المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تجاوباً واعياً، فعند آية التسبيح نُسبِّح، وعند آية الحمد نحمد - تفسير الشعراوي - جـ ١٧

[الشعراوي]

فهرس الكتاب

- ‌ 36]

- ‌ 38]

- ‌ 40]

- ‌ 41]

- ‌ 43]

- ‌ 44]

- ‌ 46]

- ‌ 50]

- ‌ 52]

- ‌ 53]

- ‌ 54]

- ‌ 57]

- ‌ 61]

- ‌ 63]

- ‌[الفرقان:

- ‌1]

- ‌ 2]

- ‌ 4]

- ‌ 5]

- ‌ 6]

- ‌ 7]

- ‌ 8]

- ‌ 9]

- ‌ 10]

- ‌ 11]

- ‌14]

- ‌ 15]

- ‌ 16]

- ‌ 17]

- ‌ 18]

- ‌ 19]

- ‌ 21]

- ‌ 22]

- ‌ 26]

- ‌ 27]

- ‌ 29]

- ‌ 34]

- ‌ 35]

- ‌ 36]

- ‌ 39]

- ‌ 40]

- ‌ 41]

- ‌ 44]

- ‌ 46]

- ‌ 47]

- ‌ 48]

- ‌ 49]

- ‌ 50]

- ‌ 52]

- ‌ 53]

- ‌ 54]

- ‌ 55]

- ‌ 56]

- ‌ 58]

- ‌ 59]

- ‌ 60]

- ‌ 61]

- ‌ 62]

- ‌ 65]

- ‌ 66]

- ‌ 68]

- ‌ 70]

- ‌ 71]

- ‌ 72]

- ‌ 73]

- ‌ 74]

- ‌ 75]

- ‌ 76]

- ‌ 77]

- ‌ 2]

- ‌ 4

- ‌ 5]

- ‌ 6]

- ‌ 8]

- ‌ 9]

- ‌ 10]

- ‌ 12]

- ‌ 16]

- ‌ 18]

- ‌ 19]

- ‌ 20]

- ‌ 21]

- ‌ 24]

- ‌ 28]

- ‌ 31]

- ‌ 33]

- ‌ 34]

- ‌ 35]

- ‌ 36]

- ‌ 37]

- ‌ 42]

- ‌ 44]

- ‌ 46]

- ‌ 49]

- ‌ 51]

- ‌ 53]

- ‌ 57]

- ‌ 59]

- ‌ 61]

- ‌ 62]

- ‌ 64]

- ‌ 67]

- ‌ 69]

- ‌ 71]

- ‌ 78]

- ‌ 83]

- ‌ 84]

- ‌ 88]

- ‌ 90]

- ‌ 92]

- ‌ 94]

- ‌ 102]

- ‌ 103]

- ‌ 106]

- ‌ 107]

- ‌ 109]

- ‌ 110]

- ‌ 116]

- ‌ 117]

- ‌ 120]

- ‌ 123]

- ‌ 124]

- ‌ 127]

- ‌ 129]

- ‌ 130]

- ‌ 131]

- ‌ 132]

- ‌ 136]

- ‌ 137]

- ‌ 139]

- ‌ 140]

- ‌ 142]

- ‌ 147]

- ‌ 149]

- ‌ 153]

- ‌ 154]

- ‌ 155]

- ‌ 156]

- ‌ 157]

- ‌ 166]

- ‌ 167]

- ‌ 172]

- ‌ 181]

- ‌ 183]

- ‌ 186]

- ‌ 187]

- ‌ 189]

- ‌ 190]

- ‌ 192]

- ‌ 193]

- ‌ 194]

- ‌ 195]

- ‌ 196]

- ‌ 200]

- ‌ 205]

- ‌ 213]

- ‌ 216]

- ‌ 217]

- ‌ 225]

- ‌ 4]

- ‌ 5]

- ‌ 8]

- ‌ 9]

- ‌ 11]

- ‌ 14]

- ‌ 16]

- ‌ 18]

- ‌ 19]

- ‌ 21]

- ‌ 22]

- ‌ 23]

- ‌ 25]

- ‌ 26]

- ‌ 27]

- ‌ 28]

- ‌ 29]

- ‌ 31]

- ‌ 32]

- ‌ 33]

- ‌ 34]

- ‌ 35]

- ‌ 36]

- ‌ 38]

- ‌ 39]

- ‌ 40]

- ‌ 41]

- ‌ 42]

- ‌ 43]

- ‌ 44]

- ‌ 45]

- ‌ 47]

- ‌ 48]

- ‌ 49]

- ‌ 50]

- ‌ 52]

- ‌ 54]

- ‌ 55]

- ‌ 56]

- ‌ 59]

- ‌ 60]

- ‌ 64]

- ‌ 66]

- ‌ 68]

- ‌ 71]

- ‌ 72]

- ‌ 74]

- ‌ 75]

- ‌ 77]

- ‌ 78]

- ‌ 79]

- ‌ 82]

- ‌ 83]

- ‌ 85]

- ‌ 86]

- ‌ 87]

- ‌ 88]

- ‌ 89]

- ‌ 90]

- ‌ 91]

- ‌ 92]

- ‌ 93]

- ‌ 3]

- ‌ 4]

- ‌ 5]

- ‌ 6]

- ‌ 7]

- ‌ 9]

- ‌ 11]

- ‌ 12]

- ‌ 14]

- ‌ 15]

- ‌ 16]

- ‌ 17]

- ‌ 18]

- ‌ 19]

- ‌ 22]

- ‌ 23]

- ‌ 24]

- ‌ 25]

- ‌ 26]

- ‌ 28]

- ‌ 29]

الفصل: تجاوباً واعياً، فعند آية التسبيح نُسبِّح، وعند آية الحمد نحمد

تجاوباً واعياً، فعند آية التسبيح نُسبِّح، وعند آية الحمد نحمد الله، وعند آية الدعاء نقول: آمين، هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن والتجاوب معه، لا أنْ نسمعه أو نهذه كهذ الشِّعْر.

ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض}

ص: 10811

{أَمَّنْ} [النمل:‌

‌ 60]

هذا استفهام آخر، وكأن الحق تبارك وتعالى بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربِّب في النفس الإيمان بالله، وأن تأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانية، ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتصدي لأعداء الدعوة والمناهضين لها.

يقول سبحانه:

{أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] .

إذن: المسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنين على الكافرين، فهناك في خلق الله ما هو أعظم من ذلك، فلو سألتَهم: مَنْ خلق السموات والأرض يقولون: الله ولئن سألتهم: مَنْ خلقهم يقولون: الله، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها، فكأن الحق

ص: 10811

تبارك وتعالى يقول لهم: آلله خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء. . أم ما تشركون؟

وما دام أن الله تعالى ادَّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه، ولم يَقُمْ لهذه الدعوى منازع، فقد ثبتتْ له سبحانه إلى أنْ يدَّعيها غيره {أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق فأين هو: إما أنه لم يَدْر بهذه الدعوى، أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح إلهاً، وإلا فليأت هو الآخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا.

فإذا قال الله تعالى أنا الله، ولا إله غيري، والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي، ولم يوجد معارض، فقد ثبتت له القضية؛ لذلك يقول سبحانه:{شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] .

فقضية الوحداينة شهد الله أولاً بها لنفسه، ثم شهد بها الملائكة أولو العلم من الخَلْق.

ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] .

أي: لاجتمع هؤلاء الآلهة، وثاروا على الإله الذي أخذ منهم مُلْكهم، وادعاه لنفسه، أو لذهبوا إليه ليتقرَّبوا منه ويتودّدوا إليه.

وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً} [النمل: 60] السماء: كلُّ ما علاك فأظلَّك، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا، أو أن الإنزال يعني إرادة الكون، وإرادة الكون في كل كائن تكون من السماء، ألَا ترى قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25] .

وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ومعلوم أن الحديد يأتي من الأرض، لكن إرادة كونه تأتي من السماء.

ص: 10812

ثم يقول سبحانه: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] للماء فوائد كثيرة في حياتنا، بل هو قِوَام الحياة؛ لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق؛ لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب.

فإنْ قُلْتَ: نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات، وليس بها مُقوِّمات حياتنا. نقول: نعم هي كذلك الآن، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور: حديقة، أو حائط.

وقال {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] مع أنك لو نظرتَ إلى القمح مثلاً وهو عَصَب القوت لوجدته أقل جمالاً من الورد والياسمين والفُل مثلاً، وكأن ربك عز وجل يقول لك: لقد تكفلتُ لك بالكماليات وبالجماليات، فمن باب أَوْلَى أوفر لك الضروريات.

والحق تبارك وتعالى يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم، واقرأ مثلاً قوله تعالى:{انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] يعني: قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع الله.

أَلَا ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها، ولم يُبح لك الأكل إلاّ مما تملك؟ لذلك قال:{انظروا إلى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] فإنْ لم تكونوا تملكونه، فكفاكم التمتُّع بالنظر إليه.

ومن هذا الارتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدَّثنا عن الضروريات في الأنعام: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] .

ص: 10813

وقال: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] .

فأعطانا ربنا عز وجل ضروريات الحياة، وأعطانا كمالياتها وجمالياتها. وتأمل دقة الأسلوب في {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} [النمل: 60] فالضمير في {خَلَقَ} ضمير الغائب (هو) يعود على الله عز وجل، وكذلك في (وَأَنزَلَ) أما في (فَأَنْبَتْنَا) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم (نحن) الدال على التعظيم، فلماذا؟

قالوا: لأن نِعَم الله فيها أشياء لا دخْل للإنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر، ومثل هذه المسائل لا شبهةَ لا شتراك الإنسان فيها، وهناك أشياء للإنسان دَخْلٌ فيها كالزرع والإنبات، فهو الذي يحرث ويزرع ويسقي. . الخ مما يُوحِي بأن الإنسان هو الذي يُنبت النبات، فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا التوهم، فنسب الإنبات صراحة إليه عز وجل ليزيل هذه الشبهة.

وربك سبحانه وتعالى يحترم فعْلَك، ويذكر لك سَعْيك، فيقول:{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 6364] نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة، لكنك استخدمتَ الأرض المخلوقة لله، وآلة الحديد المخلوقة لله، والبذور المخلوقة لله، والماء المخلوق لله، أما مسألة الإنبات نفسها فلا دَخْلَ لك بها، فلا تَقُلْ زرعت؛ لأننها نحن الزارعون حقيقة، لكن قُلْ: حرثتُ وسقيتُ.

لذلك تجد الرد في آخر الآية نافياً لأيِّ شبهة في أن لك دَخْلاً في مسألة الزرع: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] وأكّد الفعل بلام التوكيد لينفي هذه الشبهة.

على خلاف الكلام عن الماء، حيث لا شبهة لك فيه، فيأتي نفس الفعل، لكن بدون لام التوكيد:

{أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ

ص: 10814

أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 6870] .

ومعنى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] قد تظن أنها صفة طيبة فيهم، لكن لا بُدَّ في مثل هذا اللفظ من تدقيق؛ لأنه يحمل معاني كثيرة. نقول: عدلَ في كذا يعني: أنصف، وعدل إلى كذا يعني: مال إليه، وعدل عن كذا: يعني: تركه وانصرف عنه، وعدل بكذا، يعني: سوَّى.

فالمعنى هنا {يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] عنه، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب، إنما يعدلون عنه إلى غيره، ويسوّون به غيره، كما قال سبحانه في موضع آخر:{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .

أي: يسوُّونه سبحانه بغيره.

ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّن جَعَلَ الأرض}

ص: 10815

لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السموات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما، فالسماء ينزل منها الماء، والأرض تستقبل الماء، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة.

ص: 10815

أما في هذه الآية، فالكلام عن الأرض، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض، {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} [النمل: 61] معنى: قراراً أي استقراراً، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأنْ يستقرَّ عليها الإنسان.

{وَجَعَلَ خِلَالَهَآ أَنْهَاراً} [النمل: 61] الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة، أما ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط، ومن الماء المطر ما ينساب في مَجَارٍ تُسمَّى الأنهار.

وتستطيع أنْ تُفرِّق بين النهر والقناة الصناعية، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقَّ مجراه فيه فتراه ملتوياً متعرجاً، يدور حول الجبال أو الصخور ليشقَّ مجراه.

أما القناة الصناعية، فتراها على هيئة الاستقامة، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلاً أحد أصحاب النفوذ، فيحملهم على تعيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه.

وتستطيع أنْ تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولْتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول، فتراه يسير متعرجاً حسب طبيعة الأرض التي يمرُّ بها.

{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] الرواسي: هي الجبال الثابتة الراسية، وفي موضع آخر بيَّن سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال:{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] .

فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب،

ص: 10816

ولو أنها خُلِقَتْ على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال، إذن: هي مخلوقة على هيئة الحركة، ولا بُدَّ لها من مُثقِّلات.

ولا تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الأرض، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى:{والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 3233] .

فكيف تكون الجبال متاعاً للإنسان وللحيوان؟

نعم، هي متاع؛ لأنها مخزن مياه، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال، إما في الأنهار، وإما في الشلالات، وخلف السدود بين الوديان، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض.

وكما أن الجبال هي مخازن للمياه، هي أيضاً مخازن للخصوبة التي تمدُّ الأرض الزراعية عاماً بعد عام بقدر، بحيث تستمر خصوبة الأرض، وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتِّت الطبقة العليا من الصخور، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر، وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها.

ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخَلْقه؛ لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة.

وسبق أنْ قُلْنا: إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل، وقمته إلى أعلى، أما الوديان فعلى عكس الجبال، فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل، وهكذا

ص: 10817

نرى أن كل زيادة من طَمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي، فتزداد الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان.

لذلك يقول تعالى عن الجبال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 910] .

فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب، ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه، كيف تكوَّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا، ليُكَوِّن هذه المنطقة الخِصْبة في مصر.

ثم يقول سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} [النمل: 61] .

البحرين: أي العَذْب والمالح لأن الماء: منه العَذْب، ومنه المالح، ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ يحجز بينهما، وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب، لذلك جعل الله تعالى مساحة السطح للماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وكلما اتسع سطح الماء اتسع البَخْر الذي يكوِّن السحاب، بحيث يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الأرض.

وما أجملَ قول الشاعر المادح:

أهدى لمجلسه الكريم وإنَّما

أهدى لَهُ مَا حُزْتَ مَن نَعْمائِهِ

كَالبَحْرِ يُمطِرهُ السَّحابُ ومَا لَه

فَضْلٌ عليْه لأنَّه مِنْ مَائِهِ

ولكي تعلم فضل الله علينا في إنزال المطر وتوفير الماء العَذْب،

ص: 10818

انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء، في حين أنك لا تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلاد والعباد في كل أنحاء الدنيا.

وقد مثَّلنْا لمسألة اتساع رقعة البَحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الأرض، فإنه يجفُّ في عدة دقائق، أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام، فإنه لا ينقص منه إلا القليل.

ومن الماء العَذْب ما سلكه الله تعالى ينابيع في الأرض ليخرجه الإنسان إذا أعوزه الماء على السطح، أو سلكه ينابيع في الأرض بمعنى أن يسير العَذْب بجوار المالح، لا يختلط أحدهما بالآخر مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الاستطراق.

وهذه من عجائب قدرة الله الخالق، فمِنْ قَعْر البحر المالح تخرج عيون الماء العَذْب؛ لأن لكل منهما طريقاً ومسلكاً وشعيرات يسير فيها بحيث لا يبغي أحدهما على الآخر، كما قال تعالى:

{مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 1920] .

وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الأرض ليكوِّن الآبار والعيون، فكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض ليكوِّن من تفاعلاته الأحجار الكريمة، كالمرمر، والمعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت. . الخ.

وبعد أن ذكر لنا هذه الآيات الخاصة بالأرض جاء بهذا الاستفهام

{أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] يعني خلق هذه الأشياء {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] والذين لا يعلمون أعلمناهم، وقطعنا حُجَّتهم بعدم العلم.

ص: 10819

ولو نظرنا إلى الأرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرٌّ وسَكَنٌ، فالأرض كثيفة، وفيها غبرة ليست صافية البياض؛ ذلك لأن الله تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها ليستفيد منها النبات، ولو أن الأرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات؛ لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف، وأخرى في الشتاء.

ولما أجرَوْا بعض التجارب على النبات، فوضعوه في مكان مظلم، ثم جعلوا ثُقْباً في ناحية بحيث يدخل الضوء وجدوا أن النَّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من النور والدفء، فسبحان الذي خلق فسوّى، والذي قدَّر فهدى.

ومن آيات الله في خَلْق الأرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران، لتأخذ كل مناطقها حظها من الحرارة ومن البرودة، ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء، وخريف وربيع، إنها أدوار تتطلبها مُقوِّمات الحياة.

لذلك تجد علماء النبات يُقسِّمون المناطق الزراعية على الأرض يقولون: هذا حزام القمح مثلاً، وهذا حزام الموز، وهذا حزام البطاطس، فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها.

لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب لا تصيبه الآفات، أمّا حين يُنقل إلى مكان غير مكانه، وبيئة غير بيئته لا بُدَّ أنْ يُصاب.

وفي الأرض خاصية أخرى تتعلق بالإنسان تعلقاً مباشراً، فمن خصائص الأرض وهي من الطين الذي خُلِق منه الإنسان، فهي في

ص: 10820

الحقيقة أمه الأولى فإذا مات لا يسعه إلا أحضان أمه حين يتخلى عنه أقرب الناس إليه، وألصق الناس به، عندها تستقبله الأم وتحتويه وتستر عليه كُلَّ ما يسوؤه.

ومن خصائص الأرض أنها تمتص فضلات الإنسان والحيوان ومخلَّفاته وتُحوِّلها بقدرة الله إلى مُخصِّب تزدهر به المزروعات، ويزيد به المحصول، وفي الريف يحملون رَوَثَ الحيوانات ذا الرائحة الكريهة إلى الحقول، فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوَّق الإنسان لرائحتها.

إنها عجائب في الخَلْق، لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، أتذكرون المثل الذي يقول:(فلان يعمل من الفسيخ شربات) هكذا قدرة الله التي تخلق الأضداد.

أَلَا تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الآن من الجبل الأصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري.

وبعد أنْ حدَّثنا الحق تبارك وتعالى عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في السماء والأرض والجبال والمطر. . الخ يُحدِّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون آخر، وفي وقت دون آخر، فيقول سبحانه:{أَمَّن يُجِيبُ المضطر}

ص: 10821

(يجيب) الإجابة هي تحقيق المطلوب لداعية، والمضطر: هو

ص: 10821

الذي استنفد الأسباب، وأخذ بها فلم تُجْدِ معه، فليس أمامه إلا أنْ يترك الأسباب إلى المسبِّب سبحانه فيلجأ إليه؛ ذلك لأن الخالق عز وجل قبل أنْ يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات حياته وضرورياتها وسخَّرها لخدمته.

لذلك جاء في الحديث القدسي: «يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له» .

ثم خلق الله لك الطاقة التي تستطيع أن تُسخِّر بها هذه الأشياء وضمن لك القوت الضروري من ماء ونبات، فإنْ أردتَ أنْ تُرفِّه حياتك فتحرك في الحياة بالأسباب المخلوقة لله، وبالطاقة الفاعلة فيك، وفكِّر كيف ترتقي وتُثرِي حركة الحياة من حولك.

فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور، والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط على زر الكهرباء، والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق. . كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما أعملوا عقولهم فيما أعطاهم الله من مادة وعقل وفكر وأسباب، وهذه كلها يد الله الممدودة لعباده، والتي لا ينبغي لنا ردّها.

فإذا ما حاولتَ ولم تفلح، ولم تثمر معك الأسباب، فعليك أنْ تلجأ مباشرة إلى المسبِّب سبحانه، لأنه خالقك والمتكفِّل بك.

واقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] ويا ليته ساعةَ دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رَجْعة، ويتوقع أنْ يصيبه الضُّر مرة أخرى؛ لكن إنْ كشف الله عنه سرعان ما يعود كما كان.

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] .

ص: 10822

{أَمَّن يُجِيبُ المضطر} [النمل: 62] فالمضطر إذن لا بدَّ أنْ يُجيبه الله، فمَنْ قال: دعوتُ فلم يُستجب لي. فاعلم أنه غير مضطر، فليست كل ضائقة تمرُّ بالعبد تُعَدُّ من قبيل الاضطرار، كالذي يدعو الله أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه، أو براتب ودَخْل أوفر مما يأخذه. . الخ، كلها مسائل لا اضطرارَ فيها، وربما علم الله أنها الأفضل لك، ولو زادك عن هذا القدر طغيتَ وتكبرتَ.

كما قال الحق سبحانه وتعالى: {كَلَاّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 67] .

فلقد طلبتَ الخير من وجهة نظرك، وربُّك يعلم أنه لا خيرَ فيه {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] .

فربُّك يُصحِّح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك: سأحقق لك الخير، لكن بطريقة أخرى أنسب من هذه، فلو أجبتُك إلى ما تريد لحدث مَا لا تُحمد عقباه، وكأن الله عز وجل وهو ربُّنا والمتولِّي أمرنا يجعل على دعائنا (كنترول) ولو كان الله سبحانه موظفاً يلبي لكل مِنّا طلبه ما استحق أن يكون إلهاً حاشا لله.

فالإنسان من طبيعته العجلة والتسرع، فلا بُدَّ للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه، وأنْ يختار له ما يناسبه؛ لأنه سبحانه الأعلم بعواقب الأشياء وبوقتها المناسب، ولكل شيء عنده تعالى موعد وميلاد.

واقرأ قول الله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] .

أَلَا ترى بعض الأمهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه، فإنْ عصاها في شيء أو ضايقها تقول رافعةً يديها إلى السماء (إلهي أشرب

ص: 10823

نارك) أو (إلهي أعمى ولا أشوفك) فكيف لو أجاب الله هذه الحمقاء؟

إذن: من رحمته تعالى بنا أنْ يختار لنا ما يُصلِحنا من الدعاء، ويُعافينا من الحمق والعجلة.

وقوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] فكما أنه لا يجيب المضطر إلا الله لا يكشف السوء إلا الله، ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجَّه الناسُ إليه بالدعاء، لكن حينما يُصاب المرء لا يقول إلا يا رب، ولا يجد غير الله يلجأ إليه لأنه لن يغشَّ نفسه في حال الضائقة أو المصيبة التي ألمت به.

وقد مثَّلنا لذلك ولله المثل الأعلى بحلاق الصحة في الماضي، وكان يقوم بعمل الطبيب الآن، فلما أنشئت كلية الطب وتخرَّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ الأنظار إليه، فكان الحلاق يذمُّ في الطب والأطباء، وأنهم لا خبرةَ لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية، لكن لما مرض ابن الحلاق ماذا فعل؟ إنْ غشَّ الناس فلن يغشَّ نفسه: أخذ الولد في ظلام الليل ولفّه في البطانية، وذهب به إلى (الدكتور) الجديد.

لذلك يقول كل مضطر وكل مَنْ أصابه سوء: يا رب يا رب حتى غير المؤمن لا بُدَّ أن يقولها، ولا بُدَّ أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الإله الحق، فالوقت جِدّ لا مساومة فيه.

ويقول تعالى بعدها: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض} [النمل: 62] أي: يخلفُ بعضكم بعضاً فيها، كما قال:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] .

فهل يملك هذه المسائل إلا الله: {أإله مَّعَ الله} [النمل: 62] والاستفهام هنا ينكر وجودَ إله غير الله يفعل هذا {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] يعني: لو تفكرتُم وتذكرتُم لعرفتم أنه لا إله إلا الله.

ص: 10824

هذه أيضاً من الأمور الخاصة التي تخصُّ بعض الناس دون بعض، وكانت قبل تقدُّم العلم، حيث كانت النجوم هي العلامات التي يهتدي بها الملاحون في البحر والمسافرون في البر {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] .

وقد برع في علوم الفلك والنجوم وفي علوم البحار علماء من العرب وضَعُوا أُسساً لهذه العلوم، لا عن علم عندهم، إنما عن مشاهدة لظواهر الكون، وتوفيق وهداية من الله عز وجل.

وحين نتأمل ارتقاءات الإنسان في الحياة نجد أنها نتيجة مشاهدة حدثتْ صدفة، أو حتى بطريق الخطأ، وإلا فكيف اهتدى الإنسان إلى تخمير العجين ليخرج الخبز على هذه الصورة وبهذا الطعم؟ لذلك يُسمُّون العجين: فطير وهو المبلط الذي لم يتخمر، وخمير وهو الذي تخمَّر وارتفع قليلاً وتخلّله الهواء.

وقد نقلوا هذه المعنى للرأي، يقولون: فلان رأيه فطير يعني: سطحي متعجل، وفكرة مختمرة يعني: مدروسة بتأنٍّ، ومنه الفِطْرة يعني الشيء حين يكون على طبيعته.

وربما اكتشفتْ إحدى النساء مسألة الخمير هذه نتيجة خطأ أو مصادفة حين عجنتْ العجين، وتأخرت في خَبْزه حتى خمر، فلما

ص: 10825

خبزته جاء على هذه الصورة المحببة إلينا، كذلك الأمر في اكتشاف البنسلين مثلاً، والغواصات والبخار والعجلة. . الخ.

وتأمل مثلاً: لماذا نطبخ الملوخية ولا نطبخ النعناع، إنها إذن هداية الله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى.

الحديد تعلمنا طَرْقه بعد إدخاله النار ليلين؛ لأن الله تعالى علمها لنبيه داود عليه السلام حين قال {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} [سبأ: 10] .

إذن: كثير من اكتشافات الكون وارتقاءاته تأتي بهداية الله، وكلما مرَّ الزمن تكشفتْ لنا أسرار الكون، كلّ في ميعاده وميلاده الذي أراده الله، إما أنْ يستنطبه الناس بمقدمات إذا جاء ميلاده، وإلا فيأتي ولو مصادفة.

واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] فحين يشاء الله يكشف لك الأشياء، ويُيسر لك أسبابها، فإذا لم تنتبه لها أراكها مصادفة، ومن وسائل إعلام الله لخَلْقه مثلاً أهل البوادي، ترى الواحد منهم متكئاً ينظر إلى السماء ويقول لك: السماء ستمطر بعد كم من الساعات، وليس في السماء سحاب ولا غَيْمٌ يدل على المطر، لكنه عرفها بالاستقراء والتجربة.

ومن هذه الهداية الإلهية أن ترى البهائم العجماوات وهي تأكل بالغريزة، تأكل الحشيش الجاف، ولا تأكل مثلاً النعناع الأخضر، أو الريحان من أن رائحته جميلة، لماذا؟

لأنه جُعِل للرائحة الطيبة، لكن طعمه غير طيب، وإذا أكل الحيوان وشبع لا يمكن أن يأكل بعدها أبداً على خلاف الإنسان الذي يأكل حتى التخمة، ثم الحلو والبارد والساخن، ويقولون (أَرِهَا

ص: 10826