الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بجملته ولا يهتدي لتفصيله، وقسم ليس في العقل قوة إدراكه، وأما القسم الرابع وهو ما يحيله العقل الصريح ويشهد ببطلانه، فالرسل بريئون منه، وإن ظنَّ كثير من الجهَّال المدَّعين للعلم والمعرفة أنَّ بعض ما جاءت به الرسل يكون من هذا القسم، فهذا إمَّا لجهله بما جاءت به، وإمّا لجهله بحكم العقل، أوْ لهما.
فصل
في مقدارِ زمانِ الحَمْلِ واختلافِ الأَجِنَّة
في ذلك
(1)
قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/15].
فأخبر تعالى أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرًا، وأخبر في آية البقرة أنَّ مدة تمام الرَّضاع {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، فعُلِمَ أنَّ الباقي يصلُح مدةً للحَمْلِ، وهو ستة أشهر.
فاتفق الفقهاء كلُّهم على أن المرأة لا تَلِدُ لدون ستةِ أشهرٍ إلا أن يكون سِقْطًا، وهذا أمر تلقَّاه الفقهاءُ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم
(2)
.
فذكر البَيْهَقِيُّ وغيره، عن حرب بن أبي الأسود الدّيْلِيّ، أنَّ عُمَرَ أُتي
(1)
في «أ، ب» : في مدة زمان الحمل واختلاف مقدار الأجنة في ذلك.
(2)
انظر: التبيان في أيمان القرآن للمصنف، ص 509 ـ 510.
بامرأةٍ قد ولدت لستة أشهر، فهمَّ عمر برَجْمِهَا، فبلغ ذلك عليًّا رضي الله عنه، فقال: ليس عليها رجمٌ. فبلغ ذلك عُمَرَ، فأرسلَ إليه فسألَه. فقال:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة/ 233]. وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/ 15]. فستةُ أشهرٍ حَمْلُهُ، وحولانِ تمامُ الرَّضاعة، لا حدَّ عليها. قال: فخلَّى عنها
(1)
.
وفي «موطأ مالك» : أنّه بلَغَهُ أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رضي الله عنه أُتي بامرأةٍ وقد وَلَدَتْ في ستة أشْهُرٍ، فأَمَرَ بها أنْ تُرْجَمَ، فقال عليٌّ: ليس ذلك عليها، قالَ اللهُ تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان/14]. فأمَرَ بها عثمانُ أن تُردَّ، فَوَجَدَهَا قدْ رُجِمَتْ
(2)
.
وذكر داود بن أبي هند، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاس، أنه كان يقول:
(1)
سنن البيهقي: 7/ 442، وأخرجه أيضًا: عبدالرزاق في المصنف: 7/ 279.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا: 2/ 255. قال ابن عبدالبر: رواه ابن أبي ذئب، وذكره في موطئه عن زيد بن عبدالله .. ويختلف أهل المدينة في رواية هذه القصة، فمنهم من يرويها لعثمان مع علي، كما رواها مالك وابن أبي ذئب، ومنهم من يرويها لعثمان مع ابن عباس، وأما أهل البصرة فيروونها لعمر مع علي .. ثم قال: وهذا الإسناد لا مدفع فيه من رواية أهل المدينة، وقد خالفهم في ذلك ثقات أهل مكة، فجعلوا ذلك لابن عباس مع عمر. انظر: الاستذكار: 9/ 53، والمصنف لعبد الرزاق: 7/ 280 ـ 281.
إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرَّضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرّضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعت لستة أشهر كفاها من الرّضاع أربعة وعشرون شهرًا، كما قال تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . انتهى كلامه
(1)
.
وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد/ 8].
قال ابن عبَّاس: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} : ما تنقص عن تسعة أشهر. {وَمَا تَزْدَادُ} : وما تزيد عليها. ووافقه على هذا أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير
(2)
.
وقال مجاهد أيضًا: إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانًا من الولد، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تمامًا لما نقص من ولدها.
وقال أيضا: «الغَيْضُ» : ما رأت الحامل من الدم في حملها، وهو نقصان من الولد، والزيادة: ما زاد على التسعة أشهر وهو تمام النقصان
(3)
.
(1)
أي كلام البيهقي في السنن: 7/ 442.
(2)
انظر تفسير الطبري: 16/ 359 ـ 365، وتفسير ابن أبي حاتم: 9/ 1 ـ 3، وتفسير البغوي: 4/ 297 ـ 298، وزاد المسير: 4/ 308، والدر المنثور: 8/ 377.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 16/ 360 ـ 361، وزاد المسير: 4/ 308.
وقال الحَسَنُ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} : ما كان من سِقْط. {وَمَا تَزْدَادُ} : المرأة تلد لعشرة أشهر
(1)
.
وقال عِكْرِمَةُ: تغيض الأرحام الحيض بعد الحمل، فكل يوم رأت فيه الدم حاملًا ازداد به في الأيام طاهرًا، فما حاضت يومًا إلا ازدادت في الحمل يومًا
(2)
.
وقال قَتَادَة: «الغيض» السِّقْط، «وما تزداد»: فوق التسعة أشهر
(3)
.
وقال سعيد بن جبير: إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد، فهو نقصان في غذاء الولد، وزيادة في الحمل
(4)
.
«تغيض» و «تزداد» فعلان متعديان مفعولهما محذوف، وهو العائد على «ما» الموصولة، و «الغيض»: النقصان، ومنه:{وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود/ 44]، وضدُّه الزيادةُ.
والتحقيق في معنى الآية: أنَّه يَعْلَم مدَّةَ الحَمْلِ وما يحدث فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالِمُ بذلك دونكم، كما هو العالم بما تحمل كلُّ أنثى هل هو ذكر أو أنثى؟
(1)
انظر: تفسير الطبري: 16/ 361 ـ 362، وزاد المسير: 4/ 308.
(2)
انظر: تفسير الطبري: 16/ 362 ـ 363.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 16/ 359.
(4)
انظر: زاد المسير: 4/ 308.
وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله، كما في «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم:«مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يَعْلمُهُنَّ إلا الله: لا يَعْلمُ متى تجيءُ السَّاعةُ إلا الله، ولا يَعْلمُ ما في غدٍ إلا الله، ولا يَعْلمُ متى يجيء الغيثُ إلا اللهُ، ولا يعْلمُ ما في الأرحامِ إلا الله، ولا تَدْرِي نفسٌ بأي أرضٍ تموتُ إلا اللهُ»
(1)
.
فهو ـ سبحانه ـ المتفرِّد بِعِلْمِ ما في الرَّحِم، وعِلْمِ وقتِ إقامتِه فيه، وما يزيدُ من بَدَنِهِ، وما يَنْقُص. وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه، كالسِّقْط التام، ورؤية الدم، وانقطاعه.
والمقصود: ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان.
فصل
وأما أقصاها فقال ابن المُنْذِر
(2)
: «اختلف أهل العلم في ذلك، فقالت طائفة: أقصى مدته سنتان. وروي هذا القول عن عَائِشَةَ.
وروي عن الضّحَّاك، وهرم بن حبان: أن كلَّ واحدٍ منهما أقامَ في بطن أُمِّه سنتين. وهذا قول سفيان الثَوْري
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله: 2/ 524، وفي التفسير، سورة الأنعام، باب وعنده مفاتح الغيب: 8/ 291.
(2)
في الإشراف على مذاهب العلماء: 5/ 347.
(3)
الثوري، ليست في «د». وانظر أيضًا هذا القول وما بعده مع الأدلة في: المغني: 11/ 232 ـ 233، وفتح باب العناية للملا علي القاري: 2/ 188 ـ 189.
وفيه قول ثان: وهو أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين، رُوِّينا عن الليث بن سعد، أنه قال: حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين.
وفيه قول ثالث: إن أقصى مدته أربع سنين، هكذا قال الشّافِعِيّ رحمه الله»
(1)
.
قلت: وعن الإمام أَحْمَد رحمه الله روايتان: إحداهما: أنه أربع سنين، والثانية: سنتان
(2)
.
قال
(3)
: «واختلف فيه عن مالك، فالمشهور عنه عند أصحابه مثل ما قال الشّافِعِيّ، وحكى ابن الماجشون عنه ذلك، ثم رجع لمَّا بلغه قصة المرأة التي وضعت لخمس سنين.
وفيه قول آخر: أن مدة الحمل قد تكون خمس سنين، حُكِيَ عن عَبَّاد ابن العوَّام أنه قال: ولدت امرأة معنا في الدار لخمس سنين، قال: فولدته وشعره يضرب إلى ها هنا، وأشار إلى العنق، قال: ومرَّ به طير فقال: هش. وقد حُكِي عن ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل خمس سنين.
وفيه قول خامس قاله الزُّهْرِيّ
(4)
: إن المرأة تحمل ست سنين،
(1)
في الإشراف على مذاهب العلماء: 5/ 347.
(2)
انظر: المغني لابن قدامة: 11/ 232.
(3)
الإشراف: 5/ 347 ـ 348.
(4)
في «ب» : قال الأزهر. ولعلها: قال الزهري.
وسبع سنين، فيكون ولدها محشوشًا
(1)
في بطنها. قال: وقد أُتي سعيد ابن مالك
(2)
بامرأة حملت سبع سنين.
وقالت فرقة: لا يجوز في هذا الباب التحديد والتوقيت بالرأي، (لأنَّا وجدنا لأدنى الحمل أصلاً في تأويل الكتاب، وهو الأشهر الستة)
(3)
، فنحن نقول بهذا ونتبعه، ولم نجد لآخره وقَتًا.
وهذا قول أبي عُبَيْد، ودفعَ بهذا حديثَ عَائِشَةَ، وقال: المرأة التي رَوَتْهُ عنها مجهولةٌ.
وأجمع كلُّ من يُحْفَظُ عنه من أهل العلم: أنَّ المرأة إذا جاءت بولدٍ لأقلَّ من ستةِ أشهرٍ من يومِ تَزوَّجَها الرجلُ: أنَّ الولدَ غير لَاحِقٍ به، فإن جاءت به لستة أشهرٍ من يوم نَكَحَهَا: فالولدُ له».
وهذا وأمثاله يدل على أن الطبيعة ـ التي هي نص
(4)
سير الطبائعيين ـ لها ربٌّ قاهر قادرٌ يتصرَّف فيها بمشيئته، وينوِّع فيها خَلْقَه كما يشاء ليدلَّ مَنْ له عقلٌ على وجودهِ ووحدانيتِه وصفاتِ كمالِه ونُعوتِ جلالِه، وإلا فمِنْ أين في الطبيعة المجرَّدة هذا الاختلاف العظيم والتباين الشديد؟
(1)
في «أ» : مغشوشًا وفي (ج، د): مخشوشًا. وهو تحريف. وراجع: لسان العرب: 6/ 258.
(2)
في «أ» : عبدالملك.
(3)
ما بين القوسين ساقط من «أ» .
(4)
في «أ» : منتهى. وهي بمعنى النص.
ومن أين في الطبيعة خَلْقُ هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب:
(أحدها): لا من ذكر، ولا من أنثى، كآدم صلى الله عليه وسلم.
(الثاني): من ذكر بلا أنثى، كحواء صلوات الله عليها.
(الثالث): من أنثى بلا ذكر كالمسيح صلى الله عليه وسلم.
(الرابع): من ذكر وأنثى كسائر النوع؟
ومن أين في الطبيعة والقوة هذا التركيب والتقدير والتشكيل، وهذه الأعضاء والرباطات، والقُوى والمنافذ، والعجائب التي رُكِّبت في هذه النطفة المهينة؟
لولا بدائعُ صُنعِ الله ما وُجِدَتْ
…
تلكَ العجائبُ في مُسْتَقْذَرِ الماء
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار/ 6 ـ 8].
لقد دلَّ ـ سبحانه ـ على نفسه أوْضَحَ دِلَالةٍ بما أَشْهَدَهُ كلَّ عبدٍ على نَفْسهِ من حَالِه وحُدُوثَه، وإتقانِ صُنْعِه، وعَجَائِبِ خَلْقِه، وآياتِ قُدرتِه، وشَوَاهِدِ حِكْمَتِهِ فيه.
ولقد دعا ـ سبحانه ـ الإنسانَ إلى النّظَر في مبدأ خَلْقِه وتَمامِهِ، فقال
تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق/ 5 ـ 7].
وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات/ 20 ـ 21].
و هذا في القرآن كثيرٌ لمن تدبَّره وعَقَلَهُ، وهو شاهدٌ منكَ عليكَ، فمن أينَ للطبيعةِ والقوةِ المحصورةِ هذا الخَلْقُ والإتقانُ والإبداعُ، وتفصيلُ تلك العظام، وشدُّ بعضِها ببعضٍ على اختلاف أشكالها ومقاديرِهَا ومنافعِها وصفاتِها، ومَنْ جعل في النطفة تلك العروقَ واللحمَ والعَصَبَ؟
ومَنْ فَتَحَ لها تلك الأبوابَ والمنافذَ؟ ومَنْ شقَّ سَمْعَهَا وبَصَرَهَا، ومن ركَّبَ فيها لسانًا تنطقُ به، وعينينِ تُبْصِرُ بهما، وأُذُنَيْنِ تَسْمعُ بهما، وشَفَتَيْنِ؟
ومَنْ أوْدَعَ فيها الصَّدْرَ وما حوَاهُ من المنَافِعِ والآلاتِ التي لو شاهدتَها لرأيتَ العجائبَ؟
ومَنْ جعل هناك حوضًا وخزانةً يجتمع فيها الطعامُ والشرابُ، وساقَ إليه مَجَارِيَ وطرقًا ينفذ فيها، فيسقي جميعَ أجزاءِ البدنِ، كلُّ جزءٍ يشربُ من مجراه الذي يختصُّ به لا يتعدَّاهُ {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة/ 60].
ومَنْ أخذ منها تلكَ القُوَى التي بها تمَّتْ مَصَالِحُهَا ومَنَافِعُهَا؟
ومَنْ أودع فيها العلومَ الدقيقةَ والصنائعَ العجيبةَ، وعلَّمها ما لم تكنْ تعلمْ، وألْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا، ونَقَلهَا في أطْوَارِ التَّخْليقِ طَوْرًا بعد طَوْرٍ، وطَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ إلى أنْ صارتْ شخصًا حيًّا ناطقًا سميعًا بصيرًا، عالمًا متكلِّمًا آمرًا ناهيًا، مسلَّطًا على طَيْرِ السَّماءِ وحِيْتَانِ الماءِ، ووُحُوشِ الفَلَوَاتِ، عالمًا بما لا يعلمُه غيرُه من المخلوقاتِ؟ {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس/ 17 ـ 22].
فصل
وقد زَعَمَ طائفةٌ ممَّن تكلَّم في خَلْقِ الإنسانِ أنَّه إنَّما يُعطَى السمعَ والبصرَ بعد وِلَادتِه وخُرُوجِهِ من بَطْنِ أُمِّه، واحتجَّ بقوله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل/78].
واحتجَّ بأنَّه في بطن الأمِّ لا يَرَى شيئًا، ولا يسمعُ صوتًا، فلمْ يكنْ
لإعطائِهِ السمعَ والبصرَ هناك فائدةٌ!
و ليس ما قاله صحيحًا، ولا حجَّةَ له في الآية، لأنَّ الواو لا ترتيب فيها، بل الآية حجَّةٌ عليه، فإنَّ فؤادَه مخلوقٌ وهو في بطنِ أُمِّه.
وقد تقدَّم حديثُ حذيفةَ بنِ أَسيد الصَّحِيحُ: «إذا مرَّ بالنُّطفَةِ ثنتانِ وأربعونَ ليلةً، بعثَ اللهُ إليها مَلَكًا، فصوَّرهَا وخَلَق سْمَعَها وبَصَرَها، وَجِلْدَهَا ولحمَها»
(1)
.
وهذا، وإنْ كان المراد به العين والأذن، فالقوَّة السامعةُ والبَاصِرةُ مُوْدَعةٌ فيهما، وأمَّا الإدراكُ بالفعل فهو موقوفٌ على زوال الحجاب المانع منه، فلمَّا زال بالخروج من البطن، عمل المقتضي عملَه، والله أعلم.
(1)
تقدم تخريجه فيما سبق، ص (369).