الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] في توبيخ عُتَاة الكفر والإجرام. ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] والبشرى لا تكون إلا بشيء. سَار.
إذن: فقوله تعالى: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] تهكُّم، كما تقول للولد المهمل الذي أخفق في الامتحان: مبروك عليك السقوط.
ثم يقول تعالى: {لَاّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلَاّ مَنِ اتخذ}
الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفعَ له مبعوده، ويُخرجه ممَّا هو فيه لكِنْ هيهات، ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 56] .
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء يوم القيامة: {لَاّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} [مريم:
87]
لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخذ الإذن بها {إِلَاّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] .
والعهد الذي تأخذه على الله بالشفاعة أنْ تُقدِّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت، ثم تزيد عليها ما يؤهلُك لأن تشفع للآخرين، والخير لا يضيع عند الله، فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يهمل مثقال ذرة.
وعلى المؤمن مهما كان مُسْرفاً على نفسه ساعةَ يرى إنساناً مُقبلاً على الله مُستزيداً من الطاعات أنْ يدعوَ له بالمزيد، وأن يفرح به؛ لأن فائض طاعاته لعله يعود عليك، ولعلك تحتاج شفاعته في يوم من الأيام. أما مَنْ يحلو لهم الاستهزاء والسخرية من أهل الطاعات، كما أخبر الحق تبارك وتعالى:
فكيف ستقابل أهل الطاعات، وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك؟ فإنْ لم تكُنْ طائعاً فلا أقلَّ من أنْ تحب الطائعين وتتمسح بهم، فهذه في حَدِّ ذاتها حسنةٌ لك ترجو نفعها يوم القيامة.
وما أشبه الشفاعة في الآخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا، فحين يستعصي عليك قضاءُ مصلحة يقولون لك: اذهب إلى فلان وسوف يقضيها لك. وفعلاً يذهب معك فلان هذا، ويقضي لك حاجتك، فلماذا قُضِيتْ على يديه هو؟ لا بُد أن له عند صاحب الحاجة هذه أياديَ لا يستطيع معها أنْ يرد له طلباً.
إذن: لا بُدَّ لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة، وإذا تأملت لوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أول مَنْ قدّم رصيداً إيمانياً وسع تكليفه وتكليف أمته، ألم يخبر عنه ربه بقوله:{يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] لذلك وجبت له الشفاعة، وأُذِن له فيها.
والحق تبارك وتعالى لا يغفل الرصيد في خَلقه أبداً، فكل ما قدَّمت من طاعات فوق ما كلَّفك الله به مُدَّخَر لك، حتى إن الإنسان إذا اتُّهِم ظلماً، وعُوقِب على عمل لم يرتكبه فإن الله يدَّخرها له ويستر عليه ما ارتكبه فعلاً فلا يُعاقب عليه.
فالعهد إذن في قوله تعالى: {إِلَاّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] أن تدخل مع ربك في مقام الإحسان، ولا يدخل هذا المقام إلا مَنْ أدَّى ما عليه من تكليف، وإلا فكيف تكون مُحسِناً وأنت مٌقصِّر في مقام الإيمان؟
وأقرأ إنْ شئت قول الله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 1516] ما العلة؟ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 1619] .
فالمحسن مَنْ يُؤدِّي من الطاعات فوق ما فرض الله عليه، ومن جنس ما فرض، فالله تعالى لم يُكلِّفنا بقيام الليل والاستغفار بالأسحار، ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم، ولا بُدَّ أنْ نُفرِّق هنا بين (حق) و (حق معلوم) هنا قال (حق) فقط؛ لأن الكلام عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن}
هذا الكلام منهم عبث وافتراء؛ لأنه متى كان اتخاذ هذا الولد؟
في أيِّ قَرْن من القرون من ميلاد المسيح عليه السلام؟ إن هذه المقولة لم تأْتِ إلا بعد ثلاثمائة سنة من ميلاد المسيح، فما الموقف قبلها؟ وما الذي زاد في مُلْك الله بعد أنْ جاء هذا الولد؟
الشمس هي الشمس، والنجوم هي النجوم، والهواء هو الهواء، إذن: موضوعية اتخاذ الولد هذه عبث؛ لأنه لم يَزِدْ شيء في المْلك على يد هذا الولد، ولم تكن عند الله تعالى صفة مُعطلة اكتملتْ بمجىء الولد؛ لأن الصفات الكمالية لله تعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيَّ شيء.
فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن يَخْلق، ورازق قبل أنْ يَرزُق، ومُحْيٍ قبل أنْ يحيى، ومميت قبل أن يميت. فالبصفات أوجد هذه الأشياء، فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها.
وضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى بالشاعر الذي قال قصيدة. وقلنا: إنه قال القصيدة لأنه شاعر بدايةً، ولولا أنه شاعر ما قالها.
لذلك يرد الحق سبحانه على هذا الافتراء بقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} [الكهف: 5] .
وهنا يرد عليهم بقوله: {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً}
والإدّ: المتناهي في النكْر والفظاعة، وهو الأمر المستبشع، من: آده الأمر. أي: أثقله ولم يَقْو عليه، ومنه قوله تعالى في آية الكرسي:{وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي: لا يثقل عليه.
لكن، لماذا جعل هذا الأمر إدّاً ومنكراً فظيعا؟
قالوا: لأن اتخاذ الولد له مقاصد، فالولد يُتخذ ليكون لك عِزْوة وقوة؛ أو ليكون امتداداً لكل بعد موتك، والحق سبحانه وتعالى هو العزيز، الذي لا يحتاج إلى أحد، وهو الباقي الدائم الذي لا يحتاج إلى امتداد.
إذن: فاتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا عِلةَ له، كما أن اتخاذ الولد لله تعالى ينفي سواسية العبودية له سبحانه.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ}
أي: فلسنا نحن فحسْب الذين ننكر هذا الأمر، بل الجماد غير المكلف أيضاً ينكره، فالسموات بقوتها وعظمها تتفطر أي: تتشقق، وتكاد تكون مِزَعاً لهوْلِ ما قيل، تقرب أن تنفطر لكن لماذا لم تنفطر بالفعل؟ لم تنفطر؛ لأن الله يمسكها:{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا} [فاطر: 41] .
وفي الحديث القدسي: «قالت السماء يا رب ائذن لي أنْ أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يارب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخِرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت البحار: يا ربّ ائذن لي أن أُغرق ابن