الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21] أي: حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يُقدِّر لمرؤوسيه اجتهاده، ويلتمس له عذراً، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه؛ لأن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة، كما نقول في العامية (الغايب حجته معاه) .
إذن: المرؤوس إنْ رأى خيراً يخدم الفكر العام، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن، وفي الحرب العالمية الأولى تصرّف أحد القادة الألمان تصرُّفاً يخالف القواعد الحربية، لكنه كان سبباً في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}
معنى {فَمَكَثَ} [النمل:
22]
أقام واستقر {غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] مدة يسيرة، فلم يتأخر كثيراً؛ لأنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان، وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجَّل العودة، وما إنْ وصل إليه إلا وبادره {فَقَالَ} [النمل: 22] بالفاء الدالة على التعقيب؛ لأنه رأى سليمان غاضباً مُتحفِّزاً لمعاقبته.
لذلك بادره قبل أنْ ينطق، وقبل أنْ ينهره {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] أي: عرفتُ ما لم تعرف هذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها، وسخَّر الله له كل شيء؛ لذلك ذُهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] .
أولاً: نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسّنات البديعية في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف، وتختلفا في المعنى، كما في قول الشاعر:
رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَارِ لكُم أَسِيرُ
…
وَقَلْبي في محبتكُمْ أَسير
وقَوْل الآخر:
لَمْ يَقْضِ مِنْ حقِّكم عَليَّ
…
بَعْضَ الذي يَجِبُ
قَلْبٌ متَى مَا جَرَت
…
ذِكْرَاكُمُ يَجِبُ
ومن الجناس التام في القرآن الكريم: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] .
فالتعبير القرآني {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] تعبير جميل لفظاً، دقيق مَعنىً، أَلَا تراه لو قال (وجئتك من سبأ بخبر) لا ختلَّ اللفظ والمعنى معاً؛ لأن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر، أمّا النبا فلا تُقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر، كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 12] .
والجناس لا يكون جميلاً مؤثراً إلا إذا جاء طبيعياً غير مُتكلّف،
ومثال ذلك هذا الجناس الناقص في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فقد ورد اللفظ المناسب مُعبِّراً عن المعنى المراد دون تكلّف، فالهُمَزة هو الذي يعيب بالقول. واللمزة: الذي يعيب بالفعل، فالقرآن لا يتصيَّد لفظاً ليُحدِث جناساً، إنما يأتي الجناس فيه طبيعياً يقتضيه المعنى.
ومن ذلك في الحديث الشريف: «الخيْل معقود بنواصيها الخير» فبيْن الخيل والخير جناس ناقص، مُحسِّناً للفظ، مؤدّياً للمعنى.
وقد يأتي المحسِّن البديعي مُضطرباً مُتكلِّفاً، يتصيده صاحبه، كقول أحدهم ينحت الكلام نحتاً فيأتي بسجع ركيك: في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب، فوقع رجل كان يحمل العنب.
ومعنى {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] الإحاطة: إدراك المعلوم من كل جوانبه، ومنه البحر المحيط لاتساعه، ويقول سبحانه:{وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} [النساء: 126] ومنه: الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدِّده، ومنه: يحتاط للأمر.
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف الأقطار.
لكن أَيُعَدُّ قول الهدهد لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] نقصاً في سليمان عليه السلام؟ لا، إنما يُعَدُّ تكريماً له؛ لأن