الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من صَفْوة قومه ورؤسائهم، فتعجل موسى موعد ربه، وذهب دون قومه، فقال له:{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} [طه: 83] أي: أسرعتَ وتعجَّلْتَ وجِئْتَ بدونهم.
فقال موسى عليه السلام: {قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي
…
}
أي: قادمين خلفي وسيتبعونني، أما أنا فقد {عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه:
84]
تعجَّلْتُ في المثول بين يديك لترضى.
وقد تعجَّل موسى إلى ميقات ربه، وسبق قومه لحكمة، فالإنسان حين يأمر غيره بأمر فيه مشقّة على النفس وتقييد لشهواتها، لا بُدَّ أن يبدأ بنفسه يقول: أنا لست بنجْوَةٍ عن هذا الأمر، بل أنا أول مَنْ أُنفِّذ ما آمركم به، وسوف أسبقكم إليه.
لذلك يقول القائد الفاتح طارق بن زياد لجنوده: «واعلموا أني إذا التقى الفريقان مُقبِل بنفسي على طاغية القوم لزريق فقاتله إن شاء الله، فإن قتلته فقد كُفيتم أمره» وهكذا تكون القيادة قدوة ومثَلاً كما يقولون في الأمثال (اعمل كذا وإيدي في إيدك) وهنا يقول: يدي قبل يدك.
فموسى عليه السلام يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] ترضى أن منهجك يُطبِّق من جهتي كرسول مؤتمن عليه، ومن جهة قومي؛ لأنهم حين يروني قد تعجلت للقائك في الموعد يعلمون
أن في ذلك خيراً لهم، وإلا ما سبقتهم إليه. وبذلك يسود منهج الله ويُمكَّن في الأرض، وإذا ساد منهج الله رضي الله. عن خليفته في الأرض.
ثم يُخبر الحق تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام بما كان من قومه بعد مفارقته لهم من مسألة عبادة العجل.
الفتنة: ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، ونتيجته هي التي تُحمَد أو تُذمّ، كما لو دخل التلميذ الامتحان فإنْ وُفِّق فهذا خير له، وإنْ أخفق فهذا خير للناس، كيف؟
قالوا: لأن هناك أشياءَ إنْ تحققتْ مصلحة الفرد فيها انهدمتْ مصلحة الجماعة. فلو تمكَّن التلميذ المهمل الكَسُول من النجاح دون مذاكرة ودون مجهود، فقد نال انتفاعاً شخصياً، وإنْ كان انتفاعاً أحمق، إلا أنه سيعطي الآخرين إشارة، ويُوحِي لهم بعدم المسئولية، ويفرز في المجتمع الإحباط والخمول، وكفى بهذا خسارة للمجتمع.
وقد جاءتْ الفتنة بهذا المعنى في قول الحق تبارك وتعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] .
إذن: لا بد من الاختبار لكي يعطي كل إنسان حسب نتيجته، فإن سأل سائل: وهل يختبر الله عباده ليعلَم حالهم؟ نقول: بل ليعلم
الناس حالهم، وتتكشف حقائقهم فيعاملونهم على أساسها: هذا منافق، وهذا مخلص، وهذا كذاب، فيمكنك أنْ تحتاط في معاملتهم.
إذن: الاختبار لا ليعلم الله، ولكن ليعلم خَلْق الله.
أو: لأن الاختبار من الله لِقطْع الحجة على المختبر، كأن يقول: لو أعطاني الله مالاً فسأفعل به كذا وكذا من وجوه الخير، فإذا ما وُضِع في الاختبار الحقيقي وأُعطِى المال أمسك وبَخِل، ولو تركه الله دون مال لَقال: لو عندي كنتُ فعلت كذا وكذا.
فهناك عِلْم واقع من الله، أو علم من خَلْق الله لكل مَنْ يفتن، فإنْ كان مُحْسِناً يقتدون به، ويقبلون عليه، ويحبونه ويستمعون إليه، وإلَاّ انصرفوا عنه. فالاختبار إذن قَصْده المجتمع وسلامته.
وقد سَمَّى الحق سبحانه ما حدث من بني إسرائيل في غياب موسى من عبادة العجل سماه فتنة، ثم نسبها إلى نفسه {فَتَنَّا} [طه: 85] أي: اختبرنا.
ثم يقول تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السامري} [طه: 85] أضلهم: سلك بهم غير طريق الحق، وسلوك غير طريق الحق قد يكون للذاتية المحضة، فيحمل الإنسان فيها وِزْر نفسه فقط، وقد تتعدَّى إلى الآخرين فيسلك بهم طريق الضلال، فيحمل وزْره ووِزْر غيره مِمَّنْ أضلّهم.
وفي هذه المسألة يقول تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25] .
مع أن الله تعالى قال في أية أخرى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] .
وهذه من المسائل التي توقَّف عندها بعض المستشرقين، محاولين اتهام القرآن وأسلوبه بالتناقض، وما ذلك منهم إلا لعدم فَهْمهم للغة القرآن واتخاذها صناعة لا مَلَكة، ولو فَهِموا القرآن لَعَلِموا الفرق بين أن يضل الإنسان في ذاته، وبين أن يتسبب في إضلال غيره.
والسامري: اسمه موسى السامري، ويُرْوَى أن أمه وضعته في صحراء لا حياة فيها، ثم ماتت في نفاسها، فظل الولد بدون أم ترعاه، فكان جبريل عليه السلام يتعهده ويربِّيه إلى أن شبَّ.
وقد عبَّر الشاعر عن هذه اللقطة وما فيها من مفارقات بين موسى عليه السلام وموسى السامري، فقال:
إِذَا لَمْ تُصَادِفْ فِي بَنِيكَ عِنَايةً
…
فَقَدْ كذَبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤمِّل
فَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كَافِر
…
وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ
ثم يقول الحق سبحانه: {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
…
}