الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عدّ الغزاليّ في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميما للفائدة، قال رحمه الله.
الآفة الحادية عشرة- السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذيا، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
…
الآية. ومعنى السخرية:
الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء. وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: والله ما أحب أني حاكيت إنسانا، ولي كذا وكذا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] ، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر.
وقال معاذ بن جبل: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله.
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ. أي لا تستحقره استصغارا، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيرا أو ناقصا، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهيّ عنها. انتهى.
لطيفة:
قال أبو السعود: القوم مختص بالرجال، لأنهم القوّام على النساء (والأحسن المهمات) وهو في الأصل إما جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. أو مصدر
نعت به فشاع في الجمع. وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون، فإما للتغليب، أو لأنهن توابع. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع. والتنكير إما لتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم على بعض ولا يطعن.
قال الشهاب: ضمير تَلْمِزُوا للجمع بتقدير مضاف فيه. وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين، وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم، كما في قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة.
ففي اللفظ الكريم تجوّز، وتقدير مضاف. والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين، وهو مغاير لما قبله، وإن كان مخصوصا بالمؤمنين أيضا بحسب المفهوم، لتغاير الطعن والسخرية، فلا يقال إن الأول مغن عنه، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته، وهذا ذكره بما يكره مطلقا. أو هو تعميم بعد التخصيص، كما يعطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. وقيل: إنه من عطف العلة على المعلول، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية، كالإشارة. أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة. انتهى.
وقيل: معنى الآية: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه.
قال الشهاب: ف أَنْفُسَكُمْ على ظاهره والتجوّز في قوله تَلْمِزُوا. فهو مجاز ذكر فيه المسبّب، وأريد السبب. والمراد: لا ترتكبوا أمرا تعابون به. وضعف بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله وَلا تَنابَزُوا، كما في (الكشف) ، وكونه من التجوّز في الإسناد، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب، تكلف ظاهر. وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق، لا يدفع كونه مخالفا للظاهر. وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم، بالطعن على غيركم، كما في الحديث «1» (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه) ، إذ فسّر بأنه إذا شتم والدي غيره، شتم الغير والديه أيضا.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبز بها الملقب فقد
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 146، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد «1» وأبو داود. وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق!، وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق بعد التوبة. والآية- كما قال ابن جرير-: تشمل ذلك كله قال: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ قال الزمخشريّ: الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر. من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.
وحقيقته ما سما ذكره، وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر، أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: بَعْدَ الْإِيمانِ ثلاثة أوجه:
أحدها- استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة، الصبوة.
والثاني- أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهوديّ! يا فاسق! فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز.
والثالث- أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة، الفلاحة بعد التجارة. انتهى.
واختار ابن جرير الثالث، لا ذهابا لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن، كما أنه غير كافر، فهو في منزلة بين المنزلتين بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن التقليب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان، فإن شعار الجاهلية. وعبارته: يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا، إن فعلتموه، أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق. وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ عليه. ثم ضعف القول الثاني وقال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية،
(1) أخرجه في المسند 4/ 260.