الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن سائلاً سألهم: لِمَ تسجدون؟ قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 4748] .
وقالوا: ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول مثلاً: أنا رب العالمين، فأزالوا هذا اللبْس بقولهم {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 48] .
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان عليه السلام لم تقل: أسلمت لسليمان، إنما قالت:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك.
إذن: فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان، ولا يُشَكّك في ذلك، لكن المسألة كلها {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:
49]
فما يزال حريصاً على ألوهيته وجبروته، حتى بعد أن كُشِف أمره وظهر كذبه، وآمن الملأ بالإله الحق.
ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد: إنه هزم وضاعت هيبته، فقال:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} [الشعراء: 49] في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدّم، وألوهيته التي ضاعت.
ثم يُهدِّدهم بأسلوب ينمّ عن اضطرابه، وأنه فقد توازنه، اختلّ حتى في تعبيره، حيث يقول {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يُؤخّر تهديده لهم بدليل أنه قال بعدها: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49]{مِّنْ خِلَافٍ} [الشعراء: 49] يعني: اليد اليمنى مع الرِّجْل اليُسْرى، أو اليد اليسرى مع الرِّجْل اليمنى.
وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ} [الشعراء: 49] أوضحه في آية أخرى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] .
فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ {قَالُواْ لَا ضَيْرَ}
أي: لا ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لأن مصير الجميع إلى الموت، لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا، وتَشْقى أنت بجزاء ربك. كالطاغية الذي قال لعدوه: لأقتلنك فضحك، فقال له: أتسخر مني وتضحك؟ قال: كيف لا أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني الله به، وتشقى به أنت؟
إذن: لا ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلتَ فينا جميلاً، وأسديتَ لنا معروفاً إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء، وما تظنه في حقنا شَرٌّ هو عين الخير، لذلك فَهِم الشاعر هذا المعنى، فقال عنه:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً
…
عَلى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرعي