الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطاب في {اذهبآ} [الفرقان:
36]
للرسول موسى، وللوزير هارون وقال:{إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الفرقان: 36] مع أن فيهم مَنِ ادعى الألوهية استمراراً لإرخاء العِنَان للخَصْم، فقد كذّب فرعون بأن من آيات الله أن يؤمن بإله واحد.
ثم كانت النهاية {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} [الفرقان: 36] لأنهم وقفوا من موسى وهارون موقفَ العداء، وقامت بينهما معركة تدخل فيها الحق سبحانه، ودمرهم تدميراً، كأن الحق سبحانه يقول لرسوله: اطمئن فإنْ حادوا عن جادة الحق وأبَوْا أنْ يأتوك طائعين، فسوف تكون نهايتهم كنهاية هؤلاء. {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل}
ذكر الحق تبارك وتعالى نوحاً بعد موسى عليهما السلام؛ لأن كلاً منهما تميَّز في دعوته بشيء، وتحمَّل كل منهما ألواناً من المشقة، فموسى واجه مَنِ ادعى الألوهية، ونوح أخذ سُلْطة زمنية واسعة انتظمتْ كل الموجودين على الأرض في وقته ولا يعني هذا أنه عليه السلام أُرسِل إلى الناس كلهم، إنما كان قومه هم الموجودون على الأرض في هذا الوقت فقد لَبِثَ فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
واقرأ قصته عليه السلام في سورة نوح لتقف على مدى معاناته في دعوة قومه طوال هذه الفترة، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، وكانت الغَلَبة له في النهاية.
وأيضاً لأنه عليه السلام تعرّض لأمر يتعلق بالبنوة، بُنوّة في المنهج، وبُنوة في النسب، فقد كان ابنه نسباً كافراً، ولم يتمكن من هدايته، ولما قال لربه عز وجل {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] قال له: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
فجعل حيثية النفي {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] فالنسب هنا عمل وطاعة، فكأن البنوة للأنبياء بنوة عمل، لا بنوة نسب، فابنك الحق مَنْ سار على منهجك، وإنْ لم يكُنْ من دمك.
مسألة أخرى نلحظها في الجمع بين موسى ونوح عليهما السلام في مقام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فهما يشتركان في ظاهرة كونية تستحق التأمل والنظر، فكل مظاهر الكون التي أمامنا لو حققنا في كل مظهر من مظاهرها بعقل وتُؤدَة ويقين لأمكَننا أن نستنبط منها ما يُثري حياتنا ويُترِفها ويُسعدها.
لذلك الحق تبارك وتعالى ينعى على الذين يُعرضون عن النظر في آياته، فيقول:{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
وسبق أن قلنا: إن كل المخترعات التي رفَّهتْ حياة الناس وأسعدتهم، وقلّلت مجهوداتهم، وقصّرت الوقت عليهم، كانت نتيجة الملاحظة والتأمل في مظاهر الكون كالذي اخترع العجلة والبخار. . إلخ.
وهنا نلاحظ أن العلاقة بين موسى ونوح عليهما السلام أن الله تعالى يُهلِك ويُنجي بالشيء الواحد، فالماء الذي نجَّى موسى هو الماء الذي أغرق فرعون، والماء الذي نجَّى نوحاً هو الماء الذي أغرق
الكافرين من قومه. فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فالله تعالى إنْ أراد الإنجاء يُنجِّي، وإنْ أراد الإهلاك يُهلِك، ولو بالشيء الواحد.
ألَا ترى أن أصحاب موسى حينما رأوا البحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم قالوا:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فهذه حقيقة وقضية كونية مَنْ يملك ردّها؟ إنما ردها موسى فقال (كَلَاّ) لن نُدرَك، قالها بملء فيه، لا ببشريته، إنما بالربوبية التي يثق في أنها لن تسلمه،
{قَالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
وكذلك كانت مسألة نوح عليه السلام، لكن بطريقة أخرى، هي السفينة، وفكرة السفينة لم تكُنْ موجودة قبل نوح عليه السلام، ألم يصادف واحد شجرة مُلْقاة في الماء تطفو على سطحه، ففكّر في ظاهرة الطفو هذه، وكيف أن الشجرة لم تغطس في الماء؛ لقد كان النجارون الماهرون يقيسون كثافة الخشب بأن يُلْقوه في الماء، ثم ينظروا مقدار الغطس منه في الماء، وعليه يعرفون كثافته.
هذه الظاهرة التي تنبه لها أرشميدس وبنَى عليها نظرية الأجسام الطافية والماء المُزَاح، وتوصّل من خلالها إلى النقائض، فبها تطفو الأشياء أو تغوص في الماء، إنْ زادت الكثافة يثقل الشيء ويغوص في الماء، وإنْ قلَّتْ الكثافة يطفو.
وتلاحظ ذلك إذا رميتَ قطعة نقود مثلاً، فإنها تغطس في الماء، فإنْ طرقتَها حتى جعلتها واسعةَ الرقعة رقيقة، فإنها تطفو مع أن الكتلة واحدة، نعم الكتلة واحدة، لكن الماء المُزَاح في الحالة الثانية أكثر، فيساعد على طفْوها.
وقد أراد الحق تبارك وتعالى أن يُنبِّه الإنسان إلى هذه الظواهر، ويهديه إلى صناعة السفن التي تحمله في الماء؛ لأن ثلاثة
أرباع الكرة الأرضية مياه، وقد جعل الله لك وسائل مواصلات في الربع، أَلَا يجعل لك مواصلات في الثلاثة أرباع، فتأخذ خيرات البحر، كما أخذت خيرات البَرِّ؟
وتأمل أسلوب القرآن: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} [الفرقان: 37] ومعلوم أنهم كذَّبوا رسولهم نوحاً لا جميع الرسل، قالوا: لأن النبوة لا تأتي بمتعارضات، إنما تأتي بأمور مُتفق عليها؛ لذلك جعل تكذيبَ رسول واحد كتكذيب جميع الرسل.
ثم ذكر عاقبة ذلك: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان: 37] وكلمة {أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] تعني: أن الذي أغرق المكذبين نَجَّى المؤمنين، وإغراق المكذبين أو عملية تردُّ على سخريتهم من نوح، حينما مرُّوا عليه وهو يصنع السفينة:{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] .
ولم يكن الغرق نهاية الجزاء، إنما هو بدايته، فهناك العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة:{وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} [الفرقان: 37] وهكذا جمع الله عليهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.
ثم يضرب الحق تبارك وتعالى لرسوله مثلاً آخر: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس}
إنها نماذج من المتاعب التي لاقاها الرسل من أممهم، كما قال في موضع آخر:{وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] . {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [الاعراف: 73] .
وكانت النهاية أن نصر الله أولياءه ورسله، ودحر خصومهم والمكذِّبين بهم، كل ذلك ليقول لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: يا محمد لست بدعاً من الرسل، فإنْ وقف منك قومك موقفَ العناد والتكذيب، فكُنْ على يقين وعلى ثقة من نصر الله لك كما قال:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171173] .
إنها قضية يطلقها الحق تبارك وتعالى لا للتاريخ فقط، ولكن لتربية النفس البشرية، فإنْ أردتَ الغلبة فكُنْ في جند الله وتحت حزبه، ولن تُهزَم أبداً، إلا إذا اختلّتْ فيك هذه الجندية، ولا تنْسَ أن أول شيء في هذه الجندية الطاعة والانضباط، فإذا هُزِمْتَ في معركة فعليك أن تنظر عن أيٍّ منهما تخليْتَ.
لذلك رأينا في غزوة أحد أن مخالفة الرماة لأمر رسول الله قائد المعركة كانت هي سبب الهزيمة، وماذا لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر الرسول؟ لو انتصروا لَفهِموا أنه ليس من الضروري الطاعة والانقياد لأمر رسول الله. إذن: هذا دليل على وجوب الطاعة، وألَاّ يخرجوا عن جندية الإيمان أبداً خضوعاً وطاعة، ولا تقولوا: إن الرسول بيننا فهو يُربيكم؛ لأنه لن يخلد فيكم.