الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكانُوا أَحَقَّ بِها قال أبو السعود: أي متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا. وقيل: أحق بها من الكفار. وَأَهْلَها أي المستأهل لها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. قال أبو السعود: أي فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ.
قال ابن جرير: أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصرا بعضهم رأسه، ومحلقا بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
…
الآية، إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. والرُّؤْيا منصوب بنزع الخافض، أي صدقه في رؤياه. أي حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرمانيّ، وعبارته:(كذب) يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا (صدق) كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله بِالْحَقِّ حال من الرؤيا. أي متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله لَتَدْخُلُنَّ جواب قسم محذوف. أي: والله! لتدخلن.
وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد. أو للإشعار بأن
بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
وقوله مُحَلِّقِينَ حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: ملحقا بعضكم، ومقصرا آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله المحلقين! قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين؟ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين!
وقوله تعالى لا تَخافُونَ حال مؤكدة لقوله آمِنِينَ أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه. بعضها عنوة، وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعريّ وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريبا من مرّ الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسيّ والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم
(1) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 318.
عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، القسيّ والرماح! فقال صلى الله عليه وسلم: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟ فقال: بهذا عرفناك، بالبرّ والوفاء
. وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنه، غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاريّ آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينه
…
باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
…
ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
…
قد أنزل الرّحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله
…
بأن خير القتل في سبيله
يا رب! إني مؤمن بقيله
وروى الإمام أحمد «1» من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة، فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنّة.
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.
(1) أخرجه في المسند 1/ 305، والحديث رقم 2783.