الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: أسباب التداخل وأثره في بناء معاجم القافية
الفصل الأول: أسباب التداخل
…
الفصل الأوّل: أسباب التّداخل
ثَمَّةَ أسبابٌ تؤدّي - في النّهاية - إلى تداخل الأصول في معاجم القافية، ومن أبرزها:
أ- اتّحاد المعنى (تقارب الأصلين والمعنى واحدٌ) .
ب- القلب المكانيّ.
ج- الإبدال.
د- الهمز والتّخفيف.
هـ- التّعريب.
والحذف والتعويض.
ز-الإلحاق.
ح-النّحت.
ط-الضّرورة الشِّعريّة.
ي-تصريف الحروف وما أشبهها.
ك-الإدغام.
ل-الجمع.
م-توهّم أصالة الحرف.
ن-اختلاف الحركات.
س-التّصحيف والتّحريف.
ع-متابعة مدرسة التّقليبات.
وفيما يلي إفراد كلّ منها بشيءٍ من التّفصيل.
أ- اتّحاد المعنى (تقارب الأصلين والمعنى واحدٌ) .
يؤدّي اتّحاد المعنى بين الكلمتين إلى تداخل الأصول، ولا يؤخذ ذلك على إطلاقه؛ فهو مشروطٌ بأن تتّفق الكلمتان في أكثر الحروف؛ وهو ما يعرف اصطلاحاً بباب (سَبِطٍ وسِبَطْرٍ) .
ومنه أن تجد الثلاثيّ على أصلين متقاربين والمعنى واحدٌ؛ فيظنّ أنّهما من أصلٍ واحدٍ؛ وليسا أصلين، كقولهم: شيءٌ رِخوٌ، ورِخْوَدٌّ، بمعنى: ليّنٍ، وهما - كما ترى - شديدا التّداخل في الأصول.
وقد حكى الأزهريّ عن أبي الهيثم1 أنّه يرى أنّ (الرِّخْوَدَّ) و (الرِّخْوَ) أصلٌ واحدٌ؛ وهو (ر خ و) وذكر أنّ الرِّخْوَدَّ: هو الرِّخْوُ: زيدتْ فيه دالٌ، وشدِّدت؛ كما يقال: فَعْمٌ وفَعْمَلٌ2 وهو: الممتلئ.
وعلى مذهب أبي الهيثم هذا يكون وزن (الرِّخْوَدِّ)(فِعْلَدّ) وليس الأمر كذلك.
قال ابن جنّي: "وإنّما تركيب: رِخْوٍ من (رخ و) وتركيب: رِخْوَدٍّ من (ر خ د) وواو رِخْوَدٍّ زائدة"3.
1 هو: أبو الهيثم الرّازيّ، ولا يكاد يعرف من اسمه ونسبه غير هذا؛ وهو معدود في النّحاة اللغويّين، وقد قدم (هراة) قبل وفاة (شمر) بُسنيّات، فنظر في كتبه، وعلّق بردٍّ عليه، وكان السّكري يروي عنه، وتوّفي سنة (276هـ) .
ومن مصادر ترجمته: الفهرست 86، وتهذيب اللّغة 1/26، وإنباه الرّواة 4/188.
2 ينظر: التّهذيب 7/268.
3 الخصائص 2/44.
وهو على وزن (فِعْوَلّ) مثل (عِلْوَدٍّ) وهو: الغليظ الرّقبة، و (عِسْوَدٍّ) وهو القويّ الشّديد.
أمّا (رِخْوٌ) فهو (فِعْلٌ) .
ويقوّي هذا أنّ الدّال في (رِخْوَدٍّ) ليست من حروف الزّيادة؛ فلا يقال: إنّ الأصل: (رِخْوٌ) ثمّ زيدت الدّال؛ كما قال أبو الهيثم.
والّذي أدّى إلى تداخل الأصلين في (رِخْوٍ) و (رِخْوَدٍّ) أنّ الفاء والعين فيهما متّفقتان؛ مع اتّحاد المعنى؛ وذلك أنّ الرِّخو: الضّعيف، والرِّخْوَدّ: المتثنّي، ويقال: امرأةٌ رِخْوَدَّةٌ، وجمعها: رَخَاوِيد.
قال أبو صخرٍ الهُذليّ:
عَرَفْتُ من هِنْدَ أطلالاً بذي التُّودِ
…
قفراً وَجَارَاتِهَا البِيضِ الرَّخَاوِيدِ1
ومنه تداخل الأصلين (ض ي ط) و (ض ط ر) في قولهم: (ضَيَّاطٌ) و (ضَيْطَارٌ) لاتّحاد معناهما؛ وهو التّبختر والتمايل في المِشْية2، ولاتّفاقهما في أكثر الحروف.
والصّحيح أنّ (ضَيَّاطاً) من تركيب (ض ط ر) و (ضَيْطَاراً) من (ض ط ر) ووزن الثّاني منهما (فَيْعَال) أمّا الأوّل فيحتمل ثلاثة أوجهٍ؛ وهي: (فَعَّال) كخَيَّاطٍ، و (فَيْعَال) كخَيْتَامٍ، و (فَوْعَال) كتَوْرَابٍ، فيكون أصله على هذا الأخير (ضَوْيَاطاً) ثمّ قلبت الواو السّاكنة ياءً، وأدغمت؛
1 ينظر: شرح أشعار الهذليّين 2/924، والتّود: شجر، ويروى: البيد.
2 ينظر: اللّسان (ضطر) 4/488، و (ضيط) 7/345.
فقالوا: ضَيَّاطٌ1.
ومنه تقارب (فُؤَادٍ) و (فَادٍ) في قول القُطاميّ:
كَنِيَّةِ القَوْمِ مِنْ ذِي الغَيْضَةِ احْتَمَلُوا
…
مُسْتَحْقِبِينَ فُؤَاداً مَالَهُ فَادِ2
فـ (فُؤَادٌ) من (ف أد) و (فادٍ) من (ف د ي) .
ومنه (الثّرى) وهو: التّراب النّديّ و (الثَّرَاء) وهو: كثرة المال؛ وهما أصلٌ واحدٌ عند ابن فارسٍ؛ وهو: الكثرة وخلاف اليُبْس3. وعليه الجوهريّ؛ إذ ذكرهما في (ث ر و) 4، وتابعه فيه ابن منظورٍ5.
وليس (الثّرى) من لفظ (الثّرَاء) فهما أصلان؛ أوّلهما من تركيب (ث ر ي) لقولهم: الْتَقَى الثَّريان؛ وذاك أن يجيء المطر؛ فيرسخ في الأرض حتّى يلتقي هو وندى الأرض.
والثّاني: وهو: الثَّرَاء - من تركيب (ث ر و) لأنّه من: الثّروة، وهي: كثرة الشّيء؛ ومنه قولهم: ثَرَوْنَا بني فلانٍ نَثْرُوهم ثَرْوَةً؛ إذا كنّا أكثر منهم، ومنه كثرة المال، وهذا رأي ابن جنّي6؛ وهو الرّاجح؛
1 ينظر: الخصائص 2/45.
2 ينظر: ديوانه 79، وهو –هنا – يعني نفسه بذلك، أي: أنهم استحقوه معهم، واحتملوه أسيرا؛ لا فداء له من الأسر، وآسره من سلبت فؤاده من الحي.
3 ينظر: المقاييس 1/374.
4 ينظر: الصّحاح (ثرا) 6/2291، 2292.
5 ينظر: اللّسان (ثرا) 14/110، 111.
6 الخصائص 2/48.
لدلالة الاشتقاق.
وقد تسمّح فيهما الفرّاء؛ فعدّهما من المقصور والممدود؛ على الرّغم من اختلاف الأصلين1.
وأدّى اتّحاد المعنى في (الفَيْشَة) و (الفَيْشَلَةِ) وهما بمعنى: الحشفة في العضوّ المذكّر - إلى تداخل الأصلين: (ف ي ش) و (ف ش ل) في حين أنّه يجوز فيهما وجهان:
الأوّل: أن يكونا أصلين مختلفين، من باب (سَبِطٍ وسِبَطْرٍ) وهو رأي جماعة من العلماء؛ كالجرميّ2، وابن جنّي3، والجوهريّ4، وابن منظورٍ5، والفيروزاباديّ6؛ وهم يذهبون إلى أنّ اللاّم في (الفّيْشَلَة) أصليّةٌ وليست زائدةً؛ ولا يستدلّون بسقوطها في قولهم:(فَيْشَةٌ) فهذه عندهم من أصلٍ مستقلٍّ؛ وهو (ف ي ش) وإنّما دعاهم إلى هذا أنّهم وجدوا الياء في (الفَيْشَلَة) أقرب إلى الزّيادة من اللاّم؛ لكثرة زيادة الياء ثانيةً7 فوزنها عندهم (فَيْعَلَة) .
1 ينظر: المقصور والممدود 17، والخصائص 2/48.
2 ينظر: شرح الشّافية للرّضيّ 2/381.
3 ينظر: الخصائص 2/48، 49.
4 ينظر: الصّحاح (فشل) 5/1790.
5 ينظر: اللّسان (فشل) 11/521.
6 ينظر: القامس المحيط (فشل)1346.
7 ينظر: الممتع 1/214.
الثّاني: أن تكون اللاّم في (الفَيْشَلَة) زائدةً؛ لقولهم: (الفَيْشَة)1. وعلى هذا فوزنها (فَعْلَلَة) واللاّم الثّانية زائدةٌ. وهذا الرّأي هو الرّاجح عندي؛ إذ اللاّم من حروف الزّيادة، ودلالة الاشتقاق قويّةٌ، وهي من أقوى المقاييس الّتي تُمَيَّز بها الأصول.
ويبدو أنّ الزّبيديّ كان يجيز الأصلين؛ فذكر (الفَيْشَلَة) في (ف ي ش) و (ف ش ل)2.
وأمّا إذا اختلف المعنى في الكلمتين؛ فينبغي أن يفصل بين الأصلين؛ كـ (المَهَانَة) فهي (مَفْعَلَة) من: الهوان، والميم فيها زائدةٌ، أمّا (المَهَانَة) من: الحقارة فهي عند الجمهور من (م هـ ن) 3، ووزنها حينئذٍ (فَعَالَة) .
وكذلك (مَقِيلٌ) فهو من (ق ي ل) إن كان بمعنى اسم الزّمان أو المكان؛ من: قال يَقِيلُ في القيلولة؛ وهي الظّهيرة؛ فوزنه (مَفْعِل) ؛ لأنّ عين المضارع مكسورةٌ4.
ويكون من (م ق ل) إن كان بمعنى: النّظر أو الغَمْس؛ فوزنه (فَعِيل) بمعنى اسم المفعول5.
1 ينظر: شرح الملوكيّ 211، والممتع 1/214، وشرح الشّافية للرّضيّ 2/381.
2 ينظر: التّاج 4/336، 8/58.
3 ينظر: اللّسان (هون) 13/438.
4 ينظر: تصريف الأسماء 121، 122.
5 ينظر: احتمال الصّورة اللّفظيّة لغير وزن 121.
ب- القلب المكانيّ:
القلب في اللّغة: تحويل الشّيء عن وجهه، ومنه: قلب الشّيء، وقَلَّبه: حَوَّله ظهراً لبطنٍ، وَقَلَبَ رَدَاءَه: حَوَّله1.
والقلب المكانيّ في اصطلاح اللّغويّين: هو حلول حرفٍ مكان حرفٍ في الكلمة المفردة بالتّقديم والتّأخير: مع حفظ معناها2.نحو: اضْمَحَلَّ وامْضَحَلَّ، وعميق ومَعِيقٍ؛ وسحابٍ مُكْفَهِرٍّ ومُكْرَهِفٍّ، وقَافَ الأثرَ وقَفَاه3. وهو سماعيٌّ؛ يحفظ ولا يقاس عليه؛ كما قال ابن عصفورٍ4 وهو رأي الجمهور.
ولم يكن القلب المكانيّ محلّ اتّفاق عند العلماء؛ فقد اختلفوا فيه؛ وتفاوتت أدلّتهم في معرفة الأصل من المقلوب، ولاتكاد تخرج آراؤهم في القلب عن ثلاثةٍ:
1-
قبول القلب بشكلٍ مطلقٍ.
2-
إنكاره.
3-
قبوله مقيّداً بوجود الدّليل.
أمّا الأوّل فهو مذهب كثيرٍ من أهل اللّغة؛ إذ تلقّوا القلب المكانيّ بالقبول، وكانوا يرون أنّ لكلّ مثالٍ أصلاً وفرعاً؛ ووافقهم على ذلك
1 ينظر: الصّحاح (قلب) 1/204، 205، والتّاج (قلب) 1/437، 438.
2 ينظر: ظاهرة القلب المكاني في العربيّة301، واللهجات العربيّة في التّراث 2/647.
3 ينظر: المزهر 1/476.
4 ينظر: الممتع 2/615.
النّحويّون من الكوفيّين1.
وقد أفرد له بعض اللّغويّين - من المدرستين - أبواباً في مؤلّفاتهم؛ جمعوا فيها كثيراً من أمثلته، ومن هؤلاء: أبو عبيدٍ القاسم بن سلَاّم2، وابن قتيبة3، وكُراعٌ4، وابن دريدٍ5، وابن فارسٍ6، وابن سِيدَه7، والسّيوطيّ8.
وكان بعض المتأخّرين من المعاصرين يرون ما يراه جمهور أهل اللّغة من المتقدّمين، وعندهم أنّ مثل هذه الكلمة إذا وقعت في اللّغة الواحدة كالعربيّة؛ فإنّه يجب أن ينظر إليها على أنّ بعضها أصلٌ والآخر مقلوبٌ عنه، ولا معنى للتّفريق بينها9، كما فعل البصريّون - كما سيأتي - فالتّقديم والتّأخير من سمات اللّغة.
أمّا الرّأي الثّاني في القلب فقد تزعّمه ابن درستويه؛ إذ كان ينكر القلب، ويُخرّج ما جاء منه على أنّه من أصولٍ مستقلّةٍ؛ وإن تشابهت في
1 ينظر: تاريخ آداب العرب 1/186، 187، وظاهرة القلب المكانيّ في العربيّة 286.
2 ينظر: الغريب المصنف 210م-211ب.
3 ينظر: أدب الكاتب 492-494.
4 ينظر: المنتخب 2/594-598.
5 ينظر: الجمهرة 3/1254، 1255.
6 ينظر: الصّاحبيّ 329-322.
7 ينظر: المخصّص 14/27، 28.
8 ينظر: المزهر 1/476-481.
9 ينظر: في اللهجات العربيّة 167.
المعنى؛ فهو عنده من لغات القبائل، ويرى أنّ لكلّ قولٍ مناسبةً، ولكلّ لفظٍ معناه الخاصّ، الّذي ينفرد به عن غيره في العربيّة؛ كالتّرادف والأضداد1.
أمّا الثّالث فهو موقف أكثر البصريّين؛ وقد توسّطوا فيه، وأساس مذهبهم هذا "أنّ كلّ لفظين وجد فيهما تقديمٌ وتأخيرٌ؛ فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه؛ فهو القياس الّذي لا يجوز غيره"2.
وقد كان البصريّون يستدلّون على القلب بأمورٍ، منها:
1-
أن يقلّ أحد اللّفظين في التّصرّف عن الآخر؛ فيكون الأكثر تصرّفاً هو الأصل، والآخر هو المقلوب؛ كقولهم: أَنَى الشّيء يَأْنِي، وآنَ يَئِين؛ إذا حان وأدرك منتهاه؛ فالأصل: أَنَى، وآنَ مقلوبٌ عنه، والدّليل على هذا ورود مصدر (أَنَى) وهو: الإِنَى والأَنَى3، وليس لـ (آنَ) مصدرٌ.
أمّا إذا تساويا في التّصرّف؛ نحو: جَذَبَ وجَبَذَ؛ فلا يكون أحدهما مقلوباً عن الآخر؛ لقولهم: جَذَبَ يجْذِبُ جذباً، فهو جاذبٌ، والمفعول مجذوبٌ، وجَبَذَ يَجْبِذُ جبذاً، فهو جابذٌ، والمفعول مجبوذٌ4.
1 ينظر: المزهر 1/481،وظاهرة القلب المكاني في العربيّة 291، 300.
2 الخصائص 2/69.
3 ينظر: اللّسان (أني) 14/48.
4 ينظر: الكتاب 4/381، والخصائص 2/69، 70، ودرّة الغوّاص 254، وشرح درّة الغوّاص للخفاجيّ 237، والدرّ اللّقيط 78أ، ب.
وكذلك لا يدّعون في: وَأَدَ ابنته، إذا دفنها؛ وهي حيّةٌ - أنّه مقلوبٌ؛ من: آدَ، بمعناه؛ لأنّ كلاًّ منهما كامل التّصرّف في الماضي، والمضارع، والآمر، والمصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول؛ وليس فيه شيءٌ من مسوّغات القلب1.
ولكن ثمَّة ما يدعو للحذر من أخذ هذا المقياس على إطلاقه؛ وهو أنّ اللّغة لم تصل إلينا كاملةً؛ كما قال أبو عمرو بن العلاء2، وابن فارسٍ3، ويزاد على هذا أنّ أصحاب المعاجم لم يلتزموا ذكر كلّ ماجاء على القياس من تصريفات الكلمة؛ فهم كثيراً ما يتركون بعض التّصاريف؛ كالمصادر، والجموع، وأسماء الفاعلين، أو المفعولن؛ لمجيئهما على القياس.
2-
أن يُصحّح اللّفظ مع وجود موجب الإعلال؛ كقولهم: أَيِسَ ويَئِسَ، فإنّ الأوّل مقلوبٌ عن الثّاني؛ إذ فيه موجب الإعلال؛ وهو تحرّك الياء وانفتاح ما قبلها، وترك الإعلال دليلٌ على أنّه مقلوبٌ عن: يَئِسَ4.
3-
أن يترتّب على عدم القلب اجتماع همزتين في الطّرف في اسم الفاعل من الأجوف المهموز؛ نحو: (جاء) من (ج ي أ) وقياسه قبل
1 ينظر: البحر المحيط 8/433، ودراسات في أساليب القرآن الكريم ق2 ج1/13.
2 ينظر: طبقات فحول الشّعراء 1/25، والخصائص 1/386.
3 ينظر: الصّاحبيّ 58.
4 ينظر: شرح الشّافية للرّضيّ 1/23، 24، ولركن الدّين الإسترباذيّ 76ب، وللجاربرديّ 23.
القلب؛ جايئ؛ على وزن (فاعِل) ثمّ يهمز، فيقال: جائئ؛ فتجتمع همزتان في الطّرف؛ فلذا قلب الخليل في (جايئ) خوفاً من اجتماع همزتين فقال: (جائي) بزنة (فَالِع) ثمّ أُعِلّ إعلال قاضٍ؛ فيقال: جاءٍ.
وكذلك في جمعه على (فَوَاعِل) نحو (جَوَاءٍ) وفي الجمع الأقصى لمفردٍ لامه همزةٌ مسبوقةٌ بحرف مدّ؛ كما في: خطايا، جمع: خطيئةٍ؛ وهو مذهب الخليل1، فيكون وزن: جاءٍ وجواءٍ، وخطايا عنده:(فَالٍ) و (فوالٍ) و (فَعَالَى) وهي عند سيبويه (فَاعٍ) و (فَوَاعٍ) و (فَعَائل)2.
وثَمَّة ما يعرف به القلب غير ما تقدّم؛ كمنع الصّرف بغير علّةٍ؛ لو لم يُقَلْ بالقلب؛ كمنع الصّرف في: أشياء؛ فإنّها (لَفْعَاء) عند البصريّين، وأصلها: شَيْئاء؛ وهي (أفْعَال) عند الكسائيّ، و (أَفْعَاء) عند الفرّاء والأخفش.
وممّا حمل البصريّين على أن يقولوا بالقلب فيها أنّهم ألفوها ممنوعةً من الصّرف، ولم يقولوا بمذهب الكسائيّ لكي لا تمنع الكلمة منالصّرف بغير علّةٍ، واستدلّوا - أيضاً - بأمورٍ منها قول العرب في جمعها: أشَايَا وأَشَاوَى، وأَشْيَاوَات، وقولهم في التّصغير: أُشَيَّاء؛ وأمّا مذهبا الفرَاء والأخفش فقد ضُعِّفَا3.
نعم؛ ويؤدّي القلب المكانيّ - كما أشرت - إلى تداخل الأصول،
1 ينظر: الكتاب 4/377، وشرح الشّافية للرّضيّ 1/25.
2 ينظر: الكتاب 4/377.
3 ينظر: شرح الشّافية للرّضيّ 1/25-230.
ويلتبس الأصل بالفرع، ويجعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً في مثل (الهَذْمَلَة) وهي: ضربٌ من المشي عند الجوهريّ، وقد ذكرها في (هـ ذ م ل) فأنكر عليه الصّغانيّ ذلك، وقال:"وقد انقلب عليه اللّفظ، والصّواب: الهَذْلَمَة، وموضع ذكرها حرف الميم"1.
وذكر الجوهريّ (البّازِي) في (ب ز و) 2 على الصّواب؛ لأنّه مقلوبٌ، ووزن (البَازِ) :(فَلَع) 3 على القلب؛ بدليل تكسيره على: أبوازٍ؛ وهو (أَفْلاع) وقد ذكره ابن منظورٍ في (ب وز) 4 على لفظه.
وربّما جعلا جميعاً أصلين؛ على نحو ما ذهب إليه ابن درستويه، أو حملا على الأصلين. ويظهر هذا جليّاً في بعض معاجم القافية؛ بوضع الكلمة ومقلوبها في الموضعين الأصل والفرع في كثيرٍ ممّا جاء مقلوباً؛ فيعطى كلٌّ منهما شرحاً وافياً، وكأنّه أصلٌ مستقلٌّ برأسه.
فممّا جاء في الأصلين في المعجم الواحد: (لاثٍ) وهو الشّيء الملتفّ بعضه على بعضٍ، ومنه: شَجَرٌ لاثٍ. وقد ذكره ابن منظورٍ في (ل وث) 5 و (ل ث و) 6 وذكر - أيضاً
1 التّكملة (هذلم) 5/553.
2 ينظر: الصّحاح 6/2281.
3 ينظر: الخصائص 1/7.
4 ينظر: اللّسان5/314.
5 ينظر: اللّسان 2/187.
6 نفسه 15/241.
- قولهم: قَفَا الأثرَ وقَافَه في الأصلين1.
وذكر الزّبيديّ قولهم: يومٌ حَمْتٌ ومَحْتٌ؛ أي: شديد الحرّ - في الأصلين2.
وممّا تداخلت فيه الأصول بسبب القلب: (الأَفْعَى) وهي: الحيَّة و (الأُفْعُوَان) وهو: ذكر الأفاعي؛ فإنّهما يحتملان أصلين:
الأوّل (ف ع و) ووزنهما - عندئذٍ (أَفْعَل) و (أُفْعُلَان) وهو مذهب أكثر العلماء، ويقوّيه: تَفَعَّى الرّجل في الشّرّ، وأَفْعَى؛ إذا صار ذا شرٍّ بعد خيرٍ، ويقال: أرضٌ مُفْعَاةٌ؛ أي: كثيرة الأفاعي3.
وأصل مُفْعَاةٍ: مَفْعَوَةٌ؛ فقلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.
وذهب بعضهم إلى أنّ (الأّفْعَى) و (الأُفْعُوَان) من (ف وع) واشتقاقها من: فَوْعَة السّمّ؛ وهي: حرارته؛ وقد حدث فيهما قلبٌ بتقديم اللاّم على العين؛ فوزنها - حينئذٍ (أَفْلَع) و (أُفْلُعَان)4.
ويتداخل الأصلان (م ي د) و (م د ي) في (المَيْدَان) وهو: المِضْمار؛ الّذي تجري فيه الخيل؛ وقد اختلفوا في وزنه؛ فقيل: إنّه (فَعْلَان) من: مَادَ يَمِيدُ؛ إذا تَلَوَّى واضطربَ، ومعناه أنّ الخيل تجول فيه، وتنثني متعطّفةً،
1 نفسه (قوف) 9/293، و (قفا) 15/194.
2 ينظر: التّاج (حمت) 1/539،و (محت) 1/584.
3 ينظر: الصّحاح (فعو) 6/2456، واللّسان (فعو) 15/159، والقاموس (فعو)1703.
4 ينظر: المحكم 2/270، واللّسان (فوع) 8/258.
وتضطرب في جولانها.
وقيل: إنّه (فَلْعَان) على القلب؛ من (المَدَى) وهو الغاية؛ لأنّ الخيل تنتهي فيه إلى غاياتها من الجري والجولان، وأصله: مَدْيَان؛ قُلِبَ بتقديم الياء، وهي لامه، وأخِّرت الدّال؛ وهي عينه؛ فصار: مَيْدَاناً؛ كما قيل في جمع بازٍ: بِيْزان، والأصل: بِزْيان، وباز:(فَلَع) وبِيزَان (فِلْعَان) وأصل (الباز) قبل القلب: (البَازِي)1.
ويتداخل بسبب القلب (ح ت و) و (ح وت) في (المُحْتَات) : الموثّق الخلق؛ وهو يحتمل الأصلين:
فقد يجوز أن يكون مقلوباً على وزن (مُفْتَلِعٍ) فقدّمت اللاّم؛ وهي حرف العلّة، وأخِّرت العين؛ وهي التّاء. واشتقّه ابن الأعرابيّ على هذا الأصل من: حَتَوْتُ الكساء2.
ويجوز أخذه على ظاهره؛ فيكون وزنه (مُفْتَعِلاً) من (ح وت) وأصله (مُحْتَوَت) فقلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ كما في مُختارٍ ومُنقادٍ.
ويؤدّي القلب - أيضاً - إلى تداخل الأصلين (وج هـ) و (ج وهـ) في (الجَاه) وهو: المنزلة والقدر عند السّلطان، ومنه ما رواه ابنُ جنّي عن الفرّاء أنّه سمع أعرابيّةً من غَطَفَان، وقد زجرها ابنها؛ فقال لها الفرّاء:
1 ينظر: التّاج (ميد) 2/507.
2 ينظر: المحكم 3/379.
رُدِّي عليه، فقالت: أخاف أن يجُوهَني بأكثر من هذا1. وهو يحتمل الأصلين:
فقد يجوز أن يكون من: (وج هـ) فيكون اشتقاق (الجَاه) من (الوَجْه) وقولها: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا: أي: يواجهني، من الوجه - أيضاً - وعلى هذا فأصل (الجَاه) قبل القلب:(الوجه) فأعلّ بالقلب المكانيّ، ثمّ حرِّكت عينه؛ فصار إلى:(جَوَهٍ) ثمّ قلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ فقالوا: (الجَاه) . ويدلّ على هذا ما حكاه أبو زيد أنّهم يقولون: قد وَجُهَ الرَّجل وَجَاهة عند السلطان، وهو وجيه، ولم يقولوا: جَوِيه2.
وذكر الجوهري في (ج وهـ) على ظاهر اللّفظ، وذكر أنّهم يقولون: جَاهَه بالمكروه جوهاً؛ أي: جَبَهَه3، ولعلّ قول الأعرابيّة:(يجوهني) يكون من هذا.
وذكره ابن منظورٍ - أيضاً - في هذا الأصل؛ لكنّه نقل عنهم تنبيههم على القلب4.
ويتداخل في قوله عز وجل: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ
1 ينظر: الخصائص 2/76.
2 ينظر: الخصائص 2/76.
3 ينظر: الصّحاح (جوه) 6/2231.
4 ينظر: اللّسان (جوه) 13/487.
يَتَسَنَّهْ} 1 ثلاثة أصولٍ؛ لأسبابٍ منها: القلب؛ وهي: (س ن هـ) و (أس ن) و (س ن ن) وبيانها كما يلي:
ذهب الفرّاء إلى أنّ الهاء أصلٌ؛ فيكون أصل (يَتَسَنَّة)(س ن هـ) ووزنه على هذا الأصل (يَتَفَعَّل) وهو مشتقٌّ من لفظ (السَّنَة) على لغة من يقول: إنّ لامها هاءٌ، وأصل (سَنَةٍ) على هذا (سَنَهَةٌ) ومعنى: لم يتَسَنَّه: لم يتغيّر بمرور السِّنين2. ويبدو أنّ أبا حيّان كان يرى هذا؛ إذ ذكره في هذا الأصل3.
ويؤيّد هذا ألأصل قولهم: بعتُهُ مُسانهةً، وقولهم في التّصغير: سُنَيْهَةٌ، وفي الجمع: سَنَهَاتٌ، ومن هذا قولهم: سَانَهْتُ وأَسْنَهْتُ عند بني فلانٍ؛ أي: قضيت سنةً، ومن ذلك قول الشّاعر:
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ
…
ولكِنْ عَرَايَا في السِّنِينِ الجَوَائِخِ4
وأجاز بعضهم أن يكون أصله (أس ن) واشتقاقه من: أَسِنَ الماء؛ أي: تغيّر؛ وعلى الرّغم من قربه في المعنى فقد ردّه بعض النّحاة5؛ لبعده
1 سورة البقرة: الآية 259.
2 ينظر: معاني القرآن 1/172.
3 ينظر: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب 144.
4 البيت لسويد بن صامت؛ وهو في معاني القرآن للفرّاء 1/173، ومجالس ثعلب 1/76، وأمالي القالي 1/121، والبحر المحيط 2/285، والدّرّ المصون 2/564، وقوله: رجّبيّة، وصف لنخلة بني تحتها رُجْبَة لتسندها من السّقوط لطولها، والياء الأخيرة للنّسب. ينظر: اللّسان (رجب) 1/412.
5 ينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/343.
في الاشتقاق من حيث الصّناعة؛ إذ لو كان مشتقّاً من: أَسِنَ الماء - لكان قياسه حين يبنى منه (تَفَعَّلَ) أن يقال: تَاَسَّنَ؛ لا تَسَنَّهَ.
على أنّ له وجهاً في القياس؛ وهو أن يكون قد حدث فيه قلبٌ، بأن أخّرت فاؤه - وهي الهمزة - إلى موضع لامه؛ فصار:(يَتَسَنَّأ) بالهمزة آخراً، ثمّ أبدلت الهمزة ألفاً؛ كقولهم في قَرَأَ: قَرَا، ثمّ حذفت للجزم - كما قال السّمين1.
وذهب المبرّد إلى أنّ الهاء للسّكت، واللاّم محذوفةٌ للجازم2؛ فيكون وزنه:(يَتَفَعَّه)(وإثباتها وصلاً من قبيل إجراء الوصل مُجرى الوقف، وأصل الكلمة مشتقٌّ من السّنة، ولامها واوٌ، فأصله: يَتَسنَّى، ثمّ حذفت اللاّم للجزم، وقبل ذلك كان: يَتَسَنّو؛ تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفاً) 3 فقالوا: يَتَسَنّى.
ويجوز أن يكون من (س ن ن) واشتقاقه من: (السَّنِّ) أو من (مَسْنُونٍ) وهو: المتغيّر؛ وعليه قوله عز وجل: {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 4. وأصله: يستسَنَّنُ؛ بثلاث نوناتٍ؛ على وزن (يَتَفَعَّل) فاستثقل توالي الأمثال؛ فأبدلت الأخيرة ياءً؛ فقالوا: يَتَسَنَّى؛ على حدّ قولهم: تَظَنَّى، من تَظَنَّنَ، وقولك: قَصّيت أظفاري؛ أي: قصَّصْتُها. ثمّ أبدلت في (يَتَسَنَّى)
1 ينظر: الدّرّ المصون 2/564.
2ينظر: البحر المحيط 2/285.
3 ينظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال 408.
4 سورة الحجر: الآية 26.
ألفاً؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، ثمّ حذفت الأف للجزم1.
ج- الإبدال.
الإبدال - في اللّغة - من البدل؛ وهو: العِوَض والخَلَف، والتّبديل والإبدال: تغيّر الشّيء عن حاله، وجعل شيءٍ مكان غيره2.
والإبدال - في الاصطلاح اللّغويّ: إقامة حرفٍ مكان حرفٍ في موضعه، أو: هو اتّفاق كلمتين في معنييهما وحروفهما عدا حرفاً واحداً3، كالسِّراط والصِّراط، والتَّولَج والدّولَج، ونبيثة البئر ونبيذتها؛ وهو: ترابها.
والإبدال على نوعين: صرفيٌّ، ولغويٌّ:
الإبدال الصّرفيّ: هو ما يبدل من غيره إبدالاً قياسيّاً مضطرّاً إليه في التّصريف أو مستحبّاً؛ بحيث يؤدّي تركه - أحياناً - إلى الخطأ4. وهو على قسمين:
أحدهما: إبدال حرفٍ من غيره؛ لأجل الإدغام عند التقاء
1 ينظر: معاني القرآن للفرّاء 1/172، والدّرّ المصون 2/563.
2 ينظر: الصّحاح (بدل) 4/1632، واللّسان (بدل) 11/48، والقاموس (بدل)1247.
3 ينظر: الصّاحبيّ 332، والمخصّص 13/267، وشرح الملوكيّ 213، وشرح الشّافية للرّضيّ 3/197، وشرح ألفيّة ابن معطٍ 2/1340، وظاهرة الإبدال اللّغويّ 11.
4 ينظر: اللهجات العربيّة في التّراث 1/347، ويلحظ أن الإبدال – بمعناه الواسع – يتضمن قسما من الإعلال، وهو الإعلال بالإبدال.
صوتين متجانسين أو متقاربين؛ كإدغام لام التّعريف بعد إبدالها في بعض الحروف، كالسّماء والشّمس والدّواء، وكإدغام الباء في الميم في: اكتب محمداً. وغيره من المسائل؛ الّتي تبحث في باب الإدغام 1.
والآخر: الإبدال لغير الإدغام؛ وهو يقع في الغالب في حروف مخصوصةٍ؛ وهي تسعةٌ؛ يجمعها قولك: (هَدَأْتُ مُوطِياً) 2 ولم يقتصر بعضهم على هذه التّسعة، بل ذكر غيرها؛ ممّا يعدّ من حروف الإبدال الصّرفيّ اللاّزم3؛ بل هي من الإبدال اللّغويّ غير اللاّزم.
ومن الإبدال الصّرفيّ إبدال الواو تاءً في (الافتعال) نحو (الاتّعاظ) و (الاتّعاد) في (الاوتِعَاظ) و (الاوْتِعَاد) وإبدال التّاء طاءً؛ نحو (اصْطَبَرَ) و (اصْطَنَعَ) في (اصْتَبَرَ) و (اصْتَنَعَ) وكذلك قلب الواو أو الياء همزةً، نحو (سَمَاءٍ) و (قَضَاءٍ) في (سَمَاوٍ) و (قَضَايٍ) .
ب- أمّا الإبدال اللّغويّ فهو إبدال حرفٍ من حرفٍ في موضعه من
1 ينظر: الكتاب 4/445، وشرح المفصّل لابن يعيش 10/7، والنّشر لابن الجزريّ 1/286.
2 ينظر: الألفيّة 377، وشرح ابن النّاظم 836.
3 جعلها سيبويه (الكتاب 4/237) أحد عشر حرفاً؛ وهي: الهمزة والألف والياء والواو والميم والنّون والهاء والطّاء والدّال والجيم والتّاء، وعند المبرّد (المقتضب1/61) وأبي البركات الأنباريّ (الوجيز 44) وغيرهما: اثنا عشر حرفاً يجمعها قولك: (طال يوم أنجدته)، وهي عند الزّمخشريّ (المفصل 360) خمسة عشر حرفاً جمعها ي قوله:(استنجده يوم صال زط) .
غير اضطرارٍ إليه في التّصريف؛ لعلاقة صوتيّةٍ بين الحرفين1؛ وقد توسّعوا في حروفه؛ فأجاز بعضهم وقوعه في جميع حروف الهِجاء2.
وقد كثرت ألفاظ الإبدال - بعمومه - ولا سيّما الإبدال اللّغويّ؛ وهو في ذلك بخلاف القلب، ولعلّ ذلك ما دفعهم إلى إفراد الإبدال بمؤلفاتٍ مستقلّةٍ جمعت ألفاظه، ولمّتْ شتاتها، ومنها كتاب (الإبدال) لأبي الطّيّب اللّغوي؛ الّذي يعدّ من أوسعها وأغزرها مادّةً.
والإبدال اللّغويّ أعمّ من الإبدال الصّرفيّ، وعلاقة أحدهما بالآخر - عند كثيرٍ من العلماء ولا سيّما المتأخّرين - علاقة الكلّ بالجزء، وإطلاقه - وبخاصّةٍ في المعاجم - يشمل النّوعين.
ولا بدّ - للوقوف على أثر الإبدال في تداخل الأصول - من بيان الأصل من الفرع في الصّورتين اللّفظيتين؛ على الرّغم ممّا في ذلك من صعوبة؛ إذ لا يعدّ تحديد الأصل من الصّورتين في الإبدال اللّغويّ من الأمور اليسيرة، ويكاد يكون متعذِّراً في بعض الألفاظ؛ وهو بخلاف الإبدال الصّرفيّ؛ الّذي تناوله العلماء على أساس أنّ اللّفظ المبدل له أصلٌ معروفٌ، وقد أبدل لعلّةٍ تصريفيّةٍ.
ويقودنا البحث عن الأصل إلى تقسيم اللّغويّ إلى ثلاثة أنواعٍ:
1-
ما نطق به في بيئتين (قبيلتين) مختلفتين:
إنّ كثيراً ممّا جاء من الإبدال هو من هذا النّوع؛ وكان أبو الطيّب
1 ينظر: اللهجات العربيّة في التّراث 1/348.
2 ينظر: المزهر 1/461.
اللّغويّ يرى أنّ الإبدال لا يكون في القبيلة الواحدة؛ بحيث يتعمّد العربيّ إبدال حرفٍ من حرفٍ؛ وإنّما هي لغاتٌ مختلفةٌ لمعانٍ متّفقةٍ.
قال: "والدّليل على ذلك أنّ قبيلةً لا تتكلّم بكلمةٍ طوراً مهموزةً، وطوراً غير مهموزةٍ، ولا بالصّاد مرّة، وبالسّين أخرى؛ وكذلك إبدال لام التّعريف ميماً؛ والهمزة المصدّرة عيناً؛ كقولهم في نحو أَنْ: عَنْ؛ لا تشترك العرب في شيءٍ من ذلك؛ إنّما يقول هذا قومٌ، وذلك آخرون"1.
على أنّ ابن جنّي لا يعدّ الكلمتين من الإبدال؛ إذا كانتا من بيئين (قبيلتين) مختلفتين؛ بل هما لغتان؛ فمن ذلك أنّ قريشاً تقول: كُشِطتْ، وتقول قيسٌ: قشطت فقال: "وليستِ القاف في هذا بدلاً من الكاف؛ لأنّهما لغتان لأقوام مختلفين"2.
وعندي أنّ كلا المذهبين صحيحٌ؛ فمن نظر إلى اللّغة الأمّ؛ ولم يشترط في صحّة الإبدال أن يكون من قبيلةٍ واحدةٍ، فذلك عنده من الإبدال، ومن اشترط ذلك فهو عنده من اللّغات؛ وليس من الإبدال.
على أنّ الّذي يعنينا - هنا - هو تحديد الأصل من الفرع؛ فعلى مذهب أبي الطّيّب تكون إحدى الصّورتين أصلاً، والأخرى هي الفرع.
ويحتمل أن يكون أحدهما أصلاً والآخر فرعاً؛ إذا نظر إلى اللّغة الأمّ، وبحث عن الأصل الأوّل.
ومن هذا النّوع ما تفرّدت بعض القبائل بصورةٍ منه، وعلى خلافها
1 ينظر: المزهر 1/460.
2 سرّ الصّناعة 1/277.
عامّة العرب؛ وهو أن يؤثّر عن قبيلة إبدالها صوتاً معيَّناً من صوتٍ آخر، في بعض الكلمات، كإبدال الصّاد أو السّين تاءً عند طيّئ، فقد ذكر الأصمعيّ أنّهم يُسمّون اللّصوص: اللّصوت، ويسمّون اللّصّ: لِصْتاً1؛
1 ذهب (برجستراسر) مذهباً خالف فيه الجمهور؛ فقد ردّ على الزّمخشري حين وجده يسير على مذهبهم، ويقول بأنّ التّاء في (اللّصت) مبدلة من الصّاد؛ فاتّهمه بعكسه الإبدال فيه، وقال:"والحقيقة أنّ التّاء هي الأصل؛ والصّاد الثّانية مبدلة منها، فنحن نعرف أنّ اللّصّ معرّب من اليونانيّة بواسطة الآراميّة؛ أي: السّريانيّة، وهو في اليونانيّة: (صورة 16) ، أي: lestes، وفي السّريانيّة:lesta؛ فيتّضح من ذلك أنّ: لصتاً هي الأصل، وأنّ لصاً أبدلت منها بتشابه التّاء للصّاد، ثمّ إدغامها فيها"(التّطور النّحويّ 52) .
والرّاجح عندي مذهب الجمهور؛ وهو يوافق قوانين الإبدال في جنوحهم إلى التّخفيف لثقل المثلين، ومن وسائلهم في ذلك: الحذف أو الإدغام أو الإبدال في ((اللّصّ)) قريب من اختيارهم إيّاه في قولهم: تظنّيت، وقصّيت أظفاري، والأصل: تَظَنَّنْتُ، وقَصَّصْتُ.
ولعلّ الّذي "سهل لطيئ أن تبدل هذا الإبدال – إيثارها نطق التّاء على نطق الصّاد؛ بحكم ميلها إلى الاقتصاد في الجهد، وأن هذا يناسبه الصّوت الشّديد المناظر لصوت الصّاد هو الطّاء، وأن الطّاء إذا رققت – أصبحت تاءً"(ينظر: لغات طيّئ 1/191) .
أمّا ما ذكره برجستراسر من تقارب بين العربيّة واليونانيّة والسّريانيّة في كلمة (اللّصت) فيمكن حمله على توافق اللّغات، وليس بعيداً أن يكون سرى إلى السّريانيّة من العربيّة، ثمّ انتقل إلى اليونانيّة.
وهم الّذين يقولون للطّسّ: طسْتٌ، وذكر أنّه مخالفٌ لأكثر العرب1.
ولعلّ أوضح ما يكون ذلك في الظّواهر اللّغويّة الملقّبة المنسوبة لبعض القبائل، الّتي ربّما اشتركت في بعضها أكثر من قبيلةٍ، ومن هذه اللّغات:
(الاستِنْطَاء) في هذيلٍ والأزد، وهو جعل العين السّاكنة نوناً، نحو:(أَنْطَى) بدلاً من أعطى2.
و (العَجْعَجَة) في قُضاعة، وهي إبدال الياء المشدّدة جيماً، قال الرّاجز:
خَالِي عُوَيْفٌ وأَبُو عَلِجّ
…
المُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالعَشِجّ
وبِالغَدَاةِ فِلَقَ البَرْنِجّ
…
تُقْلَعُ بِالوُدِّ وبِالصَّيْصِجّ3
أراد: بالعشيّ والبرنيّ وبالصّيصيّ.
و (العَنْعَنَة) في تميمٍ، وهي قلب الهمزة في أوّل الكلمة عيناً، فيقولون:(عِنَّكَ) و (عَسْلَمَ) و (عُذُنٌ) في: إنّك وأَسْلَم وأُذُنٌ4.
و (الفَحْفَحَة) في هذيلٍ، وهي إبدال الحاء عيناً، كقولهم:(عَتَّى) في
1 ينظر: الإبدال لابن السّكيت 42، بتحقيق هفنر، ولغات طيّ 1/190.
2 ينظر: المزهر 1/222.
3 ينظر: الإبدال لأبي الطّيّب 1/257، وتهذيب اللّغة 1/68، وسرّ الصّناعة 1/175، وشرح المفصّل لابن يعيش 10/50، والممتع 1/35.
4 ينظر: المزهر 1/221.
حَتَّى1.
و (الوَتْمُ) في اليمن؛ كقولهم: النّات والأَكْيَات؛ يريدون: النّاس والأكياس2.
2-
ما نطق به في البيئة (القبيلة) الواحدة:
وما جاء من هذا في الإبدال قليلٌ، وما تقدّم في نصّ أبي الطّيّب ينفي وقوعه، وقد رفض بعض الباحثين المعاصرين في زماننا أن يقع الإبدال في البيئة الواحدة، وعزا بعض ما جاء من ذلك إلى أزمانٍ مختلفةٍ فيها3.
3-
ما جاء بالصّورتين على التّساوي في الاستعمال:
وهذا النّوع كثيرٌ، وأكثره غير مُعزَوٍّ إلى بيئةٍ معيّنةٍ؛ وهو يحتمل أمرين:
الأوّل: أن يكون منه أصلٌ وفرعٌ.
الثّاني: أن يكون كلٌّ من اللّفظين المتقاربين أصلاً مستقلاًّ برأسه؛ من قبيل التّرادف؛ فيحمل على لغات القبائل.
وأكثر ما جاء من تداخل الأصول بسبب الإبدال إنّما هو من هذا
1 ينظر: الاقتراح 357، والمزهر 1/222، ومميزات لغات العرب 11.
2 ينظر: النّوادر لأبي زيد 104، والحيوان 1/187، والجمهرة 2/842، وأمالي القالي 2/68، والخصائص 2/53، والمخصّص 3/26، 13/283، وشرح المفصّل لابن يعيش 10/36.
3 ينظر: من أسرار اللّغة 76، 77، واللهجات العربيّة في التّراث 1/455.
النّوع، وضابطه عند ابن جنّي أنّه متى "أمكن أن يكون الحرفان جميعاً أصلين؛ كلّ واحدٍ منهما قائمٌ برأسه؛ لم يَسُغ العدول عن الحكم بذلك. فإن دلّ دالٌّ أو دعت ضرورةٌ إلى القول بإبدال أحدهما من صاحبه عمل بموجب الدّلالة، وصِيرَ إلى مقتضى الصَّنعة"1 على وفاق ما ذهب إليه في القلب المكانيّ؛ فالقاعدة الّتي يعرف بها ابن جنّي الإبدال هي كثرة الاستعمال أو التّصرّف؛ فاللّفظ الأكثر استعمالاً أو تصرّفاً هو المبدل منه؛ وهو الأصل، والأقلّ استعمالاً أو تصرّفاً هو البدل؛ وهو الفرع. فإذا تساويا في ذلك فهما جميعاً أصلان. فقولهم (ما قام زيدٌ بَنْ عمرٌو) مبدلٌ من قولهم: بل عمرٌو؛ لأنّ (بل) أكثر استعمالاً من (بَنْ)2.
وجعل ابن جنّي (جُعْسُوساً) وهو: القصير اللّئيم - أصلاً، و (جُعْشُوشاً) هو الفرع، واستدلّ بزيادة الأوّل في التّصرّف؛ لقولهم في الجمع (جَعَاسِيسُ النّاس) ولا يقال بالشّين3.
وأمّا قولهم: سُكّرٌ طَبَرْزَنٌ وطَبَرْزَلٌ فهما أصلان عند ابن جنّي؛ لتساويهما في الاستعمال4، وكذلك قولهم: هَتَلَت السّماء، وهَتنت، وهما أصلان؛ لتساويهما في التّصرّف؛ فهم يقولون:هتنت السّماء تَهْتِنُ تَهْتَاناً،
1 الخصائص 2/82.
2 ينظر: الخصائص 2/84.
3 الخصائص 2/86.
4 الخصائص 2/82.
وهَتَلَت تَهْتِلُ تَهْتَالاً؛ وهي سحائب هُتَّنٌ وهُتَّلٌ1، وكأنّها عنده من اللّغات.
وفي الاستعانة بالدّرس الصّوتيّ ما عين على تمييز الإبدال من التّرادف، ومعرفة الأصل من الفرع في الإبدال؛ وثَمّة أمرٌ نادى كثيرٌ من علماء اللّغة المتأخّرين2، في هذا المجال، وخلاصته أنّه إن كان الحرفان في الصّورتين المتشابهتين من الحروف الّتي بينها علاقةٌ صوتيّة، كالتّجانس أو التّجاور أو التّقارب في المخارج والصّفات؛ فهو من الإبدال.
والأصوات المتجانسة الّتي يسوغ الإبدال بينها هي:
التّاء والذّال والظّاء.
والدّال والتّاء والطّاء.
والزّاي والسّين والصّاد.
والشّين والجيم والياء.
والحاء والعين.
والأصوات المتجاورة الّتي يسوغ الإبدال بينها هي:
الثّاء والفاء.
والذّال والفاء.
والذّال والزّاي.
1 الخصائص 2/82.
2 ينظر: من أسرار اللذغة 75، والاشتقاق لعبد الله أمين 333، ودراسات في فقه اللّغة 218، واللهجات العربيّة في التّراث 2/472، وظاهرة الإبدال اللّغويّ 67.
والقاف والكاف.
أمّا الأصوات المتقاربة الّتي يمكن وقوع الإبدال بينها فهي:
السّين والشِّين1.
وإذا جاءت الصّورتان على خلاف هذا ممّا تباعد فيه الصّوتان يترجّح - عندئذٍ - أنّهما أصلان من باب التّرادف، كـ (الهُرْب) و (الثُرْب) وهما: الشّحم الرّقيق؛ الّذي يغشى الكرش؛ فهما أصلان لبعد العلاقة الصّوتيّة بين الهاء والثّاء، وكذلك (الزّحلُوفَة) و (الزُّحْلُوقَة) لبعد القاف من الفاء، وكذلك (انْدَاحَ) بطنه و (انْدَالَ) لأنّ الحاء ليست أخت اللاّم، ولا قريبةً منها2؛ فيكون هذا من لغات القبائل.
وثمَّةَ كلماتٌ تداخلت أصولها؛ وكان للإبدال دورٌ رئيسٌ في ذلك؛ كتداخل (ص د ى) و (ص د د) في (تَصْدِيَة) في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلَاّ مُكَاءً وتَصْدِيَة} 3 وقد اختلفوا فيه:
فقد يجوز أن تكون من (ص د د) وأصله (تَصْدِدَةٌ) من قولهم: صَدَّدَ يُصَدِّدُ؛ إذا صفَّقَ وصَاحَ وعَجَّ؛ فقلبتِ الدَّالُ الأخيرة ياءً لكثرة الدّالات؛ فقالوا: صَدَّى تَصْدِيَةً؛ على حدِّ قولهم: قَصّيتُ أظفاري،
1 ينظر: ظاهرة الإبدال اللّغويّ 68-97.
2 ينظر: دراسات في فقه اللّغة 235، واللهجات العربيّة في التّراث 2/472، وظاهرة الإبدال اللّغويّ 41.
3 سورة الأنفال: الآية 35.
وأصله: قَصَّصْتُها1. وعلى هذا فإنّ المصدر في الأصل: تَصْدِيٌّ؛ على وزن (تَفْعِيلٌ) وهو قبل الإبدال: تصديدٌ؛ مثل: كلّم تكليماً؛ فحذفت الياء، وعُوّض منها تاء في آخر المصدر.
ويجوز أن يكون الأصل (ص د ي) فقد قيل: إنّ التّصدية من الصّدى؛ وهو: الصّوت: الّذي يردّه عليك الجبل2؛ ومن هنا قيل للتّصفيق: تَصدِيةٌ؛ لأنّ اليدين تتصافقان؛ فيقابل صفق هذه صفق الأخرى، وصدى هذه صدى الأخرى3
ومن ذلك تداخل (ل ب ب) و (ل ب ي) في قول القائل: (لَبَّيْكَ ولَبَّيْهِ) أي: لزوماً لطاعتك، أو أنا مقيمٌ عليها، ومنه قول الشّاعر:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَراً
…
فَلَبَّى فَلبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ4
وهو يحتمل الأصلين:
فقد ذهب الجمهور إلى أنّه من (ل ب ب) واشتقاقه من: لَبَّ بالمكان وألبَّ أقام به ولزمه، وأَلَبَّ على الأمر: لزمه، فلم يفارقه؛ ومنه قولهم: دارُ فلانٍ تُلِبُّ داري؛ أي تحاذيها، وأصل (لَبَّى) على هذا الاشتقاق؛ لَبَّبَ: فأبدلت الباء ياءً لأجل التّضعيف؛ على حدّ قولهم:
1 ينظر: الغريب المصنّف 212أ، والتّهذيب 12/104، واللّسان (صدد) 3/246.
2 ينظر: اللّسان (صدى) 14/454.
3 ينظر: التّاج (صدد) 2/395.
4 ينظر: الكتاب 1/352، وشرح أبيات سيبويه 1/379، ومغني اللّبيب 753، وشرح شواهد المغني 2/910، وشرح الأشمونيّ 2/251، والتّصريح 2/28.
قصّيتُ أظفاري1.
وحمله يونس على ظاهره؛ فذهب إلى أنّ أصل (لَبَّيْكَ)(لَبَّى) وأنّ الألف انقلبت ياءً لمّا اتّصلت بالضّمير؛ كما انقلبت الألف في (عَلَيكَ) 2، ونظير هذا (كلا وكلتا) في قلب ألفيهما ياءً متى اتّصلت بضميرٍ؛ وكانت في موضعٍ أو جرٍّ.
وأدّى الإبدال إلى تداخل (أهـ ل) و (أول) في (آل) وهو اسمٌ ثلاثيٌّ على وزن (فعل) ويحتمل الأصلين: وقد اختلفوا فيه3:
ذهب الكسائيّ إلى أنّ أصله (أول) واشتقاقه من: آلَ يؤول؛ بمعنى: رجع؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله؛ وهو قبل الإبدال (أوّل) فأبدلت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ وقياس تصغيره على الأصل (أُوَيلٌ) نحو: مالٍ ومُوَيلٍ، وبابٍ وبُوَيْبٍ4، وعزا بعضهم هذا الرّأي إلى يونس5 - أيضاً -.
وذهب الجمهور إلى أنّ أصله (أهلٌ) فأبدلت الهاء همزةً؛ لقربها منها؛
1 ينظر: الصّحاح (لبب) 1/216، واللّسان (لبب) 1/730، 731.
2 ينظر: شرح أبيات سيبويه 1/380.
3ينظر: سرّ الصّناعة 1/101، وإعراب القرآن للنّحّاس 1/172، والاقتضاب 1/39، وشرح الملوكيّ 278، والممتع 1/348، وشرح الشّافية للرّضيّ 3/208، وشرح الأشمونيّ 1/13، والتّصريح 1/11.
4 ينظر: الاقتضاب 1/35، وشرح الأشمونيّ 1/13، وشرح الشّافية للجاربرديّ 317، والتّصريح 1/11.
5 ينظر: شرح ديوان المتنبّي للكنديّ ج1/118ب، والارتشاف 1/129.
فقيل: (أَأْلٌ) فلمّا توالت همزتان أبدلت الثّانية ألفاً؛ كما قالوا: آدم وآخراً؛ فقالوا: (أَأْل) ورسمه (آلٌ) .
وكان أبو جعفر النّحّاس يرى أنّ الهاء أبدلت ألفاً ابتداءً؛ من غير أن تبدل همزة قبل إبدالها ألفاً1، ولا يجوز هذا عند ابن جنّي؛ لأنّ الهاء لم تقلب ألفاً في غير هذا الموضع؛ فيقاس عليه؛ وإنّما تقلب الهاء همزةً في ماءٍ، وأصله (مَوَهٌ) .
فعلى هذا أبدلت الهاء همزةً، ثمّ أبدلت الهمزة ألفاً؛ ولأنّ الألف - أيضاً - لو كانت منقلبةً عن الهاء ابتداءً لجاز أن يستعمل (آلٌ) في كلّ موضعٍ فيه (أهلٌ) كإبدالهم الهمزة من الواو في قولهم: وجوه القوم، وأُجُوهم، ووِسادةٌ وإسادةٌ؛ فأوقعوا البدل في جميع مواقعها قبل البدل؛ فلو كانت ألف (آلٍ) بدلاً من هاء (أهل) لقيل: انصرف إلى آلِكَ، كما يقال: انصرف إلى أهلك، ولقيل: آلك واللّيل في قولهم: أهلك واللّيل، وغير ذلك، ممّا يطول ذكره2.
على أنّ الأصل على رأي النّحّاس وابن جنّي واحدٌ؛ وهو (أهـ ل) ويدلّ على قربه، وأنّ الألف ليست منقلبةً عن واوٍ؛ كما ذهب الكسائيّ- قولهم في التّصغير:(أُهَيْل) ولو كانت منقلبةً عن واوٍ لقالوا: (أُوَيْلٌ)3.
1 ينظر: إعراب القرآن للنّحاس 1/223.
2 ينظر: سرّ الصّناعة 1/101، 102.
3 ينظر: الممتع 1/348.
ومن التّداخل بسبب الإبدال ما وقع بين (ت خ ذ) و (أخ ذ) و (وخ ذ) في (اتّخذ) ومنه قوله عز وجل {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} 1 وقد اختلفوا فيه:
فذهب جماعةٌ من العلماء إلى أنّه (افْتَعَلَ) من (أَخَذَ) وأصله (اأْتَخَذَ) وتكتب (ائْتَخَذَ) فأبدلت الهمزة الثّانية ياءً؛ لاجتماع همزتين؛ الأولى مكسورةٌ، والثّانية ساكنةٌ؛ فأصبحت على تقدير (ايْتَخَذَ) على حدّ قولهم:(ايْتَزَرَ) من (ائْتَزَرَ) و (إيْمَانٌ) وأصله (إِئْمَانٌ) ثمّ أبدلت الياء تاءً، وأدغمت في تاء (الافتعال) فقالوا:(اتَّخَذَ) فلمّا كثر استعماله على بناء (الافتعال) توهّموا أنّ التّاء أصليّةٌ؛ فبنوا منه (فَعِلَ يفْعَل) فقالوا: تَخِذَ يَتْخَذُ، كما قالوا: تَقِيَ من اتَّقَى2.
ونظيره في إبدال الياء تاءً وإدغامها قولهم: اتّسَروا الجزور؛ أي: اجْتَزَروها، واقتسموا أعضاءها؛ وإنّما هو من (اليَسْر) وأصله: ايْتَسَرُوا.
وذهب الفارسيّ وابن جنّي إلى أنّه (افتعل) من: تَخِذَ يَتْخَذُ، وأنّه لا إبدال فيه؛ فتاؤه أصليّةٌ؛ وهي بمنزلة:(اتّبعتُ) من (تَبِعَ)3.
وقد جاء الفعل على أصله في قوله عز وجل: {قَالَ لَوْ شِئْتَ
1 سورة البقرة: الآية 51.
2 ينظر: الصّحاح (أخذ) 2/559، وشرح الشّافية للرّضيّ 3/83، والبحر الميحط 6/152، والدّرّ المصون 1/35.
3 ينظر: الحجّة للقرّاء السّبعة 2/68، والخصائص 2/287.
لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} 1 وفي قول الشّاعر:
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا نَسِيفاً كَأُفْحُوصِ القَطَاةِ المُطَرِّقِ2
قال الفارسيّ فيما كانت فاؤه همزةً؛ نحو: أَكَلَ وأَمَرَ: "فإذا بُنِيَ منه (افْتَعَلَ) قلتَ: ايْتَكَلَ وايْتَمَرَ؛ ولا تدغم الياء في التّاء كما أدغمت في: اتّعد واتّسَرَ؛ لأنّ الياء ليست بلازمةٍ. وقد حكى بعض البغداديّين فيه الإدغام؛ وهو - عندي - على قياس قول أصحابنا - خطأٌ"3.
وذهب بعضهم إلى أنّ أصل أَخَذَ: وَخَذَ، و (افْتَعَلَ) منه: اوْتَخَذَ؛ فأبدلت الواو تاءً على القياس؛ كقولهم: اتّصَلَ، من: وَصَلَ4.
د- الهمز والتّخفيف:
ويسمّى الهمزُ - أيضاً - نبراً5، ويسمّى التّخفيف تسهيلاً؛ وهما
1 سورة الكهف: الآية 77.
2 هو: الممزّق العبديّ، ينظر: الأصمعيّات 165، والحيوان 2/298، ومجالس العلماء 255، والحجّة للقرّاء السّبعة 2/68، والخصائص 2/287، والغرز للنّاقة مثل الحزام للفرس، والغرز للجمل مثل الرّكب للبغل، ولعلّ المراد – هنا – المعنى الأوّل، والنّسيف: أثر العضّ أو الرّكض، والأفحوص: المبيض، والمطرّق: وصف القطاة الّتي حان خروج بيضها.
3 التّكملة 25.
4 ينظر: شرح الشّافية للرّضيّ 3/79، 82.
5 للنّبر _ أيضاً _ دلالة تتجاوز الهمز؛ وهو: الضّغط على أحد المقاطع؛ ليعلو الصّوت به عند نطقه، ويبرز؛ وهو يوظّف في الحديث كثيراً لأداء بعض الدّلالات؛ ينظر: في أصول الكلمات 53.
قريبان من الإبدال؛ لأنّهما تغيير الهمزة بحرفٍ معتلٍّ يوافق حركتها، أو همز الحرف المعتلّ.
وقد عُدَّ الهمز من الظّواهر المستقلّة؛ لمّا كثرا في كلام العرب، حتى أفردت لهما مباحث خاصّةٌ، وألّفت فيهما مؤلّفاتٌ مستقلّةٌ.
ويمكن أن يعدّ الهمز والتّخفيف من الأسباب المؤدّية إلى تداخل الأصول اللّغويّة؛ بدلالة ماجاء في بابي الهمزة والمعتلّ (الواو الياء) من معاجم القافية؛ فكثيرٌ من الكلمات المهموزة أعيدت في باب المعتلّ؛ وكأنّها من الأصلين؛ لأنّها تحتملهما؛ لمّا جاءت تارةً مهموزةً، وتارةً مخفّفةً.
ومن طريف ما روي من تداخل الأصول بسبب الهمز والتّخفيف ما جاء في الحديث المرفوع أنّ قوماً من جهينة جاؤوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم بأسيرٍ؛ وهو يُرْعَدُ من البرد، فقال:"أَدْفُوه"؛ فذهبوا به فقتلوه؛ فوداه1 النّبي صلى الله عليه وسلم2 وإنّما أراد عليه السلام أَدْفِئُوهُ من البرد؛ وهو من (د ف أ) وسَهَّلَه؛ لأنّه ليس من لغته التّحقيق؛ فالتبس بأصلٍ آخر؛ وهو (د ف و) ومنه قولهم: دَفَوْتُ الجريح أدْفُوه دَفواً؛ إذا أجهزتَ عليه3.
وقد يؤدّي الهمز أو التّخفيف إلى تداخل أصلين؛ أحدهما غير
1 أي: دفع دِيته.
2 ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد 4/33، والغربيين 2/312، والفائق 1/428، وغريب الحديث لابن الجوزي 1/341، والنّهاية 2/123.
3 ينظر: الجمهرة 2/673، والفائق 1/428، ومختار الصّحاح (فدو)553.
مهموزٍ ولا معتلٍّ كتداخل (د ر ر) في قولهم: (كَوْكَبٌ دُرّيءٌ) بالهمز، و (دُرِّيٌّ) بالتّخفيف، وربّما بفتح الدَّال وكسرها - أيضاً - فيقال: دَرِّيٌّ ودِرِّيٌّ؛ وهو يحتمل الأصلين:
ذهب سيبويه - في أحد قوليه - إلى أنّه من (د ر أ) على وزن (فُعِّيل) 1 وهو صفةٌ من (الدَّرْءِ) بمعنى الدَّفْعِ2، ومنه قوله عز وجل:{قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} 3 أي: ادفعوه، وقد وُصِفَ الكوكب بهذا لاندفاعه في مُضِيِّه من المشرق إلى المغرب، ويقال: درأ الكوكب دُرُوءاً؛ إذا اندفع وانقضّ لرجم الشّياطين. ومنه قولهم: دَرَأَ فلانٌ علينا؛ أي: هَجَمَ؛ قال أوس بن حجر:
فَانْقَضَّ كالدُّرِّيءِ يتبعه
…
نَقْعٌ يثوب تخاله طُنُباً4
وقال السّيرافيّ من هذا المعنى: "وهو مشتق من دَرَأَ يَدْرَأُ؛ كأنّ ضوءه يدفع بعضه بعضاً من لمعانة" 5 ولأبي علي الفارسي - في تفسير اشتقاقه - رأيٌ قريبٌ من رأي السّيرافيّ؛ فـ (دُرِّيٌّ) عنده من هذا الاشتقاق و"كأنّه دفع الخفاء والغموض عن نفسه؛ لشدّة وضوحه للحسّ، وظهوره لفرط ضيائه ونوره؛ فهو خلاف السُّها وما أشبهه، من الكواكب
1 ينظر: الكتاب 4268.
2 ينظر: البغداديّات 497.
3 سورة آل عمران: الآية 168.
4 ينظر: ديوانه 3، وتأويل مشكل القرآن 430، واللّسان (درأ) 1/73.
5 ينظر: شرح السيرافي (بتحقيق د. عبد المنعم فائز)646.
الغامضة غير النَّيِّرة"1.
وله وجهٌ آخر في الاشتقاق؛ وهو أن يكون من قولهم: دَرَأْتِ النَّارُ، إذا أضاءت2، والجامع بين هذا الاشتقاق وصفة الكوكب: الإضاءة. وعلى هذا الأصل - أعني (د ر أ) يكون من قال: دُرِّيّ، بغير همزٍ قد خفّف الهمزة، وجعلها ياءً؛ فأدغمت ياءُ (فَعِيل) فيها.
وذهب أبو عبيدٍ إلى أنّ أصل (دُرِّيّ)(د ر ر) وهو منسوبٌ إلى الدُّرِّ، شبّه به لصفائه وإضاءته، ووزنه (فُعْلِيّ) 3 وهو موافقٌ للرّأي الآخر لسيبويه، إذ جعل جمعه (دَرَارِي) على وزن (فَعَالِي) مثل: بَخَاتِي وقَمَارِي4؛ فيكون وزن (دُرِّيّ)(فُعْلِيّ) كما ذكر أبو عبيدٍ، وقد نبّه عليه أبو عليٍّ5.
وأَدَّى التّخْفِيف إلى تداخل (ل ب ب) و (ل ب أ) في (تُلَبِّي) من قول الشّاعر:
رَدَدْنَ حُصَيْناً مِنْ عَدِيٍّ وَرَهْطِهِ
…
وَتَيْمٌ تُلَبِّي فِي العُرُوجِ وَتَحْلُبُ6
1 البغداديّات 498.
2 ينظر: اللّسان (درأ) 1/74.
3 ينظر: الصّحاح (درأ) 1/49، والتّبيان في إعراب القرآن 2/970.
4 ينظر: الكتاب 4/251.
5 ينظر: البغداديات 497.
6 ينظر: التّهذيب 15/337، والتّاج (لبب) 1/464.
فهو يحتمل الأصلين:
ذهب الأحمر1 إلى أنّ أصله (ل ب ب) واشتقاقه من قولهم: لَبّ بالمكان، وألبَّ؛ إذا أقام به، ومعنى قوله:
وَتَيْمٌ تُلَبِّي في العُرُوجِ وَتَحْلُبُ
أي: تلازمها وتقيم فيها2، وأصله (تُلَبِّبُ) فأبدلت الباء الأخيرة ياءً.
وذهب أبو الهيثم إلى أنّه من (اللّبَأ) أي: تَحْلُبُ اللّبأ، وتشربه، وقد تُرِكَ همزة تخفيفاً.
قال أبو منصورٍ: "والذي قاله أبو الهيثم أصوب؛ لقوله بعده: وتحلب"3.
ومن ذلك - أيضاً - تداخل الأصلين (ق ر أ) و (ق ر ن) في (القرآن) الكريم؛ وقد كان عبد الله بن كثيرٍ يسهّل همز (القرآن) ويلقي حركتها على الرّاء4.
1 هو: علي بن المبارك الأحمر النّحويّ، صاحب الكسائيّ، وكان مؤدّب الأمين، وقد اشتهر بالتّقدّم في النّحو، واتّساع الحفظ، وكانت وفاته سنة 194هـ تقريباً، ومن مصادر ترجمته: طبقات النّحويّين واللّغويّين 134، وتاريخ بغداد 12/104، وإنباه الرّواه 2/312-317.
2 ينظر: التّهذيب 15/336، واللّسان (لبب) 1/731.
3 ينظر: اللّسان (لبب) 1/731، واختيار أبي منصور ساقط من طبعة التّهذيب، ولعله كان في أصوله القديمة، الّتي نقل عنها ابن منظور.
4 ينظر: النّشر 1/414.
ويحتمل (القرآن) عند تخفيف همزته (فُعْلانًا) و (فُعَالاً) وقد اختلفوا فيه:
ذهب الجمهور إلى أنّه من (ق ر أ) واشتقاقه من: قرأت الشّيء قرآناً، أي: جمعته وضممت بعضه إلى بعضٍ، ومنه قولهم: ما قرأتِ النّاقة سلًى قطُّ، أي: ما ضمّته إليها أو حملته، وسمّي قرآناً؛ لأنّه يجمع السُوَر، فيضمّ بعضها إلى بعضٍ، ويجوز أن يكون مشتقّاً من: القراءة التّلاوة1.
ويجوز - أيضاً - أن يكون مشتقّاً من: القَرْءِ؛ وهو اسمٌ للوقت؛ كأنّه نزل في أوقاتٍ مختلفةٍ2.
ووزن (القرآن) على هذا الأصل (فُعْلان) ووزنه - عند التّخفيف - بحذف الهمزة: (فُعَان) ؛ لأنّ الهمزة لام الكلمة؛ وهي محذوفةٌ. وذهب بعضهم إلى أنّ (القُرَانَ) من (ق ر ن) واشتقاقه من قولك: قَرَنْتُ الشّيء بالشّيء؛ فوزنه على هذا الرّأي (فُعَال)3.
ويضعف هذا الرّأي أنّ (فُعَالاً) غير مقيسٍ في المصادر، إلاّ في الدّاء والصّوت لفعل لازمٍ، وإن كان اسماً فقياسه كسر القاف. وفيه ردٌّ على ابن قِسْطَنْطينَ4 الّذي كان يرى أنّ (القُرَان اسمٌ، وليس بمهموزٍ؛ ولم
1 ينظر: اللّسان (قرأ) 1/128.
2 ينظر: عبث الوليد 24.
3 ينظر: عبث الوليد 25، والجاسوس 45، 46.
4 هو: إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين؛ مولى بني ميسرة موالي العاص بن هشام المخزوميّ، وكان يعرف بـ (القسط) وعليه تتلمذ الإمام الشّافعيّ، وكانت وفاته سنة 170هـ، ومن مصادر ترجمته: السّبعة 65، وغاية النّهاية 1/165، 166.
يؤخذ من قَرَأْتُ؛ ولو أُخِذَ من: قرأتُ، لكان ما قُرئَ: قرآناً؛ ولكنّه اسمٌ للقُرَان؛ مثل: التّوراة والإنجيل) 1، وكان يهمز: قرأتُ؛ فيقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} 2وعنه أخذه الإمام الشّافعيّ3.
وما ذهب إليه ابن قِسْطِنْطِين غير قويّ؛ لأنّ أكثر القرّاء على همزه؛ فهو ممّا أصله الهمز، وسهِّلَ على لغة الحجازيّين، والاشتقاق يؤيّد الهمزة، ويضعّف هذا الرّأي - أيضاً - أنّ وزن القرآن عند الهمز إذا كان مشتقّاً من (ق ر ن) :(فُعْأال) وهو في الرّسم: (فُعْآل) ولا نظير له فيما أعلم.
هـ- التّعريب:
يطلق القدامى على ضربٍ من الألفاظ الّتي دخلت في العربيّة من غيرها من اللّغات مصطلحاتٍ؛ وهي: (المُعَرَّب) و (الدّخيل) و (الأعجميّ) وكثيرون منهم لا يكادون يفرّقون بينها؛ فالمُعرّب عندهم "ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغاتها"4.
وقد صرّح السّيوطيّ بأنّ الدّخيل يرادف المُعَرَّب؛ فقال: "ويطلق على المعرّب: دخيلٌ، وكثيرٌ ما يقع ذلك في كتاب العين والجمهرة
1 تاريخ بغداد 2/62، وينظر: آداب الشّافعيّ 143، وغاية النّهاية 1/166.
2 ينظر: الرسالة14، 15، وما علقه الأستاذ أحمد شاكر على هامشه رقم24.
3 سورة الإسراء: الآية 45.
4 المزهر 1/268، وينظر كشّاف اصطلاحات الفنون 4/945، وشفاء الغليل 3.
وغيرهما"1. وكذلك الأعجميّ عندهم بهذا المعنى.
وقد جمع ابن منظورٍ المصطلحات الثّلاثة في نصٍّ واحدٍ إذ قال: "البُخْتُ والبُخْتِيَّة: دخيلٌ في العربيّة، أعجميّ، معرّبٌ"2.
واستمرّ عدم التّفريق بينها عند بعض المتاخّرين؛ كجرجي زيدان3 ومحمّد المبارك4، وصُبْحِي الصّالح5.
وفرّق كثيرٌ من المتأخّرين المعاصرين بين مصطلحيْ: المعرّب والدّخيل؛ وأهملوا مصطلح الأعجميّ؛ الّذي لا يرد لديهم - في الغالب - إلاّ عفواً أو في ترديد أقوال القدامى. غير أنّهم اختلفوا في مفهومهما؛ فالمعرّب عند أكثرهم - وكما يراه مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة - هو: "اللّفظ الأجنبيّ الّذي غيّره العرب بالنّقص أو الزّيادة أو القلب"6.
أمّا الدّخيل فهو: "اللّفظ الأجنبيّ الّذي دخل العربيّة دون تغييرٍ"7.
1 المزهر 1/269.
2 ينظر: اللّسان (بخت) 2/9.
3 ينظر: تاريخ آداب اللّغة العربيّة 1/39، 40.
4 ينظر: فقه اللّغة وخصائص العربيّة 295، 296.
5 ينظر: دراسات في فقه اللّغة 322، 323.
6 المعجم الوسيط 1/416، وينظر: المظاهر الطّارئة 115، وعوامل التّطور اللّغوي 85، والألفاظ اللغويّة خصائصها وأنواعها 66، والتّعريب في ضوء علم اللّغة المعاصر 69.
7 المعجم الوسيط 1/16، وينظر: كلام العرب 71، 72، وعوامل التّطوّر اللّغويّ 85، والألفاظ اللّغويّة 66، والتّعريب في ضوء علم اللّغة المعاصر 69.
وربّما اختلف مفهومهما عند بعضهم، فالمعرّب: هو: ما نطق به الجاهليّون ومن يحتجّ بلغتهم من الكلام الأعجميّ، أمّا الدّخيل فهو: ما دخل العربيّة بعد عصور الاحتجاج1.
ويرى بعضهم أنّ للدّخيل مدلولاً عامّاً يشتمل على المعرَّب والمولّد والمحدث2.
وبهذا يكون للدّخيل مفهومان:
مفهومٌ ضيّقٌ، وهو: ما دخل في العربيّة دون تغييرٍ عند أكثرهم، أو دخلها بعد عصور الاحتجاج عند بعضهم. ومفهومٌ واسعٌ؛ وهو: ما دخل العربيّة مطلقاً؛ فيشمل المعرّب والدّخيل بمعناه الضّيّق، ويشمل - أيضاً - عند بعضهم - المولّد والعامّيّ والمحدث.
والتّعريف الأوّل لكلٍّ من المعرّب والدّخيل - عند جمهور المتأخّرين - هو الأقرب عندي؛ وهو ما عليه مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة.
ويعدّ المعرّب والدّخيل من الأسباب المهمّة لتداخل الأصول، ويظهر جليّاً في معاجم القافية، وهو مردودٌ إلى اختلاف نظرة اللّغويّين إلى أصول المعرّب والدّخيل؛ ففي حين رأى كثيرٌ منهم أنّه ينبغي ألاّ يعرض لأصول المعرَّب واشتقاقه على قياس العربيّة، لأنّه لا أصل له فيها - رأى بعضهم عكس ذلك؛ فتكلّفوا لكثيرٍ من المعرّب أو الدّخيل أصولاً؛ فتعدّدت
1 ينظر: الوجيز في فقه اللّغة 444، وفي فقه اللّغة وقضايا العربيّة 181، وكلام العرب 71، 72.
2 ينظر: الوجيز في فقه اللّغة 444، وفقه اللّغة للدّكتور محمّد خضر 183.
بسبب اختلاف النّظرة وتداخلت؛ وربّما أدّى ذلك إلى حجبها عن طالبيها في هذه المعاجم.
ومن أصحاب الرّأي الأوّل القائلين بضرورة الحذر من إعادة المعرَّبات إلى أصولٍ عربيّةٍ واشتقاقها منها - ابن السَّرَّاج؛ إذ قال في رسالته في الاشتقاق في باب: ما يجب على النّاظر في الاشتقاق أن يتوقّاه، ويحترس منه:"ممّا ينبغي أن يحذر منه كلّ الحذر أن يشتقّ من لغة العرب لشيءٍ من لغة العجم؛ فيكون بمنزلة من ادّعى أن الطّير ولد الحوت"1.
ونقل هذا عنه جماعةٌ: كالجواليقيّ2 والخفاجيّ3، والمحبّي4، والقِنَّوجيّ5.
وكان الزجّاج يحذِّر من جعل: (يَاجُوج) و (ماجُوج) على وزن (فَاعُول)، ويقول:"وهذا لو كان الاسمان عربيّين لكان هذا اشتقاقهما، فأمّا الأعجميّة فلا تشتقّ من العربيّة"6، وبنحو ذلك قال الأزهريّ7.
ولم يعرض ابن فارسٍ لاشتقاق (الخَنْدَريس) وهي: الخمر؛ لأنّه
1 ينظر: المعرب 91.
2 ينظر: المعرب 91.
3 ينظر: شفاء الغليل 2.
4 ينظر: قصد السّبيل 2ب.
5 ينظر: العلم الخفّاق 175.
6 ينظر: معاني القرآن وإعرابه 3/310.
7 ينظر: القراءات وعلل النّحويّين فيها 1/354.
يقال: إنّها روميّةٌ1، وقال في موضعٍ آخر:"فأمّا النّبَهْرَج2 فليست عربيّةً صحيحةً؛ فلذلك لم يُطلب لها قياسٌ"3.
وردّ ابن برّيّ على الحريريّ لتجويزه أن يقال: (الشَّطَرَنج) بالشّين المعجمة - مشتقٌّ من: المشاطرة، وإن كان بالسّين فهو مشتقٌّ من التّسطير عند التّعبئة4؛ وغلّطه في هذا؛ لأنّ الأسماء الأعجميّة لا تشتقّ من الأسماء العربيّة، وقال:"ألا ترى أنّهم أبطلوا قول من زعم أنّ إبليس [مشتقٌّ] من أَبْلَسَ بامتناع صرفه، وأيضاً فإنّه قد جعل هذه الكلمة خُمَاسيّةً، واشتقاقها من: التّسطير - يوجب أنّها ثلاثيّةٌ؛ وتكون النّون والجيم زائدتين؛ وهذا بيّن الفساد، واضح الاختلال"5.
وذكر ابن عقيلٍ أنّ الألفاظ المعرّبة؛ نحو: إبراهيم لا يدخلها التّصريف؛ "لأنّها منقولةٌ من لغةٍ لها حكم يخصّها؛ ولا مشاركة بينها وبين لغة العرب في أحكام هذا الباب؛ والقول بزيادة بعض حروف الأعجميّ وأصالتها، ليس معناه إلاّ المقايسة؛ بمعنى أنّ العربيّ في مثله؛ حقّه كذا؛ فيثبت لهذا ما ثبت لذلك للتّعريب"6.
1 ينظر: المقاييس 2/252.
2 النبهرج من الدّراهم: الزّائف أو المبطل. ينظر: اللّسان (بهرج) 2/217.
3 المقاييس 2/252.
4 ينظر: درّة الغوّاصّ 177.
5 حواشي ابن برّي على درّة الغوّاص 25أ، ب.
6 المساعد 4/7.
وردّ الزّبيديّ على صاحب (القاموس) في كلمة: (كَارَزِين) وهي: موضعٌ بفارسٍ، بأنّ محلّها الرّباعيّ (ك ر ز ن) لا الثّلاثيّ (ك ر ز) لأنّها أعجميّةٌ1.
أمّا من أجاز اشتقاق الألفاظ المعرّبة من العربيّة، وإعادتها إلى أصولها والحكم عليها بالأصليّ والزّائد فذاك "على معنى أنّها لو كانت من كلامهم تقديراً؛ لكان قياسها أن يكون كذلك"2.
وكان عبد القاهر الجرجانيّ يميل إلى هذا الرّأي؛ ويدافع عنه.
قال: "إن قال قائلٌ: كيف تحكمون بزيادة النّون في: نَرْجِس؛ وهو أعجميٌّ لا أصل له في كلامهم؛ فمن أين لكم مذهب العجم فيه؟
فالجواب أنّك لم تقف على مذهب النّحويّين؛ وذلك أنّهم إذا نقلوا اللّفظ إلى كلامهم فإنّهم يعتقدون فيه من الزّيادة، والأصل ما يكون في أصول كلامهم؛ فإذا قلنا: إنّ نَرْجِساً قد اعتقدوا فيه زيادة النّون - فالمعنى أنّهم اعتقدوا أنّ الفعل لو أخذ منه لكان على رَجَسَ"3.
واستدلّ على استقامة ما ذهب إليه بأنّهم قالوا: زَرَجُون للخمر؛ وهو فارسيٌّ معرّبٌ، ثمّ اشتقّوا منه اسم مفعولٍ؛ وعليه قول الشّاعر:
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الخَزْرَجِ
…
مِنْهَا فَأَضْحَى الْيَوْمَ كَالْمُزَرِّجِ4
1 ينظر: التّاج (كرزن) 9/320.
2 الإيضاح في شرح المفصّل 2/372.
3 المقتصد في شرح التّكملة 2/842.
4 ينظر: المنصف 1/148، والخصائص 1/359، والممتع 1/254.
غير أنّ ما استدلّ به الجرجانيّ لا يعدّ أمراً حاسماً لاشتقاق المعرَّب أو الدّخيل من العربيّة، وتكلّف أصولٍ له من أصولها؛ فما جاء منه نحو:(المُزَرِّج) إنّما يحمل على التّوهّم؛ كما في (تَمَسْكَنَ) و (تَمَدْرَعَ) ونحوهما؛ وهو كثيرٌ في كلامهم. ولذلك أرى صحّة ما ذهب إليه الفريق الأوّل؛ وهم أكثر أهل اللّغة؛ لقوّة ما احتجّوا به؛ ولأنّ التّمادي في الاستدلال على أصل المعرّب بالاشتقاق منه في العربيّة قد يؤدّي إلى شيءٍ من تعميةٍ وتضليلٍ؛ كاستدلال بعضهم على أنّ أصل (المَنْجَنِيق) : (ج ن ق) لقولهم: جَنَقُونا ونُجْنَق
وقد أدّت محاولات بعضهم لإخضاع المعرّب والدّخيل إلى مقاييس العربيّة في الأصول إلى التّداخل في موادّها، ووضع كثيرٍ منه في غير أصله؛ كوضع الجوهريّ كلمة (الإستَبْرَق) وهو: الدِّيباج الغليظ في (ب ر ق) 1 مع نصّه على أنّه معرّبٌ، ويبدو أنّه جعله على وزن (اسْتَفْعَلَ) ولا وجه له؛ لأنّ الهمزة مقطوعةٌ؛ وهي أصليّةٌ، وكذلك السّين والتّاء؛ ولأنّ الكلمة معرّبةٌ من الفارسيّة وأصلها (إِسْتفْرَه) أو (إِسْتَرْوَهْ)2.
ويبدو أنّ الجوهريّ لم يكن على يقين من هذا الأصل؛ فأعاد الكلمة في أصلٍ آخر؛ وهو (س ر ق) 3 فأغرب بذلك؛ إذ لا وجه لهذا الأصل؛ لأنّه حكم بزيادة الباء مع الهمزة والتّاء، والأول أقرب؛ إذ فيه حملٌ على قياس لغة العرب.
1 ينظر: الصّحاح 4/1450.
2 ينظر: المعرّب 108، والمهذّب 199، وجامع التّعريب 11ب.
3 ينظر: الصّحاح 4/1496.
وقد توبع الجوهريّ في جعله (الإِسْتَبْرَق) في الأصلين، فذكره ثَمَّ ابن منظورٍ1، واكتفى الفيروزاباديّ بالأصل الأوّل2.
واقترب الأزهريّ من أصله؛ إذ وضعه في باب الخماسيّ، ولكنّه حكم بزيادة الهمزة3، ووضعه الجواليقيّ في باب الهمزة؛ ولم يحكم بزيادة شيءٍ منه4.
ومن ذلك (أَلْمَاس) وهو: حجرٌ معروفٌ من أنفس الجواهر؛ فقد ذكره الفيروزاباديّ في (م وس) 5 بزيادة الهمزة واللاّم؛ وهما من بنية الكلمة؛ كما في (إِلْيَةٍ) فوزنه (فَعْلال) كما نصّ عليه السّعد التّفتازانيّ6. وكان ابن الأثير يقول: "أظنّ الهمزة واللاّم فيه أصليّتين مثلهما في: إلياس، وليست بعربيّةٍ؛ فإن كان كذلك فبابه الهمزة؛ لقولهم فيه: الأَلْمَاس"7.
وقد ذهب بعض علماء العربيّة المتأخّرين إلى أنّ الكلمة معرَّبةٌ من اليونانيّة، وأصلها (صورة17) ولمّا دخلت العربيّة، وكثر استعمالها - توهّموا فيها زيادة الهمزة واللاّم؛ وهما من بناء الكلمة؛
1 ينظر: اللّسان (برق) 10/19، و (سرق) 10/156.
2 ينظر: القاموس 1120.
3 ينظر: التّهذيب 9/422.
4 ينظر: المعرّب 108.
5 ينظر: القاموس (موس)743.
6 ينظر: الجاسوس 511.
7 النهاية 4/289.
فعدّوهما أداة التّعريف1؛ فيكون أصل الكلمة رباعيّاً؛ وهو (أل م س) وليس (م وس) .
ومن ذلك (سُنْدُسٌ) وهو: الدّيباج؛ فقد ذكر الجواليقيّ أنّه لا خلاف بين أهل اللّغة في أنّه معرّبٌ2؛ وعلى هذا فحروفه جميعاً أصولٌ، ولكنّ الجوهريّ جعله من الثّلاثيّ (س د س) 3، وذكره ابن منظورٍ في الرّباعيّ (س ن د س) 4 وهو كذلك عند الفيروزاباديّ5. ومثل هذا كثيرٌ.
ولا سبيل لمنع تداخل الأصول في المعرّب أو الدّخيل إلاّ بأن يوضع ما ثبت أنّه من المعرّب أو الدّخيل في جزورٍ توافق نطقه في العربيّة؛ دون النّظر إلى أصليٍّ أو زائدٍ فيه "لأنّه محالٌ أن يشتقّ العجميّ من العربيّ"6 وهو مذهب أكثر المتأخّرين7.
وقد أحسن مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة صنعاً حينما "الْتَزَمَ في منهجه بوضع الكلمات المعرّبة في ترتيبها الهجائيّ؛ لأنّه ليست لها في العربيّة أسرٌ تنتمي إليها"8.
1 ينظر: المعرب 76 من مقدّمة المحقّق.
2 ينظر: المعرب 361.
3 ينظر: الصّحاح 3/937.
4 ينظر: اللّسان 6/107.
5 ينظر: القاموس 710.
6 المزهر 1/287.
7 ينظر: دراسات في المعجم العربيّ 188، وأثر الدّخيل على العربيّة الفصحى 262.
8 المعجم الوسيط (المقدّمة)4.
وليس في الالتزام بمثل هذا في أصول المعرّب والدّخيل ابتداعٌ؛ فقد تقدّم أنّ كثيراً من العلماء كانوا يرون ألاّ يشتقّ المعرّب من أصول العربيّة؛ فلم يعمدوا إلى تجريد معرّباتهم من بعض الحروف؛ وفق أصول العربيّة. وقد اتّبع بعض المعجّمين المنهج الصّحيح في بعض المعرّبات؛ كابن سِيدَه الّذي ذكر (شَاهَسْفَرهْ) وهو: رَيْحان الملك - في باب السّداسيّ1. وكذلك الصّغانيّ إذ ذكر (الأمْبَرْبارِيس) وهو: حبٌّ حامضٌ - في مدخلٍ سباعيٍّ وهو (أم ب ر ب ر س) 2، وكذا صنع ابن منظورٍ في (أنْدَرَاوَرْد) وهو: نوعٌ من السّراويل المشمّرة؛ فذكر في مدخلٍ سباعيٍّ3، وذكر (المُسْتَفْشَارَ) وهو: العسل المعتصر بالأيدي في (م س ت ف ش ر) 4.
و الحذف والتّعويض:
الحذف - في اللّغة - طرح الشّيء وإسقاطه بقطعٍ أو نحوه5.
والتّعويض: جعل الشّيء خلفاً لشيءٍ آخر6.:
والحذف والتعويض في اصطلاح الصرفيين: جعل حرف خلفا لحرف أو أكثر، أو خلفا لحركة، ومثال حذف الحرف وتعويضه بآخر:
1 ينظر: المحكم 4/355.
2 ينظر: التّكملة 3/318.
3 ينظر: اللّسان (أندرورد) 3/74.
4 ينظر: اللسان 5/173.
5 ينظر: اللّسان (حذف) 9/39، 40.
6 ينظر: اللّسان (عوض) 7/193.
(عِدَةٌ) فالتّاء عوض عن الواو المحذوفة، والأصل (وع د) وهذا النّوع يقع كثيراً في العربيّة.
ومثال التّعويض عن أكثر من حرفٍ قولهم في تصغير مستَخرج: مُخَيْرِيْجٌ، فالياء الثّانية عوضٌ عن الحرفين المحذوفين؛ وهي الواو في (أطْوَع) ؛ وهما السّين والتّاء.
ومثال تعويض الحركة ما ذكره سيبويه من أنّ السّين في (أَسْطَاعَ) عوضٌ عن حركة عين الكلمة؛ وهي الواو في (أطْوَعَ) قبل الإعلال1.
وربّما حذف الحرف؛ ولم يعوّض عنه؛ نحو (أَبٍ) و (أَخٍ) و (دَمٍ) .
والّذي يعنينا - هنا - هو حذف الحرف؛ سواءٌ أعوَّض عنه أم لا؛ لأنّ التّداخل كثر بسبب الحذف؛ لاختلاف الرّأي في تحديد موقع الحرف المحذوف؛ هل هو في أوّل الكلمة أو في وسطها أو في آخرها.
وممّا تداخلت أصوله بسبب الحذف ما وقع في كلمة (اسمٍ) من تداخل الأصلين: (س م و) و (وس م) وهذا من مواضع الخلاف المشهورة بين البصريّين والكوفيّين2:
ذهب الكوفيّون إلى أنّ أصله (وس م) واشتقاقه من (الوَسْم) واحتجّوا بأنّ الوسم في اللّغة العلامة، والاسم: وَسْمٌ على المسمّى وعلامة
1 ينظر: الكتاب 1/25.
2 ينظر: المقتضب 1/329، واشتقاق أسماء الله للزّجّاجي 255، والإنصاف في مسائل الخلاف 1/6،والتّبيين 132، وائتلاف النّصرة 27، والبحر المحيط 1/14، والدّرّ المصون 1/19، وشرح الأشمونيّ 4/275.
عليه يعرف به، ولذلك قيل: الاسم سِمةٌ توضع على الشّيء يعرف بها، وأصل الاسم عندهم:(وَسْمٌ) فحذفت الفاء؛ وهي الواو، وزيدت الهمزة في أوّله؛ عوضاً عن المحذوف، أو بقيت العين ساكنةً؛ فجيئ بهمزة الوصل؛ ووزنه عندهم (اعْل)1.
وذهب البصريّون إلى أنّ أصله (س م و) واشتقاقه من السّموّ؛ وهو: العلوّ، من: سَمَا يسمو؛ إذا علا، ومنه سمّيت السّماء سماءً؛ لعلوّها، والاسم يعلو على المسمّى، ويدلّ على ما تحته من المعنى، ويرفعه إلى الأذهان بعد خفائه. والأصل فيه قبل الحذف والتّعويض:(سِمْوٌ) على وزن (فِعْل) فحذفت اللاّم؛ الّتي هي الواو وعُوِّض عنها بهمزةٍ في أوّله؛ فوزنه عندهم (افْعٌ) لحذف اللاّم منه.
واحتجّ البصريّون بأشياء؛ منها: عودة اللاّم المحذوفة في بعض تصاريف الكلمة في الفعل الماضي؛ نحو: سمّيت وأسميت، وفي التّصغير؛ نحو: سُمَيٌّ وفي الجمع نحو: أسماءٍ وأَسَامٍ، وفي صيغة (فَعِيل) نحو: سَمِيٍّ؛ ولو كان المحذوف منه أوّله لعاد في التّصريف؛ فكان يقال فيما تقدّم: وَسَمْتُ وأَوسَمْتُ ووُسَيْمٌ وأَوْسَامٌ ووَسِيمٌ2.
ومنها: أنّ سبيل العرب إذا حذفوا في أوّل الكلمة عوّضوا في آخرها؛ مثل:
1 ينظر: الإنصاف 1/6، وشرح الشّافية للرّضيّ 1/258، 259.
2 ينظر: التّبيين 133.
ابنٍ، ولمّا كان التّعويض في أوّل (اسمٍ) دلّ على أنّ المحذوف في آخره1؛ وبهذا رجح مذهب البصريّين بالسّماع والقياس.
ومن ذلك تداخل (ع ض و) و (ع ض هـ) في (العِضَة) وهي: القِطْعَة والفِرقة، وواحدة العِضَاهِ؛ وهو: شجرٌ:
ذهب الكسائيّ إلى أنّ المحذوف هاءٌ من موضعي اللاّم، والأصل (ع ض هـ) واشتقاقها من (العَضِيهَة) وهي: الكذب2. وكان الجوهريّ يرى أنّها من هذا الأصل، وأنّ المحذوف الهاء؛ وهي بمثابة: (شَفَةٍ) واستدلّ بردّ الهاء في الجمع والتّصغير والنّسب في قولهم: عِضَاهٌ، وعُضَيْهَةٌ، وبعيرٌ عِضَهِيٌّ وعِضَاهيٌّ وإبلٌ عِضَاهِيَّةٌ3؛ وهي الّتي تأكل العِضَة.
وذهب جماعةٌ - منهم: ابن جنّي - إلى أنّ المحذوف الواو؛ من لام الكلمة وأصلها: (ع ض و) وهي قبل الحذف (عِضْوَةٌ) وعليه فُسّر قوله عز وجل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 4 أي: فرّقوه، وجعلوه أعضاءً؛ فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه5.
والمذهب الأوّل أقربُ لظهور كثيرٍ من تصاريف الكلمة؛ كالجمع والتّصغير والنّسب، وكذلك في المفرد؛ إذ يقال: عِضَاهَةٌ وعِضَهَةٌ؛ وليس
1 ينظر: الإنصاف 1/8، 9.
2 ينظر: سرّ الصّناعة 2/606.
3 ينظر: الصّحاح (عضه) 6/2240، 2241.
4 سورة الحجر: الآية 91.
5 ينظر: سرّ الصّناعة 2/605.
بعيداً أن تكون الواو في قولهم: (عُضْوَات) مبدلةً من الهاء1.
وبسبب هذا التّداخل وضعت (العِضَة) في الأصلين في بعض معاجم القافية2؛ غير أنّ وزن الكلمة لم يتأثّر بتداخل الأصلين؛ وهو (فِعَة) على الاحتمالين:
ويتداخل بسبب الحذف في (النّاس) ثلاثة أصولٍ، وهي:(أن س) و (ن وس) و (ن س ي) واللّفظ يحتملها:
ذهب سيبويه إلى أنّه من (أن س) واشتقاقه من (الإِنْس) وأصله: (أُنَاسٌ) فحذفت فاؤه تخفيفاً، وجعلت ألف (فُعَال) عوضاً عن الهمزة3؛ فوزن (النّاس) على ها الأصل:(العَال) .
ويدلّ على مذهب سيبويه أنّ العرب نطقت بالأصل في قولهم: (أُنَاسٌ) وقد جمع الشّاعر بين الهمزة والألف واللاّم في قوله:
إنّ المنَايَا يَطَّلِعْـ
…
نَ علَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا4
وذكر ابنُ الشّجريّ أنّ هذا مذهب الجمهور من البصريّين، وأنّ
1 ينظر: التّاج (عضه) 9/299.
2 ينظر: الصّحاح (عضة) 6/2240، و (عضو) 2430، (عضه) 13/516، و (عضو) 15/68، والقاموس (عضه) 1613، و (عضو) 1693، والتّاج (عضه) 9/399، و (عضو) 10/246.
3ينظر: الكتاب 2/196، 3/457، والتّاج (أنس) 4/99.
4 ينظر: مجالس العلماء 57، والخصائص 3/151، وشرح المفصّل لابن يعيش 2/9، والجنى الدّاني 200، والخزانة 2/280.
الفرّاء قد وافقهم عليه1.
وذهب الكسائيّ لى أنّه من (ن وس) واشتقاقه من (النَّوْسِ) وهي: الحركة، وأنّ المحذوف العين، وأصله (نَوَسٌ) فقلبت الواو ألفاً؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ وهو في ذلك بمثابة (الباب) واستدلّ الكسائيّ لمذهبه بقولهم في تصغيره:(نُوَيْسٌ) كـ (بُوَيْبٍ) وأنّه لو كان أصله (فُعَال) لقيل في التّصغير: (أُنَيْسٌ) كقولهم في غُرَابٍ: (غُرَيْبٌ)2.
ولا يرى ابن الشّجريّ في تصغيره على (نُوَيْسٍ) دليلاً على ما ذهب إليه الكسائيّ لأنّ ردّ المحذوف إنّما يلزم في التّصغير إذا لزمت الحاجة إليه؛ كقولهم في تصغير أبٍ وأخٍ: أُبَيٌّ وأُخَيٌّ؛ لأنّه لا بدّ من حرفٍ ثالثٍ، يستقيم عليه بناء التّصغير؛ فأعيد المحذوف؛ فلو لم يُردّ المحذوف في: أبٍ وأخٍ؛ وهو اللاّم - لوقعت ياء التّصغير طرفاً؛ فيلزم تحريكها بحركات الإعراب، ثمّ قلبها ألفاً؛ فيصير إلى (أُباً) و (أُخاً) فيخرج عن قياس باب التّصغير.
أمّا (نَاسٌ) فهو مماثلٌ في اللّفظ لـ (بابٍ) وإن كان الأخير على وزن (فَعَل) أما (نَاسٌ) فهو (عَال) على مذهب سيبويه؛ فليس في تصغيره على: نُوَيسٍ - إذا لم يردّ المحذوف - ما يخرجه عن قياس التّصغير، وإن كان الوزن التّصريفيّ لـ (نُوَيْسٍ)(عُوَيْل) و (بُوَيْب)(فُعَيْل) ولكنهما على
1 ينظر: أمالي ابن الشّجريّ 2/12.
2 ينظر: أمالي ابن الشّجريّ 2/12، والدّرّ المصون 1/119.
(فُعَيْل) في الوزن التّصغيريّ1.
وذكر السّمين الحلبيّ أنّ أصل (النّاس) عند بعضهم (نَسِيَ) ثمّ حدث فيه قلبٌ بتقديم اللاّم إلى موضع العين، وتاخيرٍ إلى موضع اللاّم؛ فصار:(نَيَساً) فقلبت الياء ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها2.
ووجه الاشتقاق فيما ذكر السّمين أنّهم سمُّوا به لِنِسيانهم؛ ووزنه على ما ذهب إليه: (فَلَع) .
وأدّى الحذف إلى تداخل الأصلين (ل أم) و (ل م م) في: اللُّمَةِ3؛ وهو المثيل في السِّنّ، ولُمَة الرّجل: مثيلُهُ وقِرْنُهُ، ومنه ما روي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنّ شابّةً زُوِّجت شيخاً فقتلته؛ فقال:"أيّها النّاس؛ ليتزوّج كلٌّ منكم لُمَتَه من النّساء، ولتنكِحِ المرأةَ لُمَتُها من الرّجال"4 أي: تِربه وقِرنه في السِّنّ.
وتحتمل الكلمة الأصلين:
ذهب الجوهريّ5، والزّمخشريّ6 إلى أنّ الكلمة ممّا حُذِفَ عينه؛
1 ينظر: أمالي ابن الشّجريّ 2/13.
2 ينظر: الدّرّ المصون 1/119، 120.
3 في اللّسان (12/548)(اللُّمّة) بتضعيف الميم، والصّواب تخفيفها؛ كما في الفائق 3/330، والنّهاية 4/373.
4 ينظر: الفائق 3/330، والنّهاية 4/274.
5 ينظر: الصّحاح (لأم) 5/2026.
6 ينظر: الفائق 3/330.
وهي الهمزة، وأصله قبل الحذف (اللُّؤْمَة) من الملائمة؛ وهي: الموافقة. ويدلّ على هذا قولهم في معنى (اللُمَة) : (اللّئيمُ) وقولهم: هو لُمَتِي ولَئِيمي. وعلى هذا فإنّ أصل (اللُّمَة)(ل أم) .
وذكرها ابن منظورٍ في (ل م م) على الرّغم من أنّه نقل عنهم أنّ المحذوف منها الهمزة عيناً1.
ومن ذلك تداخل الأصلين في (الكُرَة) و (الثُّبَة) بسبب الحذف؛ وهما يحتملانهما:
ذهب الجمهور إلى أنّ المحذوف منهما اللاّم؛ فأصلهما: (ك ر و) و (ث ب و)2.
وذهب بعض النّحاة إلى أّنهما ممّا حذفت عينه؛ فأصل الكُرة (كُوْرَةٌ) أو (كِيرَةٌ) وأصل الثُّبة: (ثُوْبَةٌ) من: ثَابَ الشَّيء يثُوب؛ إذا اجْتَمَع، ورجع بعضه إلى بعضٍ.
ومذهب الجمهور أولى من غيره بالقبول لوجهين:
الأوّل: جمعها على: كُرِين وثُبِين؛ فهي ملحقةٌ بجمع المذكّر السّالم كـ (سِنِين) . وقد تقرّر - في العربيّة - أنّ هذا مخصوصٌ بالكلمة الثّلاثيّة؛ الّتي حذفت لامها، وعُوّض عنها هاء التّأنيث؛ كـ (سَنَة) .
الثّاني: قولهم: كَرَا يَكْرُو؛ إذا لَعِبَ بها، وثَبَا النّاس؛ أي: اجتمعوا
1 ينظر: اللّسان (لمم) 12/548.
2 ينظر: سرّ الصّناعة 2/601، 650.
جماعاتٍ؛ فدلّ ذلك على المحذوف1.
ز- الإلحاق:
وقفنا في الباب الأوّل على الإلحاق في العربيّة، وعلى أهمّ ما يتّصل به؛ من تعريفٍ وبيانٍ لفائدته وكيفيّة تمييزه من غيره، وعلامات ذلك، وعلى طائفةٍ من الأوزان الملحقة بغيرها.
ونحاول - هنا - أن نتلمّس أثر الإلحاق في تداخل الأصول في العربيّة، إذ من الممكن أن يعدّ أحد الأسباب المؤدّية إلى التّداخل؛ فثَمَّة أوزانٌ يشيع فيها التّداخل أكثر من غيرها.
وممّا يؤدّي إلى تداخل الثّلاثيّ بالرّباعيّ ما جاء على (فِعْلِم) كـ (دِلْقِم) ملحقاً بـ (فِعْلِل) و (فُعْلُم) ملحقاً بـ (فُعْلُل) كـ (سَنْبَلَ) ملحقاً بـ (فَعْلَلَ) و (فَعْلَنٍ) كـ (رَعْشَنٍ) ملحقاً بـ (فَعْلَل) و (فَعْلَسَ) كـ (خَلْبَسَ) ملحقاً بـ (فَعْلَلَ) . وقد تقدّم منه كثيرٌ من صور التّداخل في الباب الثّالث.
ويقلّ التّداخل في غير هذه الأوزان؛ ولا سيّما الملحق بحرف علّةٍ أو نونٍ ساكنةٍ متوسّطةٍ بين أربعة أحرفٍ؛ لوضوح ذلك في الزّيادة، وكذا الملحق بتكرار حرفٍ.
وممّا تداخلت أصوله بسبب الإلحاق بالتّضعيف: (العُنْبَبُ) وهو:
1 ينظر: شرح كفاية المتحفّظ 65، 66، وإضاءة الرّاموس 1/29.
كثرة الماء؛ كما في قول الرّاجز:
فَصَبَّحَتْ وَالشَّمْسُ لَمْ تَقَضَّبِ
…
عَيْناً بِغَضْيَانَ ثَجُوجَ العَنبَبِ1
وهو يحتمل الأصلين:
ذكر الأزهريّ أنّه من (ع ب ب) ووزنه (فُنْعَل) 2، واشتقاقه من العَبِّ، والنّون زائدةٌ؛ كنون (العُنْصَل) وقد وافقه الصّغانيّ3 وابن منظورٍ4.
وذهب سيبويه إلى أنّ النّون أصليّةٌ، والباء الثّانية زائدةٌ للإلحاق بوزن (فُعْلَل)5. ومذهبه أقوى من جهة الصّنعة؛ لأنّ إلحاق الثّلاثيّ بالرّباعيّ بزيادة حرفه الثّالث مطّردٌ؛ كما قال المازنيّ6. نحو (ضَرْبَبَ) و (جَلْبَبَ) في الأفعال و (مَهْدَدٍ) و (سُؤْدُدٍ) 7 و (عُنْدَدٍ) و (رِمْدِدٍ) في الأسماء.
ومذهب الأزهريّ ومن تابعه أقوى من جهة الاشتقاق؛ لأنّ العُنبَب من: العَبّ.
1 ينظر: التّهذيب 1/117، والتّكملة (عبب) 1/199، واللّسان (عبب) 1/573.
2 ينظر: التّهذيب 1/117.
3 ينظر: التّكملة (عبب) 1/574.
4 ينظر: اللّسان (عبب) 1/573.
5 ينظر: الكتاب 4/277.
6 ينظر: المنصف 1/41.
7 السُّؤْدُد بالضّمّ، ويقال - أيضا - السُّؤْدَد بالفتح؛ وهما لغتان والأولى طائيّة؛ كما في اللّسان (سود) 3/228.
وقريبٌ من هذا: تداخل الأصلين (س ق د) و (س ق د د) في (السُّقْدُد) وهي: الفرس المُضَمَّرة؛ فقد وضعه ابن منظورٍ في الرّباعيّ (س ق د د) ولم يذكره في الأصل الثلاثيّ الّذي ذكره قبل الرّباعيّ؛ وهو (س ق د)1.
والحقّ أنّه ثلاثيٌّ، والدّال الثّانية فيه للإلحاق بـ (فُعْلَل) ويدلّ على هذا: قولهم في الفعل منه: أَسْقَدَ فرسه؛ إذا ضَمَّرَه، ولو كان رباعيّاً لقيل: سَقْدَدَ كدَحْرَجَ.
ومن ذلك: تداخل الأصلين (درن) و (أدرن) في (الإدْرَوْن) وهو: الأصل، وقيل: الخبيث من الأصول، ومنه قولهم: رَجَعَ الفَرَس إلى (إِدْرَوْنِه) أَيْ: إلى (آرِيِّه) بمعنى: مَعْلَفِهِ؛ وهو يحتمل الأصلين:
ذهب بعضهم إلى أنّه رباعيٌّ، وأنّ الهمزة فيه فاؤه؛ نحو: فِرْعَونَ وبِرْذَونَ2، وإلى هذا أشار الصّغانيّ3.
وذهب الجمهور - وهو مذهب سيبويه4 - إلى أنّه ثلاثيٌّ من (الدّرَن) والهمزة فيه زائدةٌ للإلحاق بـ (جِرْدَحْلٍ) لأنّ الواو الّتي فيه ليست مدًّا لانفتاح ما قبلها؛ فشابهت الأصول بذلك؛ فألحقت بها. أمّا الهمزة فهي زائدةٌ؛ لأنّها وقعت في موضعٍ تطّرد فيه زيادتها؛ وهو وقوعها أوّلاً، وبعدها ثلاثة أصولٍ؛
1 ينظر: اللّسان (سقدد) 3/218.
2 ينظر: التّهذيب 14/93.
3 ينظر: التّكملة (درن) 6/228.
4 ينظر: الكتاب 4/246، والتّكملة للفارسيّ 232، والمقتصد في شرح التّكملة 2/784.
ولكنّها شُبِّهت بالأصل؛ فألحقت به لمّا كانت الواو مشابهةً للأصول كما تقدّم؛ فكأنّ بعدها - أي: الهمزة - أربعة أصولٍ؛ كهمزة (إِصْطَبْل) وهذا وجه الإلحاق فيها.
وممّا يدلّ على أنّ الكلمة ثلاثيّةٌ؛ واشتقاقها من (الدّرَن) قول سيبويه: إنّ الدّرَن: الدّنَس، وكذلك (الإِدْرَوْنُ) إذ يقال: رجع فلانٌ إلى إِدْرَوْنِه؛ أي: أصله الرَّديء الدَّنس؛ وبهذا فسَّره السّيرافي 1. ومنه قالوا: رجع الفرس إلى إدْرَوْنِه؛ أي آرِيِّه ومعلفه؛ وهو ما يكثر فيه الدّرن.
1 ين ظر: شرح السيرافي (تحقيق د. عبد المنعم فائز) ص611.
(ح) النَّحْتُ:
عرض البحث لمفهوم النحت عند القدامى، وأشار إلى طريقة العرب في نحت كلمة من كلمتين أو أكثر1 كما عرض للمفهوم الخاص عند ابن فارس 2، الذّي توسّع فيه -كما رأينا- بمحاولته إعادة كثير من الكلمات الرّباعيّة أو الخماسيّة إلى أصول ثلاثّية؛ مخالفاً جمهور العلماء؛ كقول القائل: حَرْزَقتُ الرَّجُلَ؛ إذا حبسْتَه؛ فهو - عند ابن فارس - منحوت من ((حَزَقَ)) و ((حَزَزَ)) 3 ونحو: ((الدَّلَهْمَسِ)) وهو: الأسد؛ منحوت - عنده- من كلمتين: ((دَالَسَ)) و ((هَمَسَ)) فالأوّل بمعنى: أتى في الظّلام، و ((هَمَسَ)) كأنّه غمس نفسه فيه وفي كلّ ما يريد 4.
والكلمتان خماسيّتان بمقاييس الجمهور. ولو أُخذ بمذهب ابن فارس في هذا ونحوه لانفتح باب واسع في تداخل الأصول من الصّعب إغلاقه.
ولقد لقيت فكرة ابن فارس- كما رأينا- رواجاً عند بعض المتأخرين؛ لأنّها وافقت جوانب في منهجهم؛ فوفّرت لهم أساساً تاريخياًّ. لما يذهبون إليه. فربّما جرّأهم ذلك على إعادة أكثر الأصول الخماسّية والرّباعيّة والثلاثيّة- إلى أصول ثنائيّة؛ فأدّى ذلك إلى اتّساع الفجوة بين
1 ينظر: ص (141) من هذا البحث.
2 ينظر: ص (148) من هذا البحث.
3 ينظر: المقاييس 2/143.
4 المقاييس 2/338.
الفريقين: جمهور القدامى من البصريّين ومن سار على مذهب ابن فارس؛ ولاسيّما بعض المتأخّرين؛ الّذين بالغوا فيه وهم أصحاب ثنائيّة اللّغة؛ ولذا فإنّه من الظّلم للحقيقة أن يعدّ النّحت بهذا المفهوم عند هذا الفريق سبب من أسباب تداخل الأصول؛ لأنّ هذا البحث يسير في الأصول على منهج الجمهور في القديم – ولا سيّما البصرييّن - وهو المنهج الّذي بنيت عليه موادّ معاجم القافية.
ويعدّ النّحت - بمفهوم القدامى- سبباً من أسباب التَّداخل؛ ولا سيّما في معاجم القافية، غير أنّ أثره محدود؛ لقلّة المنحوتات عنهم؛ حتى قيل إنّها لم تتجاوز السِّتِّين كلمةً (1) .
ويرتبط الحديث عن التّداخل في النّحت بطريقة ترتيب المنحوتات في المعاجم الَّتي تعتمد على الأصول؛ كمعاجم القافية.
والسُّؤال الَّذي لابدّ منه - هنا - هو: هل ينظر للكلمة المنحوتة من جهة أحد أصليها أو أصولها؛ الَّتي نحتت منها، أو ينظر لها على أساس ما آلت إليه بعد النّحتِ؛ فتُعامل معاملة ما بنيت عليه؟ وللإجابة عن السّؤال نقول: إنّ لكلٍّ من الاحتمالين ما يسوِّغه؛ فالأساس أن تعاد الكلمة إلى أصلها؛ وتصنّف في المعاجم على وَفْقِها. كما أنّ وضعها في الأصل الجديد - بعد النّحت - له وجهه؛ لأنّ الكلمة نقلت إلى بناء جديد؛ وهو
1 ينظر: الاشتقاق لعبد الله أمين 393.
المنحوت؛ فتعامل في المعاجم من خلال هذا الأصل الجديد؛ بدليل أنّ تصريف الكلمة يكون عليه. وهذا هو الأقرب عندي.
ولقد وجدت عند بعض العلماء القدامى ما يستأنس به لما ذهبتُ إليه؛ ومن هؤلاء: المعرِّيُّ والصّغاني.
قال المعرِّيّ في وزن المنحوت: ((فإذا قيل: ما وزن عبْشَمِيٍّ؛ فإنّ النّظر يوجب وجهين:
أحدهما: وهو الأقيس: أن تخرجه إلى باب جَعْفَرٍ؛ فتقول: (فَعْلِلي) . . .
والآخر: أن تقول (فَعْفَعِيّ) لأنّك أخذت من عبدٍ: العينَ والباءَ ومن شَمْسٍ: الشِّينَ والميمَ))
ومن الواضح أنّ اختيار المعرّيّ هو الأوّل؛ لأنّه جعله الأقيس.
ونصَّ الصّغاني على أن وضع الكلمة المركّبة في أصلها الجديد هو الأولى؛ وقد جاء ذلك في تعقيبه على الأزهريّ لوضعه كلمة ((المِشْلَوْزِ)) وهي المِشْمِشَةُ الحلوة المخّ في الثلاثيّ (ش ل ز)(2) على الرّغم من أنّها منحوتة من كلمتين؛ هما: المِشْمِشُ واللَّوز - إذ قال: ((ذكره الأزهريّ في (ش ل ز) وحقّه أن يذكر في أحد المواضع الثّلاثة:
إمّا في مضاعف الشِّين؛ لأنّ صدر الكلمة مضاعف.
1 رسالة الملائكة 271.
2 ينظر: التهذيب 11/302.
وإمّا في معتلّ الزّاي؛ لأنّ عجز الكلمة أجوف.
وإمّا في رباعيّ الشّين؛ وهذا أولى؛ لأنّ الكلمة مركّبةٌ؛ فصارت مثل: شَقَحْطَبٍ، وحَيْعَلَ وما أشبههما من المركّبات))
ومضاعف الشِّين في نصّ الصّغانيّ (ش ل ز) ومعتلّ الزّاي: (ل وز) ورباعيّ الشّين: (م ش ل ز) .
وقد ذكر ابن منظور ((المِشْلَوْزَ)) في الثّلاثيّ (ش ل ز) 2 تبعاً للأزهريّ؛ وهو غير سديد؛ ولا مدخل له على الوجهين؛ وقد ترتَّب على هذا الأصل أن يكون وزن ((المِشْلَوزِ)) (مِفْعَولا) وهو بعيد؛ لأنّ الميم أصليّة كالشِّين؛ وهي ميم ((مِشْمِشْ)) قبل النّحت.
وذكرها الفيروز آباديّ في الرّباعيّ (م ش ل ز) ونقل كلام الصّغانيّ واختاره 3 وكذا في ((التّاج))
وعلى هذا فإنّ ((دَمْعَزَ)) أي: قال: أدام الله عزّك، و ((جعْفَدَ)) أي: قال: جُعِلتُ فداك ونحوهما يوضعان في الرّباعيّ، ويُقَرِّبُه - أيضاً - ما فيه من السّهولة على الباحث؛ بخلاف الوجه الآخر؛ لأنّه يحتاج إلى جهدٍ أطول للبحث عن الكلمة تحت أصولها قبل النّحت، ولا يدري في أيِّ
1التكملة للصّغانيّ (شلز) 3/303، 304.
2 ينظر الّلسان5/362.
3 ينظر: القاموس (مشلز)676.
(مشلز) 4/81، 82.
أصولها يجدها؛ فليس لذلك ضابط محدّدٌ.
ومن طريف النّحت ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ امرأته سألته أن يكسوها جلباباً؛ فقال: إنّي أخشى أن تدعي جلباب الله الّذي جلببكِ. قالت: وما هو؟ قال: بيتكِ، قالت: أَجِنَّكَ من أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟ 1 تريد: أَمِنْ أجل أنّك؛ فحذفت ((مِنْ)) وكذا الهمزة واللاّم من ((أجْلِ)) والهمزة من ((أنّكِ)) .
وقد وضعها ابن منظور في (ج ن ن) 2 مراعياً ما آلت إليه الكلمة بعد النّحت.
1 ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد 4/73، 74.
2 ينظر: اللّسان (جنن) 13/98.
(ط) الضّرورةُ الشِّعريَّةُ:
الضرورة في اللّغة: اسم لمصدر الاضطرار؛ تقول: حملتني الضّرورة على كذا.
والاضطرار: الاحتياج إلى الشّيء، والضَّرائر: المحاويج 1
وتقع الضّرورة الشّعريّة في الشّعر خاصّةً؛ لإقامة الوزن، أو تسوية القافية 2؛ كالزّيادة والحذف والبدل والتقديم والتّأخير، وتغيير الإعراب عن وجهه، وتأنيث المذكّر وتذكير المؤنّث 3
ويمكن القول: إن الضّرائر الصّرفيّة هي الَّتي يمكن أن تكون سبباً من أسباب التَّداخل بين الأصول؛ بخلاف الضّرائر النّحويّة؛ لما يعتري البنية الصّرفيّة من تغيير قد يؤدّي إلى التباس الأصليّ بالزّائد، أو تحويل البنية - في ظاهرها - إلى بنية أخرى.
وقد شاع التَّداخل بين (افْعَألَّ) في الثّلاثيّ و (افْعَلَلَّ) من الرّباعيّ؛ كما تقدَّم في الباب الثّالث؛ نحو ((ادْهَأَمَّ)) في قول كُثَيِّر:
وللأرْض أمَّا سُودُها فَتَجَلَّلَتْ
…
بَيَاضاً وأمَّا بِيضُهَا فادْهَأَمَّتِ4
1 ينظر: اللّسان (ضرر) 4/483
(2)
الضرورة الشعرية 13.
(3)
ينظر: ضرورة الشعر34، وما يجوز للشاعر في الضرورة87، وضرائر الشّعر17.
(4)
ينظر: ديوانه323، وسر الصناعة1/74، والممتع 1/322، ويروي ((فاسوأدّت)) كما في الخصائص3/127، 14.
و ((احْمَأَارَّ)) في قوله - أيضاً:
وأنْتَ ابنُ لَيلَى خَيْرُ قَوْمِكَ مَشْهَداً
…
إذَا مَا احْمَأَرَّتْ بالعَبِيطِ العَوَامِلُ
و ((اشْعَأَلَّ)) في قول الشَّاعر:
وبَعْدَ انتِهَاضِ الشَّيبِ في كُلِّ جانِبٍ
…
على لِمَّتِي حَتَّى اشْعَأَلَّ بَهِيمُهَا2
و ((ابْيَأَضَّ)) في قول دُكين:
رَاكِدَةٌ مِخْلاتُهُ ومَحْلَبُهُ
وجُلُّهُ حَتَّى ابْيَأَضَّ مَلْبَبُهُ (3)
و ((ارْمَأََدَّ)) في قول الحُطيئة:
وضَيَّعْتُ الكَرَامَةَ فَارْمَأَدَّات
…
وقُبِّضْتُ الشَّقَا في جَوْفِ سَلْمَى4
والأصل في ((ادْهَأَمَّ)) و ((احْمَأَرَّ)) و ((اشْعَأَلَّ)) و ((ابْيَأَضَ)) و ((ارْمَأَدَّ)) وما شابهها - عدم الهمز؛ ووزنها: (افعَالَّ) ثّم همزت الألف؛ فراراً من التقاء السّاكنين؛ وهما الألف والحرف المدغم بعدها؛ وهو ما يسمّى عند بعض المعاصرين بـ ((المَقْطعِ المديد)) ويُرمز له عندهم بـ ((ص ع ع ص)) ويمثّلون له بنحو ((شَابَّةٍ)) و ((احْمَارَّ)) و {مُدْهَامَّتَانِ} 5
1) ينظر: ديوانه 294، ودقائق التّصريف 195، وعبث الوليد 69، وألف باء 2/123.
2) ينظر: سر الصناعة 1/73، وشح المفصل لابن يعيش 9/130، وضرائر الشعر 223. والممتع 1/321، واللسان (شعل) 11/353.
3) ينظر: الإبدال لأبي الطّييب الّلغوي2/545، وسرّ الصناعة 1/74، والمحتسب 1/320.
4 نظر: ديوانه 126، ويروى - أيضاً: قبضت السقاء. والسّام: الدّلو.
5 ينظر: دروس في علم أصوات العربيّة 191، ودراسة الصّوت العربيّ 256، ودراسات في علم أصوات العربيّة107.
وقد أدرك علماء العربيّة القدامى ذلك؛ فذكر الأزهريّ - وهو يعُدُّ الهمزات في العربيّة - ((الهمزة الَّتي تزاد لئلاّ يجتمع ساكنان؛ نحو: اطْمَأَنَّ، واشْمَأَزَّ وازْبَأَرَّ وما شاكلها))
وتحدَّث عنه ابن جنّي، وذكر أنّهم ربّما همزوا الألف في ((الضَّالِّينَ)) فقالوا:((الضَّألِّين)) كراهة اجتماع السّاكنين: الألف واللاّم فحرّكت الألف؛ فانقلبت همزةً؛ لأنَّ الألف حرف ضعيف واسع المخرج لا يتحمّل الحركة، وذكر بعض أمثلته في الشّعر؛ نحو ((اشْعَأَلَّ)) و ((ابْيَأَضَّ)) وذكر أنَّ هذا كاد يتّسع عنهم2، أي يكثر.
والهمز في مثل هذا الصّيغ واجب في الشّعر؛ لأنّ تفعيلات الشّعر تقبل تلك المقاطع المديدة الّتي يلتقي فيها ساكنان؛ وقد أجيز ذلك - على ضعف - في عروض من بحر المتقارب؛ كما نصَّ المبرّد إذ قال: ((وحَمَارَّةٌ ممَّا لا يجوز أن يحتج عليه ببيت شعر؛ لأنَّ كلَّ ما كان فيه من الحروف التقاءُ ساكنين لا يقع في وزن الشّعر إلاّ في ضربٍ منه يقال له المتقارب؛ وهو قوله:
فَذَاك القِصَاصُ وكَانَ التَّقَا
…
صُّ فَرْضاً وحَتْماً على المُسْلِمِينَ
ولو قال: وكانَ القِصاَصُ فَرْضاً، لكان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض؛ ولا نظير له في غيرها من الأعاريض))
وعلّق ابن جنّي على بيت ((كُثَيِّر)) المتقدّم؛ الّذي وردت فيه كلمة
1التهذيب 15/6، 682.
2 ينظر: سرّ الصناعة1/74.
3 الكامل1/39.
((احْمَأرَّتْ)) بقوله: ((فهذه الهمزات في هذه المواضع إنّما وجبت عن تحريك الألف؛ لسكونها وسكون ما بعدها))
وعلى هذا يمكن أن يقال: إنَّ كلّ ما جاء على صيغة ((افْعَألَّ)) في شعرٍ إنّما هو في الأصل (افْعَالَّ) وقد أجرى الدّكتور رمضان عبد التّوَّاب دراسة قيّمة على ما جاء على هذا البناء في العربيّة من ألفاظ؛ أحصى قدراً صالحاً منها؛ ردّها إلى ضرورة الشّعر، ثمّ خَلَصَ من ذلك إلى القول بأنّ ((كلّ صيغة على وزن (افْعَأَلَّ) قد جاءت في العربيّة عن هذا الطّريق؛ حتّى ولو لم يوجد جوارها صيغة (افْعَالًَّ) في الاستعمال)) .2
وبهذا يمكن القول: إنّ كلّ ما جاء على صيغة (افْعَألَّ) إنّما هو ثلاثيّ؛ وقد تقدَّم في الباب الثّالث أنّ ابن جنّي كان يرى أنّ كثيراً من ذلك إنّما هو رباعيّ بأصالة الهمزة؛ نحو ((ازْرَأَمَّ)) و ((اخْضَأَلَّ)) و ((ازْهَأَوَّ)) و ((اضْفَأَدَّ)) و ((ازْلأَمَّ)) 3 فيكون وزنها - حينئذٍ (افْعَلَلَّ) .
ومن الطّبيعيّ أن يؤثّر هذا التَّداخل بين الثّلاثيّ، والرّباعي بسبب ضرورة الشّعر في بعض معاجم القافية؛ فنجدهم يختلفون في وضع الكلمة من هذا البناء؛ فبعضهم يذكرها في الثّلاثيّ، وبعضهم يذكرها في الرّباعيّ وربّما اختلفت طريقة المعجم الواحد؛ فلم تطّرد على أصل واحد؛ كما هو ظاهر في ((لسان العرب)) .
ويبيّن الجدول التّالي اختلاف بعض المعاجم في أصل هذا البناء:
1 المنصف1/281.
2 فصول في فقه الّلغة198
3 ينظر: الخصائص2/50، 51.
وقد اختلفوا فيه:
ذهب أكثر أهل اللّغة - قال الأنباري - إلى أنّ معنى ((يَنْبَاعُ)) : يَنْبَعُ، على وزن (يَفْعَلُ) فأشبع حركة الباء؛ فتولّدت الألف 1؛ لأنّهم ربّما وصلوا الفتحة بالألف والضّمّة بالواو، والكسرةَ بالياء؛ وكلّ ذلك جائز في الشّعر؛ كقول الفرزدق:
تَنْفِي يدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةِ
…
نَفْيَ الدّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ 2
فأشبع الكسرة في ((الدّراهم)) و ((الصّيارف)) (3) ومنه قول ابن هَرْمَةِ:
وإنَّنِي حَيْثُ مَا يَسْرِي الهَوَى بَصَرِي
…
مِنْ حَيْثُ مَا سَلَكُوا أدْنُو فَأنْظُورُ4
أراد: فأنظر؛ فأشبَع الضَّمَّةَ؛ فتولّد عنها واوٌ5. وعلى هذا الأصل فإنَّ وزن ((يَنْبَاعُ)) (يَفْعَالُ) .
وذهب الأصمعيّ 6 والأعرابيّ 7 إلى أنّه (يَنْفَعِلُ) والنّون فيه نون (الانفعال) والألف عين الكلمة؛ وهو من: بَاعَ يَبُوعُ؛ إذا مرّ مرّاً ليِّناً
1 ينظر: شرح القصائد السّبع الطّوال 332، والخصائص 3/822، وما يجوز للشّاعر في الضّرورة 177.
2 ينظر: ديوانه (بتحقيق الصّاوي)570.
3 ينظر: ما يجوز للشّاعر في الضّرورة 177، والخصائص 3/123.
4 ينظر: ديوانه 239، والخصائص 2/316، 3/124.
5 ينظر: ما يجوز للشّاعر في الضّرورة 176، وضرائر الشّعر 35.
6 ينظر: الخصائص 3/122.
7 ينظر: شرح القصائد المشهورات 24.
في تَلَوٍّ 1.
قال الأصمعيّ: ((يقال: انْبَاعّ الشّجاعُ يَنْبَاعُ انبِيَاعاً؛ إذا انخرط بين الصّفّين ماضياً)) 2 وذكر أنّ منه قول الشّاعر: وقوله: ي
يُطْرِقُ حِلْماً وأنَاةً مَعا
…
ثُمَّتَ يَنْبَاعُ انْبِيَاعَ الشُّجَاعْ 3
نباع انبياعاً: (يَنْفَعِلُ انْفِعَالاً) من (ب وع) وهو قبل الإعلال: ((يَنْبَوِعُ)) فقلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. ولا يجوز حمل يَنْبَاعُ - هنا- على غير (يَنْفَعِلُ) لأجل ماضيه ومصدره: انْبَاعَ انْبِيَاعاً؛ لأنّهما لا يكونان إلا (انْفَعَلَ انْفِعَالاً)
ومن قال بهذا الأصل أنكر أن يكون ((يَنْبَاعُ)) في بيت عنترة: ((يَنْبَعُ)) من ((النَّبْعِ)) لأنّ ((يَنْبَعُ)) يخرج كما يخرج الماء من الأرض، ولم يرد الشّاعر هذا؛ وإنّما أراد السّيلان، وتلوّي العَرَقِ على رقبة النّاقة؛ كتلوّي الحيّة؛ ومنه تسلّل الشّجاع بين الصّفوف (5) ؛ كما في البيت الأخير.
والّذي أراه أن ((يَنْبَاعُ)) في بيت عنترة يحتمل هذا الأصل: (ب وع) ويحتمل الأصل الآخر: (ن ب ع) على مذهب كثير من أهل اللّغة
1 ينظر: شرح القصائد السّبع الطّوال 334.
2 ينظر: الخصائص 3/122.
3 ينظر: الخصائص 3/122.
4 ينظر: المحكم 2/136.
5 ينظر: شرح القصائد السّبع الطّوال 334، وشرح القصائد المشهورات 230.
فلا مانع أن يوصف خروج العَرَق الغزير بنبع الماء كخروجه من الأرض؛ فالعلاقة بينهما قويّةٌ.
قال الجوهريّ: ((نوابع البعير: المواضع الّتي يسيل منها عرقه)) 1.
وكان ابن جنّي يميل إلى أنّه من (ن ب ع) ويخرّج حمله على (ب وع) على أنّها لغة تولّدتْ، ومنها: يَنْبَاعُ انْبِيَاعَ الشُّجَاعِ.
قال: ((وذلك أنّه لمّا سَمِعَ (ينباع) أشبه في اللفظ: (يَنْفَعِل) فجاءوا منه بماضٍ ومصدرٍ؛ كما ذهب أبو بكر فيما حكاه أبو زيد من قولهم: ضَفَنَ الرَّجُلُ يَضْفِنُ؛ إذا جاء ضيفاً مع الضَّيفِ؛ وذلك أنّه لمّا سمعهم يقولون: ضَيْفَن، وكانت (فَيْعَل) أكثر في الكلام من (فَعْلَن) توهّمه (فَيْعَلا) فاشتقّ الفعل منه؛ بعد أن سبق إلى وهمه هذا فيه؛ فقال: ضَفَنَ يَضْفِنُ؛ فلو سُئلتَ عن مثال ضَفَنَ يَضْفِنُ على هذا القول لقلتَ – إذا مثّلته على لفظه: (فَلَنَ يَفْلِنُ) لأنّ العين قد حذفت)) 2.
وقد انعكس الخلاف في هذه الكلمة على معاجم القافية؛ فمنهم من ذكرها في (ن ب ع) كالجوهريّ 3، ومنهم من ذكرها في (ب وع) كالصّغانيّ 4، ومنهم من ذكرها في الأصلين؛ كابن منظور5
1 الصِّحاح (نبع) 3/1287.
2 الخصائص 3/122.
3 ينظر: الصّحاح (نبع) 3/1287.
4 ينظر: التّكملة (بوع) 4/221.
5 ينظر: اللّسان (بوع) 8/23، و (نبع) 8/345.
والفيروزآباديّ 1 والزبيديّ 2.
وأدّت الضّرورة الشّعريّة إلى همز ((زَوْزَاةٍ)) في قول الشّاعر:
وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً
…
لَمّا رأى أسَداً في الغَابِ قَدْ وَثَبَا 3
فهمز ((زَوْزَأَة)) شذوذاً؛ فتداخل أربعة أصول: ثلاثة ثلاثيّة ورباعيٌّ.
يجوز أن يكون الأصل (ز ز أ) فوزن ((زَوْزَأَةٍ)) حينئذ (فَوْعَلَة) مثل ((كَوْكَبَةٍ)) وهي: الزُّهْرَةُ 4، و ((صَوْمَعَةٍ)) .
ووضعها ابن منظور في الثّلاثيّ (ز وز) 5 فوزن ((زَوْزَاةٍ)) على هذا الأصل: (فَعْلاة) و ((زَوْزَأَة)) (فَعْلأة)
ووضعها ابن منظور - أيضاً- في الثّلاثيّ (ز وى 6 والوزن - حينئذ (فَعْفَلَة) على تقدير تكرير الفاء، وهَمْزِ الألفِ المنقلبة عن الياء؛ وهي لام الكلمة.
ويجوز أن يكون الأصل (زوزو) فيكون أصلها قبل الهمز ((زَوْزَاة)) وهي قبل الإعلال: ((زَوْزَوَة)) ووزنها (فَعْلَلَة) من مضاعف الواو، بمنْزلة
1 ينظر: القاموس (بوع) 911، و (نبع) 5/518.
2 ينظر: التّاج (بوع) 5/283، و (نبع) 5/518.
3 القائل: ابن كثوة؛ كما في الخصائص3/145، وضرائر الشّعر 221.
4 ينظر: اللّسان (كوكب) 1/721.
5 ينظر: اللّسان (زوز) 5/359، 360.
6 اللّسان (زوي) 14/365.
((القَوْقَاة)) و ((الضَّوْضَاةِ)) وإلى هذا ذهب ابن جنّي 1 وابن عصفور2؛ وهو الرّاجح؛ حملاً على الأصول الرّباعيّة المكرّرة على مذهب البصريّين، وإنما هَمَزَ ليتحصّل على التّفعيلة الرّابعة المخبونة في بحر البسيط؛ وهو ((فَعِلُنْ)) .
1 ينظر: الخصائص 3/145، والمحتسب 1/310.
2 ينظر: ضرائر الشّعر 221، والمقرّب 517.
(ي) تصريف الحروف وما أشبهها:
المراد بالحروف - هنا - حروف المعاني؛ نحو ((مِنْ)) و ((إلَى)) و ((حَتّى)) و ((عَلَى)) و ((لَنْ)) و ((لولا)) و ((لكن)) وهي كثيرة.
والمراد بما أشبه الحروف: الأسماء المتوغّلة في البناء كالضّمائر، وأسماء الاستفهام، والشّرط، وأسماء الأفعال، والأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة.
ومن المتعارف عليه أنّه لا حظّ للحروف وما أشبهها في التّصريف؛ لأنّها مجهولة الأصل 1؛ ولعدم قبولها للتغيير 2؛ فلا يكون فيها زيادة؛ لأنّ الزّيادة ضربٌ من التّصريف، ولا يكون ذلك في الحروف 3.
قال ابن مالك في عدم تصرّف الحروف وأشباهها:
حَرْفٌ وَشِبْهُهُ مِنَ الصّرْفِ بَرِيْ
…
وَمَا سِوَاهُمَا بِتَصْرِيفٍ حَرِيْ (4)
وهذا يعني أنّ ما ينطق به وما أشبهه هو أصله بغير زيادة أو نقصان؛ فأصل ((مَنْ)) و ((مَتَى)) و ((لكن)) و ((هو)) و ((ذا)) و ((هنا)) : (م ن) و (م ت ا) و (ل ن) و (ل اك ن) و (? و) و (ذا) و (? ن ا) .
ويؤدّي تصريف الحروف وما أشبهها إلى تداخل الأصول. وربّما وضع الحرف بسبب ذلك في غير مكانه في بعض المعاجم؛ كصنيع
1 ينظر: الممتع 1/35، وشرح المرادي 5/210، والتّصريح 2/354.
2 ينظر: شرح ابن النّاظم 820.
3 ينظر: شرح المفصّل لابن يعيش 9/141، والإيضاح في شرح المفصّل 2/371، والأشباه والنّظائر 1/452.
4 ينظر: الألفيّة 375 (ضمن مجموع مهمّات المتون) .
الجوهريّ في وضعه ((حَتّى)) في (ح ت ت) بزيادة الألف في آخره، ووزنها عنده (فَعْلَى) 1 واشتقاقها عنه من ((الحَتِّ)) وهو: الفراغ من الشّيء؛ مثل: ((شَتّى)) من الشَّتِّ.
والحقّ أنّ الجوهريّ مسبوق في هذا الرّأي؛ فقد حكاه الأزهريّ؛ وعزاه إلى جماعة من النّحاة لم يسمّهم؛ ولم يكن راضياً عن مذهبهم؛ فردّ عليهم بقوله: ((وليس هذا القول ممّا يعرّج عليه؛ لأنّها لو كانت (فَعْلى) من الحَتّ؛ كانت الإمالة جائزة؛ ولكنّها حرف أداة؛ وليست باسم ولا فعل)) 2.
وقد توبع الجوهريّ في وضعه ((حَتّى)) في (ح ت ت) فذكرها ثمّ - دون اعتراض - ابن برّي3، وابن منظو4، والفيروز آباديّ 5، والزّبيدي 6. على أنّ ابن منظور أعادها في (ح ت ي) 7. وهو موضع قريب؛ ولو وضعت في باب الألف اللّيّنة لكان أقرب، لأنّه ما من دليل على أنّ ألفها منقلبة عن واو أو ياء.
1 ينظر: الصِّحاح (حتت) 1/246.
2 التّهذيب 3/424.
3ينظر ا: التّنبيه والإيضاح (حتت) 1/161.
4 ينظر: اللّسان (حتت) 2/23، 24.
5) ينظر: القاموس (حتت)192.
6 ينظر التّاج (حتت) 1/536، 537.
7 ينظر: اللّسان 14/164.
ومن ذلك أنّ ابن منظور ذكر ((لَقَدْ)) في الثّلاثيّ (ل ق د) على الرّغم من أنّ اللاّم فيها ليست من أصل الكلمة فهي اللام الموطّئة للقسم، أو الواقعة في جواب القسم، صريحاً أو مقدراً، أو لام الابتداء، وأصل الكلمة:((قَدْ)) فلا وجه لوضعها في الثّلاثيّ (ل ق د) وموضعها: (ق د) .
وقريب من هذا ((لعلّ)) بمعنى: التّرجّي أو الإشفاق وغير ذلك، ولكنْ في أصلها خلافٌ بين البصريّين والكوفيّين:
ذهب الكوفيّون إلى أنّ اللاّم الأولى فيها أصليّة؛ واحتجّوا بأنّ الحروف لا تدخلها الزّيادة، وحروف الحروف كلّها أصول. واستدلّوا على ذلك - أيضاً - بأنّ اللاّم لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزّيادة إلا شذوذاً نحو:((زَيْدَلْ)) و ((عَبْدَلْ)) في كلمات معدودة؛ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزّيادة بحال؟ 1.
وكان المرادي يرى أنّ هذا مذهب أكثر النّحويّين، وأنّ لامها الأولى أصليّ 2.
وذهب البصريّون إلى أنّ اللاّم الأولى زائدة، ونقل الزّجاجيّ إجماع النّحويّين على ذل 3. وقد استدلّ أصحاب هذا الرّأي بسقوطها كثيراً في الاستعمال في قولهم ((عَلّ)) بمعنى ((لَعَلّ)) كقول الشّاعر:
(1) ينظر: الإنصاف 1/218، 219، ورصف المباني 322، 435، وجواهر الأدب 402.
(2)
ينظر: الجنى الداني 579.
(3)
ينظر: اللاّمات للزّجاجي 135.
يَا أبَتَا عَلَّكَ أو عَسَاكَا1
وقول الآخر:
لا تُهِينَ الفقيرَ عَلَكَ أنْ تَرْ
…
كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قدْ رَفَعَه (2)
وقو الرّاجز:
عَلّ صُرُوفَ الدّهْرِ أوْ دَوْلَاتِهَا
…
يُدِلْنَنَا اللّمّة مِنْ لَمّاتِهَا (3)
واستدلّوا على زيادة اللاّم فيها - أيضاً - بالقياس على أخواتها؛ فإنّهنّ عملن النّصب والرّفعَ لشبه الفعل ((لأنّ: أنّ مثل مدّ، ولَيْتَ مثل لَيْسَ؛ ولكن أصلها: كِنَّ رُكّبت معها لا؛ كما ركّبت لو مع لا فقيل: لكنّ، وكأنّ أصلها: أنّ، أدخلت عليها كاف التّشبيه، فكذلك لعلّ أصلها: عَلّ، وزيدت عليها اللاّم؛ إذ لو قلنا: إنّ اللاّم أصليّة في لعلّ لأدّى ذلك إلى أن تكون لعلّ على وزن من أوزان الأفعال الثّلاثيّة أو الرّباعيّة)
وقد اختلفوا في حقيقة هذه اللاّم؛ فقيل: إنّها لام الابتداء، وقيل: إنّها زائدة لمجرّد التّوكيد - كما قال المرادي 5
(1) ينظر: اللاّمات للزّجاجي 135، واللاّمات للهروي 150.
(2)
ينظر: أمالي القالي 1/107، وأمالي ابن الشّجري 1/385، وشرح المفصل لابن يعيش 9/43، ورصف المباني 322.
(3)
ينظر: اللاّمات للزّجاجي 135، والخصائص 1/316، والإنصاف 1/220، ورصف المباني 322.
(4)
الإنصاف 1/224.
(5)
ينظر: الجنى الداني 579.
وقد ذكر الجوهريّ ((لعلّ)) في الأصلين: (ع ل ل) و (ل ع ل) 1 وتابعه ابن منظو2.
وسار ابن منظور في نحو ذلك على المنهج السّليم حينما ذكر اسم الإشارة ((هذا)) في (? ذ ا) من أجل الإحالة؛ فذكر أنّ الهاء فيه للتّنبيه3، وأعاده في باب الألف اللّيّنة في ذيل معجم 4.
وأورد الجوهريّ الضّمائر التّالية: ((أنا)) و ((أنت)) و ((أنتما)) و ((أنتم)) في (أن ن) 5 مع أنّه ليس فيها سوى نون واحدة؛ فكان حقّها أن تذكر بحسب نطقها؛ لأنّها غير متصرّفة؛ فتذكر ((أنا)) في (أن و) أو في باب الألف اللّيّنة في ذيل المعجم، وتذكر ((أنت)) في (أن ت) وهكذا. أو توضع في أصلها (أن) على مذهب من يرى أنّ الضّمير هو ((أَنْ)) وهذه اللّواحق زوائد يتبيّن بها المراد من هذه الضّمائر6.
وشاع في معاجم القافية وضع الحروف الثّنائيّة مثل ((أنْ)) و ((بَلْ)) و ((عَنْ)) و ((قَدْ)) و ((كَمْ)) و ((لَمْ)) و ((لَنْ)) و ((مَدْ)) و ((مُذْ)) و ((مَعْ)) و ((هَلْ)) في أصول ثلاثيّة؛ وهي على التّوالي: (أن ن) و (ب ل ل) و (ع ن ن) و (ق
1 ينظر: الصِّحاح (علل) 5/1774، و (لعل) 5/1815.
2 ينظر: اللّسان (علل) 11/474، و (لعل) 11/607.
3ينظر: اللّسان (هذا) 15/360.
4 اللّسان (ذا) 15/449.
5 ينظر: الصِّحاح 5/2075.
6 ينظر: شرح الأشموني 1/114.
د د) و (ك م م) و (ل م م) و (ل ن ن) و (م ذ ذ) و (م ع ع) و (? ل ل) .
وأرى أنّ حقّها أن توضع في مدخل ثنائيّ مستقلّ يناسبها؛ لأنّها لا تُمتُّ للأصول الثّلاثيّة بصلة؛ فمثلاً توضع ((قَدْ)) في (ق د) ويأتي بعدها الأصل الثّلاثيّ (ق د د) وتوضع ((لَمْ)) في (ل م) ويأتي بعدها الأصل الثّلاثيّ (ل م م) مستقلاًّ بنفسه؛ وهكذا في الباقي.
(ك) الإدغام:
الإدغام في اللّغة: إدخال شيء في شيء، ومنه إدخال اللّجام في أفواه الدّواب 1.
وهو في الاصطلاح: إدخال حرف في حرف بعد تسكين الأوّل منهما؛ ولا يكون ذلك إلاّ في مثلين، أو متقاربين بعد قلب أحدهما2؛ نحو ((شَدّ)) و ((سَلَّمَ)) و ((ادَّكَرَ)) و ((الرَّجُلُ)) .
ويعدّ الإدغام وسيلة من وسائل تيسير النّطق، والاقتصاد في الجهد العضلي3.
وقد تقدّم أنّ بعض المتأخّرين يعدّ المدغم حرفاً واحداً أُطيل صوته؛ وهو- عند علماء العربيّة القدامى - حرفان. وقد رجّح البحث مذهبهم بالأدلّة4.
1 ينظر: اللّسام (دغم) 12/302.
2 ينظر: الممتع 2/631، وشرح الشّافية للرّضي 3/233-235.
3 ينظر: اللهجات في الكتاب لسيبويه 223.
4 ينظر: ص (171) من هذا البحث.
والأصل في الإدغام أن يكون الحرفان مثلين؛ نحو ((شَدّ)) و ((كَسَّرَ)) ويحمل عليه إدغام المتقاربين بعد قلب أحدهما للإدغام؛ نحو ((ادّكَرَ)) وهو في الأصل ((ادْتَكَرَ)) و ((اتّصَلَ)) وهو - في الأصل ((اوْتَصَلَ)) على زنة (افْتَعَلَ) . ولذلك فإنّه إن وجد حرف مضعّف ينبغي أن يكون من إدغام المثلين، إلاّ أن يقوم دليلٌ على أنّه من إدغام المتقاربين؛ لأنّه لا يجوز إدغام الحرف في مقاربه في كلمة واحدة؛ لئلاّ يلتبس بإدغام المثلين؛ فلا يجوز- مثلاً - الإدغام في ((أنْمُلَةٍ)) فيقال:((أُمُّلَةٍ)) لأنّ ذلك يؤدّي إلى اللّبس؛ فلا يدري هل هو في الأصل ((أنْمُلَةٍ)) أو ((أمْمُلَة)) فيتداخل الأصلان (ن م ل) و (م م ل) .
فإن كان في الكلمة ما يدلّ على إدغام المتقاربين جاز الإدغام؛ نحو ((امّحَى الخطُّ)) وأصله ((انْمَحَى)) لأنّ هذا لا يمكن أن يكون من إدعام المثلين؛ إذ لو كان كذلك لكان على وزن (افَّعَلَ) وهو بناء مفقود في كلام العرب؛ فتبيّن بذلك أنّ الأصل ((انْمَحَى)) لوجود (انْفَعَلَ)1.
ومن الممكن أن يكون الإدغام سبباً لتداخل الأصول؛ ولا سيّما في مثل هذا النّوع؛ أعني: إدغام المتقاربين بعد القلب (الإبدال) لأنّهم ربّما اختلفوا في ذلك؛ فيتداخل الأصلان؛ كما حدث في ((هَمَّرِشٍ)) بسبب الإدغام، واختلافهم في توجيهه، فمن عدّه من باب إدغام المتقاربين كان عنده رباعيّاً من (? م ر ش) ومن عدّه من باب إدغام المتقاربين كان عنده - خماسيّاً من (? ن م ر ش) . وقد تقدّم تفصيل التّداخل فيه.
1 ينظر: الممتع 1/295، 296.
ومن ذلك تداخل (وت د) و (ود د) في ((الوُّدِّ)) وهو: ما رزّ في الحائط أو الأرض من خشبٍ ونحوه1؛ ففيه إبدال المتقاربين؛ لأنّ أصله ((وَتِدٌ)) .
قال سيبويه: ((وإنّما أصله: وَتِدٌ؛ وهي الحجازيّة الجيّدة، ولكنّ بني تميم أسكنوا التّاء، كما قالوا في فَخِذٍ: فَخْذٌ فأدغموا)) 2 وذكر أنّه غير مطّرد؛ لأنّه يؤدّي إلى التباس الأصول، فيظنّ أنّه من إدغام المثلين؛ فيكون أصله (ود د) ومن هنا وُضع في بعض المعاجم في الأصلين3.
ومثله ((عِدَّانٌ)) جمع: عَتُود من أولاد المَعْز وأصله ((عِتْدَانٌ)) إلاّ أنّ التّاء قلبت دالاً للإدغام4.
ومن ذلك تداخل (س د س) و (س ت ت) في قولهم ((سِتٌّ)) في العدد؛ وأصلها ((سِدْسٌ)) لقولهم: التّسْدِيسُ؛ ولذا قالوا في التّصغير: سُدَيْسَةٌ، وفي الجمع: أَسْدَاسٌ. والإدغام في ((سِتٍّ)) مسبوق بمرحلتين من الإبدال:
أولاهما: قلب السّين الأخيرة تاءً؛ لتقرّب من الدّال الّتي قبلها؛
1 ينظر: اللّسان (وت د) 3/444.
2 الكتاب 4/482.
3 ينظر: الصِّحاح (وتد) 2/547، و (ود د) 2/549، واللّسان (وتد) 3/444، و (ودد) 2/455.
4 ينظر: الكتاب 4/482.
فصارت ((سِدْتاً)) وقد سوّغ الإبدالَ بينهما تقارب مخرجيهما واتّحادهما في الهمس.
وثانيهما: إبدال الدّال تاءً؛ لاتّحادهما في المخرج؛ وهو طرق اللّسان وأصول الثّنايا - كما قال سيبويه1.
وبعد ذلك أدغمت التّاء الّتي هي - في الأصل - دالٌ في التّاء الّتي هي - في الأصل - سين؛ فقالوا: ((سِتٌّ)2.
وأدّى ذلك إلى وضع الكلمة في موضعين في بعض المعاجم؛ كما فعل الجوهريّ3، وابن منظور4، والفيروز آباديّ5، والزّبيديّ (6) .
1) ينظر: الكتاب 4/433.
2 سرّ الصّناعة 1/155.
3 ينظر: الصِّحاح (ستت) 1/251، و (سدس) 3/937.
4 ينظر: اللّسان (ستت 2/40، و (سدس) 6/104.
5 ينظر: القاموس (ستت) 196، و (سدس)709.
6 ينظر: التّاج (ستت) 1/550، و (سدس) 4/166.
(ل) الجَمْعُ:
قد يكون الجمع سبباً من أسباب تداخل الأصول؛ لا سيّما جمع التّكسير، لأنّ الخلاف في أحاد الجموع شائع بين العلماء؛ مطّرد في مذاهبهم؛ لأنّ مثال جمع التّكسير تفقد فيه صيغة الواحد؛ فيحتمل الأمرين أو الثّلاثة؛ وليس كذلك مثال جمع السّلامة؛ فمن سمع قولهم:((زَيْدُونَ)) و ((خَالِدُونَ)) و ((مُسْلِمُونَ)) ونحوها لم يعرض له شكّ في الواحد منها؛ لسلامة بنائه من التّغيير.
وربّما ترتّب على خفاء المفرد في بعض جموع التّكسير خفاءَ الأصل؛ فيكون عرضة لتداخل الأصول؛ كما وقع في ((الشَّاءِ)) جمع ((شَاةٍ)) ولا خلاف بينهم في أنّ أصل ((شَاةٍ)) : ((شَاهَةٌ)) وهي قبل الإعلال ((شَوْهَةٌ)) لقولهم في التّصغير: ((شُوَيْهَةٌ)) وفي الجمع - أيضاً: (شِيَاهٌ)) (1) ولكنّهم اختلفوا في جمعه على ((شَاءٍ)) .
ذهب سيبويه إلى أنّ ((الشَّاءِ)) ليس من لفظ: شَاةٍ، وأنّه اسم للجمع؛ وأصله (ش وي) أو (ش وو) واستدلّ بقول العرب في التّصغير: شُوَيّ (2) ؛ حملاً على التّصغير؛ وهو يحتمله؛ لأنّ سيبويه أورده فيه، ويجوز - أيضاً - أن يكون ((شَوِيّاً)) بفتح الشّين وكسر الواو؛ وهو اسم جمع للشّاة؛ كما في قول الرّاجز:
1 ينظر: شرح السّيرافي للكتاب 5/637.
2 هكذا ضبط في طبعتَي الكتاب. وينظر: طبعة بولاق 2/116، وطبعة هارون 3/460.
إِذَا الشَّوِيُّ كَثُرَتْ نَوَاتِجُهُ
…
َانَ مِنْ تَحْتِ الكُلَى مَنَاتِجُهُ1
وقيل: إنّ ((شَوِيّاً)) جمع الشّاءِ؛ فكأنّه جمع الجمع2.
و ((شَاءٌ)) عند سيبويه من باب ((سَوَاسِيَةٍ)) إذ هو جمع سَواءٍ؛ وليس من لفظه3؛ وإن كان فيه بعض حروفه؛ لأنّ تركيب سواءٍ من (س وي) أمّا ((سَوَاسِيَة)) فمن مضاعف الرّباعيّ (س وس و) لقول بعضهم: ((سَوَاسِوَةٌ)) فأخرج الواوَ على أصلها4. وهو عنده من غير لفظه، ومثّل له بامْرَأَةٍ ونِسْوَةٍ، ورَجَلٍ ونَفَرٍ5. والّذي حمله على أن يقول بهذا الأصل أنّ ((شَاءً)) لو كان جمع ((شاةٍ)) من لفظه لكان قياسه في الجمع ((شِيَاهٌ)) لأنّ المحذوف هاء6، ونظيره: مياهٌ.
وعلى هذا فإن أصل ((شَاء)) عند سيبويه ((شَوَيٌ)) أو ((شَوَوٌ)) فقلبت عين الفعل منه ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ فصار في التّقدير: شَاياً أو
1 ينظر: اللّسان (شوا) 4/448، ومعنى اليبت: أي تموت الغنم من شدّة الجدب؛ فتشقّ بطونها فتخرج منها أولادها.
2 ينظر: الصِّحاح (شوه) 6/2238.
3 ينظر: الكتاب 3/460
4 ينظر: المنصف 2/145، وفيه:((وسواسية من مضاعف الواو، وأصله: س وس)) . وهذا تحريف واضح؛ صوابه (س وس و) يدلّ عليه قوله: ((من مضاعف الرّباعي)) وقوله بعد: ((ويدلّ على ذلك، وأنّه ليس من باب كوكب، ولا باب سلس، قول بعضهم في سواسية: سَوَاسِوَة، وإخراج الواو على أصلها)) .
5 ينظر: الكتاب 3/460.
6 ينظر: المقتضب 1/153.
شَاواً؛ فقلبت اللاّم منه همزة شذوذاً؛ لأنّ الألف أصليّة، وفيه - أيضاً - اجتماع إعلالين؛ لأنّه أعلّ اللاّم والعين جميعاً1.
وذهب المبرّد إلى أنّ أصله (ش و ?) فـ ((الشَّاء)) عنده جمع ((شاة)) على لفظه بمنْزلة ((الماء)) والهمزة فيه مبدلة من الهاء؛ لأنّ أصل مفرده ((شَاهَةٌ)) فَجُمِعَ بإسقاط تاءَ التّانيث؛ كقولهم في جمع تَمْرَةٍ وشَعِيرَةٍ: تَمْرٌ وشَعِيرٌ؛ فكان تقديره في الجمع: ((شَاه)) وألفه منقلبة عن الواو؛ وهي العين، والهاء هي اللاّم، ثمّ أبدلوا من الهاء همزةً لقرب المخرجين؛ فقالوا ((شَاءٌ)) على حدّ قولهم - في الإبدال - أرَقْتُ وهَرَقْتُ، وإيّاكَ وهِيَّاكَ؛ وهو أشبه بقولهم ((ماءٌ)) إذ كان قبل الإبدال:((مَاه)) 2.
وكان ابن جنّي يميل إلى مذهب المبرّد، ويوجّه عودة اللاّم المحذوفة في المفرد؛ وهي الهاء، ويقول: ((فلمّا أردت جمع: شاةٍ على حدّ قولك: بَقَرَةٌ وبَقَرٌ؛ وجب حذف هاء التّانيث، فلزم أن يبقى الاسم على: شين وألف؛ وهما الفاءُ والعينُ؛ فلم يجز تركه على ذلك كراهة أن يُذْهِبَ التّنوينُ - لسكونه - الألفَ؛ كما يُذْهِبُها من قولك: هذه عَصاً؛ فيبقى الاسم الظّاهر على حرفٍ واحد؛ وهذا محال؛ فوجب أن يضمّ إلى الكلمة ما يؤمن معه حذف الألف؛ فكان ردّ الهاء الأصليّة الّتي هي لام الفعل أولى؛ لأنّها أحقّ من الأجنبيّ الغريب؛ فَرُدَّتْ فصار التّقدير: شاه3 في
1 ينظر: شرح السّيرافي 5/637، 638.
2 ينظر: المقتضب 1/153، 154، وهذا عنده هو القياس.
3 في النّص المطبوع: ((شاة)) بالتّاء؛ ولعله تصحيف.
وزن: جاهٍ
…
إلاّ أنّ العرب أبدلت الهاء همزةً)) 1.
وعلى هذا الرّأي - أيضاً - يجتمع إعلالان؛ وهما:
الأوّل: قلب العين ألفاً.
الثّاني: قلب اللاّم همزةً2. واجتماع الإعلالين قليل؛ وهو في الثّلاتيّ من الاسم والفعل نادر؛ لأنّه لا يحتمل - لخفّته - إعلالاً كثيراً - كما قال الرّضيّ3.
ويؤدّي التباس نون الجمع في آخر الكلمة الّتي تأتي على وزن (فِعْلان) بلام الكلمة في مصدر الرّباعيّ على وزن (فِعْلال) لتساوي البناءين في الحروف والحركات فـ ((سِلْعَان)) مثلاً - يحتمل الأصلين؛ فيجوز أن يكون جمعاً من الثّلاثيّ (س ل ع) وهو - حينئذ - جمع ((السَّلْعِ)) : شجر مرٌّ، ووزنه على هذا الأصل (فِعْلان) نحو: غِزْلانٍ وجِيرَانٍ وقِيعَانٍ.
ويجوز أن يكون مصدراً من (س ل ع ن) من قولهم: سَلْعَنَ في عَدْوِهِ؛ أي: عدا عدواً شديداً، فوزنه - حينئذ (فِعْلال) على حدّ قولك: سَرْهَفْتُ الصّبيّ سِرْهَافاً؛ أي: أحسنت غذاءه.
وقد أشار بعض العلماء إلى هذا التّداخل، ونبّه عليه؛ كأبي العلاء المعرّيّ في قوله:((فأمّا (فِعْلان) فينبغي أن يتوقف عن الحكم في نونه، أكثر من التّوقف في نون (فُعْلان) وإن كانت تكثر زائدة في هذا الموضع؛
(1) المنصف 2/144، 145.
(2)
ينظر: المنصف 2/145.
(3)
ينظر: شرح الشافية للرّضي 3/94.
وقد نصّ الأزهريّ على الأصلين بقوله: ((من جعل العَيْدَان (فَيْعَالاً) جعل النّون أصليّة، والياء زائدةً. ودليله على ذلك قولهم: عَيْدَنَتِ النّخلةُ. ومن جعله (فَعْلان) مثل: سَيْحَان من سَاحَ يَسِيحُ جعل الياء أصليّة والنّون زائدةً. ومثله: هَيْمَان وعَيْلان)) 1.
وإلى مثل هذا أشار الجوهري في مادّة (ع ود) من ((الصِّحاح)) 2 وذكره ابن منظور في الأصلين3.
وثمّة نوع في الجمع يكثر في التّداخل؛ وهو ما جمع على توهّم أصالة الحرف؛ كقولهم: مَسِيلٌ ومُسْلانٌ، وموضع الحديث فيه ما يلي من أسباب التّداخل؛ وهو: التّوهّم.
1 التّهذيب 3/132.
2 2/515.
3 ينظر: اللّسان (عود) 3/322، 323، و (وعدن) 13/280.
(م) توهُّمُ أصالةِ الحرفِ:
للتّوهّم في اللّغة معانٍ؛ منها: التَّخيّل، والسّهو، والغلط، والظّن1.
والتّوهّم - في الاصطلاح اللّغويّ - مأخوذ من معانيه اللّغويّة؛ فهو توهّم أصالة الحرف الزّائد، أو توهّم زيادة الحرف الأصليّ، والأوّل أكثر؛ وهو يكثر في الجمع، واشتقاق الأفعال؛ نحو: مُسْلَانٍ، جمع مَسِيْلٍ، ومَيَاسِمَ جمع مَيْسَمٍ، واشتقاقهم مِنْ: المِسْكِين والمِدْرَعَةِ: تَمَسْكَنَ وتَمَدْرَعَ.
والحديث عن ((التّوهّم)) مفرّقٌ في كتب اللّغة والصّرف، وأكثر وروده فيها عارض؛ وهم يطلقون عليه مسمّيات مختلفة؛ كـ ((الغَلطِ)) 2 و ((المشابهة)) و ((المشاكلة)) و ((كأنّه كذا)) و ((إلحاق هذا بذاك)) وكلّ هذا عند التّنبيه على الشّذوذ أو مخالفة القياس.
ومن أقدم ما ورد من الإشارات الصّريحة عن ((التّوهّم)) ما عزاه سيبويه للخليل في جمع ((مُصِيَبةٍ)) قال: ((فأمّا قولهم: مَصَائِب فإنّه غلط منهم، وذلك أنّهم توهّموا أنّ مُصِيبَةً فَعِيلَةٌ، وإنّما هي مُفْعِلَةٌ)) 3.
ثمّ نجد كلمة ((التّوهّم)) ترد كثيراً بهذا المعنى عند بعض اللّغويّين فيما
1ينظر: اللّسان (وهم) 12/643، 644.
2 ينظر: الكتاب 4/356، والخصائص 3/279.
3الكتاب 4/356.
بعد؛ كالأزهريّ1، وابن جنّي2، والجوهريّ3، والصّغاني4.
وتوهّم أصالة الحرف من أهمّ الأسباب المؤدّية إلى تداخل الأصول، ومن أخطرها أثراً. وكثيراً ما يترتّب على التّوهّم خلاف بين العلماء؛ لأنّه الوجه الآخر للتّصريف؛ الّذي يعدّ من أهمّ المقاييس الّتي تميّز بها الأصول؛ فإذا حمل ما جاء على هذا المقياس على التّوهّم سقط الاستدلال به في كثير من أمثلة التّداخل؛ الّتي كان للتّوهّم فيها نصيب.
فمن ذلك كلمة ((مَسِيلٍ)) وهي اسم مكان على وزن (مَفْعِل) من: سَالَ يَسِيلُ، وأصلها (س ي ل) وقياس جمعها: مَسَايِل؛ فلمّا شاعت الكلمة توهّموا أصالة ميمها؛ فحملوها على راء (رَغِيفٍ) فقالوا في الجمع: أمْسِلَة ومُسْلَان؛ كقولهم: أَرْغِفَةٌ ورُغْفَان.
وكان الأزهريّ يحملها على التّوهّم، ويرى زيادة الميم؛ كما توهّموا أصالة الميم في المكان؛ فقالوا في جمعه: أمْكِنَةٌ، وأصله (مَفْعَل) من: كان5.
بيد أنّ ابن جنّي كان يرى خلاف ذلك؛ ويقول: ((وأمّا مَسِيلٌ فذهب بعضهم في قولهم في جمعه: أمْسِلَةٌ - إلى أنّه من باب الغلط؛ وذلك لأنّه أخذه من: سَالَ يِسِيل؛ فهو عندهم على مَفْعَل، كالمَسِيرِ والمَحِيضِ؛
1 ينظر: التّهذيب 12/459.
2 ينظر: الخصائص 3/122.
(3 ينظر: الصِّحاح (مأق) 4/1553.
4 ينظر: التّكلمة (مصد) 2/343.
5 ينظر: التّهذيب 12/459.
وهو - عندنا - غير غلط؛ لأنّهم قد قالوا فيه: مُسُلٌ؛ وهذا يشهد بكون الميم فاء)) 1.
وقد تقدّم تفصيل التّداخل فيه.
ومن ذلك قولهم: ((مَيَاسِمُ)) في جمع: مِيسَمٍ؛ وهي آلة الوسم أو أثر الوسم؛ فأصله (وس م) ولكنّهم قالوا في جمعه: ((مِيَاسِمُ)) على توهم أصالة الياء؛ وهو الكثير في جمعه، وربّما قالوا:((مَوَاسِمٌ)) قليلاً؛ وهو القياس2.
وحمل قولهم: رِيْحٌ وأَرْيَاحٌ - على توهّم أصالة الياء؛ لأنّ أصل رِيْحٍ (روح) فقياس الجمع منه ((أرْوَاحٌ)) .
وقد حكى أبو الفرج الأصبهاني ما وقع في شعر عُمارة بن عقيل الخطفيّ، واعتراضَ أبي حاتم السّجستاني عليه؛ فقال:((أنشد عُمارة قصيدة له؛ فقال فيها: الأرْيَاحُ والأمطارُ؛ فقال له أبو حاتم السّجستاني: هذا لا يجوز، وإنّما هو الأرْوَاحُ؛ فقال: لقد جذبني إليها طبعي، فقال له أبو حاتم: قد اعترضه علمي؛ فقال: أما تسمع قولهم: رِياَحٌ؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، قال: صدقتَ ورجع)) 3.
ومثل هذا قول العرب في جمع ((عِيْدٍ)) : أعْيَادٌ؛ فهو - عند بعض العلماء - على توهّم أصالة الياء؛ لأنّ ((عِيْداً)) في الأصل: ((عِوْدٌ)) قال ابن سيده: ((واشتقاقه من: عَادَ يَعُودُ؛ كأنّهم عادوا إليه. وقيل: اشتقاقه من
1 الخصائص 3/279.
2 ينظر: الشّواهد على قاعدة توهّم أصالة الحرف 363.
3 الأغاني 23/433.
العَادَة؛ لأنّهم اعتادوه. والجمع أعْيَاد؛ لزم البدل، ولو لم يلزم لقيل: أعْوَاد؛ كرِيحٍ وأرْوَاحٍ؛ لأنّه من: عَادَ يَعُودُ)) 1 وقيل: جمعوه بالياء ليفرّقوا بينه وبين ((أعْوَادِ الخشبِ)) .
ومن توهّم أصالة الحرف في الأفعال قولهم: ((تَمَسْكَنَ)) و ((تَمَنْطَقَ)) و ((تَمَدْرَعَ)) و ((تَمَخْرَقَ)) فقد حملوه على الرّباعيّ (فَعْلَل) فجعلوا الميم في هذه الأفعال فاء الرّباعيّ؛ بإزاء دال ((تَدَحْرَجَ)) والاشتقاق خير دليل على زيادتها، ووقوع التّوهّم فيها.
ومن ذلك توهّم أصالة النّون في ((الضَّيْفَنِ)) وهو الّذي يأتي مع الضّيف من غير دعوة؛ فاشتقّوا منه فعلاً؛ فقالوا: ضَفَنَ الرَّجلُ يَضْفِنُ، إذا جاء مع الضّيف2.
وأدّى ذلك إلى اختلافهم؛ فجعل بعضهم النّون زائدة على التّوهّم؛ وهو عند أبي زيد الأنصاريّ (فَيْعَل) بأصالة النّون3.
ومنه قولهم: ((تَشَيْطَنَ)) فقد استدلّ به بعض العلماء على أصالة النّون؛ فجعلوه من (ش ط ن) وحمله بعضهم على التّوهّم بأصلالة الياء وزيادة النّون؛ وهو عندهم من (ش ي ط) وقد تقدّم تفصيل التّداخل فيه.
1 المحكم 2/232، وينظر: اللّسان (عود) 3/319.
2 ينظر: المنصف 1/167.
3 ينظر: سرّ الصّناعة 2/445، والمنصف 1/167، وينظر خلافهم في أصل هذه الكلمة: الكتاب 4/320، وديوان الأدب 2/43، ورسالة الملائكة 265، وشرح الملوكي 185، والممتع 1/271، والارتشاف 1/102.
(ن) اختلاف الحركات
ثمّة كلمات اختلفت حركاتها؛ لاختلاف الرّواية فيها أو اللّغات.
واختلاف الحركة في الكلمة يؤدّي - أحياناً - إلى تغيير الأصل، فـ ((الثَّنْدُوَة)) بفتح الثّاء - من (ث ن د) على بناء (فَعْلُوَة) مثل: تَرْقُوَةٍ وعَرْقُوَةٍ. وإذا ضمّ أولها همزت الواو، فيقال:((الثُّندُؤَة)) فتكون: (فُعْلُلَة) من الأصل الرّباعيّ: (ث ن د أ)1.
وإنّما حملت - على رواية الضّمّ - على الرّباعيّ؛ لوجود (فُعْلُل) ولم تحمل عليه - أعني: الرّباعيّ في رواية الفتح لفقد (فَعْلُل) .
ومن ذلك ((بُرْهُوتٌ)) وهو وادٍ أو بئر بحضرموت. وفيه رواية أخرى؛ وهي ((بَرَهُوت)) وأصله على رواية الفتح (ب ر ?) لأنّ القياس في تائه الزّيادة؛ لكونها مزيدة في أمثاله ممّا عرف اشتقاقه؛ كالتَّرَبُوت والخَرَبُوت 2.
وأصله على الضّمّ (ب ر ? ت) 3 لأنّ القياس في تائه - حينئذ - أن تكون أصليّة؛ ووزنه (فُعْلُول) كعُنْقُودٍ وعُصْفُورٍ.
ومن طريف التّداخل بسبب اختلاف الحركات ما جاء في حديث حُذيفة أنّه أقيمت الصّلاة؛ فتدافعوها وأبوا إلاّ تقديم حُذيفة؛ فلمّا سلّم
1 ينظر: اللّسان (ثدأ) 1/41.
2 ينظر: الفائق 1/101.
3 ينظر: النّهاية 1/122، واللّسان (برهت) 2/10.
قال: ((لَتُبَتِّلُنَّ لها إماماً، أو لَتُصَلُّنَّ وُحداناً)) (1) وربّما رُوي: ((لَتَبْتِلُنّ)) 2 ورُوي - أيضاً - برواية ثالثة مختلفة؛ وهي: ((لتَبْتَلُنّ)) 3 فاحتملت الكلمة أصلين:
أحدهما: (ب ت ل) على الرّوايتين الأوليين: (لَتُبَتِّلُنَّ) و (لَتَبْتِلُنّ) والمعنى: لتُنَصِّبُنّ إماماً، ولَتَقْطَعُنّ الأمر بإمامته. وأصل البتل: القطع يقال: بَتَلَهُ يَبْتِله، ومنه قيل لمريم: البَتُوْلُ؛ لانقطاعها عن النّاس 4؛ فيكون وزنهما (لَتُفَعِّلُنّ) و (لَتَفْعِلُنّ) .
والآخر: (ب ل و) من الابتلاء، وهو الامتحان، والمعنى لتختارُنّ أو لتَمْتَحِنُنّ لها إماماً من بَلَوْتُ وابْتَلَيْتُ5. وعلى هذه حمله شَمِرٌ؛ وفسّره بقول:((أي: لتختارنّ، وأصله: التّجربة والخبرة؛ يقال: اللهم لا تَبْلُنَا إلاّ بالّتي هي أحسن؛ أي لا تمتحنّا)) 6.
والوزن على هذا الأصل (لَتَفْتَعُنّ) بحذف لام الكلمة؛ لأنّ الأصل (تَفْتَعِلُون) على تقدير: تَبْتَلِيُون؛ فحذفت لامه - وهو حرف العلّة -
1 ينظر: المجموع المغيث 1/127.
2 ينظر: غريب الحديث للخطّابي 2/330، والفائق 1/73.
3 ينظر: الغريبين 1/220، 221، والمجرّد للغة الحديث 1/165.
4 ينظر: غريب الحديث للخطّابي 2/330.
5 ينظر: غريب الحديث للخطّابي 2/330.
6 الغريبين 1/221.
لإسناده إلى واو الجماعة، وضُمّت للدّلالة على المحذوف؛ وهو الواو؛ فقالوا: لَتَبْتِلُونَ، ثمّ حذفت واو الجماعة؛ لتوكيد الفعل بالنّون.
ومن طريف التّداخل - أيضاً - ما حدث في ((المِسْطَار)) وهو ضرب من الشّراب فيه حموضة، ويروى - أيضاً - بالصّاد؛ فيحتمل (س ط ر) أو (ص ط ر) بالإبدال؛ ووزنه (مِفْعَال) وكسر الميم فيه رواية الجوهريّ له 1.
وفيه رواية أخرى بضمّ الميم؛ وبها رواه الأزهريّ 2؛ وهي اختيار الصّغانيّ3، وتحتمل رواية الضّمّ ثلاثة أصول، وهي:(ص ور) و (ط ي ر) و (س ور) .
أمّا الأول: (ص ور) فهو مذهب الصّغانيّ؛ إذ كان يرى أنّ ((المُسْطَارَ)) على وزن (مُفْتَعَل) من صَار؛ كالمُخْتارِ - اسم مفعول، واستدلّ بأنّ الكسائيّ كان يشدّد الرّاء، ويقول:((مُسْطَارٌّ)) فهو - حينئذ - من ((اسْطَارَّ يَسْطَارُّ، مثل ادْهَامَّ يَدْهَامُّ)) 4 وعلى هذا فموضع ذكره - كما قال - مادّة (ص ور) من فصل الصّاد.
أمّا الثّاني: (ط ي ر) فهو على تقدير أنّ ((المُسْطَارَ)) في الأصل: ((المُسْتَطَار)) على وزن (المُسْتَفْعَل) .
1 ينظر: الصِّحاح (سطر) 2/684.
2 ينظر: التّهذيب 12/329.
3 ينظر: التّكملة (سطر) 3/28.
4 التّكملة (سطر) 3/28.
قال الأزهريّ: ((المُسْطَار: هو الغُبَار المرتفع في السّماء، وقيل كان في الأصل: مُسْتَطَاراً؛ فحذفت التّاء؛ كما قالوا: اسْطَاعَ في موضع: استَطَاع، وقال عديّ بن الرّقاع:
مُسْطَارَةٌ ذَهَبَتْ فِي الرَّأسِ سَوْرَتُهَا
كَأَنّ شَارِبَهَا مِمّا بِهِ لَمُمُ 1
ويقوّي هذا أنّ الخمر تثب إلى الرّأس، وتنتشر انتشار الغُبار المرتفع؛ فتحجب عقل شاربها كما يحجب الغُبارُ الأشياءَ المحسوسةَ.
أمّا الثّالث (س ور) فهو على تقدير أنّ الطّاء في ((المُسْطَارِ)) مبدّلة من التّاء في ((المُسْتَار)) ووزنه (المُفْتَعَل) ثمّ قلبت تاء الافتعال طاءً؛ فقالوا: ((المُسْطَار)) فلعلّه مشتقّ من ((سَوْرَةِ الخمر)) وهو: حدّتها، ووُثوبها في الرّأس2؛ فيكون الأصل قبل الإعلال:((المُسْتَوَرَ)) .
ولا ترد هذه الأصول المحتملة إلاّ على رواية ضمّ الميم. أمّا رواية الكسر الّتي ذكرها الجوهريّ، فلا تحتمل إلا أصلين (س ط ر) على رواية السّين و (ص ور) على رواية الصّاد، وكأنّهما من الإبدال.
وممّا تداخلت أصوله بسبب اختلاف الحركة ((مَقْتَوِين)) في قول عمرو بن كلثوم:
مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِينَا3
1 التّهذيب 12/329، وفي الدّيوان (ص 75) :((مصطارة)) بالصّاد.
2 ينظر: اللّسان (سور) 4/383.
3 نظر: ديوانه 79، وشرح القصائد السّبع الطّوال 402، وشرح القصائد المشهورات 2/109.
وقد روي - أيضاً - بضمّ الميم: ((مُقْتَوِينَا)) 1 فاحتمل أصلين: (ق ت و) و (ق وو) فمن رواه بالفتح فهو من الأصل الأوّل؛ واشتقاقه من ((القَتْوِ)) وهو: الخِدْمَة، وقيل حسنُ خدمة الملوك؛ من قَتَوْتُ أَقْتُو قَتْواً. والمعنى: متى كنّا لأمّك خادمين؟
وفي الواو والنّون فيه آراء مختلفة، لا تخرجه من هذا الأصل؛ فصّلها عبد القادر البغداديّ في ((الخزانة)) 2.
ومن رواه بضمّ الميم فهو يحتمل الأصلين معاً. وقد تقدّم الحديث عن الأول (ق ت و) وأمّا الثّاني فهو (ق وو) من ((الاِقْتِوَاءِ)) بمعنى: الاشتراء. وقد ذكروا أنّه لا يكون إلاّ ممّن يشتري من الشّركاء، والّذي يُباع من العبيد والجواري أو الدّوابّ، من اللّذين تقاويا، وأصله من القُوَّةِ؛ لأنّه بلوغ بالسّلعة أقوى ثمنها، ويقال: اقْتَوَى الشّيءَ إذا اختصّه لنفسه3؛ فيكون المعنى على هذا الأصل: متى اقْتَوَتْنَا أمُّك فَاشْتَرَتْنَا4.
ومن ذلك قولهم: ((أزَبُّ العَقَبَةِ)) وهو: شيطانها، أو حيّة سُمّيت بهذا الاسم.
وقد رويت الكلمة بكسر الهمزة، وسكون الزّاي، فاحتملت بذلك
1 ينظر: التّهذيب 9/370.
2 ينظر: 7/427-432.
3 ينظر: اللّسان (قوا) 15/312.
4 ينظر: التّهذيب 9/370.
أصلين: (أز ب) و (ز ب ب) كما ذكر الزّبيديّ1.
واختلفوا في ضبط ((المتيَخَةِ)) وهي: العصا أو جريدة النّخل. فمن رواها بكسر الميم وتضعيف التّاء كان تقديرها عنده (فِعِّيلَة) من (م ت خ) .
ومن رواها بكسر الميم وسكون التّاء وفتح الياء، فتقديرها (مِفْعَلَة) من (ت وخ)2.
1 التاج: (أزب) 1/147.
2 ينظر: النّهاية 4/291، 292، واللّسان (توخ) 2/10.
(س) التّصحيف والتّحريف:
يدلّ الأصل (ص ح ف) على انبساط في شيء وسَعَةٍ، ومنه الصَّحِيفُ، وهو: وجه الأرض، والصّحيفة؛ وهي الَّتي يكتب فيها 1.
ويدلّ الأصل (ح ر ف) على معانٍ؛ منها: الانحراف عن الشّيء، والعدول عنه 2.
ولا يكاد يفرِّق كثير من القدامى بين مفهومي التَّصحيف والتَّحريف في الاصطلاح؛ فيجعلونهما مترادفين3؛ فالتَّصحيف: ((الخطأ في الصَّحيفة بأشباه الحروف)) 4 وأصله كما قال المعرّيّ: ((أن يأخذ الرّجل اللّفظ في قراءته في صحيفة؛ ولم يكن سمعه من الرّجال؛ فيغيّره عن الصّواب)) .5
وثَمَّةَ من فرَّق بين التّصحيف والتَّحريف، ولعلّ أوّل من نصّ عليه ابن حجرٍ حين قال:((إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخطِّ في السِّياق؛ فإن كان ذلك بالنّسبة إلى النّقط فالمصحَّف، وإن كان بالنّسبة إلى الشّكل فالمحرَّف)) 6.
وقد استقرّ الرّأي عند جمهرة العلماء المتأخّرين على هذا المفهوم؛
1 ينظر: المقاييس 3/334.
2 ينظر: المقاييس 2/42، واللّسان (صحف) 9/43.
3 ينظر: تحقيق النّصوص ونشرها 66، وتحقيق التّراث 154.
4 التّاج (صحف) 6/161، وينظر: شرح ما يقع فيه التّصحيف 13.
5 المزهر 2/353، وينظر: البلغة في أصول اللّغة 293.
6 نزهة النّظر في توضيح نخبة الفكر 127.
فالتّصحيف - عندهم - خاصّ بالتّغيير في النَّقْطِ في الحروف المتشابهة، كالياء والتّاء والثّاء، والجيم والحاء والخاء، والدّال والذّال، والرّاء والزّاي.
وأمّا التّحريف فهو خاصٌّ بتغيير شكل الحروف المتقاربة، كالدّال والرّاء، والدّال واللاّم، والنّون والزّاي (1) .
وقد وقع في التّصحيف والتّحريف جماعة من الأجلاّء من أئمّة اللّغة، وأئمّة الحديث، حتّى قال الإمام أحمد بن حنبل: ومن يعرى من الخطأ والتّصحيف؟ 2 وقد تصدّى فريق من العلماء إلى ما وقع من تصحيف في بعض المعاجم اللّغويّة؛ ومن أهمّها ((العين)) للخليل و ((الجمهرة)) لابن دريد، و ((الصِّحاح)) للجوهريّ. وقد تعقّب الأخيرَ بعض العلماء؛ كابنِ برّيّ، والصّغاني، والفيروز آباديّ.
وممّا لا شكّ فيه أنّ التّصحيف والتّحريف يؤدّيان إلى تغيير أصل الكلمة. وقد يؤدّي هذا التّغيير إلى تداخل الأصول؛ ولا سيّما فيما وقع فيه خلاف بين العلماء؛ ممّا يحتمل الوجهين؛ كخلافهم في ((الجَرَجَةِ)) وهي: جَادَّةُ الطَّريق؛ فقال بعضهم: هي ((الخَرَجَةُ)) وقال بعضهم الآخر: ((الجَرَجَةُ))
وقد نقل ابن برّي الخلاف بينهم، وذكر أنّ ثعلباً وابن خالويه وأبا عبيد وغيرهم كانوا يقولون:((الجَرَحَةُ)) ويجعلون الخاء تصحيفاً. وذكر أنّ الصّمعيّ وابن السِّكَّيت وأبا سهل الهرويّ وغيرهم كانوا يقولون:
1 ينظر: تحقيق النّصوص ونشرها 67، ومدخل إلى تاريخ نشر التّراث العربيّ 286، 287، ومناهج تحقيق التّراث 124.
2 ينظر: المزهر 2/353.
((الخَرَجَةُ)) ويجعلون الجيم تصحيفاً1.
وذكر ابن برّي أنّ أبا الطّيّب اللّغويّ سُئِل عنها؛ فقال: ((حكى لي بعض العلماء عن أبي زيد أنّه قال: هي: الجَرَجَةُ - بجيمين – فلقيت أعرابياً، فسألته عنها؛ فقال: هي: الجَرَجَةُ - بجيمين - وهو - عندي - من: جَرَجَ الخاتَمُ في إصبعي، وعند الأصمعيّ أنّه من: الطّريق الأخْرَجِ؛ أي الواضح))
وكان الوزير ابن المغربي3 يسأل عن هذه الكلمة على سبيل الامتحان، ويقول: ما الصّواب من القولين؟ ولم يفسّره - كما ذكر ابن برّي4.
ومنه ما وقع في كلمة (مَخَانَةٍ) في قول لبيبد:
يَتَحَدَّثُونَ مَخَانَةً وَمَلَاذَةً
…
ويُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإنْ لَمْ يَشْغَبِ5
فالمَخَانَةُ مصدر ميميّ من: الخِيَانة، والميم زائدة، والأصل (خ ون) ووزنه (مَفْعَلَة) وقد رواه أبو موسى الأصبهاني بالجيم على أنّه (مَجَانَة) من: المُجُونِ6.
1 ينظر: التّنبيه والإيضاح (جرج) 1/195، واللّسان (جرج) 2/224.
2 التّبنيه والإيضاح 1/195.
3 هو: الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم. واشتهر بالوزير ابن المغربي؛ وهو معدود في علماء اللّغة والأدب. وكان وفاته (سنة 418?) . ومن مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1/195- 197، ولسان الميزان 2/301، وشذرات الذّهب 3/210.
4 ينظر: التنبيه والإيضاح (جرج) 1/195.
5 ينظر: ديوانه 153، 154، وفيه روايات أخرى.
6 ينظر: المجموع المغيث 3/186.
والماجِنُ: الّذي لا يبالي بما يقول أو يفعل، وأصله (م ج ن) والميم أصليّة، ووزنه (فَعَالَة) مثل: حَمَاقَةٌ.
وقد ذكره ابن الأثير في الموضعي1، وتابعه ابن منظور2.
ومن التّحريف أنّ الجوهريّ ذكر (مَاطِرُونَ) وهو: موضع بالشّام - في (ن ط ر) 3 لأنّه رواه بالنّون (نَاطِرُون) وهو مخالف لما عليه الجمهور، ومن ثمّ ردّ عليه الفيروز آباديّ4.
ومن ذلك تداخل (ود ن) و (د ي ن) في قول الطِّرِمَّاحِ:
عَقَائِلُ رَمْلَةٍ نَازَعْنَ مِنْهَا
…
دُفُوفَ أَقَاحِ مَعْهُودٍ وَدِينِ5
وقد ذكر الأزهريّ أنّ اللّيث أنشده:
…
...
…
مَعْهُودٍ وَدِينِ
على أنّ الواو حرف العطف، وأنّ الكلمة ((دِينٌ)) وهو من الأمطار ما تعاهد موضعاً لا يزال يُرِبّ6 به ويصيبه.
1 ينظر: النّهاية 2/89، 4/307.
2 ينظر: اللّسان (خون) 13/144، و (مجن) 13/402.
3 ينظر: الصِّحاح (نظر) 2/830.
4 ينظر: القاموس (مطر)613.
5 ينظر: ديوانه 528.
6 هكذا في ((التّهذيب)) بضمّ حرف المضارعة على أنّه من ((أرَبَّ)) ومثله في العين (8/74) وفي اللّسان (13/444) : ((يَرُبُّ)) من ((رَبَّ)) .
وذكر الأزهريّ أنّ هذا تحريف صوابه: ((وَدِينٌ)) وأنّ الواو فاء الكلمة؛ وليست حرف عطف؛ وهو على وزن (فَعِيل) أراد الشّاعر: دُفُوف رَمْلٍ، أو كُثُب أقَاحٍ أصابها المطر؛ فهو ((وَدِينٌ)) أي:((مَوْدُونٌ)) مَبْلُولٌ، من وَدَنْتُهُ أَدنُه وَدْناً؛ إذا بللته1. ومنه قولهم: وَدَنتُ الجلد؛ إذا دفنته تحت الثّرى ليلتين؛ فهو مودون. وكلّ شيء بللتَه فقد ودنتَه 2.
على أنّ ما في ((العين)) مخالف لما نقله الأزهريّ؛ إذ جاء على الصّواب من غير تحريف؛ ونصّه: ((الوَدِينُ من الأمطار: ما يتعاهد موضوعه لا يزال يُرِبُّ به ويصيبه، قال الطِّرِمَّاح:
دُفُوفَ أقَاحِ مَعْهُودٍ وَدِينِ
وَوَدَنْتُ فلاناً، أي: بللته. وقول الطِّرِمَّاح: مَعْهُودٍ وَدِينِ إنّما هو: وَدِينٌ مَبْلُولٌ، والواو من نفس الكلمة)) (3) ولعلّ النّص محرّفٌ في نسخة الأزهريّ من ((العين)) .
وممّا نتج عن هذا التّحريف إثبات معنىً في (د ي ن) لا حقيقة له في اللّغة؛ فقد أخذ بعض المعجميّين حكاية الأزهريّ نصّ ((العين)) المحرّف في ((التّهذيب)) بالقبول على أنّه حقيقة لغويّة.
ومنهم الفيروز آباديّ الّذي ذكر من معاني الدّين: ((المواظبَ من
(1) ينظر: التّهذيب 14/185.
(2)
ينظر: اللّسان (ودن) 13/445.
(3)
العين 8/74.
الأمطار أو اللّيّنَ منها)) 1.
وقال الزّبيديّ: ((وَالدِّينُ: المواظب من الأمطار، أو اللَّيِّن منها وقال اللّيث: الدِّين من الأمطار ما تعاهد موضعاً لا يزال يصيبه)) 2.
وكذا في ((محيط المحيط)) 3 للبستانيّ.
وقد أثبتوا هذا المعنى الّذي أثاره الأزهريّ؛ على الرّغم من أنّه نصّ على بطلانه في تعقيبه بقوله: ((ولا يعرف الدّين في باب الأمطار؛ وهذا تصحيف قبيح من اللّيث، أو ممّن زاده في كتابه)) 4.
ويؤيّد بطلان هذا المعنى في ((الدّين)) أنّ ما في ((العين)) موافق لما عليه الجمهور من أنّ المعنى المشار إليه موجود في (ود ن) وليس في (د ي ن) وأنّه ((الوَدِينُ)) وليس ((الدّين)) 5.
1 القاموس (دين)1546.
2 التّاج (دين) 9/208.
(دين)302.
4 التّهذيب 14/185.
5 وقد نصَّ محقّقا ((العين)) على أنّه ((الودين)) كما في الأصول المخطوطة للعين؛ خلافاً لما نقله الأزهريّ رحمه الله. ولعلّه حُرِّفَ في نُسَخِه.
(ع) متابعةُ مدرسةِ التَّقليبات:
تقدّم في التّمهيد لهذا البحث أنّ لمدرسة التّقليبات المعجميّة خصائصها الّتي تميّزها عن مدرسة القافية، ولا سيّما في بناء المعجم؛ إذ اتّبعت طريقة خاصّة في التّقسيم والتّنظيم؛ لا يظهر فيها أثر تداخل الأصول؛ وبخاصّة في بعض الأبواب؛ كالثّنائي.
بَيد أنّ لمعاجم التّقليبات درواً غير مباشر في موضع تداخل الأصول أيضاً؛ وذاك أنّ بعض معاجم القافية سارت على أثرها في بعض الأصول؛ فثمّة كلمات وضعت في أصول وافقت أبوابها في مدرسة التّقليبات؛ على الرّغم من الاختلاف بين الأصل والباب؛ كأن توضع كلمة ثلاثيّة في أصل رباعيّ في بعض معاجم القافية، لأنّها جاءت في باب الرّباعيّ في بعض معجم التّقليبات، أو توضع كلمة في أصل خماسيّ؛ لأنّها جاءت في باب الخماسيّ في بعض معاجم التّقليبات.
وأكثر ما يظهر هذا في ((اللّسان)) لمتابعته ((التّهذيب)) أو ((المحكم)) لأنّهما من مصادره الخمسة الّتي عوّل عليها.
ومن ذلك أنّ الأزهريّ ذكر في باب الرّباعيّ: ((العَوْهَجَ)) 1 وهي: النّاقة الفتيّة، أو النّعامة الطّويلة الرّجلين؛ فتابعه بعض المعجميّين، وعلى رأسهم ابن منظور الّذي جعلها في (ع و ? ج) 2 وكذلك فعل
1 ينظر: التّهذيب 3/266.
2 ينظر: اللّسان (عوهج) 2/335.
الفيروزآباديّ1 والزّبيديّ2. والكلمة ثلاثيّة على وزن (فَوْعَل) مثل ((كَوْثَر)) بزيادة الواو؛ وقد أصاب الصّغانيّ حينما وضعها في (ع ? ج) 3.
على أنّ ابن منظور أعادها - أيضاً - في الثّلاثيّ على الصّواب4.
وجعل ابن منظور ((التّعضُوض)) وهو ضرب من التّمر - في (ت ع ض) 5متابعة للأزهريّ؛ إذ ذكرها في (ت ع ض) من الثّلاثيّ؛ على الرّغم من أنّه نصّ على زيادة التّاء فيها6.
ومكانها الصّحيح في (ع ض ض) كما فعل الفيروز آباديّ7، واستدركها عليه الزّبيديّ في (ت ع ض) بقوله:((وممّا يستدرك عليه: التّعْضُوضُ بالفتح. هنا أورده صاحب اللّسان، وابن الأثير8، وسيأتي للمصنّف في (ع ض ض) على أنّ التّاء زائدة، وسيأتي الكلام عليه هنالك)) 9. وبذلك فإنّ استدراك الزّبيديّ ليس له ما يبرّره؛ لأنّ التّاء
(1) ينظر: القاموس (عوهج)256.
(2)
ينظر: التّاج (عوهج) 2/80.
(3)
ينظر: التّكملة (عهج) 1/473
(4)
ينظر: اللّسان (عهج) 2/331.
(5)
ينظر: اللّسان (تعض) 7/129.
(6)
ينظر: التّهذيب 1/454.
(7)
ينظر: القاموس (عضض)835.
(8)
ينظر: النّهاية 1/190.
(9)
ينظر: التّاج (تعض) 5/15
زائدة؛ كما قال سيبويه1، والأزهريّ2، وابن عصفور3؛ ووزنها عندهم - (تَفْعُول) .
وذكر ابن منظور في الخماسيّ قولهم: ما فيه حَبَرْبَرٌ ولا حَبَنْبَرٌ؛ أي: ما أصبتُ منه شيئاً، وجعله من (ح ب ن ب ر) 4 متابعاً في ذلك الأزهريّ الّذي ذكره في باب الخماسيّ5.
والكلمتان ثلاثيّتان على وزن (فعلعل) و (فَعَنْعَل) من (ح ب ر) مثل ((صمحمح)) و ((عَقَنْقَل)) من (صمح) و (ع ق ل) .
وذكر ابن منظور في الرّباعيّ قولهم: رجلٌ ضَفَنْدَدٌ، وامرأةٌ ضَفَنْدَدَةٌ؛ وهو صفة للرّخاوة أو الحُمقِ. وجعل أصله (ض ف ن د) متابعاً في ذلك الخليل6 والأزهريّ في وضعهما الكلمة في باب الرّباعيّ7.
وقد تابعهما - أيضا - الفيروز آباديّ 8، والزّبيديّ9.
والكلمة ثلاثيّة من (ض ف د) والنّون فيها زائدة؛ لتوسّطها بين
1 ينظر: الكتاب 4/371.
2 ينظر: التّهذيب 1/454.
3 ينظر: الممتع 1/108، 274.
4ينظر: اللّسان (حبنبر) 4/163.
5 ينظر: التّهذيب 5/337.
6 ينظر: العين 7/78.
7 ينظر: التّهذيب 12/101.
8 ينظر: القاموس (ضفند)377.
9 التاج (ضفند) 2/405.
أربعة أحرف مع سكونها، أمّا الدّال الثّانية فقد زيدت للإلحاق بـ ((سَفَرْجَلٍ)) ووزنها (فَعَنْلَل) . وقد أصاب الصّغاني حين وضعها في (ض ف د)1.
وربّما صرّح ابن منظور بتأثّره بالأزهريّ، ومتابته إيّاه؛ كقوله بعد أن ذكر ((العَنْدَلِيبَ)) في (ع ن د ل ب) :((وسنذكره في ترجمة (ع ن د ل) لأنّه رباعيّ عند الأزهريّ)) 2 مع أنّ ذكره في الخماسيّ هو الوجه؛ كما تقدّم.
وثمّة نوع من الرّباعيّ؛ وهو المضاعف؛ نحو: ((زَلْزَلَ)) وهو باب واسع كان من أسباب وضعه في الثّلاثيّ في معجم القافية: اقتفاؤها أثر معاجم التّقليبات في قرنه بالثّلاثيّ المضعف، ووضعهما في باب الثّنائي؛ فـ ((زَلْزَلَ)) و ((حَثْحَثَ)) و ((بَلْبَلَ)) في معاجم التّقليبات في:((زَلّ)) و ((حَثّ)) و ((بَلّ)) من باب الثّنائي؛ وهي أصول ثلاثيّة مضعّفة، وفيها أيضاً - وضعت في معاجم القافية، ومكانها - على مذهب البصريّين - في الرّباعيّ.
1 ينظر: التّكملة (ضفد) 2/273.
2 ينظر: اللّسان (عندلب) 1/631.