المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: ابن بري في (التنبيه والإيضاح) - تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء المعجم - جـ ٢

[عبد الرزاق بن فراج الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع الباب الثالث

- ‌الفصل الثاني:‌‌ التداخل بين الثلاثي والخماسي

- ‌ التداخل بين الثلاثي والخماسي

- ‌المبحث الأوّل: تداخل الأصلين

- ‌المبحث الثّاني: تداخل ثلاثة أصولٍ

- ‌الفصل الثالث: التداخل بين الرباعي والخماسي

- ‌تمهيد الفصل الثالث

- ‌المبحث الأوّل: ما ثانيه نونٌ

- ‌المبحث الثّاني: ما ليس ثانيه نوناً

- ‌الباب الرابع: أسباب التداخل وأثره في بناء معاجم القافية

- ‌الفصل الأول: أسباب التداخل

- ‌الفصل الثاني: أثر التداخل في بناء معاجم القافية

- ‌(تمهيد) التداخل الذي لا يضر ببناء معاجم القافية

- ‌المبحث الأوّل: وضع الكلمة في غير موضعها

- ‌المبحثُ الثَّاني: وضع الكلمةِ في موضعين أو أكثر

- ‌المبحث الثّالث: تضخيم حجم معاجم القافية

- ‌الباب الخامس: أثر التداخل في النقد المعجمي

- ‌الفصل الأول: النقد المعجمي عن القدامى

- ‌(تمهيد) الفصل الأول

- ‌المبحث الأول: ابن برّي في (التنبيه والإيضاح)

- ‌المَبْحَثُ الثَّانِي: الصَّغَانِيُّ فِي (التَّكْمِلِةِ والذَّيْلِ والصِّلَةِ)

- ‌المبحث الثّالث: الصَّفَديُّ في (نفوذ السَّهمِ)

- ‌المبحث الخامس: داود زَاده في (الدُّرِّ اللَّقِيطِ)

- ‌المبحث السّادس: التَّادِلِيُّ في (الوِشَاحِ)

- ‌النقد المعجمي عند المتأخرين

- ‌تمهيد الفصل الثاني

- ‌المبحث الأوَّل: الشِّدياق في (الجاسوس على القاموس)

- ‌المبحث الثاني: حُسين نصّار في (المعجم العربي)

- ‌المبحث الثالث: آراء نقية أخرى

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: ابن بري في (التنبيه والإيضاح)

‌المبحث الأول: ابن برّي في (التنبيه والإيضاح)

المَبْحَثُ الأَوَّلُ: ابْنُ برِّي فِي (التَنْبِيهِ ولإِيضَاح) :

يُعَدُّ ابْنُ برِّي - وَهُوَ مِن عُلَمَاء القَرْنِ السَادِسِ - مِنْ رُوَادِ النَشَاطِ المُعْجَمِيُ النَّقْدِيِّ؛ إِذْ أَوْلَاهُ عِنَايَةً خَاصَةً، وأَلَّفَ فِيهِ كِتَابَهُ المَعْرُوفَ (التَّنْبِيهَ والإِيضَاحَ عَمَّا وَقَعَ فِي الصِّحَاحَ) وَهُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ العُلَمَاءِ - قَدِيماً وَحَديثاً بـ (حَواشِي ابْنِ برِّي) عَلَى الصِّحَاحِ، وسُمِّيَ بـ (أَمَالِي ابْنِ برِّي) كَمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي مُقَدِّمَةِ (اللِّسَانِ) .1

وَيُعَدُّ (التَنْبِيهُ والإيضَاحُ) مِنَ المُعَاجِمِ القَيِّمَة؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْدٍ، وَمَلْحُوظَاتٍ، واسْتِدْرَاكَاتٍ، ورُدُودٍ، وتَصْوِيبَاتٍ؛ يَرْفَعُ تَدَارُكُهَا مِن قَدْرٍ (الصِّحَاحِ) ويُضَاعِفُ الإِفَادَةَ مِنْهُ. وَقَدْ عَرَفَ العُلَمَاءُ وطَلَبَةُ العِلْمِ - مُنْذُ وَقْتٍ مُبَكِّرٍ - قَدْرَهُ؛ فَتَدَاوَلُوه، وجَعَلَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ أَحَدَ مَصَادِرِهِ الخَمْسَةِ الَّتِي بَنَى عَلَيهَا مُعْجَمَهُ (لِسَانَ العَرَبِ) .

وتَرْجِعُ أَهْمِيَةُ الكِتَابِ لِكَوْنِهِ - أَيْضاً - "مِنْ كُتُبِ اللَّغَةِ القَلَائِلِ الَّتِي تَوَفَّرَ لمُؤَلِّفِيهَا عُمْقُ النَّظْرَةِ، ودِقَّةُ الرُّؤْيَةِ، وكَثْرَةُ المحْفُوظِ، وسَعَةُ الاطِّلَاعِ، إِلَى جَانِبِ العِنَايَةِ الفَائِقَةِ بالنَّحْو والصَّرْفِ"2.

وكَانَ ابْنُ برِّي قَدْ عَلَّقَ هَذِهِ الحَوَاشِي عَلَى طُرَرِ نُسْخَتِهِ مِن مُعْجَمِ (الصِّحَاحِ) للجَوْهَرِيِّ، ثُمَّ أُتِيحَ لَهَا مَن جَرَّدَهَا مَن أَصْلِهَا، وأَفْرَدَهَا؛

1 ينظر: اللّسان 1/7.

2البحث اللغوي عند العرب 242، وفيات الأعيان 3/108.

ص: 883

فَجَاءت فِي سِتَّةِ مُجَلَّدَاتٍ؛ كَمَا قَالَ القِفْطِيُّ 1 وقَدْ رُوعِيَ فِيهَا تَرْتِيبُ أَصْلِهَا. ووَصَلَ إِلَينَا مِن هَذَا الكِتَابِ بَعْضُ النُّسَخِ الخَطِّيَّةِ، تَنْتَهِي جَمِيعُهَا عِنْدَ مَادَةِ (وق ش) مِنْ بَابِ الشِّينِ. وعَلَى هَذِهِ النَّسَخِ حَقَّقَ الأُسْتَاذُ مُصْطَفَى حِجَازِيّ الكِتَابَ، ونَشَرَهُ مَجْمَعُ اللَّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالقَاهِرَةِ سَنَة 1980م.

وقَدْ أَثَارَ ظُهُورُ الكِتَابِ سُؤَالاً؛ وهُوَ: هَلْ أَكْمَلَ ابْنُ برِّي كِتَابَهُ؛ أَوِ انْتَهَى فِيهِ إِلَى مَادَةِ (وق ش) كَمَا جَاءَ فِي النُسَخِ؟

فَثَمَّةَ قَولٌ لَلصَّفْدِيِّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ابْنَ برِّي لَمْ يُكَمِّلْ حَوَاشِيهِ، وأَنَّهَا أُكْمِلَت بَعْدَهُ بِسَنَتَينِ. وقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ السَيُوطِيُّ فِي قَولِهِ:"قَالَ الصَّفْدِيُّ: لَمْ يُكْمِلْهَا، بَلْ وَصَلَ إِلَى (وق ش) وَهُوَ رُبْعُ الكِتَابِ؛ فَأَكْمَلَهَا الشَّيخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ البُّسْطِيُّ"2.

ثُمَّ دَخَلَ طَرَفٌ ثَالِثٌ فِي تَأْلِيفِ الكِتَابِ؛ وَهُوَ ابْنُ القَطَّاعِ؛ شَيْخُ ابْنِ برِّي؛ فَقَدْ ذَكَرَ الحَاجُّ خَلِيفَةُ أَنَّ ابْنَ القَطَّاعِ ابْتَدَأَ هَذِهِ الحَواشِي فَبَنَى ابْنُ برِّي عَلَى مَا كَتَبَ شَيْخُهُ؛ فَوَصَلَ إِلَى مَادَّةِ (وق ش) فَأَكْمَلَهَا بَعْدَهُ البُسْطِيُّ 3.

وانْتَهَى الأُسْتَاذُ حِجَازِيُّ - بَعْدَ طُولِ بَحْثٍ - إِلَى أَنَّ هَذِهُ

1 ينظر: إنباه الرواة2/111.

2 بغية الوعاة 2/34.

3 ينظر: كشف الظّنون 2/107.

ص: 884

الحَوَاشِي هِيَ لابْنِ برِّي وَحْدَهُ، وأَنَّهُ أَتَمَّهَا، وبَلَغَ بِهَا آخِرَ الصِّحَاحِ. ومِن أَهَمِّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ وُجُودُ نُقُولٍ عَنِ ابْنِ برِّي بَعْدَ مَادَّةِ (وق ش) فِي (لِسَانِ العَرَبِ) وَهِيَ مُسْتَمِرَّةٌ إَلَى نِهَايَةِ اللِّسَان، ومَعْزُوَّةٌ لابْنِ برِّي. ودَرَسَهَا المُحَقِّقُ؛ فَوَجَدَهَا مُطَابِقَةً لِمَا قَبْلَ مَادَّةِ (وق ش) فِي أُسْلُوبِهَا، ومَا تُثِيرِهُ مِن مَوْضُوعَاتٍ.

ولَمَّا كَانَ ابْنُ مَنْظُورٍ قَرِيبَ عَهْدٍ بِابْنِ برِّي، وعَاشَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ مِصْرُ؛ فَقَد رَجَّح المُحَقِّقُ أَن يَكُونَ ابْنُ مَنظُورٍ تَوَفَّرَ عَلَى نُسْخَةٍ مِنَ الصِّحَاح عَلَيهَا حَواشِي ابْنِ برِّي، ورُبَّمَا تَوَفَّرَ عَلَى نُسْخَةِ ابْنِ برِّي نَفْسِهَا 1. ويُقَوِّي هَذَا الاحْتِمَالَ قَولُ القِفْطِيّ - فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ برِّي - إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ "بِيعَتْ كُتُبُهُ، وحَضَرَهَا الجَمُّ الغَفِيرُ مِنَ الأَجِلَاّءِ بِمِصْرَ"2 فَغَير بَعِيدٍ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ النُسْخَةُ وَصَلَتْ - فِيمَا بَعْدُ - إِلَى ابْنِ مَنْظُورٍ.

وقَولُ القَفْطِيِّ عَنْ حَوَاشِي ابْنِ بَرِيّ إِنَّهَا نُقِلَت عَن أَصْلِهَا، وأُفْرِدَت فِي سِتَّةِ مُجَلَدَاتٍ يَجْعَلُهَا - بِهَذَا الكَمِّ - مُمَاثِلَةً لِكِتَابِ (التَّكْمِلَةِ) للصّغانيِّ، فَهُوَ فَي سِتَّة مُجَلَّدَاتٍ - أَيضاً - ومفْهُومُ المُجَلَد سَواءٌ؛ لأَنَّ العَصْرَ واحدٌ.

تحْلِيلُ النَّقْدِ المُعْجَمِيِّ عِنْدَ ابْنِ برِّي:

الْتَزَمَ ابْنُ برِّي طَرِيقَةً جَاءَت مُطَّرِدَةً فِي عُرْضِ كِتَابِه، فِي أَغْلَبِ

1 ينظر: التّنبيه والإيضاح 1/9-14 (مقدّمة المحقّق) .

2 انباه الرّواة 2/111.

ص: 885

المَوَادِّ؛ وهِيَ أَن يَخْتَارَ جُزْءاً مِن كَلَامِ الجَوْهَرِيِّ؛ فَيَتَنَاوَلُهُ بالنَقْدِ، أَوِ التَعْلِيقِ، أَوِ الاسْتِدْرَاكِ، أَوِ الشَّرْحِ.

ومِنَ المُمْكِنِ إِيجَازُ العَنَاصِرِ النَّقْدِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِيمَا يَلي:

نَقْدُ تَدَاخُلِ الأُصُولِ.

نَقْدُ الأَحْكَامِ الصَّرْفِيَّةِ أَوِ النَّحْوِيَّةِ.

نَقْدُ الأُسْلُوبِ.

التَّنْبِيهُ عَلَى التَّصْحِيفِ أّوِ التَّحْريفِ.

التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ المَوَادِّ أَوِ الكَلِمَاتِ.

ضَبْطُ بَعْضِ الكَلِمَاتِ، أَو تَصْحِيحُ ضَبْطِهَا.

ويَعْنِينَا - هُنَا - العُنْصُرُ الأَوَّلُ، وهُوَ تَدَاخُلُ الأُصُولِ، فَقَدْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ بَارِزٌ فِي كِتَابِ ابْنِ برِّي إِذِ اجْتَذَبَتِ الأُصُولُ قَدْراً صَالِحاً مِنِ اهْتِمَامِهِ النَّقْدِيِّ، نُطَالِعُهُ بَيْنَ الفَيْنَةِ والفَيْنَةِ فِي الكِتَابِ، وقَدْ حَاوَلْتُ جَمْعَ تِلْكَ المَوَاضِعِ مِنَ الجُزْءينِ المَطْبُوعَيْنِ مِنَ الكِتَابِ، واسْتَكْمَلْتُهَا مِمَّا جَاءَ مَعْزُوا ً لابْنِ برِّي بَعْدَ مَادَّةِ (وق ش) فِي (اللِّسَانِ) فَبَلَغَتِ المَوَاضِعُ النَقْدِيَّةُ نَحْوَ سَبْعِين مَوْضِعاً1.

1 ينظر: التنبيه والإيضاح (أبأ) 1/3، (بثأ) 1/6، (جأجأ) 1/8، (حبطأ) 1/11، (ختأ) 1/13، (ظمأ) 1/23، (فيأ) 1/25، (ورأ) 1/34، (ترب) 1/45، (تلب) 1/45، (حوت) 1/70، (أست) 1/155، (دجج) 1/204، (دحح) 1/233، (قلح) 1/264، (يوح) 1/280، (أسد) 2/6، (ددد) 2/12، (عدد) 2/38، (ميد) 2/56، (لذذ) 2/72، (صرر) 2/147، (قسر) 2/188، (زيز) 2/243. واللسان (صيص) 7/52، (قضض) 7/223، (أرط) 7/255، (فلسط) 7/373، (نبع) 8/347، (أشف) 9/6، (نوف) 9/343، (أرق) 10/5، (حدق) 10/40، (روق) 10/135، (ريق) 10/136، (نيق) 10/351، (زنك) 10/437، (عكك) 10/469، (ملك) 10/496، (جعل) 11/156، (ندل) 11/655، (وأل) 11/717، (يلم) 12/647، (أفن) 13/20، (برن) 13/50، (برزن) 13/51، (بلهن) 13/58، (دبن) 13/147، (رفن) 13/184، (زون) 13/201، (سطن) 13/208، (شرن) 13/235، (صفن) 13/249، (هأن) 13/340، (كون) 13/365، (لهن) 13/393، (مأن) 13/398، (هأن) 13/430، (لوء) 13/539، (أشأ) 14/37، (بذو) 14/69، (جبي) 14/129، (خما) 14/243، (درحى) 14/256، (طآ) 15/3، (هنا) 15/367.

ص: 886

َيْدَ أَنَّ ابْنِ برِّي لَم يَسْتَوْعِبْ فِي كِتَابِهِ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَجّهَ إلَى (الصِّحَاحِ) مِنْ نَقْدٍ فِي الأُصُولِ؛ فَقَد وَجَّهَ الصَّغَانِيُّ فِي (التَكْمِلَةِ) والفَيْرُوزَابَادِيُّ في (القَامُوسِ) - وغَيْرُهُمَا - مَلْحُوظَاتٍ عَلَى (الصِّحَاحِ) فِي الأُصُولِ لَم يَتَعَرَضْ لَهَا ابْنُ برِّي، وهُوَ أمْرٌ طَبَعِيٌّ فِي كِتَابٍ يُعَدُّ مِن بَوَاكِيرِ النَّقْدِ المُعْجَمِيِّ. ويُمْكِنُ الكَلَامُ عَلَى نَقَدَاتِ ابْنِ برِّي مِن خِلَالِ نِقَاطٍ ثَلاثَةٍ؛ كَمَا يَلِي:

أ- التَوْزِيعُ الإِحْصَائِيُّ للنُّقَدَاتِ:

اسْتَأُثَرَ التَدَاخُلُ فِي البِنَاءِ الوَاحِدِ باهْتِمِامِ ابْنِ برِّي؛ وقَد انحَصَرَ فِي التَّدَاخُلِ بَيْنَ الثُلَاثُيِّ والثُلَاثُيِّ؛ فَجَاءَ فِي ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ مَوْضَعاً؛ وَهُوَ يَعْدلُ مَا نِسْبَتُهُ82.85% مِن جُمْلَةِ المَوَاضِعِ النَّقْدِيَّةِ عِنْدَهُ. ولَم يتَعَرَضِ ابْنُ برِّي فِي كِتَابِهِ للتَّدَاخُلِ بَيْنَ الرُّبَاعِيِّ والرُّبَاعِيِّ، أو الخُمَاسِيِّ

ص: 887

ييعدل ما نسبته 82،85 % من جملة المواضع النقدية عنده. ولم يتعرض ابن بري في كتابه للتداخل بين الرباعي أو الخُمَاسِيِّ، وتَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ فِي قِلَّةِ الأَصْلَينِ، وَفِي قِلَّةِ التَّدَاخُلِ فِيهِمَا، وَلا سِيَّمَا الخُمَاسِيِّ والخُمَاسِيِّ، وعَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي البَابِ الثَانِي1.

أمَّا التَّدَاخُلُ بَيْنَ بِنَاءينِ فَلَم يَسْتَأْثرْ باهتَمَامِ ابْنِ برِّي، وانحَصَرَ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي التَّدَاخُلِ بَيْنَ الثُلَاثِيِّ والرُّبَاعِيِّ، وجَاءَ فِي اثْنَي عَشَرَ مَوْضِعاً؛ مَا يَعْدلُ 17.14% مِمَّا فِي الكِتَابِ مِن تَدَاخُلٍ، وَهِيَ نِسْبَةٌ قَلِيلَةٌ. وهَذَا يَعْنِي أَنَّ ابْنَ برِّي قَد أَهْمَلَ التَّدَاخُلَ بَيْنَ الثُلَاثِيِّ والخُمَاسِيِّ، وكَذَلِكَ تَدَاخُل الرُّبَاعِيِّ والخُمَاسِيِّ. وقَدْ تَنَوَّعَتْ مَلْحُوظَاتُهُ فِي تَدَاخُلِ الثُلَاثيِّ والثُلَاثِيِّ؛ فَشَمِلَتْ تَدَاخُلَ الصَّحِيحِ والمُعْتَلِّ، والمَهْمُوزِ والمُعْتَلِّ، والصَّحِيحِ والصَّحِيحِ، والمُعْتَلِّ والمُعْتَلِّ؛ ولَعَلَّ وَرَاءَ ذَلَكَ كَثْرَةَ التَّدَاخُلِ فِي هَذِهِ الأَنْوَاعِ الأَرْبَعَةِ.

ب- مَنْهَجُ ابْنِ برِّي فِي النَّقْد:

الْتَزَمَ ابْنُ برِّي بِمَنْهَجِ القَافِيَةِ فِي التَّرتِيبِ، وقَد غَلَبَ - عَلَى طريقَتِهِ - نِظَامُ التَّحْشِيَةِ؛ الَّذِي شَاعَ فِيمَا بَعْدُ؛ وَهُوَ أَن يَنْتَقِي نَصّاً مُعَيَّناً مِن كَلَامِ الجَوْهَرِيِّ فِي مَادَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَيُعَلِّق عَلَيهِ. بِمَا يَجُودُ بِهِ عِلْمُهُ؛ وهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ المَوَادِّ الَّتِي لَم يَدْخُلْهَا النَّقْدُ.

وكَانَ يُرَوِاحُ - فِي طَرِيقَتِهِ فِي الاسْتِدْلال - بَيْنَ إصْدَارِ الأَحْكَامِ المُطْلَقَةِ غَيْرِ المُعَلَّلَةِ، والأَحْكَامِ المُعَلَّلَةِ؛ الَّتِي كَانَ يَسْتَدِلُّ فِيهَا بالأَدِلَّة

1 ينظر: ص (543) من هذا البحث.

ص: 888

الصَّرْفِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ، ويَسْتَأْنِسُ بِأَقْوَالِ العُلَمَاءِ، ويَسْتَعِينُ بِالشَّوَاهِدِ.

فَمِن أَحْكَامِهِ المُطْلَقَةِ قَوْلُهُ مُنتَقِداً الجَوْهَرِيَّ: "وأَهْمَلَ - أَيْضاً مِنْ هَذَا البَابِ - بَثَأَ. وَبَثَاءُ: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ، وأَنْشَدَ المُفَضَّلُ:

بِنَفْسِي مَاءُ عَبْشَمْسِ بنُ سَعُدٍ غَدَاةُ بَثَاءَ إِذْ عَرَفُوا اليَقِيْنَا

وقَدْ ذَكَرَهُ الجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ البَاءِ مِنَ المُعْتَلِّ؛ وهَذَا مَوْضِعُهُ" 1.

وقَوْلُهُ مُعْتَرِضاً عَلَى وَزْنِ (عَكَوَّكٍ) عِنْدَ الجَوْهَرِيِّ 2: عَكَوَّكٌ: فَعَوَّلٌ، ولَيْسَ (فَعَلَّعَ) كَمَا ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ 3.

أَمَا الطَرِيقَةُ الثَانِيَةُ فَإِنَّهَا كَادَتْ تَكُونُ لَهَا الغَلَبَةُ فِي كِتَابَةِ؛ إِذْ نَجِدُهُ يُصْدِرُ الأَحْكَامَ النَّقْدِيَّةُ مُعَلَّلَةً؛ لإِقْنَاعِ قَارِئِهِ، وكَانَ يَخْتَارُ لِكُلِّ مَوْضَعٍ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الأَدِلَّةِ والتَّعْلِيلَاتِ الصَّرْفِيةِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ - فِي أَكْثَرِ نَقْدَاتِهِ - إِلَى الاخْتِصَارِ؛ كَقَوْلِهِ مُسْتَدِلاً بِخَصَائِصِ بَعْضِ الحُرُوفِ فِي الزِّيَادَةِ "دِرْحَايَةٌ يَنْبَغِي أَن يَكُونَ فِي الحَاءِ وفَصْلِ الدَّالِ واليَاءُ آخِرَهُ زَائِدَهٌ؛ لأَنَّ اليَاءَ لا تَكُونُ أَصْلاً فِي بَنَاتِ الأَرْبَعَة"4.

وَقَوْلُهُ مُنْتَقِداً الجَوْهَرِيَّ لِجَعْلِهِ (الحَوْأَبَ) فِي (ح وب) 5:

1 التنبيه والإيضاح (بثأ) 1/6. وفيه (ما عَبُشَّمس) وهو تحريف. وينظر: اللّسان (بثأ) 1/26.

2 ينظر: الصِّحاح (عكك) 4/1601.

3 اللّسان (علك) 10/469.

4 اللّسان (درحى) 14/256.

5 ينظر: الصّحاح 1/117.

ص: 889

"كَان حَقُّهُ أَنْ يَذْكُرَ الحَوْأَبَ فِي فَصْلِ (ح أب) لأَنَّ الوَاوَ فِيهِ زَائِدَةٌ؛ وَلأَنَّ الهَمْزَةَ لا تُزَادُ وَسَطاً؛ إِلَاّ فِي أَلْفَاظٍ مَعْدُودَةٍ؛ فَوَزْنُهُ - إِذَن (فَوْعَل) لا (فَعْأَل) كَمَا ظَنَّهُ الجَوْهَرِيُّ"1.

وَكَانَ ابْنُ برِّي - يَسْتَعِينُ - فِي تَعْلِيلَاتِهِ - بِالإِعْرَابِ بالحُرُوفِ، وبِعَدَمِ النَّظِيرِ، كَقَوْلِهِ مُنْتَقِداً الجَوْهَرِيِّ لِذِكْرِهِ (يَبْرِين) فِي (ب ر ن) 2: حَقُّ يَبْرِينَ أَن يَذْكُرَ فِي فَصْلِ (ب ر ي) مِن بِابِ المُعْتَلِّ؛ لأَنَّ يَبْرِينَ مِثْلُ يَرْمِينَ

والدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُم: يَبْرُونَ؛ فِي الرَّفْعِ، ويَبْرِينَ فِي النَّصْبِ والجَرِّ؛ وهَذَا قَاطِعٌ بِزَيَادَةِ النُّونِ

ولا يَجُوزُ أَن يَكُونَ يَبْرِينَ فَعْلِينَ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لَهُ نَظِيرٌ؛ وإِنَّمَا فِي الكَلَامِ فِعْلِين؛ مِثْلُ غِسْلِين) 3.

وقَدْ يَسْتَعِينُ بِالجَمْعِ والتَّصْغِيرِ؛ كَقَولِهِ مُنْتَقِداً الجَوهَرِيِّ4 لِجَعْلِهِ (الأسْطُوَانَة) عَلَى زِنَةِ (أُفْعُوَالَةِ) مِثْل: أُقْحُوَانَةٍ: "وَزْنُهَا (أُفْعُلانة) ولَيْسَتْ (أُفْعُوَالَة) كَمَا ذكر؛ يَدُلُّكَ عَلَى زِيَادَةِ النُّونِ قَولُهُم فِي الجَمْعِ: أَقَاحِي وأَقَاحٍ، وقَوْلهُهُم فِي التَّصْغِيرِ أُقَيْحِيَة

وأَمَّا أُسْطُوَانَةٌ فَالصَّحِيحُ فِي وَزْنِهَا: (فُعْلُوَانَة) لِقَوْلِهِمْ فِي التَّكْسِيرِ: أَسَاطِين، كَسَرَاحِين، وفِي التَّصْغِيرِ

1 التنبيه والإيضاح (حوب) 1/70.

2 الصِّحاح 5/2078.

3 اللّسان (برن) 13/50.

4 ينظر: الصِّحاح (سطن) 5/2135.

ص: 890

أُسَيطِينَةٌ كَسُرَيحِين"1.

وقَدْ يَسْتَعِينُ بِالحَمْلِ عَلَى التَّوَهُّمِ؛ كَقَوْلِهِ فِي: أُسْطُوَانَةٍ - أَيْضاً - "وَلَا يَجُوزُ أَن يَكَوَ وَزْنُهَا أُقْعُوَالَة؛ لِقِلَّةِ هَذَا الوَزْنِ، وَعَدَمِ نَظِيرِهِ، فَأَمَّا مُسَطّنَنةٌ ومُسَطّنٌ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ تَشَيْطَنَ، فَهُوَ مُتَشَيْطِنٌ، فِيمَن زَعَمَ أَنَّهُ مِن شَاطَ يُشِيطُ؛ لأَنَّ العَرَبَ قَدْ تُشْتَقُّ مِنَ الكَلِمَةِ وتُبْقِي زَوَائِدَهَا، كَقَولِهِم: تَمَسْكَنَ وتَمَدْرَعَ"2

ورُبَّمَا خَرَجَ ابْنُ برِّي - فِي بَعْضِ تَوْجِيهَاتِهِ إِلِى مَذْهَبِ ابْنِ فَارِسٍ فِي النَّحْتِ، ويَظْهَرُ ذَلِكَ بِوُضُوحٍ فِي انتِقَادِهِ الجَوهَرِيَّ لِجَعْلِهِ (القِلْحَمَّ) وَهُوَ المُسِنُّ - فِي الثُّلَاثِيِّ (ق ل ح) عَلَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجِرْدَحْلٍ بِزِيَادَةِ المِيمِ فِي آخِرِهِ، قَالَ:"صَوَابُ قِلْحَمٍّ أن يُذْكَرَ فِي فَصْلِ (ق ل ح) لأَنَّ فِي آخِرِهِ مِيمَينِ؛ إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةٌ، والأُخْرَى زَائِدَةٌ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ للمُسِنِّ: قَحْمٌ؛ فَالمِيمُ الأَخِيرَةُ فِي: قِلْحَمٍّ زَائِدَةٌ لِلإلْحَاقِ، كَمَا كَانَتِ البَاءُ الثَّانِيَةُ فِي: جَلْبَبَ زَائِدَةً للإِلْحَاقِ بِدَحْرَجَ. وإِنِّمَا أُتِيَ باللَاّمِ فِي قِلْحَمٍّ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ قَحْلٌ قَحْمٌ؛ فَرُكِّبَ اللَّفْظُ مِنْهَمَا"3

وقَدْ صَرَّحَ ابْنُ برِّي بِمَصَادِرِهِ فِي النَّقْدِ المُعْجَمِيِّ، الَّتِي تُعَدُّ نَوَاةَ ذَلِكَ النَّقْدِ، إذْ كَانَ يَسْتَأْنِسُ بأَقْوَالِ العُلَمَاءِ وآرَائِهِم؛ ومِن أَبْرَزِهِم

1 ينظر: الصّحاح (سطن) 13/208.

2 ينظر: الصحاح (سطن) 13/208.

3 التنبيه والإيضاح (قلح) 1/264.

ص: 891

سِيْبَوَيْهِ1 والمُبَرِّدُ2 والزَّجَّاجُ3 وأبُو الطِّيِّبِ اللُّغَوِيُّ4 وأبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ5 وأَبُو بَكْرٍ الزُّبَيْدِيِّ 6.

وكَانَ ابْنُ برِّي يَسْتَعِينُ فِي نَقْدِهِ الأُصُولِ عِنْدَ الحَاجَةِ بالشَوَاهِدِ المُخْتَلِفَةِ؛ بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَلِيلاً، وجُلُّهُ مِنَ الشِّعْرِ.7 وتَخَطَّى ابْنُ برِّي فِي شَوَاهِدِهِ عُصُورَ الاحْتِجَاجِ، واسْتَدَلَّ بِشِعْرِ المُوَلِّدِينَ؛ كَأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، والمَعَرِّي؛ فَقَدْ رَدَّ عَلَى الجَوْهَرِيِّ؛ لِقَوْلِهِ فِي (ظ م أ) إِنَّهُم يَقُولُونَ للفَرَسِ: إِنَّ فُصُوصَهُ لَظِمَاء؛ أيْ لِيْسَت بِرَهْلَةٍ كَثِيرَةِ اللّحَمِ 8 فَقَالَ ابْنُ بَرِّي مُسْتَدِلاًّ بِشِعْرٍ لأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي: "ظِمَاءٌ - هَا هُنَا - مِن بَابِ المُعْتَلِّ اللَاّمِ، ولَيْسَ مِنَ المَهْمُوزِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِم: سَاقٌ ظَمْيَاءُ؛ أَيْ قَلِيلَةُ اللَّحْمِ، وعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي:

فِي سَرْجِ ظَامِيَةِ الفُصُوصِ طِمِرَّةٍ

يَأبَى تَفَرُّدُهَا لَهَا التَّمْثِيْلا 9

1 ينظر: التنبيه والإيضاح (درأ) 1/34.

2 ينظر: اللّسان (برن) 13/50.

3 ينظر: اللسان (أفن) 13/203.

4 ينظر: التنبيه والإيضاح (طمأ) 1/23.

5 ينظر: التنبيه والإيضاح (يوح) 1/280.

6 ينظر: التنبيه والإيضاح (زنك) 10/437.

7 ينظر: التنبيه والإيضاح (بثأ) 1/6، واللسان (زون) 13/201، و (شرف) 13/235، و (لهن) 13/393، و (درحى) 14/256، و (طآ) 15/3.

8 الصِّحاح 1/61.

9 ينظر: ديوان المتنبي 3/241، وفيه ((ظامئة)) بالهمز.

ص: 892

وكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ يَقُولُ: إِنَّمَا قُلْتُ: ظَامِيَةٌ - بِاليَاء - مِن غَيْرِ هَمْزٍ؛ لأَنِّي أَرَدْتُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرَهْلَةٍ كَثِيرةِ اللَّحْمِ".1

أَمَا أسْلُوبُ ابْنِ بَرِّي فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى الجَوْهَرِيِّ فَكَانَ يَمِيلُ فِيهِ إِلَى العِبَارَاتِ الرَّقِيقَةِ الدَّقِيقَة؛ كَقَولِهِ: هَذَا سَهْوٌ،2 أو: لَيْسَ مِن هَذَا البَابِ،3 أو: يَنبَغِي أَن تُذْكَرَ فِي كَذَا،4 أَوْ حَقَّهُ أَن يُذْكَرَ فِي بَابِ كَذَا5. وقَدْ كَانَ الزُّبَيدِيُّ يَمْتَدِحُ أُسْلُوبَ ابْنِ بَرِّي فِي نَقْدِهِ فِي مُقَابِلِ أُسْلُوبِ الفَيرُوزَابَادِيِّ.

ج- نَقَدَاتُهُ فِي المِيزَانِ:

غَلَبَ الإنصَافُ عَلَى ابْنِ بَرِّي فِي انتقَادِهِ الجَوهَرِيَّ فِي التَدَاخُلِ؛ وتَمَثَّلَ ذَلَكَ فِي دِقَّتِهِ فِي اخْتِيَارِ مَوَاضَعِ النَّقْدِ، وحِرْصِهِ عَلَى تَجَنُّبِ تَخْطِئَته بِغَيرِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ؛ وقَدْ كَانَ هَذَا دَأْبَهُ فِي جُلِّ اعْتِراضَاتِهِ.

وأَسُوقُ فِيمَا يَلِي مِثَالَينِ لِذَلِكَ:

1-

ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ فِي مَادَة (أس ت) قَوْلَهُمْ: مَا زَالَ عَلَى اسْتِ الدَّهْرِ مَجْنُوناً؛ أَيْ: لَمْ يَزِلْ يُعْرَفُ بالجُنُونِ؛ وعَلَيهِ قُوْلُ الشَاعِرِ:

1 التنبيه والإيضاح (ظمأ) 1/23.

2 ينظر: التنبيه والإيضاح (فيأ) 1/25، واللسان (كون) 13/365.

3 ينظر: اللّسان (طآ) 15/3.

4 ينظر: اللسان (درحى) 14/256.

5 اللسان (جبى) 14/129.

ص: 893

مَا زَالَ مُذْ كَانَ عَلَى اسْتِ الدَّهْرِ

ذَا حُمُقٍ يَنْمِي وعَقْلٍ يَحْرِي 1

فَقَالَ ابْنُ برِّي فِي نَقْدِهِ: "قَدْ وَهِمَ فِي هَذَا الفَصْلِ - بِأَن جَعَلَ اسْتاً فِي فَصْلِ (أس ت) وإِنَّمَا حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ فِي (س ت ?) وقَدْ ذَكَرَهُ - أيْضاً - فِي ذَلِكَ المَوْضِعِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحِ؛ لأَنَّ هَمْزَةَ اسْتٍ مَوْصُولَةٌ بِإِجْمَاعٍ؛ وإذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً فَهِيَ زَائِدَةٌ".2 ومَا ذَكَرهُ ابْنُ برِّي هُوَ الصَحِيحِ فِي أَصْلِ هِذِهِ الكَلْمَةِ.

2-

ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ فِي النُّونِ (لَهِنَّكَ) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِندَ التَّوْكِيدِ3 فَقَالَ ابْنُ برِّي فِي نقْدِهِ: "ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ لَهِنَّكَ فِي فَصْلِ (ل ? ن) ولَيْسَ مِنْهُ؛ لأَنَّ اللَاّمَ ليْسَتْ بأَصْلِ؛ وإِنَّمَا هِيَ لَامُ الابْتِدَاءِ؛ والهَاءُ بَدَلٌ مِن هَمْزَةِ إِنَّ، وإِنَّمَا ذَكَرَهُ - هُنَا - لمَجِيئِهِ عَلَى مِثَالِهِ فِي اللَّفْظِ".4

ومِن آيَاتِ الإِنْصَافِ عِندَ ابْنِ برِّي أَنَّهُ يَنْتَقِدُ الجَوْهَرِيَّ، ثُمَّ يَغْلِبُ عَلَيهِ إِحْسَانُ الظَّنِّ بِهِ؛ فَيَبْحَثُ لَهُ عَن مَخْرَجٍ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيهِ، ويَدْفَعُ عَنْهُ الوَهْمَ؛ فَلَا يَتَرَدَّدُ فِي ذِكْرِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَنقُضُ مَا بَدَأَ بِهِ مِن نَقْدٍ؛ كَاعْتِرَاضِهِ عَلَى الجَوْهَرِيِّ لِجَعْلِهِ قَوْلَهُم: امْرَأْةٌ جَبْأَى؛ أَيْ: قَائِمَةُ الثَّدْيينِ

1 ينظر: الصِّحاح 1/341، ويقال: الحُمْق والحُمْق؛ وهو قلّة العقل، وينظر اللّسان (حمق) 10/67.

2 التنبيه والإيضاح (أست) 1/155.

3 ينظر: الصِّحَاحِ (لهن) 6/2197.

4 اللّسان (لن) 13/393.

ص: 894

- فِي مَادَّةِ (ج ب ي) 1 فَانْتَقَدَهُ ابْنُ برِّي بِأَنَّ (جَبْأَى) بِهَذَا المَعْنَى لَيْسَت مِن (الجَبَا) المُعْتَلِّ اللَاّمِ؛ وإِنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِن قَوْلِهِم جَبَأَ عَلَينَا فُلَانٌ؛ أَيْ: طَلَعَ؛ فَحَقُّهُ أَن يَذْكَرَ فِي مَادَّةِ (ج ب أ) مِن بَابِ الهَمْزَةِ.

ولَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ ثَمَّةَ وَجْهاً فِي العَرَبِيَّةِ لِصَنيعِ الجَوْهَرِيِّ؛ لَم يَتَرَدَّدْ فِي حَمْلِهِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ: "وكَأَنَّ الجَوْهَرِيَّ يَرَى الجَبَا التُّرَابَ؛ أَصْلُهُ الهَمْزُ؛ فَتَرَكَتِ العَرَبُ هَمْزَهُ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ جَبْأى مَعَ: الجَبَا؛ فَيَكُونُ الجَبَا مَا حَوْلَ البِئْرِ مِن التُّرَابِ؛ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِم: الجَبْأَةُ مَا حَوْلَ السُّرَّةِ مِن كُلِّ دَابَّةٍ"2

ومِثْلُ هَذَا اعْتِرَاضُهُ عَلَى الجَوْهَرِيِّ لإِيْرَادِهِ فِي مَادَّةِ (ط أو) قَوْلَهُم: "مَا بِالدَّارِ طُوْئِيٌ؛ مِثَالُ طُوعِيٍّ؛ أَيْ: أَحَدٌ"3 بِأَنَّه لَيْسَ مِن هَذِهِ المَادَّةِ؛ بَلْ مِن مَادَّةِ (ط وأ) من بَابِ الهَمْزَة.

ولَكِنَّهُ لَم يَلْبَثْ أن أوْجَدَ للجَوْهَرِيِّ سَبِيلاً يَجَعْلُ صَنِيعَهُ مَقْبُولاً؛ حَمْلاً عَلَى القَلْبِ؛ بِأَن يَكُونَ (طُؤْوِيّاً) بِتَقْدِيمِ الهمْزَة عَلَى الواو؛ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ؛ خِلَافاً للكِلَابِيِّينَ؛ الذِين يَقُولُون: طُوْئِيٌّ.4

وقَدْ أدَّى وَلَعُ ابْنِ برِّي بِنَقْدِ الأُصُولِ إِلَى شَيءٍ مِنَ التَّحَامُلِ عَلَى الجَوْهَرِيِّ - أَيْضاً - وتَخْطِئَتِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ وَجْهٌ قَوِيٌ؛ كانتِقَادِهِ وَضْعَهُ

1 ينظر: الصِّحَاحِ 6/2297.

2 اللّسان (جبى) 14/129.

3 الصِّحاح 6/2411.

4 ينظر: اللّسان (طآ) 15/3.

ص: 895

كَلِمَةَ (الخامِي) بِمَعْنَى الخَامِسِ فِي مَادَّةِ (خ م س) 1 فَقَالَ ابْنُ برِّي: "هَذَا يَنْبَغِي أن يُذْكَرَ فِي فَصْلِ خ م و"2

والحَقًُّ أَنَّ مَذْهَبَ الجَوْهَرِيِّ فِي هَذِهِ الكَلِمَةِ هُوَ الأَقْوَى؛ لأَنَّ اليَاءَ مُبْدَلَةٌ مِنَ السِّينِ.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: "جَاءَ فُلَانٌ خَامِساً وخَامِياً، وجَاءَ فُلَانٌ سَادِساً وسَادِياً وسَاتاً

فَمَن قَالَ: سَادِسٌ بَنَاهُ عَلَى السُّدْسِ، ومَن قَالَ: سَاتّاً بَنَاهُ عَلَى سِتَّةٍ وستٍّ، والأََصْلُ سِدْسَةٌ؛ فَأَدْغِمَتِ الدَّالُ فِي السِّينِ؛ فَصَارَتْ تَاءً مُشَدَّدَةً. وَمَنْ قَالَ سَادِياً وخَامِياً أَبْدَلَ مِنَ السِّينِ ياءً"3 وعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَوْضِعَ (الخَامِي) مَادَّةُ (خ م س) كَمَا فَعَلَ الجَوْهَرِيُّ.

ومِمَا كَانَ للجَوْهَرِيِّ فِيهِ وَجْهٌ قَوِيٌّ إيْرَادُهُ (الفِئَةَ) فِي مَادَّةِ (ف ي أ) .

قَالَ: "الفِئَةُ مِثَالُ الفِعَة: الطَائَفَةُ؛ والهَاءُ عِوَصٌ مِنَ اليَاءِ؛ التِّي نُقِصَت مِن وَسَطِهِ؛ أَصْلُهُ: فَيْءٌ، مِثَالُ فِيْعٍ؛ لأَنَّهُ مِن فَاءَ"4 فاعْتَرَضَ عَلَيهِ ابْنُ برِّي قَائلاً: "هَذَا سَهْوٌ؛ وأَصْلُهُ: فِئْوٌ؛ مِثْلُ: فِعْوٍ؛ فَالهَمْزَةُ هِيَ عَيْنٌ، لَا لَام، والمَحْذُوفُ هُوَ لَامُهَا، وَهُوَ الوَاوُ؛ وَهِيَ مِن فَأَوْتُ؛ أَيْ: فَرّقْتُ؛ لأَنَّ الفِئَةَ

1 ينظر: الصِّحاح 3/924.

2 اللّسان (خما) 14/244.

3 إصلاح المنطق 301.

4 الصِّحاح 1/63.

ص: 896

كالفِرْقَةِ؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لَا مَا ذَكَرَهُ".1

والحَقُّ أَنَّ بَيْنَ عُلَمَاءِ العَرَبِيَّةِ فِي أَصْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ خِلَافاً؛ فِفي أَصْلِهاَ مَذْهَبَانِ:

أَحْدُهُمَا: مُوَافِقٌ لمَا اعْتَرَضَ بِهِ ابْنُ برِّي؛ أيْ: أَنَّ المَحْذُوفَ مِنهَا اللَاّمُ لَا العَيْنُ؛ فَيَكُونُ أَصْلُهَا (ف أو) ووَزْنُهَا (فِعَة) وعَلَيهِ الخَلِيلُ؛ فَهِيَ عِندَهُ مِن: فَأَوْتُ رَأْسَهُ بالسَّيْفِ فَأْواً، وفَأَيْتُهُ فَأْياً؛ وَهُوَ ضَرْبُك قِحْفَهُ؛2حَتَّى يَنفَرِجَ عَنِ الدِّمَاغِ.3

ويَرَى الأَزْهَرِيُّ أَنَّهَا فِي الأَصْلِ: فِئْوَةٌ، عَلَى (فِعْلَة) فَنُقِضَ مِنهَا بِالحَذْفِ.4 وعَلِيهِ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهَم: الزَّجَاجُ،5 وأَبُو عَلِيِّ الفَارِسِيُّ،6 وابْنُ جِنِّي.7

والآخَرُ: مُوَافِقٌ لمَا ذَهَبَ إِلَيهِ الجَوْهَرِيُّ؛ وَهُوَ أَنَّ المَحْذُوفَ فِي (الفِئَةَ) العَيْنُ، ووَزْنُهَا - حِينَئِذٍ - (فِلَة) وشْتِقَاقُهَا مِن: الفَيْءِ، وَهُوَ: الرُّجُوعُ؛ ولِذَا قَالَ العُكْبَرِيُّ: "وَأَصْلُ فِئَةِ: فَيْئَةٌ؛ لأنَّهُ مِن فَاءَ يَفِيْءُ إِذَا

1 التنبيه والإيضاح 1/25.

2 القِحْفُ: العظم الَّذي فوق الدماغ. وينظر: اللّسان (قحف) 9/275.

3 ينظر: العين 8/407.

4 ينظر: التَّهذيب 15/580.

5 ينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/332.

6 ينظر: التكملة 163.

7 ينظر: الخصائص 2/296.

ص: 897

رَجَعَ؛ فَالمَحْذُوفُ عَيْنُهَا".1

وذَكَرَهَا الرَّاغِبُ فِي مَادَّةِ (ف ي أ) وذَكَرَ أَنَّ الفِئَةَ: الجَمَاعَةُ المُتَظَاهِرَةُ؛ الَّتي يَرْجعُ بعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي التَّعَاضُدِ.2

ولَمْ يَبْتَعِدْ ابْنُ عَطِيَّةَ عَن هَذَا الرَّأْيِ؛ فالفِئََةُ عِنْدَهُ: الجَمَاعَةُ؛ الَّتي يُرْجَعُ إلَيهَا فِي الشَّدَائِدِ، مِن قَولِهِم: فَاءَ يَفِيْءُ؛ إِذَا رَجَعَ30

ومِمَن أَخَذَ بِهَذَا الرَّأْيِ: المُنْتَجَبُ الهَمْدَانِيُّ، 4 والفَيُّومِيُّ،5 والفَيْرُوزَابَادِيُّ،6 وابْنُ الطَّيِّبِ الفَاسِيُّ،7 وقَد حَكَى السَّمينُ الحَلَبِيُّ القَولَينِ، وذَكَرَ أَنَّ وَزْنَهَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ (فِعَة) كَمِئَةٍ؛ إلاّ أنَّ لَامَ مِئَةٍ يَاءٌ، ولَامَ فِِئَةٍ وَاوٌ، وذَكَرَ أنَّ مَعْنَاهَا يَصِحُّ عَلَى الاشْتِقَاقَينِ؛ فَإِنَّ الجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ يَرْجعُ بَعْضُهُم إِلَى بَعْضٍ؛ وَهُم - أَيْضاً - قِطْعَةٌ مِنَ النَّاسِ؛ كَقِطَعِ الرَّأْسِ المُكَسَّرَةِ.

ومِنْ جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ نَسْتَطِيعُ القَوْلَ بِأَنَّ الجَوْهَرِيَّ لَم يُخْطِئْ، وإِنَّمَا أَخَذَ بِأَحَدِ الرَّأْيَيْنِ المُتَسَاوِيَينِ؛ بَيْنَمَا أَخَذَ ابْنُ برِّي بالآخَر، وبَنَى عَلَيهِ نَقْدَهُ.

1 التبيان 1/200.

2 ينظر: المفردات 650.

3 ينظر: المحرر الوجيز2/265.

4 ينظر: الفوائد في إعراب القرآن المجيد 1/491.

5 ينطر: المصباح 486.

6 ينظر: القاموس (فيأ)61.

7 ينظر: التَّاج (فيأ) 1/99.

ص: 898