الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 17]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَاّ الْكَفُورَ (17)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي بشكر النعم، أو باتباع الرسل وتكذيب الحق والعدول إلى الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيّ والبلاد الآمنة والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 18]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالزروع والثمار وحسن العمران وهي قرى بصنعاء كما قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومالك وغيرهم قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها. فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا بين قراها مقادير متساوية. فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة. ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدوّ ونحوه سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن. والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبيّ ونحوه. أو بلسان الحال. كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به. فالأمر للإباحة. وفي (في) إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 19]
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
فَقالُوا أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه. وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي حتى حل بهم ما حل فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي
يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرّقناهم كل تفريق، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا. يقولون (تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا) بألف مقصورة.
قال الأزهري: العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع. لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز. وإن كان أصله مهموزا. والذهاب معلوم. والأيادي جمع أيد. والأيدي جمع يد. وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد. قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق. فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و (اليد) الطريق. يقال:
أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة (ذهبوا أيدي سبا) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.
قال ابن مالك: إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيّا على السكون. وفي (زهر الأكم، في الأمثال والحكم) أن سبا كانت أخصب بلاد الله. كما قال تعالى:
جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ. يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول. فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم. فاتخذوا سدّا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق. وأباد خضراءهم. وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان. وخزاعة ببطن مرّ. والأوس والخزرج بيثرب. وآل جفنة بأرض الشام. وآل جذيمة الأبرش بالعراق.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو رجل ولد له عشرة. فسكن اليمن منهم ستة. وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: وإسناده حسن إلا ابن لهيعة.
روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام. فقلت: يا رسول الله! أرأيت سبأ؟ أواد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة. فتيامن ستة، وتشاءم أربعة. تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار- الذين يقال لهم بجيلة- وخثعم.
وتشاءم لخم وحذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: حديث حسن. وإن كان فيه أبو حباب الكلبي، وقد تكلموا فيه.
ورواه الحافظ ابن عبد البرّ في كتاب (القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم) عن تميم الداري أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ؟ فذكر مثله.
وقال ابن كثير: فقوي هذا الحديث وحسن.
وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش. لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه. فسمي الرائش. والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدّم. وقال في ذلك شعرا.
سيملك بعدنا ملك عظيم
…
نبيّ لا يرخّص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك
…
يدينوه القياد بكل رامي
ويملك بعدهم منا ملوك
…
يصير الملك فينا بانقسام
ويملك بعد قحطان نبيّ
…
تقي متحنّث خير الأنام
يسمّى أحمدا. يا ليت أني
…
أعمّر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري
…
بكل مدجّج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه
…
ومن يلقه يبلّغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب (الإكليل) . واختلفوا في قحطان. فقيل: إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح. وقيل: من سلالة عابر وهو هود عليه السلام. وقيل: إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النمري في كتاب (الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة) .