،
وعلوَّ أَحدِهما سببٌ لمجانسة الولد للعالي ماؤه
(1)
.
فها هنا أمران: سَبْقٌ وعُلُوٌّ، وقد يتفقان، وقد يفترقان؛ فإن سبقَ ماءُ الرجل ماءَ المرأة وعلاه، كان الولدُ ذكرًا والشَّبَهُ للرجل، وإن سبقَ ماءُ المرأة وعلا ماءَ الرجل كانت أنثى والشَّبَهُ للأم، وإن سبقَ أحدهما وعلا الآخرُ كان الشَّبَهُ للسّابق ماؤه، والإذكارُ والإيناثُ لمَنْ عَلا ماؤه.
(1)
انظر المسألة في: التبيان في أيمان القرآن، ص 510 ـ 517، والطرق الحكمية: 2/ 584 ـ 588، ومفتاح دار السعادة: 1/ 258 ـ 260.
ويُشْكِلُ على هذا أمران:
(أحدهما) أن الإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنَّما هو مستندٌ إلى مشيئة الخالق سبحانه، ولهذا قال في الحديث الصحيح:«فيقولُ الملك: يا ربّ أذكر أم أنثى، فما الرزق، فما الأجل، شقي أم سعيد؟ فيقضي الله ما يشاء ويكتب الملك» ، فكونُ الولد ذكرًا أو أنثى مستندٌ إلى تقدير الخلاق العليم، كالشقاوة والسعادة، والرزق والأجل، وأما حديث ثوبان، فانفرد به مُسْلِم وحده. والذي في «صحيح البُخَاريّ» إنما هو الشبه، وسببه علوُّ ماء أحدهما أو سبقه، ولهذا قال:«فمِنْ أيّهما عَلا أو سَبقَ يكون الشَّبَه له»
(1)
.
(الأمر الثاني): أن القافة مبناها على شبه الواطئ، لا على شبه الأم
(2)
، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة:«انْظُرُوهَا فإنْ جاءتْ به على نَعْتِ كَذَا وَكَذَا، فهوَ لِشَرِيْكِ بنِ السَّحْماءِ ـ يعني الذي رُمِيَتْ به ـ وإنْ جاءتْ بهِ على نَعْتِ كَذا وَكَذَا، فهوَ لِهلَالِ بنِ أميَّةَ»
(3)
، فاعتبر شبه الواطئ، ولم يعتبر شبه الأم.
ويجاب عن هذين الإشكالين:
أما الأول: فإن الله سبحانه قدَّر ما قدره من أمر النطفة من حين
(1)
تقدم فيما سبق، ص (391).
(2)
انظرأيضًا: الطرق الحكمية للمصنف: 2/ 573 وما بعدها.
(3)
أخرجه مسلم في اللعان: 2/ 1134 برقم (1496).
وضعها في الرَّحم إلى آخر أحوالها بأسباب قدَّرها
(1)
، حتى الشقاوة والسعادة، والرزق والأجل والمصيبة، كل ذلك بأسباب قدَّرها
(2)
، ولا ينكر أن يكون للإذكار والإيناث أسباب
(3)
، كما للشَّبه أسباب، لكون
(4)
السبب غير موجب لمسبَّبه، بل إذا شاء الله جعل فيه اقتضاءه، وإذا شاء سَلَبَه اقتضاءه، وإذا شاء رتَّب عليه ضدَّ ما هو سبب له، وهو سبحانه يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فالموجب مشيئة الله وحده، فالسبب متصرَّف فيه لا متصرِّفٌ، محكومٌ عليه لا حاكمٌ، مدبَّر لا مدبَّر، فلا تضادَّ بين قيام سبب الإذكار والإيناث وسؤال الملك ربَّه تعالى أي الأمرين يحدثه في الجنين. ولهذا أخبر سبحانه أن الإذكار والإيناث وجمعهما هبةٌ محضة منه ـ سبحانه ـ راجع إلى مشيئته وعلمه وقدرته.
فإن قيل: فقول الملك
(5)
: يا ربِّ! أ ذكرٌ أم أنثى؟ مثل قوله: ما الرِّزقُ، وما الأجلُ؟ وهذا لا يستند إلى سبب من الواطئ، وإن كان يحصل بأسباب غير ذلك.
قيل: نعم، لا يستند الإذكار والإيناث إلى سبب موجب من الوطء،
(1)
ساقطة من «أ» .
(2)
«حتى الشقاوة
…
قدَّرها» ساقط من «د» .
(3)
في «د» : ولا ينكر أن يكون الإذكار والإيناث أسبابًا.
(4)
في «د» : لكي. وفي الهامش كتب مصححها: لعله: لكون.
(5)
في «أ» جاءت العبارة هكذا: قال: فيقول الملك.
وغاية ما هناك أن ينعقد جزء من أجزاء السبب، وتمامُ السبب من أمور خارجة عن الزوجين، ويكفي في ذلك أنه إن لم يأذن الله باقتضاء السبب لمسببه لم يترتب عليه، فاستناد الإذكار والإيناث إلى مشيئته سبحانه لا ينافي حصول السبب، وكونهما بسبب لا ينافي استنادهما إلى المشيئة، ولا يوجب الاكتفاء بالسبب وحده.
وأما تفرُّد مُسْلِمٍ بحديث ثوبان، فهو كذلك، والحديثُ صحيحٌ لا مَطْعَنَ فيه، ولكن في القلب من ذكر الإيناث والإذكار فيه شيء، هل حُفِظَت هذه اللفظة، أوهي غير محفوظة؟ والمذكور إنَّما هو الشَّبَه، كما ذكر في سائر الأحاديث المتفق على صحتها، فهذا مَوضِعُ نَظَرٍ كما ترى، والله أعلم.
فصل
وأما (الأمر الثاني)
(1)
: وهو اعتبار القَائِفِ لشَبَهِ الأب دون الأم، فذلك لأن كون الولد من الأم أمرٌ محقَّق لا يعرض فيه اشتباه؛ سواء أشبهها أو لم يشبهها، وإنما يحتاج إلى القافة في دعوى الآباء.
ولهذا يلحق بأبوين عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر فقهاء أهل
(2)
الحديث، ولا يلحق بأُمَّين؛ فإذا ادعاه أبوان أُرِيَ القافة فأُلحق بمن كان
(1)
في (ب، ج، د): الثالث. وهذا جواب عن الإشكال الثاني الذي أورده.
(2)
ساقطة من (ب، ج، د).
الشَّبَه له إذا لم يكن ثَمَّ فراش، فإن كان هناك فراش لم يلتفت إلى مخالفة الشبه له. فالشَّبَهُ دليلٌ عند عدم معارضة ما هو أقوى منه من الفراش والبيِّنة.
نعم، لو ادَّعَتْه امرأتان، أُري القافة، فأُلحق بمن كان أشبه بها منهما، فعملنا بالشَّبَهِ في الموضعين.
ونصَّ الإمام أَحمدُ على اعتبار القافة في حق المرأتين، فسئل عن يهودية ومُسْلِمة ولدتا، فادَّعت اليهودية ولد المُسْلِمة، فقيل له: يكون في هذه القافة؟ قال: ما أحسنه
(1)
!
وهذا أصحُّ الوجهين للشافعية.
وقالوا في الوجه الآخر: لا تعتبر القافة ها هنا؛ لإمكان معرفة الأم يقينًا بخلاف الأب.
والصحيح اعتبار القافة في حق المرأتين؛ لأنه اعتبار لشبه الأم. والولد يأخذ الشبه من الأم تارة، ومن الأب تارة، بدليل ما ذكرنا من حديث عائشةَ، وأم سلَمَةَ، وعبد الله بن سلام، وأنس بن مالك، وثوبان رضي الله عنهم. وإمكان معرفة الأم يقينًا لا يمنع اعتبار القافة عند عدم اليقين، كما نعتبرها بالشبه إلى الرجلين عند عدم الفراش.
وقد روى سليمانُ بن حرب، عن حمَّاد، عن هشام بن حسَّان، عن
(1)
انظر: المغني لابن قدامة: 8/ 381.
محمَّد بن سِيرِين قال: حجَّ بنا الوليد ونحن سبعة ولد سِيرِين، فمرَّ بنا إلى المدينة، فلما دخلنا على زيد بن ثابت رضي الله عنه، قيل له: هؤلاء بنو سِيرِين، قال: فقال زيد: هذان لأم، وهذان لأم، وهذان لأم، فما أخطأ
(1)
.
وقد قال «بقراط» في كتاب «الأجنَّة» : وإذا كان منيُّ الرجل أكثر من منيِّ المرأة أشبه الطفل أباه، وإذا كان منيُّ المرأة أكثر من منيِّ الرجل أشبه الطفل أمه.
وقال: المنيُّ ينزل من أعضاء البدن كلها، ويجري من الصحيحة صحيحًا، ومن السقيمة سقيمًا، وقال: إن الصُّلْع يَلِدُون صلعًا، والشُّهْل يَلِدُون شهلًا، والحُول حُولًا.
وقال: أما اللَّحم فإنه يربو ويزداد مع اللحم، ويخلق فيه مفاصل، ويكون كل شيء من الجنين شبيهًا بما يخرج منه.
وقال: قد يتولد مرارًا كثيرة مِن العميان، ومَنْ به شامةٌ أو أثَر، ومَنْ به علامات أُخَرُ ممَّن به علامةٌ مثلها، وكثيرًا ما يولد أبناءٌ يُشبهون أجدادهم، أو يُشبهون قراباتهم
(2)
.
(1)
انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر: 19/ 330، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 438.
(2)
في «ب» : آباءهم.
وقال: الذكور
(1)
ـ في الأكثر ـ يشبهون آباءهم، والإناث يشبهن أمهاتهن.
فصل
و قد يكون قُبْحُ المولود وحُسْنه من أسباب أُخَر:
منها: أفكار الوَالِدَين وخاصة الوالدة إذا جالت
(2)
عند المباضعة وبعدها إلى وقت تخلُّق
(3)
الجنين في الأشخاص التي تُشاهدها وتُعاينها، وتتذكَّرها وتَشتاقها؛ لأنها تحبُّها وتودُّها، فإذا دامت الفكرة فيه والاشتياق إليه، أشبه الجنين وتصوَّر بصورته، فإن الطبيعة نقَّالة، واستعدادها وقبولها أمرٌ يعرفه كلُّ أحد.
وحدّثني رئيس الأطباء بالقاهرة، قال: أجلست ابن أخي يكحل الناس، فما مكث إلا يسيرًا حتى جاء وبه رمَدٌ، فلما برأ منه عاد فعاوده الرَّمَد، فعلمت أنه من فتح عينيه في أعين الرُّمْدِ، والطبيعة نقالة.
وقد ذكر الأطباء: أن إدْمَانَ الحامل على أكل السَّفَرْجل والتُّفاح مما يحسِّن وجه المولود ويصفِّي لونه. وكرهوا للحامل رؤية الصور الشنيعة، والألوان الكمدة، والبيوت الوحشة الضيقة، وإن ذلك كلَّه يؤثِّر في الجنين.
(1)
في «د» : الذكورة.
(2)
في «د» : جالست.
(3)
في «ب، ج» : خلق.
فصل
وقال بُقْرَاط في كتاب «الأجنَّة» : إذا حصل منيُّ الرجل داخل الرَّحِم عند الجماع ولم يسل إلى خارج، ولكنه مكث في فم الرَّحم وانضمَّ فمه علقت المرأة، وإذا انضمَّ فم الرحم اختلط المنيان في جوفه وتم الحبل، فإذا توافق إنزال الرجل وإنزال المرأة في وقت واحد، واختلط الماءان، وثبتا في الرحم، واشتمل عليهما، وانضمَّ، علقت المرأة.
وتدبير ذلك يكون في ثلاثة أوقات: قبل المباضعة، ومعها، وبعدها بإعداد الرحم لقبول النطفة، ومعها بإيصال النطفة إلى مستقرِّها في الرحم، واتفاق الإنزالين؛ وبعدها بثبات النطفة في الرحم وإمساكه عليه، وحفظها من الخروج والفساد.
قلت: السبب المذكور غير موجب، وإنما الموجب مشيئة الله وحده كما بينَّا، والله أعلم.
فصل
وإذا تكوَّن الجنين وصوَّره الخالق البارئ المصوِّر، خُلِق ورأسُه إلى فوق، ورجلاه إلى أسفل. فعندما يأذن الله بخروجه ينقلب، ويصير رأسه إلى أسفل، فيتقدم رأسُه سائرَ بدنه، هذا باتفاق من الأطباء والمشرِّحين.
وهذا من تمام العناية الإلهيَّة بالجنين وأُمِّه، لأن رأسه إذا خرج أولًا كان خروج سائر بدنه أسهل من غير أن يحتاج شيء منها إلى أن ينثني، فإنَّ
الجنين لو خرجت رجلاه أولًا لم يُؤْمَن أن يَنْشَب في الرحم عند يديه.
وإن خرجت رجله الواحدة لم يؤمَن أن يعلق وينشب في الرحم عند إدراكه.
وإن خرجت اليدان لم يؤمَن أن يَنْشَب عند رأسه، إما أنه يلتوي إلى خلف، وإما أنَّ السُّرَّة تلتوي إلى عنقه، أو على كتفه، لأن الجنين إذا انحدر فصار إلى موضع فيه السُّرة ممتدة، الْتَوَتْ
(1)
هناك على عنقه وكتفه، فيعرض من ذلك: إما أن يجاذب السُّرة فتألم الأم غاية الألم، ثم إن الجنين إما أن يموت، وإما أن يصعب خروجه ويخرج وهو عليلٌ متورِّم، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن ينقلب في البطن، فيخرج رأسه أولًا ثم يتبع الرأس باقي البدن.
فصل
في السَّببِ الَّذي لأَجلِه لا يعِيشُ الوَلدُ إذا وُلِدَ لِثمانِيةِ أَشْهُرٍ،
ويَعيشُ إذا وُلِدَ لسبعةِ أَشْهُرٍ وتِسْعَةٍ وعَشرَةٍ
إذا أتمَّ الجنين سبعة أشهر، عرض له حركةٌ قويةٌ يتحرَّكُها بالطبع للانقلاب والخروج؛ فإن كان الجنين قويًّا، من الأطفال الذين لهم بالطبع قوة شديدة في تركيبهم وجِبِلَّتِهم، حتى يقدر بحركته على أن
(1)
في «أ» : ممتد البدن.
يهتك ما يحيط به من الأغشية المحيطة به
(1)
، المتصلة بالرحم، حتى ينفذ ويخرج منها= خرج في الشهر السَّابع وهو قويٌّ صحيح سليم، لم تُؤلمه الحركة، ولم يُمرضه الانقلاب.
وإن كان ضعيفًا عن ذلك: فهو إمَّا أن يعطب بسبب ما يناله من الضَّرر والألم بالحركة للانقلاب فيخرج ميتًا، وإمَّا أن يبقى في البطن، فيمرض ويلبث في مرضه
(2)
نحوًا من أربعين يومًا حتى يبرأ وينتعش ويقوى. فإذا وُلِد في حدود الشهر الثامن، وُلِد وهو مريض لم يتخلص من ألمه، فيعطب ولا يسلم ولا يتربَّى، وإن لبث في الرحم حتى يجوز هذه الأربعين يومًا إلى الشهر التاسع وقوي وصحَّ وانتعش، وبَعُدَ عهدُه بالمرض؛ كان حريًّا أن يسلم، وأوْلَاهُمْ بأن يسلم أَطْوَلُهمْ بعد الانقلاب لُبْثًا في الرحم، وهم المولودون في الشهر العاشر. وأما من يولد بين التاسع والعاشر، فَحَالُهم في ذلك بحسب القرب والبعد.
وقال غيره: العلَّة في أنه لا يمكن أن يعيش المولود لثمانية أشهر: أنه يتوالى عليه ضربان من الضرر:
(أحدهما): انقلابه في الشهر السَّابع في جوف الرحم للولادة.
و (الثاني): تغيُّر الحال عليه بين مكانه في الرَّحِم وبين مكانه في الهواء، وإن كان قد يعرض ذلك التغيير لجميع الأجنَّة، لكن المولود
(1)
في «أ» : المختصة به.
(2)
في (أ،): ويمكث مدة مرضه. وفي «د» : ويلبث مدة مرضه.
لسبعة أشهر ينجو من الرَّحِم قبل أن يناله الضرر الذي مِنْ دَاخِلٍ بعَقِب الانقلاب والأمراض التي تعرض في جوف الرحم، فالمولود لسبعة أشهر وعشرة أشهر يلبث في الرحم حتى يبرأ وينجو من تلك الأمراض، فليس يتوالى عليه الضرران معًا، والمولود لثمانية أشهر يتوالى عليه الضرران معًا، وكذلك لا يمكن أن يعيش؛ وجميع الأجنة في الشهر الثامن يعرض لهم المرض.
ويدلُّك على ذلك أنك تجد جميع الحوامل والحبالى في الشهر الثامن أسوأ حالًا، وأثقل منهنَّ في مدة الشهور التي قبل هذا الشهر وبعده، وأحوال الأمهات متصلة بأحوال الأجنَّة.
فصل
وبكاءُ الطفلِ ساعةَ ولادتِه يدلُّ على صحته وقوته وشدَّته، وإذا وضع الطفل يده أو إبهامه أو إصبعه على عضوٍ من أعضائه، فهو دليلٌ على ألم ذلك العضو، وكل الحيوان بالطبع يشير إلى ما يؤلمه من بدنه، إما بيده أو بفمه أو برأسه أو بذنبه، فلما كان الطفل عادمًا للنطق أشار بأصبعه أو يده إلى موضع ألمه كالحيوان البهيم.
فصل
في أن الأطفال وهم حمل في الرحم أقوى منهم بعد ولادتهم
(1)
،
(1)
في (ب، ج، د): ولادهم.
وأصبر وأشدُّ احتمالًا لما يعرض لهم، وكذلك تكون العناية بهم بعد ولادتهم
(1)
آكَدَ والحذر عليهم أشدَّ، فإن أغصان الشجرة وفروعها ما دامت لاصقة بالشجرة ومتَّصلة بها لا تكاد الرياح العواصف تزعزعها ولا تقتلعها، فإذا فصلت عنها وغُرست في مواضع أُخَرَ نالتْها الآفةُ ووصلت إليها بأدنى ريح تهبُّ حتى تقتلعَها.
وكذلك الجنين ما دام في الرَّحم، فهو يقوى ويصبر على ما يعرض له ويناله من سوء التدبير والأذى على ما لا يصبر على اليسير منه بعد ولادته وانفصاله عن الرحم، وكذلك الثمرة على الشجرة أقوى منها وأثبت بعد قطعها منها.
ولما كان مفارقة كل معتاد ومألوف بالانتقال عنه شديدًا على من رَامَهُ، ولا سيمَّا إذا كان الانتقال دفعة واحدة، فالجنين عند مفارقته للرحم ينتقل عما قد ألفه واعتاده في جميع أحواله دفعة واحدة، وشدة ذلك الانتقال عليه أكثر من شدة الانتقال بالتدريج.
ولذلك قال «بقراط» : قد يُعْلَم بأهون سعي وأيسره، أنَّ التدبير الرديء من المطعم والمشرب إذا كان يجري ـ مع رداءته
(2)
ـ على أمر واحد يشبه بعضه بعضًا دائمًا فهو أوثق وأحرز وأبعد عن الخطر في التماس الصحة للأبدان من أن ينقل الرجل تدبيره دفعة واحدة إلى غذاء
(1)
في «د» : ولادهم.
(2)
في «أ» : من رداءته.
أفضل منه، فالجنين ينتقل عما قد أَلِفَه واعتاده في غذائه وتنفُّسِه ومَداخلِه ومخارجه وما يكتنفه دفعة
(1)
واحدةً
(2)
.
وهذه أول شِدَّة يلقاها في الدُّنيا، ثم تتواتر
(3)
عليها الشَّدائد حتى يكون آخرها الشِّدَّة العظمى التي لا شِدَّة فوقها، أو الراحة
(4)
العظمى التي لا تعب دونها، ولذلك يبكي عند ورود هذه الشدة عليه مع ما يلقاه من وكز الشيطان وطعنه في خاصرته.
فصل
والجنين في الرَّحِم كان يغتذي بما يلائمه، وكان يجتذب بالطبع المقدار الذي يلائمه من دم أمه، وبعد خروجه يجتذب من اللبن ما يلائمه أيضًا، لكنه يجتذبه بشهوته وإرادته فيزيد على مقدار ما يحتاج إليه مع كون اللبن يكون رديئًا ومعلولًا كما يكون صحيحًا. وكذلك يعرض له القيء والغثيان، ويجتذب أخلاط بدنه، وتعرض له الآلام والأوجاع والآفات التي لم تكن تعرض له في البطن، وقد كان عليه من الأغشية والحجب ما يمنع وصول الأذى إليه. فلما ولد هيئ له أغشية وحجب أُخَر لم يكن يألفها ويعتادها، وربما صحا للحَرِّ والبَرْد والهواء،
(1)
في (ب، ج): وَهْلَةً.
(2)
انظر نحوه في «كتاب الفصول» لأبقراط، فصل رقم 2.
(3)
في «أ، ب» تتوافر، وفي «د»: تواتر.
(4)
«العظمى .. الراحة» ساقط من «أ» .
وكان يجتذبه من سُرَّته وهو ألطف شيء معتدل صحيح قد يصحُّ قلب الأم وعروقها الضوارب
(1)
، فهو شبيه بما يجتذبه من هو داخل الحمام من الهواء اللطيف المعتدل، ثم يخرج منه وهلة واحدة عريانًا إلى الهواء العاصف المؤذي.
وبالجملة فقد انتقل عن مألوفه وما اعتاده وهلة واحدة، إلى ما هو أشدُّ عليه منه وأصعب. وهذا من تمام حكمة الخلَّاق العليم، ليمرن عبده على مفارقة عوائده ومألوفاته إلى ما هو أفضل منها وأنفع وأوفق له.
وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق/ 19]. أي حالًا بعد حال
(2)
، فأول أطباقه كونُه نطفةً، ثم عَلَقَةً، ثم مُضْغَةً، ثم جَنِينًا، ثم مولودًا، ثم رضيعًا، ثم فطيمًا، ثم صحيحًا أو مريضًا، غنيًّا أو فقيرًا، معافى أو مبتلى، إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت، ثم يُبعث، ثم يُوقف بين يدي الله تعالى، ثم يصير إلى الجنة أو النار.
فالمعنى: لَتَرْكَبُنَّ حالًا بعد حالٍ، ومنزلًا بعد منزلٍ، وأمرًا بعد أمرٍ.
قال سعيد بن جبير وابن زيد: لتكونُنَّ في الآخرة بعد الأولى، ولتصيرُنَّ أغنياء بعد الفقر، وفقراء بعد الغنى.
(1)
أي الشرايين. انظر: قاموس الأطباء للقوصوني: 1/ 308 - 309.
(2)
قال ابن عباس: «لتركبن طبقا عن طبق» حالاً بعد حال. قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة الانشقاق: 8/ 698.
وقال عطاء: شِدَّة بعد شِدَّة.
والطَّبَقُ والطَّبَقَةُ: الحال. ولهذا يقال: كان فلان على طبقات شتى.
قال عَمْرو بن العاص: لقد كنت على طبقات ثلاث، أي أحوال ثلاث
(1)
.
قال ابن الأعرابي: الطَّبَق: الحال على اختلافها
(2)
.
وقد ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفةً إلى وقت وِلَاده. ثم نذكر أطباقه بعد ولادته إلى آخرها، فنقول:
الجنين في الرَّحِم بمنزلة الثمرة على الشجرة في اتِّصالها بمحلِّها اتصالًا قويًّا، فإذا بلغت الغاية لم يبق إلا انفصالها لثقلها وكمالها وانقطاع العروق الممسكة لها، فكذا الجنين تُنتهك عنه تلك الأغشية وتنفصل العروق التي تمسكه بين المَشِيمَةِ والرَّحِم، وتصير تلك الرُّطوبات المزلقة، فتُعِينُه بإزلاقها وثقله وانتهاك الحجب وانفصال العروق على الخروج، فينفتح الرَّحم انفتاحًا عظيمًا جدًّا، ولا بدَّ من انفصال بعض المفاصل العظيمة، ثم تلتئم في أسرع زمان.
وقد اعترف بذلك حُذَّاق الأطباء والمشرِّحين، وقالوا: لا يتمُّ ذلك
(1)
انظر الأقوال في: تفسير الطبري: 24/ 326 ـ 327، وتفسير البغوي: 8/ 376، والدر المنثور للسيوطي: 15/ 322 ـ 325.
(2)
انظر: لسان العرب: 10/ 211.
إلا بعناية إلهيَّة وتدبير تعجز عقول الناس عن إدراك
(1)
كيفيته {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون/14].
فإذا انفصل الجنين، بكى ساعةَ انفصالِه لسببٍ طبيعيٍّ، وهو مفارقة إِلْفِهِ ومكانه الذي كان فيه، وسببٍ منفصلٍ عنه، وهو طعن الشيطان في خاصرته، فإذا انفصل وتمَّ انفصاله مدَّ يده إلى فيه، فإذا تمَّ له أربعون يومًا تجدَّد له أمر آخر على نحو ما كان يتجدَّد له وهو في الرَّحِم، فيضحك عند الأربعين، وذلك أول ما يَعقل نفسه، فإذا تمَّ له شهران رأى المنامات، ثم ينشأ معه التمييز والعقل على التدريج شيئًا فشيئًا إلى سنِّ التمييز، وليس له سنٌّ معين، بل من الناس من يميِّز لخمس، كما قال محمود بن الرَّبِيع: عقلت من النبيّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجَّها في وَجْهِي من دَلْوٍ في بئرهم وأنا ابن خمس سنين
(2)
. ولذلك جعلت الخمس سنين حدًّا لصحة
(3)
سماع الصبيِّ.
وبعضهم يميِّز لأقلَّ منها، ويذكر أمورًا جَرَتْ له وهو دون الخمس سنين، وقد ذكرنا عن إياس بن معاويةَ أنه قال: أذكر يوم ولدتني أُمِّي، فإني خرجت من
(1)
في «أ» : تدبير.
(2)
«بئرهم .. سنين» ساقط من «أ، ج» . وأخرجه البخاري في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير: 1/ 172، وفي مواضع أخرى، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر: 1/ 456 رقم (265)
(3)
في «أ» : لحدة.
ظلمة إلى ضوء، ثم صرت إلى ظلمة، فسُئلت أمُّه عن ذلك. فقالت: صدقَ، لما انفصل منِّي لم يكن عندي ما ألُفُّه به، فوضعت عليه قصعة
(1)
.
وهذا من أعجب الأشياء وأندرها!
فإذا صار له سبع سنين دخل في سن التمييز، وأُمِرَ بالصلاة، كما في «المسند» و «السُّنن» من حديث عَمْروِ بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أبناءَكُمْ بالصَّلاة لسبعِ سِنِيْنَ واضْرِبُوهُم عليها لِعَشْرِ سِنِيْنَ، وفرِّقُوا بينَهُمْ في المَضَاجِعِ»
(2)
.
وقد خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنةً فطيمًا بين أَبَوَيْهَا، كما روى أبو داود في «سننه» من حديثِ عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ عبدِ الله بنِ رافعِ بن سِنَانٍ الأنصَارِيّ، قال: أخْبَرَنِي أَبِي عن جَدِّي رافعِ بنِ سِنَانٍ أنَّه أسْلَمَ، وأَبَتْ امرأتُه أن تُسْلِمَ، فأَتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: ابْنَتِي وهِيَ فَطِيْمٌ أو شِبْهُهُ، وقالَ رافِعٌ: ابنْتَيِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْعُدْ نَاحِيةً» ، وقال لها:«اقعُدِي نَاحِيةً» ، فأقعد الصبيَّة بينهما، ثم قال: ادْعُوَاها، فمالَتْ إلى أمِّها، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللهمَّ اهْدِهَا، فَمَالَتْ إلى أَبِيْهَا، فَأَخَذَهَا»
(3)
.
(1)
ذكر قصته هذه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 10/ 14، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان: 2/ 88، وفي التاريخ: 1/ 270. وقال ابن حجر في «لسان الميزان» 1/ 329: حكاية منكرة ومخالفة للعقل والواقع.
(2)
تقدم تخريجه فيما سبق، ص (328).
(3)
أخرجه أبو داود في الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبَوين لمن يكون الولد؟: 8/ 280 - 281، والنسائي في الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد:6/ 185، وابن ماجه في الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه: 2/ 782، والإمام أحمد في المسند: 2/ 246 وفي طبعة الرسالة: 12/ 308 وصححه الحاكم: 2/ 206. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 3/ 270 - 271، بذل المجهود في حل سنن أبي داود: 8/ 280 - 283.
ولا أحْسَنَ من هذا الحكم ولا أقْرَبَ إلى الفطرةِ والعدل!
وعند النَّسائِيّ في رواية عن عبدَ الحميدِ بن جعفر الأنصاريِّ عن أبيه أن جَدَّهُ أسلمَ، وأبتِ امرأتُه أن تُسلم، فجاء بابنٍ له صغيرٍ ولم يَبْلُغ، فأجلسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأبَ هاهنا، والأمَّ ها هنا، ثم خيَّرهُ
(1)
وقال: «اللهمَّ اهْدِهِ، فذهبَ إلى أبيهِ»
(2)
.
وفي «المسند» من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خيَّر غلامًا بين أبيهِ وأمِّهِ
(3)
.
وأمَّا تقييدُ وقتِ التخيير بسبعٍ، فليس في الأحاديث المرفوعةِ اعتباره، وإنَّما ذُكِرَ فيه أثرٌ عن عليٍّ، وأبي هُرَيْرَةَ.
قال عمارة الجَرْمِيّ: خيَّرني عليٌّ بين أُمِّي وعَمِّي، وكنت ابنَ سبعِ سنينَ أو ثمانِ سنين
(4)
.
(1)
«ثم خيَّرهُ» ساقط من (أ، ب، د).
(2)
أخرجه النسائي في الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد: 6/ 185.
(3)
المسند: 2/ 246، وفي طبعة الرسالة: 12/ 308.
(4)
أخرجه البيهقي: 8/ 4. وانظر: إرواء الغليل للألباني: 7/ 251 - 252.
وهذا لا يدلُّ على أن مَنْ دون ذلك لا يخيَّر، بل اتَّفَقَ أنَّ ذلك الغُلامَ المخيَّر كان سِنُّه ذلك.
وفي «السُّنَن» من حديث أبي هُرَيْرَةَ: جاءتْ امرأةٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ الله! إنَّ زَوْجِي يُريدُ أن يَذهبَ بِابْنِي، وقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ وقَدْ نَفَعَنِي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هذا أَبُوكَ، وهذه أمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أيّهِمَا شِئْتَ. فأَخَذَ بِيَدِ أُمّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ
(1)
. ولم يَسْألْ عن سنِّه.
وظاهرُ أمرِهِ أنَّ غاية ما وصل إليه أنّه سقاها من البئر، فليس في أحاديث التخيير ـ مرفوعِها وموقوفِها ـ تقييدٌ بالسبع، والذي دلت عليه أنَّه متى ميَّز بين أبيه وأمه خُيِّر بينهما، والله أعلم.
وكذلك صحة إسلامه لا تتوقف على السبع، بل متى عقَل الإسلامَ ووصفَه، صحَّ إسلامه. واشترط الخِرَقِيُّ: أن يكون ابنَ عَشْرِ سنينَ
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في الطلاق، باب من أحقُّ بالولد؟: 8/ 342 - 343، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا: 4/ 589 وقال: «حديث حسن صحيح» ، والنسائي في الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد: 6/ 185 - 186 وابن ماجه في الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه: 2/ 782، والإمام أحمد في المسند: 2/ 246 وفي طبعة الرسالة: 12/ 308 وصححه الحاكم: 2/ 206. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 3/ 270 - 271، بذل المجهود في حل سنن أبي داود: 8/ 280 - 283.
(2)
انظر: مختصر الخرقي مع المغني لابن قدامة: 12/ 278.
وقد نصَّ أَحْمَدُ على ذلك في الوصية، فإنه قال في رواية ابنه صالح وعبد الله، وعمه أبي طالب، وإسْحَاق بن إبراهيم، وأبي داود، وابن منصور: على اشتراط العشر سنين لصحة وصيته.
وقال له أبو طالب: فإن كان دون العشرة؟ قال: لا.
واحتج في رواية إسْحَاق بن إبراهيم بأنه يُضرَبُ على الصلاة لعشرٍ
(1)
.
وأما إسلامُه: فقال في «المغنى» :
«أكثرُ المصحِّحينَ لإسْلامِه لم يَشْترطُوا العشرَ، ولم يحدُّوا له حدًّا، وحكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن أَحْمَدَ؛ لأنَّ المقصودَ حَصَلَ، لا حَاجةَ إلى زيادةٍ عليهِ
(2)
.
ورُوِيَ عن أَحْمَدَ: إذا كانَ ابنَ سبعِ سنينَ، فإسْلامُه إسلامٌ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«مُرُوهُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ» فدلَّ على أنَ ذلكَ حدٌّ لأمْرِهِمْ وصحةِ عباداتِهِمْ، فيكونُ حدًّا لصحّةِ إسْلَامِهِم
(3)
.
(1)
انظر أقوال الإمام أحمد والروايات عنه في المسائل برواية عبدالله: 1/ 188 - 189، و 3/ 1170، ورواية ابن هانئ: 2/ 39، ورواية أبي داود، ص 214، والمغني لابن قدامة: 12/ 278 - 280.
(2)
«وأما إسلامه
…
زيادة عليه» ساقط من «د» .
(3)
انظر: الجامع للخلال: أحكام أهل الملل، ص 40 - 41.
وقال ابنُ أبي شيبةَ: إذا أسلمَ وهو ابنُ خمسِ سنينَ جُعِلَ إسلامُه إسلامًا، لأن عليًّا أسلمَ وهو ابنُ خمسِ سنينَ.
وقال أبو أيُّوب: أُجيزُ إسْلامَ ابنِ ثلاثِ سنينَ. من أصاب الحقَّ، من صغيرٍ أو كبيرٍ أجَزْنَاهُ. وهذا لا يَكَاد يَعْقِلُ الإسْلامَ ولا يَدْرِي مَا يَقُولُ، ولا يثبتُ لقولِه حكمٌ، فإنْ وُجِدَ ذلك منهُ، ودلَّتْ أقْوالُه وأفعالُه على معرفةِ الإسْلامِ وعَقْلِهِ إيَّاهُ، صَحَّ منه كَغَيْرِهِ». انتهى كلامه
(1)
.
فقد صرَّح الشيخُ بصحَّةِ إسلامِ ابنِ ثلاثِ سنينَ إذا عَقَلَ الإسلامَ.
وقد قال الميمونيُّ: قلتُ لأبي عبد الله: الغُلام يُسْلِمُ وهو ابنُ عشرِ سنينَ، ولم يبلغِ الحِنْثَ؟
قال: أقبلُ إسْلامَهُ
(2)
.
قلت: بأيِّ شيء تحتجُّ فيه؟
قال: أنا أضْرِبُه على الصَّلاةِ ابنَ عشرٍ، وأفرِّقُ بينهم في المضَاجِعِ
(3)
.
وقال الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سألتُ أَحْمَدَ عن الصبيِّ النَّصْرَانيِّ يُسْلِمُ كيفَ تَصْنَعُ بِهِ
(4)
؟
(1)
في المغني لابن قدامة: 12/ 280.
(2)
في حاشية «د» : يُقبَل.
(3)
انظر: أحكام أهل الملل للخلال، ص 41 ـ 42.
(4)
في أحكام هل الملل: يصنع به.
قال: إذا بلغ عشرًا أجْبَرْتُه على الإسلامِ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«علِّمُوا أَوْلَادَكُمُ الصَّلاةَ لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْرٍ»
(1)
.
فهذه روايةٌ، وعنه روايةٌ أُخْرَى: يصحُّ إسلامُ ابنِ سبعِ سِنينَ.
قال أبو الحارث: قيل لأبي عبد الله: إنَّ غلامًا صغيرًا أقرَّ بالإسلامِ، وشَهِدَ أنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ وصلَّى، وهو صغيرٌ لم يُدْرِكْ، ثمَّ رَجَعَ عَنِ الإسْلامِ، يجوزُ إسْلامُه وهو صغيرٌ؟
قال: نعم، إذا أَتَى لهُ سَبْعُ سنينَ ثم أَسْلَمَ، أُجْبِرَ على الإسْلامِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«عَلِّمُوهُمُ الصَّلاةَ لِسَبْعٍ» فكانَ حُكْمُ الصَّلاةِ قد وَجَبَ، إذْ أمَرَ أنْ يُعَلِّموهُمُ الصَّلاةَ لِسَبْعٍ
(2)
.
وقال صالحٌ: قال أبي: إذا بلغَ اليهوديُّ والنصرانيُّ سبعَ سنينِ ثمَّ أسلمَ أُجبر على الإسلامِ، لأنَّه إذا بلغَ سبعًا أُمِرَ بالصَّلاةِ.
قلتُ: وإنْ كانَ ابنَ ستٍّ؟ قال: لا
(3)
.
فصل
فإذا صار ابنَ عشرٍ ازدادَ قُوَّةً وعقلًا واحتمالًا للعباداتِ، فيُضْرَب على تَرْكِ الصَّلاةِ، كما أمرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ضربُ تأديبٍ وتمرينٍ، وعند بلوغِ
(1)
انظر: أحكام أهل الملل للخلال، ص 42 ـ 43.
(2)
«فكان حكم .. لسبعٍ» ساقط من «أ» . وانظر: أحكام أهل الملل للخلال، ص 43.
(3)
انظر: أحكام أهل الملل للخلال ص 41.
العشر يتجدَّدُ له حالٌ أخرى يقوى فيها تمييزُه ومعرفتُه، ولذلك ذهب كثيرٌ من الفقهاء إلى وجوب الإيمانِ عليه في هذا الحال، وأنه يُعَاقَب على تَرْكِه، وهذا اختيارُ أبي الخطَّاب وغيره، وهو قول قويٌّ جدًّا، وإن رفع عنه قلم التكليف بالفروع، فإنَّه قد أُعْطِي آلةَ معرفةِ الصانع والإقرار بتوحيده وصدق رسله، وتمكَّنَ مِن نظر مثله واستدلاله، كما هو متمكِّن من فهم العلوم والصنائع، ومصالح دنياه، فلا عذر له في الكفر بالله ورسوله، مع أنَّ أدلة الإيمان بالله ورسوله أظْهَرُ من كلِّ علمٍ وصناعةٍ يتعلَّمُها.
وقد قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام/ 19]. أي: ومن بلَغَهُ القُرآنُ. فكلُّ من بلغه القرآنُ وتمكَّن من فهمه، فهو منذَرٌ به.
والأحاديثُ التي رُوِيَتْ في امتحان الأطفال والمعتوهين والهالك في الفترة، إنَّما تدلُّ على امتحانِ مَنْ لم يَعقل الإسلامَ، فهؤلاء يُدْلُونَ بِحُجَّتِهم أنَّهم لم تبلُغْهم الدعوةُ ولم يَعقِلوا الإسلام، ومَنْ فَهِمَ دقائق الصناعات والعلوم لا يمكنه أن يُدْلِيَ على الله بهذه الحجة.
وعدمُ ترتيبِ الأحكامِ عليهم في الدنيا قبل البلوغ، لا يدلُّ على عدم ترتيبها عليهم في الآخرة.
وهذا القولُ هو المَحْكِيُّ عن أبي حنيفةَ وأصحابِه، وهو في غايةِ القوَّةِ
(1)
.
(1)
وانظر بحثًا موسعًا في طريق الهجرتين للمصنف: 2/ 842 ـ 877، وأحكام أهل الذمة: 2/ 609 وما بعدها، والجواب الصحيح لابن تيمية: 1/ 310 وما بعدها، ومختصر الفتاوى المصرية للبعلي ص 642 ـ 643.
فصل
ثم بعد العشر إلى سنِّ البُلوغِ يسمَّى مُراهِقًا ومناهزًا للاحتلام، فإذا بلغ خمسَ عَشْرَةَ سنة عَرَضَ له حالٌ أخرى، يحصل معه الاحتلامُ ونباتُ الشَّعْر الخَشِنِ حَوْلَ القُبُلِ، وغلظُ الصوتِ، وانفراقُ أرنبةِ أنفِه.
والَّذي اعْتَبَرَهُ الشَّارعُ من ذلك أمرانِ: الاحتلامُ، والإنباتُ.
أما الاحتلام: فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} . ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور/58 ـ 59].
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القلمُ عَنْ ثلَاثةٍ: عَنِ الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يُفِيْقَ، وعن النائمِ حتى يَسْتيقِظَ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري تعليقًا في الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق: 9/ 388، وأبو داود في الحدود: 6/ 229 - 230 مع تهذيب المنذري وتعليق ابن القيم، والترمذي في الحدود: 4/ 685 مع التحفة، وابن ماجه في الطلاق: 1/ 658، وابن حبان ص 360 من موارد الظمآن، وصححه الحاكم: 1/ 258 على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 6/ 100، وفي طبعة الرسالة: 41/ 232، وابن خزيمة: 4/ 348. وانظر: إرواء الغليل: 2/ 4 - 7.
وقال لمعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . رواهما أَحْمَد وأبو داود
(1)
.
وليس لوقتِ الاحتلامِ سنٌّ معتادٌ، بل من الصِّبيانِ مَنْ يحتلمُ لاثنتي عشرةَ سنةً، ومنهم من يأتي عليه خمسَ عشرةَ، وستَّ عشرةَ سنةً، وأكثرُ مِنْ ذلك، ولا يحتلمُ.
واختلف الفقهاء في السنِّ الذي يبلغ به مثلُ هذا، فقال الأَوْزَاعِيُّ، وأَحْمَدُ، والشّافِعِيّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمَّد: متى كمَّل خمسَ عشرةَ سنةً حُكِمَ ببلوغِه.
ولأصحاب مالكٍ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها سبع عشرة، والثاني ثماني عشرة، والثالث خمس عشرة. وهو المحكيُّ عن مالك.
وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما سبع عشرة، والأخرى: ثماني عشرة، والجَارِيَة عند سبع عشرة
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة: 2/ 195، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر: 3/ 257، وقال:«هذا حديث حسن» . ثم قال: «وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق
…
وهذا أصح»، وأخرجه النسائي في الزكاة، باب زكاة البقر: 5/ 26، والدارقطني: 2/ 102، والحاكم: 1/ 398 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند: 5/ 230، وفي طبعة الرسالة: 36/ 338 ـ 339، والبغوي في شرح السنة: 6/ 19. وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 4/ 122.
(2)
انظر: تكملة فتح القدير لابن الهمام: 7/ 323، وجامع أحكام الصغار للأسروشني: 1/ 34 ـ 35.
وقال داود وأصحابه: لا حدَّ له بالسنِّ، إنما هو الاحتلام. وهذا قول قويٌّ وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنِّ حدٌّ البتة. وغايةُ ما احتجَّ به مَن قيَّده بخمس عشرة سنة، بحديث ابن عمر حيث عُرِضَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم في القتال وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْهُ، ثم عُرض عليه وهو ابن خمس عشرة فأجازه
(1)
.
وهذا الحديث وإن كان متفقًا على صحته، فلا دليل فيه على أنّه أجازه لبلوغه، بل لعلَّه استصغره أوَّلًا، ولم يَرَهُ مُطِيْقًا للقتال، فلمَّا كان له خمس عشرة سنة رآه مطيقًا للقتال، فأجازه، ولهذا لم يَسْألْهُ هل احتلمتَ أو لم تحتلمْ، واللهُ سبحانه إنَّما علَّق الأحكامَ بالاحتلامِ، وكذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأتِ عنه في السنِّ
(2)
حديثٌ واحدٌ سوى ما حكاه ابنُ عُمَرَ من إجَازَتِه ورَدِّهِ.
ولهذا اضطربت أقوال الفقهاء في السنِّ الذي يُحكَم ببلوغ الصبيِّ له، وقد نصَّ الإمام أَحْمَدُ على أنَّ الصبيَّ لا يكونُ مَحْرَمًا للمرأة حتى يحتلمَ، فاشْتَرَطَ الاحتلامَ
(3)
.
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الخندق: 7/ 392، ومسلم في الإمارة، باب بيان سن البلوغ: 3/ 1490.
(2)
في «ج» : السنن.
(3)
انظر: المغني لابن قدامة: 5/ 34.
فصل
وأما الإنباتُ: فهو نباتُ الشَّعرِ الخَشِنِ حول قُبُلِ الصبيِّ والبنتِ، ولا اعتبارَ بالزَّغَبِ الضَّعيفِ
(1)
.
وهذا مذهب أَحْمَد، ومالك، وأحد قولي الشّافِعِيّ. وقال في الآخر: هو عَلَمٌ في حق الكفَّار دون المُسْلِمين، لأن أولاد المُسْلِمين يمكن معرفة بلوغهم بالبينة، وقبول قول البالغ منهم، بخلاف الكافر
(2)
.
وقال أبو حنيفة: لا اعتبار به بحال، كما لا يعتبر غلظ الصوت، وافتراق الأنف
(3)
.
واحتج من جعله بلوغًا بما في «الصحيحين» أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حكَّم سعدَ بنَ مُعاذٍ في بَنِي قُرَيظَةَ، فحَكَمَ بأن تُقْتَل مُقَاتِلَتُهم، وتُسْبَى ذَرَارِيهم،
(1)
الزَّغَبُ ـ بفتحتين ـ صِغارُ الشَّعْر ولَيِّنُه حين يبدو من الصَّبيِّ. انظر: المصباح المنير للفيومي: 1/ 253.
(2)
انظر: المغني: 6/ 597 ـ 598، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/ 293، مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 2/ 166.
(3)
قال الناطفي في «جُمَل الأحكام» ص 186: حدُّ البلوغ في الغلام تسع عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وفي رواية في الغلام ثماني عشرة سنة وفي الجارية خمس عشرة سنة. ولبلوغ الغلام ثلاث علامات: إما أن يبلغ هذا المبلغ، أو يحتلم، أو يجامع فيُنزل. ولبلوغ الجارية خمس علامات: الحيض، والحبَل، وهذه العلامات الثلاث في الغلام. وانظر: ملتقى الأبحر للشيخ داماد الحنفي: 1/ 127.
أَمَرَ بأنْ يُكشَفَ عن مُؤْتَزَرِهِم، فمَنْ أنبتَ فهو من المُقَاتِلَةِ، ومن لم يُنْبِتْ أُلحقَ بالذُّريَّة
(1)
.
قال عطيةُ: فشّكُّوا فيَّ فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَنْظُرُوا إليَّ هلْ أَنْبَتُّ بَعْدُ، فنَظَرُوا فيَّ فلم يَجِدُوُنِي أنبتُّ، فَأَلْحقُوني بالذُرّيَّة
(2)
.
واستمر على هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكتب عمرُ إلى عاملِه: أنْ لا تأخذِ الجزيةَ إلا ممَّن جَرَتْ عليه الموسَى
(3)
.
(1)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد، هو ابن معاذ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قريبًا منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيدكم» . فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:«إن هؤلاء نزلوا على حكمك» . قال: فإني أحكم أن تُقتَل المقاتِلة وأن تسبى الذرية. قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» . أخرجه البخاري في الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل 6/ 165، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتل من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم: 3/ 1388 ـ 1389 برقم (1768).
(2)
أخرجه أبو داود في الحدود، باب في الغلام يصيب الحد: 12/ 477 و 4476، والترمذي في السِّيَر، باب ما جاء في النزول على الحكم: 4/ 144، والنسائي في الطلاق، باب متى يقع الطلاق: 6/ 155، وابن ماجه: 2/ 849، والدارمي برقم (2467)، والإمام أحمد: 4/ 310، وفي طبعة الرسالة: 31/ 67. وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان. انظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 3/ 42.
(3)
رواه أبو عُبَيْد القاسم ابن سلَاّم في الأموال ص (47) عن أسْلَم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر البَيْهَقِيُّ
(1)
من حديثِ ابنِ عُليَّةَ، عن إسماعيل بنِ أميَّةَ عن محمَّدِ بنِ يحيى بنِ حبَّان، أنَّ عُمر رُفِع إليه غلامٌ ابْتَهَرَ جاريةً في شِعْرهِ، فقال: انْظرُوا إليه، فلم يُوجَدْ أنْبَتَ، فدَرَأَ عنه الحدَّ.
قال أبوعُبَيْد: والابتهار: أن يقذفها بنفسه، ويقول: فعلتُ بها كاذبًا
(2)
.
وذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه أُتي بغلام قد سرق، فقال: انظروا إلى مُؤْتَزَرِهِ، فنظَرُوا فلم يجدوه أنبتَ الشَّعْرَ، فلم يَقْطَعْهُ
(3)
.
وذُكِرَ عن ابنِ عُمرَ: إذا أصابَ الغُلامُ الحدَّ، فَارتِيْبَ
(4)
فيه، هل احتلمَ أم لا؟ فانظرْ إلى عَانَتِهِ
(5)
.
وفي هذا بيان أن الإنبات عَلَمٌ على البلوغ، وعلى أنه عَلَمٌ في حق أولاد المُسْلِمين والكفَّار، وعلى أنه يجوز النظر إلى عورة الأجنبيِّ للحاجة من معرفة البلوغ وغيره.
(1)
سنن البيهقي: 6/ 58.
(2)
نقله البيهقي في الموضع السابق.
(3)
أخرجه البيهقي: 6/ 58.
(4)
في «ج» : فارتبت.
(5)
أخرجه البيهقي: 6/ 58.
وأمَّا ما ذكره بعض المتأخرين: أنه يكشف
(1)
ويَسْتَدْبِرُه النَّاظر، ويستقبلان المرآةَ جميعًا وينظر إليها الناظر، فيرى الإنبات. فشيءٌ قاله من تلقاء نفسه، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من الصحابة، ولا اعتبره أحدٌ من الأئمةِ قَبْلَه.
فصل
فإذا تيقّن بلوغَه جرى عليه قلمُ التَّكليف، وثبتَ له جميعُ أحكامِ الرَّجُل، ثم يأخذ في بلوغ الأشُدِّ.
قال الزَّجَّاجُ: «الأشُدّ» : من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين
(2)
.
وقال ابن عبَّاس في رواية عطاء عنه: «الأشُدّ» : الحلم. وهو اختيار يحيى بن يعمر، والسُّدّيّ. وروى مجاهد عنه: ثلاثًا وثلاثين
(3)
سنة، وروى عنه أيضًا: ثلاثين.
وقال الضّحَّاك: عشرين سنة، وقال مقاتل: ثمان عشرة
(4)
.
(1)
في «أ» : يكشف عنه.
(2)
معاني القرآن وإعرابه للزجّاج: 4/ 442.
(3)
في (ب، ج): ستًا وثلاثين.
(4)
انظر هذه الأقوال وتخريجها في تفسير الطبري: 12/ 23 وما بعدها، وتفسير البغوي: 3/ 204 و 4/ 226 و 6/ 195، وتفسير ابن أبي حاتم: 5/ 439 و 8/ 319 - 320، ومعاني القرآن للنحاس: 5/ 164.
وقد أحكم الأزهَرِيُّ
(1)
تفسير اللفظة
(2)
، فقال: بلوغ الأشُدِّ يكون من وقتِ بلوغِ الإنسانِ مبلغَ الرِّجال إلى أربعينَ سنةً. قال: فبلوغ الأشُدِّ محصورُ الأوَّلِ، محصورُ النهايةِ، غيرَ محصورٍ ما بين ذلك. فبلوغ الأشد مرتبةٌ بين البلوغ وبين الأربعين.
ومعنى اللفظة من الشدة، وهي القوة والجلادة. والشديد: الرَّجُلُ القويُّ، فالأشُدُّ: القُوَى.
قال الفَرَّاء: واحدها: شَدٌّ في القياس، ولم أسمع لها بواحدٍ
(3)
.
وقال أبو الهيثم: واحدها: شِدَّةٌ كَنِعْمَةِ وأنْعُمٍ.
وقال بعض أهل اللغة: واحدها: شُدٌّ بضم الشين، وقال آخرون
(1)
في (ب، ج): الزهري. وانظر: تهذيب اللغة للأزهري: 11/ 266 وما بعدها.
(2)
في جميع النسخ «تحكيم» وفي هامش «أ» : لعله: تفسير. وهو الأنسب للسياق.
(3)
قال الطبري في التفسير 12/ 22: «الأشُد» جمع «شَدٍّ» ، كما «الأضُرّ» جمع «ضر» ، وكما «الأشُرّ» جمع «شر» ، و «الشد»: القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كما «شَدُّ النهار» ارتفاعُه وامتداده. يقال: أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار، وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضَّل ـ فيما بلغني ـ ينشد بيت عنترة:
عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا
…
خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ
وكان بعض البصريين يزعم أن «الأشد» مثل «الآنُك» .
فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل:«بلغ أشدّه» .
منهم: هو اسم مفرد، كالآنُك، وليس بجمع. حكاهما ابنُ الأنْبَارِيّ
(1)
.
فصل
ثم بعد الأربعين يأخذ في النُّقصَانِ وضَعْفِ القُوى على التَّدريج، كما أخذ في زيادتها على التَّدريج.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم/54]. فقوَّتُه بين ضعفين، وحياته بين موتين، فهو أولًا نُطْفَة، ثم عَلَقَةٌ، ثم مُضْغَةٌ، ثم جنينٌ ما دام في البطن، فإذا خرج فهو وليد، فما لم يستتمَّ سبعة أيام، فهو صَدِيغٌ ــ بالغين المعجمة ــ لأنه لم يشتدَّ صُدْغُه، ثم ما دام يرضع، فهو رَضِيع، فإذا قطع عنه اللبن فهو فَطِيمٌ، فإذا دبَّ ودَرَجَ فهو دَارِجٌ، قال الرَّاجِز:
يَا لَيْتَنِي قَد زُرْتُ غَيرَ حَارِج
…
أمَّ صَبِيٍّ قد حَبَا أو دَارِجِ
(2)
فإذا بلغ طوله خمسةَ أشبارٍ، فهو: خماسي، فإذا سقطت أسنانه، فهو مَثْغُور وقد ثَغَرَ، فإذا نبتت بعد سقوطها، فهو مُثَّغِرٌ ـ بوزن مُدِّكِر ـ بالتاء والثاء معًا، فإذا بلغ السبع وما قاربها، فهو مميِّز، فإذا بلغ العشر، فهو مُتَرَعْرِعٌ ونَاشِئ، فإذا قارب الحلُم، فهو يافِعٌ، ومُرَاِهٌق، ومُنَاهِزٌ للحُلُم،
(1)
انظر هذه الأقوال في تهذيب اللغة للأزهري: 11/ 266 وما بعدها، ومعاني القرآن للنحاس: 5/ 164، ومعاني القرآن وإعرابه للزجَّاج: 4/ 442.
(2)
هما للشماخ بن ضرار المازني الذبياني في ديوانه، ص 363.
فإذا بلغ، فهو بَالِغٌ، فإذا اجتمعت قوَّتُه، فهو حَزَوَّر، واسمه في جميع ذلك غُلَامٌ ما لم يخضَرَّ شاربُه، فإذا اخضرَّ شاربه وأخذ عِذَارُهُ في الطلوع، فهو بَاقِلٌ، وقد بَقَلَ وجهه ـ بالتخفيف ـ ثم هو ما بين ذلك وبين تكامل لحيته: فَتَى وشَارِخٌ بحصول شرخ الشباب له
(1)
.
قال الجَوْهَرِيُّ: الفتى: الشَّاب، والفتاة: الشَّابة
(2)
. ويطلق الفتى على المملوك وإن كان شيخًا كبيرًا، ومنه الحديث:«لا يَقُلْ أحدُكم: عَبْدي وأَمَتِي، ولْيَقُلْ: فَتَايَ وفَتَاتِي»
(3)
. ويقال: الفتى، على السَّخِيِّ الكريم
(4)
.
فإذا اجتمعت لحيتُه، فهو شَابُّ إلى الأربعين، ثم يأخذ في الكُهُولَة إلى الستين، ثم يأخذ في الشَّيْخُوخَة، فإذا أخذ شعرُه في البياض، قيل: شَابَ، فإذا ازداد قيل: وَخَطَهُ الشَّيْبُ، فإذا زاد قيل: شَمِط، فإذا غلب شيبه، فهو أغْثَمٌ، فإذا اشتعل رأسُه ولحيته شيبًا، فهو مُتَقَعْوِسٌ
(5)
، فإذا
(1)
انظر: المخصص لابن سيده: 1/ 30 - 46، وفقه اللغة وسر العربية للثعالبي، ص 110 ـ 111، وفتح الباري لابن حجر: 5/ 279
(2)
انظر: الصحاح: 6/ 2451.
(3)
أخرجه البخاري في العتق، باب كراهية التطاول عل الرقيق: 5/ 177، ومسلم في الألفاظ، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد: 4/ 1764 برقم (2249).
(4)
الصحاح، الموضع السابق.
(5)
في «أ، ج، د» : منق. وفي المخصَّص لابن سيده 1/ 30: قال أبو عبيد: تَقَعْوَسَ الشيخُ: كَبِرَ. وتَقَعْوَسَ البَيْتُ تَهَدَّم، وقال ابن الأنباري: تَقَعْوَشَ كتَقَعْوَسَ.
انحطَّ قواه فهو هَرِمٌ، فإذا تغيَّرت أحواله وظهر نَقْصُه فقد رُدَّ إلى أَرْذَلِ العُمُر، فالموت أقرب إليه من اليد إلى الفم.
فصل
فإذا بلغ الأجلَ الذي قُدِّر له
(1)
واستوفاه، جاءته رُسُل ربِّه
ــ عز وجل ــ ينقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، فجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم دنا منه الملَك الموكَّل بقبض الأرواح، فاستدعى بالروح.
فإن كانت روحًا طيبةً، قال: اخْرُجِي أيتها النَّفس الطيِّبة
(2)
كانت في الجسد الطيِّب، اخرجي حميدة وأبشري برَوْحٍ ورَيْحَانٍ وربٍّ غيرِ غضبان، فتخرج من بدنه كما تخرج القطرة مِنْ فِي السِّقَاء، فإذا أخذها لم يَدَعْهَا الرُّسُل في يديه طَرْفَةَ عينٍ، فَيُحنِّطُونها ويُكَفِّنُونها بحَنُوط وكفن من الجنَّة، ثم يصلُّون عليها، ويوجد لها كأطيب نفحةِ مسكٍ وُجِدَتْ على وجه الأرض، ثم يصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين، فينتهي بها إلى سماء الدنيا، فيستأذن لها، فيفتح لها أبواب السماء، ويصلِّي عليها ملائكتها، ويشيِّعها مُقَرَّبُوهَا إلى السماء الثانية، فيُفْعَلُ بها كذلك، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ــ عز وجل ــ فتحيِّي ربَّها تبارك وتعالى بتحية الربوبية: اللهم أنت
(1)
في «أ» : قدر الله له. وانظر في هذا الفصل: التذكرة بأحوال الموتى وأمر الآخرة للقرطبي: 1/ 221 وما بعدها.
(2)
في «ج» : الطيبة المطمئنة.
السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
فإن شاء الله أَذِنَ لها بالسجود، ثم يخرج لها التوقيع بالجنة، فيقول الربُّ جل جلاله: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيّين، ثم أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرجهم تارة أخرى.
ثم ترجع روحه إلى الأرض، فتشهد غسله وتكفينه وحمله وتجهيزه، ويقول: قَدِّمُونِي، قدِّموني.
فإذا وضع في لحده، وتولَّى عنه أصحابه، دخلتِ الرُّوح معه، حتى إنه ليسمع قَرْعَ نعالهم على الأرض، فأتاه حينئذٍ فتَّانَا القبر، فيُجْلِسَانه ويَسألانه: مَنْ ربُّك، وما دينُكَ، ومَن نبيُّك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمَّد، فيصدِّقانه ويبشِّرانه بأنَّ هذا الذي عاش عليه ومات عليه، وعليه يُبعث.
ثم يُفسح له في قبره مَدَّ بصره، ويُفرش له خضر، ويُقَيَّضُ له شابٌّ حَسَنُ الوجه طيِّبُ الرائحة، فيقول: أبْشِرْ بالذي يَسُرُّكَ.
فيقول: مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير.
فيقول: أنا عَمَلُكَ الصَّالح.
ثم يُفتح له طاقةٌ إلى النَّار، يقال: انظرْ ما صرفَ اللهُ عنك! ثم يفتح له طاقة إلى الجنة، ويقال: انظر ما أعدَّ الله لك! فيراهما جميعًا.
وأمَّا النَّفْس الفَاجِرةُ، فبالضدِّ من ذلك كلِّه. إذا أذنت بالرحيل نزل
عليها ملائكة سود الوجوه، معهم حنوط من نار، وكفن من نار، فجلسوا منه مد البصر، ثم دنا الملك الموكل بقبض النفوس، فاستدعى بها، وقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أبشر بحميم وغَسَّاق، وآخر من شكله أزواج، فتتطاير في بدنه، فيجتذبها من أعماق البدن، فتنقطع معها العروق والعصب، كما ينتزع الشوك من الصوف المبلول
(1)
، فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين: ويوجد لها كأنتن رائحة جيفة على وجه الأرض، فتحنط بذلك الحَنُوط وتُلفُّ في ذلك الكفن، ويلعنها كل ملك بين السماء والأرض، ثم يصعد بها إلى السماء فيستفتح لها فلا يفتح لها أبواب السماء، ثم يجيء النداء من رب العالمين: اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فتطرح روحه طرحًا، فتشهد بتجهيزه وتكفينه وحمله، وتقول وهي على السرير: يا ويلها، إلى أين تذهبون بها.
فإذا وضع في اللَّحد أُعيدت إليه وجاءه الملَكان، فسألاه عن ربه ودينه ونبيه، فيَتَلَجْلَج ويقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريتَ، ولا تليتَ، ثم يضربانه ضربةً يصيح صيحة يسمعه كلُّ شيء إلا الثقلين، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يُفرش له نار، ويفتح له طاقة
(2)
إلى الجنة، فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفتح له طاقة إلى
(1)
ساقطة من «أ، ج» .
(2)
في «أ» : باب.
النار، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، فيراهما جميعًا، ثم يقيَّض له أعمى أصم أبكم، فيقول: مَنْ أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرِّ، فيقول: أنا عملك السيئ.
ثم يُنَعَّمُ المؤمن في البَرْزَخِ على حسب أعماله، ويُعَذَّبُ الفاجر فيه على حسب أعماله.
ويختصُّ كل عضوٍ بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتُقْرَض شِفَاهُ المغتابين الذين يُمزِّقُون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمَقَارِيضَ من نار، وتُسْجَرُ بطون أَكَلَةِ أموال اليتامى بالنار، ويُلْقَم أكلة الرِّبا بالحجارة، ويسبحون في أنهار الدم كما سبحوا في الكسب الخبيث، وتُرَضُّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويُشَقُّ شِدْقُ الكذاب الكذبة العظيمة بكَلَالِيب الحديد إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه كما شَقَّتْ كذبتُه النواحي، وتُعلَّق النساء الزَّوَانِي بثُديهنَّ، وتحبس الزناة والزواني في التَّنُّور المحمى عليه، فيعذب محلُّ المعصية منهم وهو الأسافل.
وتُسلَّط الهُمُومُ والغُمُومُ والأحْزَانُ والآلامُ النفسانيَّة على النفوس البطَّالة التي كانت مشغولة
(1)
باللَّهْو واللَّعِب والبطالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما يصنع الهوامُّ والدِّيدان في لحومهم، حتى يأذن الله ـ سبحانه ـ
(1)
في (أ، د): مشغوفة.
بانقضاء أجل العالم وطيِّ الدنيا، فتمطر الأرض مطرًا غليظًا أبيض كمَنِيِّ الرجال، أربعين صباحًا، فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب.
فإذا تكاملت الأجنَّة وأقربت الأم، وكان وقت الولادة، أمر الله سبحانه إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث، وهي الثالثة، وقبلها نفخة الموت، وقبلها نفخة الفزع، فتشققت الأرض عنهم، فإذا هم قيام ينظرون، يقول المؤمن:«الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور» .
ويقول الكافر: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس/ 53]، فيساقون إلى المحشر حُفاة عُراة غُرْلًا بُهْمًا، مع كلِّ نفسٍ سائقٌ يسوقها وشهيدٌ يشهد عليها، وهم بين مسرور ومَثْبُور، وضاحك وباكٍ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس/ 38 ـ 41].
حتى إذا تكاملتْ عِدَّتُهم، وصاروا جميعًا على وجه الأرض، تشقَّقتِ السماء، وانْتَثَرتِ الكواكب، ونزلتْ ملائكة السماء، فأحاطت بهم، ثم نزلت ملائكةُ السماء الثانية، فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كلُّ سماء كذلك.
فبينما هم كذلك، إذ جاء ربُّ العالمين ـ سبحانه ـ لفصل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميَّز المجرمون من المؤمنين، ونُصِبَ الميزانُ، وأُحْضِر الدِّيوانُ، واسْتُدْعِي بالشهود، وشهدت يومئذ الأيدي والألْسُن والأَرْجُل والجلود.
ولا تزال الخصومة بين يدي الله ـ سبحانه ـ حتى يختصم الروح والجسد، فيقول الجسد: إنما كنت ميتًا لا أَعْقِل ولا أسمع ولا أُبصر، وأنتِ كنتِ السميعةَ المبصرة العاقلةَ، وكنت تصرِّفِينَنِي حيث أردتِ، فتقول الرُّوح: وأنت الذي فعلتَ وباشرتَ المعصية وبطشتَ!
فيُرسِل الله ـ سبحانه ـ إليهما ملَكًا يحكم بينهما، فيقول: مثَلُكُمَا مَثَلُ بصير مقعد، وأعمى صحيح، دخلا بستانًا، فقال المقعد: أنا أرى الثمار ولا أستطيع أن أقوم إليها، وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أرى شيئًا، فقال له المقعد: احملني حتى أصل إلى ذلك، ففعلا، فعلى من تكون العقوبة؟
فيقولان: عليهما، فيقول: فكذلك أنتما.
فيحكم الله ـ سبحانه ـ بين عباده بحكمه الذي يَحمَدُه عليه جميعُ أهل السماوات والأرض، وكلُّ بَرٍّ وفاجر، ومؤمن وكافر، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل/ 111]. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة/ 7 ـ 8].
ثم ينادي منادٍ: لتتبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم، وأهلُ الصَّليب مع صليبهم، وكلُّ مشركٍ مع إلهه الذي كان يعبد، لا يستطيع التخلُّفَ عنه، فيتساقطونَ في النار.
ويبقى الموحِّدونَ، فيقالُ لهم: ألا تنطلقونَ حيث انطلقَ النَّاسُ؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإن لنا ربًّا ننتظره.
فيقال: وهل بينكم وبينه علامةٌ تعرفونه بها؟
فيقولون: نعم، إنه لا مثل له.
فيتجلَّى لهم سبحانه في غير الصورة التي يعرفونه، فيقول: أنا ربُّكم.
فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يَأتِيَنا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه، فيتجلَّى لهم في صورته التي رأوه فيها أوَّلَ مرَّةٍ ضاحكًا، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعم، أنت ربُّنا، ويخِرُّون له سجّدًا، إلا من كان لا يصلي في الدنيا، أو يصلي رياء، فإنَّه يُحَال بينه وبين السّجُودِ.
ثم ينطلق ـ سبحانه ـ ويَتبعونه، ويُضرب الجسرُ، ويُساق الخلق إليه، وهو دحض مَزَلَّة، مظلم، لا يمكن عبوره إلا بنور، فإذا انتهوا إليه، قسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا، فنورٌ كالشمس، ونورٌ كالنجم، ونورٌ كالسراج في قوَّته وضعفه.
وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ على جَنَبَتَي الصِّراط، فلا يجوزه خائنٌ، ولا قاطعُ رَحِمٍ.
ويختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا، فمارٌّ كالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأَجَاوِيْدِ الخيل؛ وساعٍ، وماشٍ، وزاحفٌ، وحابٍ حَبْوًا.
ويُنْصَبُ على جَنَبتَيهِ كَلَالِيبُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلا الله ــ عز وجل ــ تعوقُ من علقت به عن العُبُور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومَرْضَاتهِ وعُبُودِيَّتِهِ، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مُسَلَّم، ومقطع بتلك الكلاليب، ومَكْدُوسٌ في النار، وقد طفئ نور المنافقين على الجسر أحْوَجَ ما كانوا إليه، كما طفئ في الدنيا من قلوبهم، وأُعْطُوا دون الكفار نورًا في الظاهر كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن، فيقولون للمؤمنين: قفوا لنا {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} ما نجوزُ به، فيقول المؤمنون والملائكة:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} ] الحديد/ من الآية 13 [.
قيل: المعنى: ارجعوا إلى الدنيا، فخذوا من الإيمان نورًا تجوزون به كما فعل المؤمنون
(1)
.
وقيل: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار، فالتمسوا هناك نورًا تجوزون به.
ثم ضرب {بَيْنَهُمْ} وبين أهل الإيمان {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} الذي يلي
(1)
أخرج نحوه الطبري عن ابن عباس: 27/ 224. وانظر: الدر المنثور: 14/ 270 - 271.
المؤمنين {فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ} الذي يليهم: {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد/13 ـ 15].
فإذا جاوز المؤمنون الصِّراط ـ ولا يجوزه إلا مؤمن ـ أَمِنُوا من دخول النَّار، فيحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في دار الدنيا، حتى إذا هذِّبوا
(1)
ونقوا أُذِن لهم في دخول الجنة
(2)
.
فإذا استقرَّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، أُتي بالموت في صورة كبش أمْلَح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! فيطَّلعون وَجِلِيْنَ، ثم يقال: يا أهل النار! فيطَّلعون مستبشرين فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلُّهم قد عرفه. فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت
(3)
.
(1)
في «د» : ذهبوا.
(2)
أخرج البخاري في المظالم، باب القصاص رقم (2440) عن أبي سعيد الخدري:«إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين .. » الحديث.
(3)
أخرجه البخاري بنحوه في التفسير: 8/ 429، ومسلم في الجنة: 4/ 2188 برقم (2849).
فهذا آخر أحوال هذه النُّطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوال وأطباق قدَّر العزيزُ العليمُ تنقُّلَ الإنسان فيها، وركوبَه لها طبقًا
(1)
بعد طبقٍ، حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة.
فنسأل الله العظيمَ ربَّ العرشِ الكريمَ أن يجعلنا من الذين سبقت لهم
(2)
منه الحُسْنَى، ولا يجعلنا من الذين غلبت عليهم الشقاوة فخسروا الدنيا والآخرة، إنَّه سميعُ الدعاءِ، وهو حَسْبُنَا ونِعْمَ الوكيلُ.
والحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنَا محمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وسلَّم تسليمًا دائمًا إلى يومِ الدِّيْنِ
(3)
.
(1)
في «د» : طبق.
(2)
في «د» : سبقت له. وقبلها: غلبت. ثم شطب عليها.
(3)
بعد هذا في نسخة «أ» : «فرغ من نسخه يوم السبت الثالث من شهر جمادى الآخر (كذا) سنة سبعين وسبعمئة» ثم اسم الناسخ عبدالله بن أحمد بن عبدالله المقدسي الحنبلي. عفا الله عنهم بمنّه وكرمه. ويليه تملكات مؤرخة وبعضها مشطوب عليه.
وفي نسخة «ب» : «تمّ بعونه ولطفه» . ويليه ختم الوقفية.
وفي نسخة «ج» بعد قوله وهو حسبنا ونعم الوكيل: «والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمَّد خاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
وفي نسخة «د» بعد قوله ونعم الوكيل: آمين آمين آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. فرغ من نسخه كاتبه العبد الفقير المعترف بالزلل والتقصير الراجي عفو ربه الغني عبدالله بن علي بن أيدغدي الحنبلي. غفر الله له، في الثاني والعشرين من شهر رمضان المعظَّم قدْره، سنة سبع وثمانمئة. والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم كتب من طالعه وقرأه: الحمد لله وحده، بلغ مطالعة من أوله إلى آخره فقير عفو ربه العلي عبدالقادر الحنبلي عامله الله بلطفه الخفي والجلي بتاريخ شهر شوال المبارك سنت إحدى وتسعين وثماني مئة. أحسن الله تقضيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.