الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُداً: مودة ومحبة تقوم على الإيمان، وتقود إلى شدة التعلّق، وقد جعل الحق تبارك وتعالى كَوْنه أسباباً لهذه المحبة والمودة، كأنْ ترى إنساناً يُحبك ويتودّد إليك، فساعةَ تراه مُقبلاً عليك تقوم له وتبشُّ في وجهه، وتُفسِح له في المجلس، ثم تسأل عنه إنْ غاب، وتعوده إنْ مرض، وتشاركه الأفراح وتواسيه في الأحزان وتؤازره عند الشدائد، فهذه المودة ناشئة عن حُبٍّ ومودة سابقة.
وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة، فهذه أسباب المودة في الدنيا بين الخَلْق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، أمّا هنا:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم:
96]
.
أي: بدون سبب من أسباب المودة هذه، مودة بدون قرابة، وبدون مصالح مشتركة أو صداقة، وهذه المودة بين الذين آمنوا، كأنْ ترى شخصاً لأول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه، وتقول له: إني أحبك لله.
هذه محبة جعلها الله بين المؤمنين، فضلاً منه سبحانه وتكرُّماً، لا بسبب من أسباب المودة المعروفة.
لذلك قال هرم بن حَيَّان رحمه الله: إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه، وأبعد عن قلبه الأغيار، وسلَّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصالحات وقدَّمه لربه إلا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً.
كما جاء في الحديث القدسي:
«ما أقبل عليَّ عبد بقلبه إلا أقلبتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعاً» أي: بالمودة والرحمة دون أسباب.
وفي الحديث القدسي: «إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: إنني أحببتُ فلاناً فأحبُّوه، وينادي حبريل في الأرض: إن الله أحبَّ فلاناً فأحبوه. ويوضع له القبول في الأرض» .
فيحبه كل مَنْ رآه عطية من الله وفضلاً، دون سبب من أسباب المودة، وإنْ كنتَ قد تبرعتَ لله تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها، فإنه تعالى وهب لك ما يملك من قلوب الناس جميعاً، فهي في يده تعالى يُوجِّهها كيف يشاء.
وقد علَّمنا ربنا تبارك وتعالى في قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86] أن نرد الجميل بأحسن منه، فإنْ لم نقدر على الأحسن فلا أقلَّ من الرد بالمثل، فإنْ كان هذا عطاء العبد، فما بالك بعطاء الرب؟
ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف: «من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
والعَوْن يقتضي مُعيناً ومُعَاناً، ولا بُدّ أن يكون المعين أقوى من المعان، فيفيض عليه من فضل ما عنده: صحة، أو قدرة، أو غنىً، أو علماً.
وإعانةُ العبد لأخيه محدودة بقدراته وإمكاناته، أمّا معونة الله لعبده فغير محدودة؛ لأنها تناسب قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى.
وهكذا عوَّدنا ربنا تبارك وتعالى حين نُضحِّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبلا حدود، فضلاً من الله وكرماً. ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف؟ أليست هذه تجارة مع الله رابحة، كما قال سبحانه:{ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] .
وقال عنها: {تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29] .
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا، ثم يمنحنا سبحانه الثمن.
إذن: العملية الإيمانية لا تظن أنها إيثار، بل الإيمان أثره، وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما عند الله من مضاعفة الأجر، فالإيمان إذن أنانية عالية.
والحق سبحانه وتعالى يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك، كما جاء في الحديث: «مَنْ كان عنده فضل مال فليعُدْ به على مَنْ لا مالَ له
…
» .
واعلم أن الله سيُعوِّضك خيراً مما أعطيْتَ. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى: هَبْ أن عندك ولدين، أعطيتَ لكل منهما مصروفة،
فالأول اشترى به حلوى أكل منها، وأعطى رفاقه، والآخر بدّد مصروفه فيما لا يُجدي من ألعاب أو خلافه، فأيهما تعطي بعد ذلك؟ كذلك الحق سبحانه يعاملنا هذه المعاملة.
ويقول الحق سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}
الفاء هنا تفيد: ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب، فالمعنى: بشِّر المتقين، وأنذر القوم اللُّد لأننا يسرنا لك القرآن.
ويسَّرنا القرآن: أي: طوعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت تُوظِّفه في المهمة التي نزل من أجلها.
وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة، كقوله تعالى في سورة القمر:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] .
والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه، فترى الآية تأتي في سورة بنص، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر، فالمسألة إذن ليست (أكلاشيه) ثابت، وليست عملية ميكانيكية صماء، إنه كلام رب.
خُذْ مثلاً قوله تعالى:
{كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 5455] .
وفي آية آخرى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] .
مرة يقول: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} [الإنسان: 29] ومرة يقول: {كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] .
ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة (الرحمن) حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم يأتي الحديث عنهما: فيهما كذا، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطرف فيقول:{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} [الرحمن: 56] .
وكذلك في: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فيهما كذا وفيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] .
ولك أنْ تتساءل: الحديث هنا عن الجنتين، فلماذا عدل السياق عن (فيهما) إلى (فيهن) في هذه النعمة بالذات؟
قالوا: لأن نعيم الجنة مشترك، يصح أنْ يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين، فلها خصوصيتها، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجال، ففي هذه المسألة يكون لكل منها جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد.
لذلك «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه، فلما سُئِل عن ذلك صلى الله عليه وسلم َ قال:» إنه لعمر، وأنا أعرف غَيْرة عمر «.
فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن، وإلى هذه الدرجة تكون دِقَّة التعبير في القرآن الكريم.
ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسَّره لَمَا حفظه أحد فالنبي صلى الله عليه وسلم َ كان ينزل عليه الآيات، وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة، ويظل يقرؤها كما هي، ولولا أن الله قال له:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى} [الأعلى: 6] ما تيسّر له ذلك.
ونحن في حفْظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً، فالصبي في سنِّ السابعة يستطيع حفْظ القرآن وتجويده، فإنْ غفل عنه بعد ذلك تَفلَّتَ منه، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه.
إذن: مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على وُدًّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك، كما جاء في الحديث الشريف:
«تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقَلها» .
ذلك؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق، إنما حروف القرآن ملائكة تُصفّ، فتكون كلمة، وتكون آية، فإنْ وددتَ الحرف، وودتَ الكلمة والآية، ودَّتْك الملائكة، وتراصتْ عند قراءتك.
ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إنْ أعلمتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء، فإنْ أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك.
وتلحظ هنا أن القرآن لم يأْتِ باللفظ الصريح، إنما جاء بضمير الغيبة في {يَسَّرْنَاهُ} [مريم: 97] لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن، كما في قوله تعالى:{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى.
وقوله: {بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] أي: بلغتك، فجعلناه قرآنا عربياً في أمة عربية؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] .
وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} [مريم: 97] .
والإنذار: التحذير من شَرِّ سيقع في المستقبل، واللَّدَد: عُنْف الخصومة، وشراسة العداوة، نقول: فلان عنده لَدَد أي: يبالغ في الخصومة، ولا يخضع للحجة والإقناع، ومهما حاولتَ معه يُصِرُّ على خصومته.
ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ}