الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان القاضي لا يقضي بأمر الخراج إلا بعد أنْ يطّلع على مقياس النيل، فإنْ رآه يُوفي بريٍّ البلاد حدَّد الخراج وإلَاّ فلا.
لكن، لماذا اختار موسى هذه اليوم بالذات؟ لماذا لم يحدد أي يوم آخر؟ ذلك؛ لأن موسى عليه السلام كان على ثقة تامة بنصر الله له، ويريد أن تكون فضيحة فرعون على هذا الملأ، ووسط هذه الجمع، فمِثْل هذا التجمع فرصة لا يضيعها موسى؛ لأن النفس في هذا اليوم تكون مسرورة منبسطة، فهي أقرب في السرور لقبول الحق من أيٍّ وقت آخر.
وقوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] أي: ضاحين، ويوم الزينة يمكن أن يكون في الصباح الباكر، أو في آخر النهار، لكن موسى متمكِّن واثق من الفوز، يريد أن يتم هذا اللقاء في وضح النهار، حتى يشهده الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ}
تولى: أي: ترك موسى وانصرف ليُدبِّر شأنه {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه:
60]
الكيد: التدبير الخفي للخَصْم، والتدبير الخفيّ هنا ليس دليلَ قوة، بل دليل ضَعْف؛ لأنه قوةَ له على المجابهة الواضحة، مثل الذي يدسُّ السُّم للآخر لعدم قدرته على مواجهته.
إذن: الكيد دليل ضَعْف؛ لذلك نفهم من قوله تعالى عن النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] أنه ليس دليلاً على قوة المرأة، إنما دليلٌ على ضعفها، فكما أن كيدهُنّ عظيم، فكذلك ضعفُهن عظيم.
فمعنى {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] أدار فِكْره على ألوان الكَيْد
المختلفة، ليختار منها ما هو أنكَى لخَصْمه، كما جاء في آية أخرى في شَأْنِ نوح عليه السلام {فأجمعوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] .
وكأن الأمر الذي هو بصدده يتطلب وجهات نظر متعددة: نفعل كذا، أو نفعل كذا؟ ثم ينتهي من هذه المشاورة إلى رَأْي يجمع كل الاحتمالات، بحيث لا يفاجئه شيء بعد أنْ احتاط لكل الوجوه.
فالمعنى: اتفِقُوا على الخطة الواضحة التي تُوحِّد آراءكم عند تحقيق الهدف.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب} [يوسف: 15] . أي: اتفقوا على هذا الرأي، وأجمعوا عليه، بعد أن قال أحدهم {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] ، فكان الرأي النهائي أنْ يجعلوه في غيابة الجب.
فهُمْ على آية حال سلالة نُبوة، لم يتأصل الشرُّ في طباعهم؛ لذلك يتضاءل شرُّهم من القتل إلى الإلقاء في متاهات الأرض إلى أهْوَن هذه الأخطار، أنْ يُلْقوه في الجُبِّ، وهذه صفة الأخيار، أما الأشرار الذين تأصل الشر في نفوسهم وتعمّق، فشرُّهم يتزايد ويتنامى، فيقول أحدهم: أريد أنْ أقابل فلاناً، فأبصق في وجهه، أو أضربه، أو أُقطّعه، بل رصاصة تقضي عليه فيُصعِّد ما عنده من الشر.
وبعد ذلك يرجُونَ له النجاة، فيقولون:{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] .
ثم يقول تعالى في شأن فرعون: {ثُمَّ أتى} [طه: 60] أي: أتى الموعد الذي سبق تحديده، مكاناً وزماناً.