الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالحات: هي الأعمال التي تعود بالخير عليك أو على غيرك، وأضعفُ الإيمان في عمل الصالح أن تترك الصالح في ذاته على صلاحه فلا تفسده، كأن تجد بئراً يشرب منه الناس فلا تطمسه ولا تلوثه. فإنْ رقيت العمل الصالح فيمكنك أن تزيد من صلاحه، فتبنى حوله جداراً يحميه أو تجعل له غطاءً. . إلخ.
ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه حينما حثَّنا على العمل الصالح قال: {مِنَ الصالحات} [طه:
112]
ومن هنا للتبعيض، فيكفي أنْ تفعل بعض الصالحات؛ لأن طاقة الإنسان لا تسع كل الصالحات ولا تقوى عليها، فحسْبُك أن تأخذ منها طرفاً، وآخر يأخذ طرفاً، فإذا ما تجمعتْ كل هذه الأطراف من العمل الصالح من الخلق كوَّنَتْ لنا الصلاح الكامل.
كما سبق أن ذكرنا أن ليس بوسع أحد منا أن يجمع الكمال المحمدي في أخلاقه، والرسول صلى الله عليه وسلم َ يقول:«الخير فيَّ حقاً وفي أمتي إلى يوم القيامة» .
ففي كل فرد من أفراد الأمة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمعت خصال الكمال في الخلق أعطتنا الكمال المحمدي.
وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] لأن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح، فإنْ جاء العمل الصالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدنيا ذِكْراً وشُهْرة وتخليداً لذكراه، فقد عمل ليقال وقد قيل، وانتهتْ المسألة.
ثم يقول تعالى: {فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه: 112] والظلم هنا غير الظلم في قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111] فالظلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره، إنما {فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه: 112] أي: ظُلْماً يقع عليه، بألَاّ يأخذ حقه على عمله، بمعنى أننا لا نعاقبه على سيئة لم يعملها، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها؛ لأن الحق سبحانه لا يظلم الناس مثقال ذرة.
{وَلَا هَضْماً} [طه: 112] الهَضْم يعني النقصان، فلا ننقصه أجره وثوابه، ومنه هضم الطعام، فكمية الطعام التي نأكلها تُهضَم ثم تُمتصّ، وتتحول إلى سائل دموي، فتأخذ حَيِّزاً أقل، ومنه نقول: فلان مهضوم الحق. يعني: كان له حق فلم يأخذه.
لكن، ما فائدة عطف (هَضْماً) على (ظُلْماً) فنَفْي الظلم نَفْي للهضم؟ نقول: لأنه مرة يُبطل الثواب نهائياً، ومرة يُقلِّل الجزاء على الثواب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}
(كَذَلِكَ) أي: كالإنزال الذي أنزلناه إلى الأمم السابقة، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً، إلا أنْ فارق الرسالات أنهم بُعِثُوا لزمان محدود، في مكان محدود، وبُعثْتَ
للناس كافّة، وللزمان كافة إلى أنْ تقوم الساعة.
ونفهم من كلمة {أَنزَلْنَاهُ} [طه: 113] أن المُنزَّل أعلى من المُنزَّل عليه، فالإنزال من شيء عالٍ، وكأن الحق تبارك وتعالى يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا، فيقول: لا تهبطوا إلى مستوى تشريع الأرض؛ لأنه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل، ويتحكم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك.
لذلك، حين ينادينا إلى منهجه العلوي يقول:{قُلْ تَعَالَوْاْ} [الأنعام: 151] يعني: اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى، لا من الأرض.
{قُرْآناً} [طه: 113] يعني: مقروء، كما قال {كِتَاباً} [الأنبياء: 10] يعني: مكتوب، ليُحفظ في الصدور وفي السطور. وقال {قُرْآناً عَرَبِيّاً} [طه: 113] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم َ مُرْسَل إلى الناس كافة في امتداد الزمان والمكان، والقرآن نزل معجزة للجميع.
قالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم َ هو المباشر لهذه الأمة العربية التي ستستقبل أول دعوة له، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها، كما أن معجزة القرآن ليستْ للعرب وحدهم، إنما تحدٍّ للإنس والجن على امتداد الزمان المكان.
كما قال سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] .
فالقرآن تحدٍّ لكل الأجناس: الروسي، والأمريكي، والياباني، والدنيا كلها، ومعهم الجن أيضاً. لكن لماذا والجن أيضاً داخل في مجال التحدي؟
قالوا: لأن العرب قديماً كانوا يعتقدون أن لكل شاعر أو خطيب مفوه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه؛ لذلك أدخل الجن أيضاً في هذا المجال.
وقد يقول قائل: وكيف نتحدّى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي، فهو حجة على العرب دون غيرهم؟
نقول: وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط؟ لا، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع؟ ألم يأْتِ القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب؟ ألم تكُنْ هذه الظاهرة جديرةً بالتأمل والبحث؟
ثم الكونيات التي تحدَّث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن.
إذن: طبيعي أن يأتي القرآن عربياً؛ لأنه نزل على رسول عربي، وفي أمة عربية، والحق سبحانه يقول:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] .
فهم الذين يستقبلون الدعوة، وينفعلون لها، ويقتنعون بها، ثم ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض، ومن العجيب أنهم بدعوة القرآن أقنعوا الدنيا التي لا تعرف العربية، أقنعوها بالمبادىء والمناهج التي جاء بها القرآن؛ لأنها مبادىء ومناهج لا تخلتف عليها اللغات.
ثم يقول تعالى: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} [طه: 113] أي: حينما ينذر القرآن بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة، ويُكرَّر الإنذار لينبه أهل الغفلة.
يعني: لوَّنا فيه كل أساليب الوعد والوعيد، فكل أسلوب يصادف هوى في نفس أحد المستقبلين، فخطابنا الأهواء كلها بكل مستوياتها، فالعالم والجاهل ومتوسط الفكر، الكل يجد في القرآن مَا يناسبه؛ لأنه يُشرِّع للجميع، للفيلسوف وللعامي، فلا بُدَّ أنْ يكون في القرآن تصريفٌ لكل ألوان الملكات ليقنع الجميع.
وفي القرآن وَعْد ووعيد، فلكل منهما أهْل، ومَنْ لم يَأْتِ بالإغراء بالخير يأتي بأن ينزعه بالقوة والجبروت، كما قال الشاعر:
أَنَاةٌ فَإِنْ لم تُغْنِ عَقَّبَ بعدَها وَعِيداً
…
فَإنْ لم يُغْن أغنَتْ عَزَائمهُ
وفي الأثر: «إن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن» .
والإنذار والتخويف نعمة من الله، كما ورد في سورة الرحمن، حيث يقول تعالى:{مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 1921] فهذه نعم من الله.
أما قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 3536] فما النعمة في النار والشُّواظ؟
النعمة أن ينذرك الله بها ويحذرك منها، قبل أنْ تقعَ فيها، ويعظك بها وأنت ما زلتَ في فترة المهلة والتدارك، فلا يأخذك على غِرَّة ولا يتركك على غفلتك. كما تُحذِّر ولدك: إنْ أهملتَ دروسك