الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيهات:
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصحّ سندها ولا متنها: بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّي وكعب. والسّدّي حاله معلوم في ضعف مروياته. وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما: فربما استمع له عمر. فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.
ولقد صدق رحمه الله. ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروريّ له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به. وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا. ولما صنفت مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار. وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه. وأمثل ما
روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة. فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض. فقال له: يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول. واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة.
(1) أخرجه في المسند 1/ 297. والحديث رقم 7 ر 27. [.....]
ثم قال السيوطيّ: فسّر الذّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء. أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع- يذكر كثير الخلاف في الذبيح، قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) :
وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره) . وفي لفظ (وحيده) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. لأنهم تناقض قوله (بكرك)(وحيدك) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 70- 71] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة. فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به. لأن البشارة قول مخصوص: وهي أول خبر سارّ صادق. وقوله: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولا، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول. كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة. ثم يضعف الجر
أمر آخر، وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور: كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: 103- 111]، ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] ، فهذا بشارة من الله له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته. أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيّا. ولهذا ينصب نَبِيًّا على الحال المقدر أي مقدرا نبوته. فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر. كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل. وكان النحر بمكة، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا. ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
[الذاريات:
24-
25] إلى أن قال قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] ، وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته وهي المبشرة به. وأما إسماعيل فمن السرية. وأيضا فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا
يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة. إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختيار. إنما حصل عند أول مولود.
ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة. فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها. فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة. وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5]، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] ، انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بقوله تعالى بعد وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الصافات: 112] ، من قال إن الذبيح إسماعيل. وهو الذي رجحه جماعة. واحتجوا له بأدلة. منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده. والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق. وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين. مرة في قوله تعالى: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي