المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأحقاف بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الأحقاف) وهي مكية بالإجماع، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الأحقاف بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الأحقاف) وهي مكية بالإجماع،

‌سورة الأحقاف

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الأحقاف) وهي مكية بالإجماع، وقال الخازن: قيل: غير قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ..} . إلخ رقم [10]، وقيل: وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ..} . إلخ رقم [35] فإنهما نزلتا بالمدينة. وهي خمس وثلاثون آية، وستمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمئة، وخمسة وتسعون حرفا. انتهى. خازن. وسميت سورة (الأحقاف)؛ لأنها مساكن قوم عاد؛ الذين أهلكهم الله بطغيانهم، وجبروتهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن، قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ} الاية رقم [21].

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}

الشرح: {*حم:} انظر شرحه في أول سورة (غافر) ففيه الكفاية. قال ابن كثير-رحمه الله تعالى-: يخبر الله تعالى أن تنزيل هذا الكتاب، وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، كما قال عز وجل في سورة (الشعراء):{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ} وقال جلّ شأنه: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال هاهنا: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ} أي: المنيع الجناب، {الْحَكِيمِ} أي: في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره. انتهى. هذا؛ و {الْعَزِيزِ} يفسر ب: الغالب القوي القاهر؛ الذي لا يغلب، و {الْحَكِيمِ} يفسر ب: الذي يفعل كل شيء بحكمة، وتقدير، وتدبير.

أما {الْكِتابِ} فهو في اللغة: الضم، والجمع، وسميت الجماعة من الجيش: كتيبة؛ لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطة واحدة، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتبه، وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب وفصول، ومسائل غالبا، ورحم الله من يقول:[الطويل] لنا جلساء ما يملّ حديثهم

ألبّاء مأمونون غيبا ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

وعقلا وتأديبا ورأيا مسدّدا

فإن قلت أحياء فما أنت كاذب

وإن قلت أموات فلست مفنّدا

ص: 5

وإني أتمثّل بقول الاخر: [الخفيف] ما تطعّمت لذّة العيش حتّى

صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس عندي شيء ألذّ من ال

علم فلم أبتغ سواه أنيسا

إنّما الذّلّ في مخالطة النا

س فدعهم وعش عزيرا رئيسا

ورحم الله من يقول:

وقائلة أتلفت في الكتب ما حوت

يمينك من مال فقلت دعيني

لعلّي أرى فيها كتابا يدلّني

لأخذ كتابي في غد بيميني

ورحم الله من يقول: [الوافر] كتابي فيه بستاني وروحي

وفيه سمير نفسي والنديم

يسالمني وكلّ الناس حرب

ويسليني إذا عرت الهموم

ويحيي لي تصفّح صفحتيه

كرام الناس إن فقد الكريم

إذا اعوجّت عليّ طريق قومي

فلي فيه طريق مستقيم

وبالجملة: فالكتاب هو نعم الذخر، والعدة، والشغل، والحرفة، جليس لا يضرك، ورفيق لا يملّك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، إن ألفته؛ خلّد على الأيام ذكرك. وإن درسته؛ رفع بين الخلائق قدرك.

الإعراب: {*حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ..} . إلخ: انظر سورة (غافر) فالإعراب واحد لا يتغير في الايتين.

{ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}

الشرح: {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ} أي: إلا خلقا ملتبسا بالحق، وهو ما تقتضيه الحكمة، والمعدلة، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، وفيه دلالة على البعث، والحساب، والمجازاة. قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [16]:{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} وأيضا رقم [38] من سورة (الدخان)، وقال تعالى في سورة (ص) رقم [27]:{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً} انظر شرح الايات في محالها، وهي مذكورة بحروفها في سورة (الحجر) رقم [85] وانظر شرح:{السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الاية رقم [9] من سورة (الزخرف)

ص: 6

وشرح: {وَما بَيْنَهُما} في الاية رقم [7] من سورة (الدخان). {وَأَجَلٍ مُسَمًّى:} يعني يوم القيامة في قول ابن عباس، وغيره، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات، والأرض. وقيل: إنه هو الأجل المقدور لكل مخلوق. انتهى. قرطبي. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله، وكتابه، ورسوله. {عَمّا أُنْذِرُوا} أي: خوفوا به في القرآن من البعث، والحساب، والجزاء. {مُعْرِضُونَ:} لا يتفكرون فيه، ولا يستعدون لحلوله ووقوعه.

الإعراب: {ما:} نافية. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، والجملة مستأنفة لا محلّ لها.

{وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و (ها): في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِالْحَقِّ:}

متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: إلاّ خلقا ملتبسا بالحق.

{وَأَجَلٍ:} معطوف على (الحق). {مُسَمًّى:} صفة: (أجل) مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَالَّذِينَ:}

الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:

{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُعْرِضُونَ} بعدهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو: عن شيء أنذروه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: عن إنذارهم. {مُعْرِضُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)}

الشرح: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: ما تعبدون من دون الله، أي: الأصنام. {ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي: أيّ شيء خلقوا في الأرض؛ إن كانوا آلهة؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} أي: شركة مع الله في خلق السموات، والأرض. والمعنى:

أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمل فيها، هل يعقل أن يكون لها مدخل في أنفسها، أو في خلق شيء من أجزاء العالم، فتستحق به العبادة، والتعظيم، والتقديس؟ وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم: أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية. انتهى. بيضاوي بتصرف.

ص: 7

{اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا} أي: من قبل هذا الكتاب، يعني: القرآن، فإنه ناطق بالتوحيد.

هذا؛ و {اِئْتُونِي} أمر من: أتى، يأتي، والأمر بهمزتين: همزة الوصل التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن والثانية هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فإذا ابتدأت الكلام قلت: إيت بإبدال الثانية ياء لكسر ما قبلها، فإذا وصلت الكلام زالت العلة في الجمع بين همزتين، فتحذف همزة الوصل، وتعود الهمزة الأصلية، فتقول: إئت، ومثل ذلك قل في إعلال: أذن، يأذن، إئذن.

{أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ:} أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين؛ هل فيها ما يدلّ على استحقاق الأصنام العبادة، أو الأمر به؟ أو هل لله شريك في السموات؟ أو هل هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى، كما تزعمون، وتدعون؟ هذا؛ ويقرأ:«(أثرة)» وبقراآت مختلفة.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَرَأَيْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (رأيتم): فعل وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول، والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: الذي تدعونه.

{مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أَرُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول. {ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، و (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{خَلَقُوا:}

صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي خلقوه. هذا؛ وإن اعتبرت {ماذا} اسما مركبا ففيه وجهان: اعتباره مبتدأ، وجملة:{خَلَقُوا:} خبره، والرابط محذوف، كما رأيت، واعتباره مفعولا مقدما للفعل {خَلَقُوا،} وهذا الوجه أقوى على جميع الاعتبارات. بقي أن تعرف أن جملة: {أَرُونِي} يجوز فيها وجهان: الأول: اعتبارها تأكيدا ل: {أَرَأَيْتُمْ} لأنها بمعنى:

أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني ل:{أَرَأَيْتُمْ} هو جملة: {ماذا خَلَقُوا} . والوجه الثاني: أن لا تكون مؤكدة لها، وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع؛ لأن {أَرَأَيْتُمْ} يطلب ثانيا، و {أَرُونِي} كذلك، وقوله:{ماذا خَلَقُوا} هو المتنازع فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول. هذا؛ وجوز ابن عطية في {أَرَأَيْتُمْ} أن لا يتعدى إلى اثنين، حيث قال:

و {أَرَأَيْتُمْ} لفظ موضوع للسؤال، والاستفهام لا يقتضي مفعولا ثانيا، وجعل {ما تَدْعُونَ} استفهاما، معناه التوبيخ، قال: و {تَدْعُونَ} معناه: تعبدون. قلت: وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله تعالى:{قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ..} . إلخ الاية رقم [63] من سورة (الكهف). انتهى. جمل نقلا عن السمين. وقد تصرفت فيه بعض التصرف.

{مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:

{ماذا} . {أَمْ:} حرف عطف بمعنى همزة الإنكار، وبل الإضرابية، فهي منقطعة. {لَهُمْ:}

ص: 8

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شِرْكٌ:} مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{شِرْكٌ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {اِئْتُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {بِكِتابٍ:}

متعلقان بما قبلهما. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بمحذوف صفة «كتاب» ، و {قَبْلِ} مضاف، و {هذا} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {أَوْ:}

حرف عطف. {أَثارَةٍ:} معطوف على «كتاب» . {مِنْ عِلْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{أَثارَةٍ} . {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر: (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. هذا؛ والاية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)}

الشرح: {وَمَنْ أَضَلُّ} أي: لا أحد أضل، وأجهل. {مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ..}. إلخ: قال البيضاوي: إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين؛ حيث تركوا عبادة السميع المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم فضلا أن يعلم سرائرهم، ويراعي مصالحهم. {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ:} إلى انتهاء الدنيا، وقيام الساعة، وهو اليوم الذي يحاسب الله الناس فيه على أعمالهم. {وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ:} لا يستجيبون لهم؛ لأنهم إما جمادات، وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم. هذا؛ وقد روعي لفظ (من) برجوع الفاعل إليها، ومعناها بجمع الضمير بقوله:{وَهُمْ..} . إلخ. هذا؛ ووصفهم بترك الاستجابة، والغفلة طريقه طريق التهكم بها، وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [14]:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} انتهى.

كشاف، وانظر تبرؤ إبليس من أتباعه في سورة (إبراهيم)، وسورة (ق) إن كنت من أهل القرآن.

هذا؛ وإنما جمع الأصنام، والمعبودات الباطلة جمع المذكر السالم؛ لأن الكفار كانوا يخاطبونها مخاطبة العقلاء، فنزلت منزلتهم في الكلام، وهذا كثير في القرآن، وقد ذكرته في محاله مرارا. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل؛ إذا عاملوه معاملته، وأنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، كما يستعمل له «من» التي هي للعاقل؛ لما ذكر من السبب، قال تعالى في سورة (الزمر) رقم [43]:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} وهو كثير في الشعر العربي.

ص: 9

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَضَلُّ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَضَلُّ} قبلهما. {يَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{مِنْ دُونِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو ضعيف. و {دُونِ:}

مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {مَنْ:} مفعول به ل: {يَدْعُوا،} وجملة: {لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} صلة {مَنْ} والعائد: رجوع الفاعل إليها، {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال. وهو ضعيف، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال.

(هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَنْ دُعائِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {غافِلُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية: (هم

) إلخ في محل نصب حال من {مَنْ} الأولى أو الثانية، والرابط: الواو، والضمير على الاعتبارين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)}

الشرح: {وَإِذا حُشِرَ النّاسُ:} حبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا، ثم يساقون، ويدفعون إلى النار. هذا؛ والحشر: الجمع. {كانُوا} أي: الأصنام. {لَهُمْ أَعْداءً} أي: لعبدتهم. {وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ:} جاحدين. والمعنى: أنّ المعبودات الباطلة تتبرأ من عابديها يوم القيامة، كما قال تعالى في سورة (يونس) عليه السلام:{وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ} رقم [28]، وقال تعالى في سورة (مريم) رقم [83]:{كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا،} وقال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [25]: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} .

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {حُشِرَ:}

ماض مبني للمجهول. {النّاسُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من: {أَعْداءً،} كان صفة له، فلمّا قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . {أَعْداءً:} خبر «كان» ، والجملة الفعلية جواب «إذا» لا محلّ لها من الإعراب، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها.

{بِعِبادَتِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {كافِرِينَ:} خبر (كان

) إلخ.

ص: 10

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}

الشرح: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ..} . إلخ: أي آيات القرآن يقرؤها محمد صلى الله عليه وسلم على كفار قريش.

{بَيِّناتٍ:} واضحات الدلالة على ما يخالف معتقداتهم من إنكار البعث، والحساب، والجزاء.

{قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ..} . إلخ: أي: لأجله، وفي شأنه، والمراد به: الايات، ووضع موضع ضميرها، ووضع:{الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق، وعليهم بالكفر، والانهماك في الضلالة. {لَمّا جاءَهُمْ} أي: حينما جاءهم من غير نظر، وتأمل. {هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [30]:{وَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنّا بِهِ كافِرُونَ} انظر شرحها هناك.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف، (إذا): مثل سابقتها. {تُتْلى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {آياتُنا:}

نائب فاعل، و «نا»: في محل جر بالإضافة. {بَيِّناتٍ:} حال منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{تُتْلى عَلَيْهِمْ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لِلْحَقِّ:} متعلقان بالفعل: {قالَ} . {لَمّا:} ظرف زمان بمعنى:

«حين» مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {قالَ} أيضا. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الحق)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{لَمّا} إليها. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {سِحْرٌ:} خبره. {مُبِينٌ:}

صفة: {سِحْرٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.

{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}

الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} أي: أيقول المشركون: افترى محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، واختلقه من تلقاء نفسه. وقال البيضاوي: إضراب عن ذكر تسميتهم القرآن سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه، وإنكار له، وتعجيب. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ:} على سبيل الفرض. {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي:

إن عاجلني الله بالعقوبة، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع، ولا دفع ضر من قبلكم. ومثله قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [17]:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي}

ص: 11

{الْأَرْضِ جَمِيعاً،} وقوله تعالى في سورة (المائدة) أيضا رقم [41]: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} . {هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تقولونه، وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه، والاندفاع، ومنه: أفاضوا في الحديث، أي:

اندفعوا فيه، وأفاض الناس من عرفات إلى منى: أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [198]:{فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ..} . إلخ، ثم قال في الاية التي بعدها:

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ} وكله مستعار من: فاض الماء، وأفاضه: إذا سال للأخذ في الشيء قولا كان، أو فعلا.

{كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ:} يشهد لي بالصدق، والبلاغ، وعليكم بالكذب، والإنكار. وهو وعيد بجزاء إفاضتهم. {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ:} فهذا وعد بالمغفرة، والرحمة لمن تاب، وأناب، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرمهم. هذا؛ والضمائر عائدة على (الحق)، والمراد به (الايات) أي: القرآن المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

قال أحمد المعلق على الكشاف: فيحتمل في إجراء الاية على مذهب أهل السنة أن يكون إسناد الفعل: {فَلا تَمْلِكُونَ لِي..} . إلخ لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم.

فالمعنى إذا: إن كنت مفتريا؛ فالعقوبة واقعة بي، لا تدفعونها عني. فمفهوم، وإن كنت محقا، وأنتم مفترون؛ فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة (هود) رقم [35]:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ} وأمثاله كثيرة. والله أعلم. انتهى.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى «بل» وهمزة الإنكار. قاله الجلال، وأيّده الجمل.

وقال القرطبي: الميم صلة، التقدير: أيقولون: افتراه. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {اِفْتَراهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتقدم له ذكر، ولكنه مفهوم من المقام، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ افْتَراهُ} مستأنفة لا محلّ لها. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِ:} حرف شرط جازم. {اِفْتَرَيْتُهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية. {تَمْلِكُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {لِي:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{شَيْئاً،} كان نعتا له

إلخ، و {إِنِ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة. {شَيْئاً:} مفعول به. {هُوَ:}

ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره. {بِما:} جار ومجرور

ص: 12

متعلقان ب: {أَعْلَمُ} . و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {تُفِيضُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، واعتبارها مصدرية ضعيف، والجملة الاسمية:

{هُوَ أَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط.

{كَفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِهِ:} الباء: حرف جر صلة، والضمير فاعل {كَفى،} فهو مجرور لفظا، مرفوع محلا. {شَهِيداً:} تمييز، ويقال:

حال. والمعتمد الأول. {بَيْنِي:} ظرف مكان متعلق ب: {شَهِيداً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. (بينكم): ظرف مكان معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفى..} . إلخ في محل نصب مقول القول أيضا، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}

الشرح: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي: ما كنت أول الرسل، بل جاء رسل قبلي كثيرون، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: البدع: الأول. وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: ذا بدع؛ أي: أبتدع ما لا يبتدعون، وأدعو ما لا يدعون، وأفعل ما لا يفعلون، وإنما أسير على طريقتهم، وأنهج نهجهم من الدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له. فقد كانوا يقترحون عليه صلى الله عليه وسلم الايات، ويسألونه عمّا لم يوح به إليه من الغيوب، فقيل له:{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات، فإن الرسل لم يكونوا يأتون إلاّ بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلاّ بما أوحي إليهم.

{وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ:} لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي، وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقدر لي، ولكم من قضاياه. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ}. وعن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي قال له أصحابه، وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي، ولا بكم، أأترك بمكة، أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي، ورأيتها-يعني في منامه-ذات نخيل وشجر؟

هذا؛ وقال القرطبي: يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون، واليهود، والمنافقون، وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به، ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا؟ ولولا أنه ابتدع

ص: 13

الذي يقوله من تلقاء نفسه؛ لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت الاية من أول سورة (الفتح):

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} فنسخت هذه الاية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! لقد بيّن الله لك ما يفعل بك يا رسول الله! فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟! فنزلت الاية رقم [5] من سورة (الفتح): {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} ونزلت الاية رقم [47] من سورة (الأحزاب): {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً} قاله أنس، وابن عباس، وقتادة، والحسن، وعكرمة، والضحاك. انتهى. قرطبي.

هذا؛ والصحيح في الاية قول الحسن السابق. قال أبو جعفر: وهذا أصح قول، وأحسنه، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه في الدنيا، وإياهم من مرض، وصحة، ورخص، وغلاء، وغنى، وفقر.

ومثله قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [188]: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} . قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الاية. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا، أتؤمنون، أم تكفرون، أتعاجلون بالعذاب أم تؤخرون؟ وهذا هو الصحيح؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين: أنه في الاخرة من المقربين، ويكون في الفردوس الأعلى بلا ريب، ولا شك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ} أي: لا أتبع إلاّ الذي يوحيه إليّ ربي بواسطة جبريل، فأنا وقّاف على ذلك، ولست بمختلق للايات، ولا بمخترع لها. وقد تكرر هذا المعنى في كثير من الايات في سورة (الأنعام) رقم [50] وفي سورة (الأعراف) رقم [203] وفي سورة (يونس) رقم [15].

{وَما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ:} أخوّف من عقاب الله، وغضبه في الدنيا، والاخرة، وإنذاري واضح لا خفاء فيه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {ما:} نافية.

{كُنْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِدْعاً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {مِنَ الرُّسُلِ:}

متعلقان ب: {بِدْعاً،} أو بمحذوف صفة له. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {أَدْرِي:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. {ما:}

استفهامية مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُفْعَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {ما} . وقرئ الفعل بالبناء للمعلوم، فيكون الفاعل عائدا إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وعليه فالرابط محذوف، وهو مفعول الفعل، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل:{أَدْرِي} المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام.

هذا؛ وأجيز اعتبار «ما» موصولة، فهي مفعول:{أَدْرِي،} على أنه بمعنى: لا أعرف، والجملة

ص: 14

الفعلية صلتها، والعائد محذوف، التقدير: لا أدري الذي يفعل، أو: يفعله الله. {بِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {بِكُمْ:} متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وما يفعل بكم، وإلاّ كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه.

{إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {أَتَّبِعُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» .

{إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.

{يُوحى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى {ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل:{أَتَّبِعُ} فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاِسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (10)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَرَأَيْتُمْ:} أخبروني، والخطاب لليهود المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم. {إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} الضمير يعود إلى القرآن المفهوم من قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} . {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أيها المشركون. وشهد شاهد

إلخ: هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه.

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه، فعلم:

أنه ليس بوجه كذاب، وتأمّله، فتحقق: أنه هو النبي المنتظر، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلاّ نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه، أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأمّا الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته» فقال: أشهد أنك رسول الله. هذا؛ ومعنى النزع: الميل، والشبه بالأب، أو بالأم خلقا، وخلقا، قال الشاعر:[الوافر] وإن يشبههما خلقا وخلقا

فقد تسري إلى الشّبه العروق

ثم قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني؛ بهتوني عندك. فجاءت يهود، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«أي رجل عبد الله فيكم؟» . فقالوا: خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا، وابن أعلمنا! قال:

ص: 15

«أرأيتم إن أسلم عبد الله؛ تسلموا؟» . قالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج إليهم عبد الله، فقال:

أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمدا رسول الله! فقالوا: هو شرّنا، وابن شرّنا. وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله، وأحذر! قال سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل:{وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ} . متفق عليه. وهذا يؤيد ما ذكرته في مقدمة السورة من أنّ الاية الكريمة مدنية.

هذا؛ وقيل: الشاهد هو موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وشهادته ما في التوراة من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا أعتمده ألبتة. هذا؛ وقد قال تعالى في آخر سورة (الرعد):{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} انظر شرحها هناك. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [146]: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ..} . إلخ انظر شرحها هناك فهو جيّد، وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه، واستبنته عرفت: أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال:

فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: «أيّها الناس! أفشوا السّلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل؛ والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَرَأَيْتُمْ:} فعل وفاعل، ومفعولاه محذوفان، التقدير: أرأيتم ماذا حالكم؟ هذا تقدير الجلال، ووافقه الجمل عليه، وقال ابن عطية:«أرأيتم» لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، لا يقتضي مفعولا. وإلى هذا القول ذهب القرطبي، ويحتمل أن تكون الجملة من:{إِنْ كانَ..} . إلخ سادة مسد المفعولين. وهذا خلاف ما قرّره النحاة. انتهى. جمل باختصار. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى القرآن المفهوم مما تقدم. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، واختلف في تقديره اختلافا كبيرا، فأحسن تقدير قدره الخازن:(قل: أرأيتم إن كان من عند الله، ثم كفرتم به، فإنكم لا تكونون مهتدين، بل تكونون ضالين) وهذا التقدير أخذ من الجملة: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} .

{وَكَفَرْتُمْ:} الواو: واو الحال. (كفرتم): فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من اسم {كانَ} المستتر، والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة. هذا؛ وبعضهم يعتبرها معطوفة على جملة:{كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} وما بعدها معطوف عليها على

ص: 16

الاعتبارين فيها. {وَشَهِدَ:} الواو: حرف عطف. (شهد): فعل ماض. {شاهِدٌ:} فاعله. {مِنْ بَنِي:} متعلقان ب: {شاهِدٌ،} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. و {عَلى مِثْلِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقيل:(مثل) صلة، والتقدير: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه؛ أي: على أنه من عند الله. وانظر الشرح.

وقيل: ليست (مثل) صلة، وكيفية شهادته على نزول مثله أن يقال: إن مثله قد نزل على موسى، فلا تنكروا نزوله على رجل مثله في كونه مصدقا بالمعجزات، فإن التوراة مثل القرآن من حيث الدلالة على أصول الشرع، كالتوحيد، والبعث، والحساب، والجزاء، والثواب، والعقاب، وإن اختلفا في بعض الفروع. انتهى. جمل نقلا من زاده. هذا؛ وجملة:{وَشَهِدَ شاهِدٌ..} . إلخ معطوفة على جملة: {كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ..} . إلخ. انتهى. نسفي.

{فَآمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الشاهد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَاسْتَكْبَرْتُمْ:} فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، التقدير: عن الإيمان، والجملة معطوفة على ما قبلها. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر «إن» . {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الظّالِمِينَ:} صفة: {الْقَوْمَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنْ..} . إلخ مستأنفة، أو معترضة بين المتعاطفتين، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}

الشرح: ذكر القرطبي: أنّ المفسرين اختلفوا في سبب نزول هذه الاية على ستة أقوال، وسردها الزمخشري سردا؛ حيث قال: وهو كلام كفار مكة، قالوا: عامة من يتبع محمدا السّقّاط -يعنون الفقراء مثل: عمار، وصهيب، وابن مسعود-فلو كان ما جاء به خيرا؛ ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل: لما أسلمت جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار؛ قالت بنو عامر، وغطفان، وأسد، وأشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاة البهم. وقيل: إن أمة لعمر-رضي الله عنه-أسلمت، فكان عمر يضربها حتى يفتر، ثم يقول: لولا أني فترت؛ لزدتك ضربا. وكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقا؛ ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. انتهى.

ص: 17

قال الجمل-رحمه الله تعالى-: قالوا ذلك زعما منهم: أن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية، كما قالوا:{لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} رقم [31] من سورة (الزخرف) لأنّ معالي الأمور بنظرهم لا تنالها أيدي الأراذل، وهم سقاط عامتهم فقراء، وموال، ورعاة. وزل عنهم: أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية، والإقبال على الاخرة بالكلية، وأنّ من فاز بها؛ فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها؛ فماله منها من خلاق. انتهى.

أقول: وهذه مقالة الطغاة الفاسدين في كل زمان، ومكان، فقوم نوح قالوا له:{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ..} . إلخ رقم [27] من سورة (هود) وقالوا له في سورة (الشعراء) رقم [111]: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} . ومثل الاية الكريمة قوله تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} رقم [53] من سورة (الأنعام)، انظر شرحها هناك.

{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أي: بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم. والأول أقوى. {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي: من قول الأقدمين، فهو على حد قولهم في كثير من الايات:{أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فلما لم يصيبوا الهدى بالقرآن، ولا بمن جاء به؛ عادوه، ونسبوه إلى الكذب، وقالوا: هذا إفك قديم. هذا؛ وقد قيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال: نعم، قال الله تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ،} ومثله قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [39]:{بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ..} . إلخ.

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (قال)، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الإيمان المفهوم مما سبق. {خَيْراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:}

نافية. {سَبَقُونا:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ: معطوفة على جملة: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها.

{وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب يتعلق بفعل محذوف، التقدير: وإذ لم يهتدوا به؛ ظهر عنادهم، ولا يعلق بقوله:

{فَسَيَقُولُونَ} لأنه مستقبل يتعارض مع المضي المفهوم من الظرف. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَهْتَدُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال

ص: 18

الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكلام مستأنف، لا محل له. {فَسَيَقُولُونَ:}

الفاء: حرف عطف وسبب. و «السين» حرف يفيد الاستقبال ويقال لها: سين التنفيس. (يقولون):

فعل مضارع والواو فاعله. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِفْكٌ:} خبر المبتدأ. {قَدِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وفيها معنى التفسير لما قبلها.

{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}

الشرح: {وَمِنْ قَبْلِهِ:} قبل القرآن. {كِتابُ مُوسى} أي: التوراة. {إِماماً} أي: جعلناه إماما يقتدى به، ويؤتم به في دين الله، وشرائعه كما يؤتم بالإمام. {وَرَحْمَةً} أي: من الله لمن آمن به، واهتدى بهديه. وفي الكلام حذف؛ أي: فلم تهتدوا به، ولم تعملوا بتعاليمه. وذلك:

أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم، والحث على اتباعه، والإيمان به، كما ستعرفه في آخر سورة (الفتح) فتركوا ذلك. {وَهذا} أي: القرآن. {كِتابٌ مُصَدِّقٌ} يعني: للتوراة، ولما قبله من الكتب. وفي كثير من الايات:{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما تقدمه من الكتب السماوية.

{لِساناً عَرَبِيًّا:} وفي سورة (النحل) رقم [103] قوله تعالى: {وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي:

بين الفصاحة، والبلاغة، وقد أطلق الله كلمة (لسان) على القرآن بكامله، كما أطلقه العرب على كلمة السوء، وعلى القصيدة من الشعر، فمن الأول قول الشاعر:[الوافر] لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت وما حسبتك أن تحينا

وهذا هو الشاهد رقم [330] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ومن الثاني قول الشاعر: [المتقارب] أتتني لسان بني عامر

فجلّى أحاديثها عن بصر

وقد يجعل كناية عن الكلمة الواحدة، كما في قول الأعشى، وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه:

«المنتشر» : [البسيط]

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

قال الجوهري: يروى: من علو (بضم الواو، وفتحها، وكسرها) أي: أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة، وقد أطلقه الله على القرآن بكامله، كما رأيت، كما أطلقه على الثناء الجميل، والذكر الحسن في قوله جلّت قدرته:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} الاية رقم [50] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ واللسان يؤنث فيجمع: ألسن،

ص: 19

كذراع، وأذرع، ويذكر، فيجمع على: ألسنة، كحمار، وأحمرة، وتصغيره على التذكير: لسين، وعلى التأنيث: لسينة.

{لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، ومخالفة الله الواحد القهار.

{وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ} أي: الذين أحسنوا العمل؛ أي: يبشرهم القرآن بالجنة، والرضا، والرضوان، والعفو، والغفران. هذا؛ وانظر وصف المحسنين في أول سورة (الذاريات):{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ..} . إلخ ووصفهم بآية (لقمان) رقم [4] بقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لفضل اعتداد بهذه الأمور الثلاثة، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام:

«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنّه يراك» . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. (من قبله): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {كِتابُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {إِماماً:} حال من: {كِتابُ مُوسى} والعامل في الحال معنوي، وهو الابتداء، وهذا لا يسوغ إلا على اعتباره فاعلا بالظرف على مذهب الأخفش، ومن يوافقه على عدم اشتراط الاعتماد على نفي، أو شبهه لعمله، وأما على اعتباره مبتدأ، فلا يصح مجيء الحال منه؛ لأنّ الحال تبين هيئة فاعل، أو مفعول، وانظر الشاهد رقم [133] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . هذا؛ ومثل هذه الاية رقم [52] من سورة (النحل).

{وَرَحْمَةً:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَمِنْ قَبْلِهِ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{وَهذا:} الواو: حرف عطف. (هذا كتاب): مبتدأ، وخبر. {مُصَدِّقٌ:} صفة: {كِتابُ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {لِساناً:} حال من ضمير (الكتاب) المستتر في: {مُصَدِّقٌ،} والعامل فيه: {مُصَدِّقٌ،} ويجوز أن يكون حالا من: {كِتابُ} لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة، وجوز أن يكون مفعولا ل:{مُصَدِّقٌ} أي: يصدق ذا لسان عربي، وهو الرسول، و {لِساناً} حال موطئة؛ لأن المقصود الصفة، وهو {عَرَبِيًّا} .

{لِيُنْذِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:

{كِتابُ،} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان ب:{مُصَدِّقٌ} . {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {وَبُشْرى:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: وهو بشرى، وهذا أحد الأوجه في الاية، والثاني: أنه معطوف على: {مُصَدِّقٌ} فهو في موضع رفع أيضا. والثالث: أنه في محل نصب معطوفا على محل: {لِيُنْذِرَ} لأنه مفعول له، قاله الزمخشري، وتبعه أبو البقاء، وتقديره: للإنذار، والبشرى. ولما اختلفت العلة والمعلول؛ توصل العامل إليه باللام. انتهى. جمل نقلا من كرخي. هذا؛ وأجاز القرطبي أن يكون منصوبا

ص: 20

بنزع الخافض؛ أي: لينذر الذين ظلموا، وللبشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى، أو بشارة؛ نصب، كما تقول: أتيتك لأزورك، وكرامة لك، وقضاء لحقك؛ يعني: لأزورك وأكرمك، وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر. انتهى قرطبي. {لِلْمُحْسِنِينَ:} متعلقان ب: (بشرى).

{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا:} لا أرى حاجة إلى المزيد على ما ذكرته في الاية رقم [30] من سورة (فصلت) وأضيف هنا ما ذكره البيضاوي-رحمه الله تعالى-حيث قال: جمعوا بين التوحيد؛ الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في الأمور؛ التي هي منتهى العمل، و (ثم) للدلالة على تأخر رتبة العمل، وتوقف اعتباره على التوحيد. {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ:} من لحوق مكروه. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ:} على فوات محبوب. انتهى. وانظر شرح {رَبُّنَا} في سورة الجاثية رقم [36].

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {رَبُّنَا:} مبتدأ، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اللهُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، أو مبتدأة، لا محل لها على الاعتبارين. {ثُمَّ:}

حرف عطف. {اِسْتَقامُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {فَلا:} الفاء: صلة لتحسين اللفظ. (لا): نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها إعمال «ليس» لأنها تكررت. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، ويجوز تعليقهما ب:{خَوْفٌ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، تقديره: حاصل، أو موجود، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ،} وزيدت الفاء في خبر الموصول، لما فيه من معنى الشرط، ولم تمنع {إِنَّ} من ذلك لبقاء معنى الابتداء، بخلاف:«ليت» و «لعل» و «كأن» . انتهى. جمل نقلا عن السمين. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي. {عَلَيْهِمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وهذه الجملة ذكرت في سورة (البقرة) بآيات كثيرة، وفي غيرها من السور.

{أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)}

الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى: (الذين استقاموا). {أَصْحابُ الْجَنَّةِ:} جعلوا أصحاب الجنة، بمعنى مالكيها لملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في أصحاب النار. هذا؛

ص: 21

وأصحاب جمع صاحب، ويكون بمعنى: المالك كما هنا، ويكون بمعنى: الصديق، ويجمع أيضا على صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على: أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب. هذا؛ والصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا، ولو مدة قصيرة.

{خالِدِينَ فِيها} أي: في الجنة، لا يخرجون، ولا يبرحون، ولا يهرمون، ولا يموتون، سنّهم واحدة: ثلاث وثلاثون سنة. {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: كان دخول الجنة، وخلودهم فيها مكافأة لهم على ما قدموا في الدنيا من الأعمال الصالحة. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الاية في أبي بكر-رضي الله عنه-والصحيح: أنها تعمّ كل من قال: ربنا الله، ثم استقام.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان ل: {إِنَّ،} أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: اسم الإشارة، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها. {خالِدِينَ:} حال من {أَصْحابُ الْجَنَّةِ} فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {خالِدِينَ} . {جَزاءً:}

مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: جوزوا جزاء. وقيل: هو مصدر بمعنى الحال. {بِما:}

جار ومجرور متعلقان ب: {جَزاءً} . و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: جزاء بالذي، أو: بشيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: جزاء بعملهم. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبره.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}

الشرح: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: بيّن اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما، وقد يخالفهما؛ أي: فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض، ويكفر البعض، فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض. قاله القشيري.

ص: 22

تنبيه: ذكرت لك في سورة (العنكبوت) رقم [8] أن الاية هناك، والاية في سورة (لقمان) رقم [14] والاية هنا نزلن في سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنهم أجمعين-وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، لما أسلم-رضي الله عنه-وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان بارا بأمه، فلما أسلم، قالت له أمه: ما هذا الذي أحدثت؟ والله لا آكل، ولا أشرب، ولا يظلني سقف بيت من الحر، والريح حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت، فتعيّر بذلك أبد الدهر! ويقال: يا قاتل أمه! ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل، ولم تشرب، ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم إنها مكثت يوما وليلة كذلك، فجاءها، وقال: يا أماه! والله لو كان لك مئة نفس، فخرجت نفسا نفسا؛ ما تركت ديني، فكلي واشربي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، ولا تشربي! فلما أيست منه؛ أكلت وشربت، واستظلت.

والأصح: أنها نزلت في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-وهو قول علي، وابن عباس رضي الله عنهما-نزلت فيه، وفي أبيه أبي قحافة، وأمه أم الخير، وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة، ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو، ووالده، وبنوه، وبناته غير أبي بكر-رضي الله عنهم.

هذا؛ والفعل: (وصى) حكمه حكم الأمر في معناه، وتصرفه. يقال: وصيت زيدا بأن يفعل كذا: كما تقول: أمرته بأن يفعل كذا، ومنه قول الشاعر:[الوافر] وذبيانيّة وصّت بنيها

بأن كذب القراطق والقروف

يصف امرأة وصت بنيها بحفظ القراطق، جمع: القرطق، وهي القطعة المخملة. والقروف:

أوعية من أدم. ومنه: قوله تعالى في سورة (البقرة): {وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أي:

وصاهم بكلمة التوحيد، وأمرهم بها. هذا؛ وأما {الْإِنْسانَ} فإنه يطلق على الذكر والأنثى من بني آدم، ومثله كلمة (شخص) قال تعالى في سورة (العصر):{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} ومعلوم: أنّ الله تعالى لم يقصد الذكور خاصة، والقرينة الايات الكثيرة الدالة على أنّ المراد الذكر، والأنثى. واللام في {الْإِنْسانَ} إنما هي لام الجنس التي تفيد الاستغراق، ولذا صحّ الاستثناء من الإنسان في سورة (العصر). هذا؛ وإنسان العين: هو المثال الذي يرى فيها، وهو النقطة السوداء، التي ترى لامعة وسط السواد، قال ذو الرمة-وهو الشاهد رقم [889] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل] وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجمّ فيغرق

هذا؛ وجمع الإنسان: الناس. والإنس: البشر، الواحد: إنسي بكسر الهمزة فيهما، وهما ضد الجن، والجني، وجمع الإنسي: أناس، كما في قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [71]:

ص: 23

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} ويجمع أيضا على: أناسي، كما في الاية رقم [49] من سورة (الفرقان). هذا؛ وفي قوله تعالى:{بِوالِدَيْهِ} تغليب الوالد على الوالدة، وفي أبويه تغليب الأب على الأم.

{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي: بكره، ومشقة. فالأول المراد به حين أثقلت، وثقل الولد في بطنها. والمراد بالثاني ما تلاقيه من عناء الطلق، والولادة، و {كُرْهاً} بضم الكاف، ويقرأ بفتحها، قيل: هما لغتان مثل: الضّعف، والضّعف، والفقر، والفقر، والشّهد، والشّهد.

قاله الكسائي، وكذلك هو عند البصريين، وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل عليه غيره، قهرا، وغصبا، ولهذا قال بعض أهل العربية: إن كرها (بفتح الكاف) لحن.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (لقمان) رقم [14]: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ،} وفي هاتين الايتين تنويه بشأن الأم، وأن حقها أعظم من حق الأب، وأنها تستحق من الطاعة، والإكرام، والخدمة، والاحترام أكثر مما يستحق الأب؛ وذلك لما قاسته من الالام بسبب الولد، ولما هي مجبولة عليه من الضعف الخلقي، والجسدي، والمعنوي، ولا سيما إذا بلغت من العمر عتيا، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر المسلم إلى هذا، وذلك فيما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمّك» . قال: ثمّ من؟ قال: «أمّك» . قال: ثمّ من؟ قال:

«أمّك» . قال: ثمّ من؟ قال: «أبوك» رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه-قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه! قال:«هل بقي من والديك أحد؟» قال: أمّي، قال:«قابل الله في برّها، فإذا فعلت ذلك؛ فأنت حاجّ، ومعتمر، ومجاهد» . رواه الطبراني في الصغير، والأوسط، وأبو يعلى. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل للأم ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وهو ما يفهم من الايتين الكريمتين، وما يذكر إلاّ أولو الألباب. وخذ هذه الطرفة:

فقد روى القالي في أماليه عن أبي عبيدة قال: جرى بين أبي الأسود الدؤلي وامرأته كلام في ابن لها منه، وأراد أخذه منها فصارا إلى زياد ابن أبيه، وهو والي البصرة، فقالت المرأة: أصلح الله الأمير هذا ابني كان بطني وعاءه، وحجري فناءه، وثديي سقاءه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوى فصاله، وكملت خصاله، واستوعكت أوصاله، وأملت نفعه، ورجوت خيره، أراد أن يأخذه مني كرها، فآوني أيها الأمير، فقد رام قهري، وأراد قسري! فقال أبو الأسود: أصلحك الله! هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده، وأمنحه علمي، وألهمه حلمي؛ حتى يكمل عقله،

ص: 24

ويستحكم فتله. فقالت المرأة: أصلحك الله! حمله خفا، وحملته ثقلا، وضعه شهوة، ووضعته كرها. فقال زياد: اردد على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك.

حجري فناءه: شبهت حجرها بفناء الدار لكونه مقر الطفل وملعبه، كما يلعب الصبيان بفناء الدار. أكلؤه: أحفظه. حملته قبل أن تحمله: يريد أنه كان نطفة في صلبه قبل أن تحملها في رحمها. وضعته: أي نطفة في رحمها قبل أن تضعه بالولادة. الأود: العوج. فتله: أراد استكمال قوته. استوعكت: اشتدت. آوني: قوّني وأعني عليه. خفا: خفيفا لا يستشعر به في صلبه، تعني: أنه وإن حمله، ووضعه، لكن شتان ما بين حمله، وحملها، ووضعه ووضعها! وهذا معلوم لدى كل عاقل.

{وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً:} الفصال: الفطام. هذا؛ وقد استدلّ بهذه الاية مع التي في سورة (لقمان) رقم [14]: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي، وصحيح. روى محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله الجهني، قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت لتمام ستة أشهر من زواجها، فانطلق زوجها إلى عثمان-رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها؛ بكت أختها، فقالت: ما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيّ ما شاء، فلما أتي بها عثمان-رضي الله عنه؛ أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا-رضي الله عنه-فأتاه، فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي-رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت الله-عز وجل-يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال في سورة (البقرة) رقم [233]: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} وقال في سورة (لقمان):

{وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان-رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا! عليّ بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها. قال: فقال معمر-رضي الله عنه: فو الله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه؛ قال: ابني والله لا أشك فيه! قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الاكلة، فما زالت تأكله؛ حتى مات. أخرجه ابن أبي حاتم. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وقوله (فوجدوها قد فرغ منها) يفيد: أنها أقيم عليها حد الرجم، وانتهى أمرها. وذكر القرطبي-رحمه الله تعالى-: أنّ عثمان-رضي الله عنه-رجع عن قوله، ولم يحدها. والمروي في موطأ مالك: أنها رجمت، وفي تيسير الوصول، فأمر عثمان بردها، فوجدت قد رجمت.

وهذا هو المعتمد. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر؛ كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأنّ الله تعالى يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} هذا؛ وأصل الكلام: وأمد حمله، وفصاله ثلاثون شهرا. ولا يصح المعنى إلاّ بهذا التقدير.

ص: 25

{حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: قوي، وشب، وارتجل. هذا؛ واختلف في (الأشد) على أقوال كثيرة، والأرجح: أنه ثلاث وثلاثون سنة، كما ذكرته في شأن يوسف، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً:} المراد به: الصديق-رضي الله عنه-على المعتمد.

{قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي: ألهمني ووفقني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} أي:

بالإيمان، والهداية، والتوفيق للعمل الصالح، وهو ما ذكره بقوله:{وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ:}

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فأجابه الله، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله، منهم:

بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلاّ أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟» . قال أبو بكر: أنا.

قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» . قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟» .

قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضا؟» . قال أبو بكر: أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ما اجتمعن في امرئ إلاّ دخل الجنّة» . انتهى.

{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي: واجعل لي الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم. وقد حقّق الله له ذلك، فلم يبق له ولد، ولا والد، ولا والدة إلاّ آمنوا بالله وحده، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة كما قدمته آنفا. هذا؛ وانظر ما ذكرته في سورة (النمل) رقم [19] فهو مثله. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ:} عما لا ترضاه، أو يشغل عنك. {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ:} الموحدين لك المخلصين.

وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة، والإنابة إلى الله عز وجل، ويعزم عليها.

وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: «اللهمّ ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السّلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرّيّاتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا» . انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ و «أصلح» في الاية الكريمة متعد، وإنما جاء لازما لتضمنه معنى: بارك لي في ذريتي، ومنه قول ذي الرمة-وهو الشاهد رقم [920] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -. [الطويل] وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضّيف يجرح في عراقيبها نصلي

فإن الفعل: «يجرح» متعد، وقد جاء لازما؛ لأنه بمعنى يفسد. هذا؛ وقال مالك بن مغول:

اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن معرّف، فقال: استعن عليه بهذه الاية، وتلا {رَبِّ أَوْزِعْنِي..} . إلخ.

الإعراب: {وَوَصَّيْنَا:} الواو: حرف استئناف. (وصينا): فعل، وفاعل. {الْإِنْسانَ:} مفعول به. {بِوالِدَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (وصينا). {إِحْساناً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: وصينا الإنسان أن يحسن إليهما إحسانا. وقيل: بل هو مفعول به على تضمين

ص: 26

(وصينا) معنى: ألزمنا، فيكون مفعولا ثانيا، ومثله المصدر المؤول من «أن يحسن إليهما» ، وقيل: بل هو منصوب على المفعول له؛ أي: وصينا بهما إحسانا منا إليهما. وقيل: هو منصوب على المصدر؛ لأنّ معنى (وصينا): أحسنّا، فهو مصدر صريح، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. هذا؛ ويقرأ:«(حسنا)» على أنه صفة مصدر محذوف مع حذف مضاف؛ إذ التقدير: وصينا الإنسان بوالديه أيضا ذا حسن. وقيل: هو منصوب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية؛ أي: قل لهما، أو: افعل بهما حسنا، وهو أوفق لما بعده. وقال مكي: التقدير: وصينا الإنسان بوالديه أمرا ذا حسن، ثم أقام الصفة مقام الموصوف، وهو الأمر، ثم حذف المضاف، وهو:

«ذا» وأقام المضاف إليه مقامه، وهو: حسن. انتهى. وهذا يعني: أن الفعل قد نصب مفعولين، كما ذكرته سابقا. وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: وصينا الإنسان بوالديه بحسن، وانظر ما ذكرته في سورة (العنكبوت) رقم [8]. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{حَمَلَتْهُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {أُمُّهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {كُرْهاً:} حال من: {أُمُّهُ} أي: ذات كره، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تكره كرها، وهذه الجملة في محل نصب حال، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: حملا كرها، أو هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: على كره، أو بكره، والجملة الفعلية فيها معنى التعليل للوصية، وجملة:{وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: وحملها إياه، وفصالها إياه. {ثَلاثُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{شَهْراً:} تمييز، والجملة الاسمية:{حَمَلَتْهُ..} . إلخ في محل نصب حال من: {الْإِنْسانَ،} والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها معطوفة؛ فلا محل لها، وانظر الاية رقم [14] من سورة (لقمان) فالإعراب متقارب من بعضه، ولا تنس تقدير المضاف في الشرح لتصحيح المعنى.

{حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش في مثل ذلك جارة ل:{إِذا} . {إِذا:} انظر الاية رقم [6]. {بَلَغَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ}. {أَشُدَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها. {سَنَةً:} تمييز. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ}. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وفيه ست لغات، انظر إعراب «يا قوم» في الاية رقم [51] من سورة (الزخرف) فهو مثله. {أَوْزِعْنِي:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به أول. {الْإِنْسانَ:} حرف مصدري، ونصب. {أَشْكُرَ:} فعل مضارع منصوب ب: {الْإِنْسانَ،} والفاعل تقديره: «أنا» ، و {الْإِنْسانَ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ثان. {نِعْمَتَكَ:} مفعول به، والكاف في محل

ص: 27

جر بالإضافة. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {نِعْمَتَكَ} .

{أَنْعَمْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: التي أنعمتها. {عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَعَلى والِدَيَّ:} معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، و {وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً} معطوف على {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} فهو مثله في الإعراب، والتأويل، والمحل. {تَرْضاهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية للموصوف المحذوف؛ إذ التقدير: وأن أعمل عملا صالحا مرضيا لك.

{وَأَصْلِحْ:} فعل دعاء، وفاعله تقديره:«أنت» . {عَلَيَّ:} متعلقان بما قبلهما. {فِي ذُرِّيَّتِي:}

متعلقان بمحذوف حال، انظر تقدير الكلام في الشرح، وإن علقتهما بالفعل:{وَأَصْلِحْ} فلست مفندا. هذا؛ والكلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له خلافا للأخفش الذي يعتبر {حَتّى} جارة ل:{إِذا،} وهو غير مسلم له.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {تُبْتُ:} فعل وفاعل. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية تعليل للدعاء، لا محلّ لها. {وَإِنِّي:} الواو: حرف عطف. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: «إن» والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)}

الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ..} . إلخ أي: هؤلاء المتصفون بما ذكر، التائبون إلى الله، المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة، والاستغفار هم الذين {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ،} فنغفر لهم الكثير من الزلل، ونتقبل منهم اليسير من العمل. هذا؛ وجمع اسم الإشارة وإن كان عائدا على الإنسان المذكور في الاية السابقة للتعظيم والتبجيل، وقيل: نزلت في أبي بكر-رضي الله عنه-وأبيه أبي قحافة، وأمه أم الخير، وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم. ولا بأس به. هذا؛ وقرئ الفعلان {نَتَقَبَّلُ} و (نتجاوز) بياء المضارعة مفتوحة ومضمومة أيضا.

{فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ:} مع أصحاب الجنة، {وَعْدَ الصِّدْقِ} أي: وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. {الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} أي: في الدنيا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم والايات التي تنصّ على ذلك كثيرة.

ص: 28

تنبيه: روى ابن أبي حاتم عن محمد بن حاطب، قال: لقد شهدت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه-وعنده عمار، وصعصعة، والأشتر، ومحمد بن أبي بكر-رضي الله عنهم فذكروا عثمان، فنالوا منه، فكان علي على السرير، ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم، فسألوه، فقال علي-رضي الله عنه: كان عثمان-رضي الله عنه-من الذين قال الله فيهم: {أُولئِكَ الَّذِينَ..} . إلخ؛ قال: والله عثمان، وأصحاب عثمان-رضي الله عنهم-قالها ثلاثا، قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب: الله لسمعت هذا من علي-رضي الله عنه؟ قال: الله لسمعت هذا من علي-رضي الله عنه!. انتهى. مختصر ابن كثير للصابوني.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ.

{نَتَقَبَّلُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» وعلى قراءته بالياء فالفاعل يعود إلى (الله) تقديره: «هو» . {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَحْسَنَ:} مفعول به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بإضافة:{أَحْسَنَ} إليها، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أحسن الذي، أو: شيء عملوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: أحسن عملهم، وجملة:{وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها، وإعرابها لا خفاء فيه. {فِي أَصْحابِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا ب: {عَنْهُمْ،} وقيل: {فِي} بمعنى «مع» وعليه فهي متعلقة بالفعل قبلها، وأجاز السمين تعليقهما بمحذوف خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم في أصحاب الجنة، وتعود الجملة في محل نصب حال، و {أَصْحابِ} مضاف، و {الْجَنَّةِ} مضاف إليه. {وَعْدَ:} مفعول مطلق، عامله محذوف، انظر تقديره في الشرح. و {وَعْدَ} مضاف، و {الصِّدْقِ} مضاف إليه من إضافة الموصوف لصفته. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {وَعْدَ الصِّدْقِ،} والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي كانوا يوعدونه، والجملة:{وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها، مثل: أنت أخي حقا.

{وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}

الشرح: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما:} جميع المفسرين أحال على سورة (الإسراء) رقم [23] وأنا أعيد ما ذكرته هناك، وأقول: معناها الإجمالي العام: التضجر والتبرم. وعن أبي رجاء

ص: 29

العطارديّ قال: الأف: الكلام القذع، الرديء، الخفي. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-:

معناه: إذا رأيت من الوالدين في حال الشيخوخة الغائط، والبول؛ الذي رأيا منك في الصغر؛ فلا تقذرهما، وتقول: أف. وقال بعضهم: معنى {أُفٍّ} الاحتقار، والاستقلال، أخذ من «الأفف» وهو القليل. وروي من حديث علي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو علم الله من العقوق شيئا أردأ من {أُفٍّ} لذكره، فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل؛ فلن يدخل النّار، وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل؛ فلن يدخل الجنة» .

هذا؛ وقرئ {أُفٍّ} بقراآت كثيرة، قال أبو البقاء العكبري-رحمه الله تعالى-: فمن كسر؛ بناه على الأصل، ومن فتح؛ طلب التخفيف، مثل: ربّ، ومن ضم؛ فقد أتبع، ومن نون؛ أراد التنكير، ومن لم ينون؛ أراد التعريف، ومن خفف الفاء؛ حذف أحد المثلين. انتهى. وينبغي أن تعلم: أن هذا اللفظ قد ذكر في سورة (الإسراء) رقم [23]، وفي سورة (الأنبياء) رقم [67] وذكر هنا. هذا؛ وعبارة السيوطي في سورة (الإسراء): و {أُفٍّ} مصدر، وكتب عليه الكرخي هناك:

وهو مصدر أفّ، يؤفّ أفّا، بمعنى تبا، وقبحا، أو صوت يدلّ على تضجر، أو اسم الفعل، الذي هو أتضجر، فجعل فيه احتمالات ثلاثة: مصدر، واسم صوت، واسم فعل. انتهى. جمل.

{أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي: أبعث من القبر بعد موتي، وأحاسب، وأجازى. {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} أي: الناس الذين كانوا قبلي في القرون الخالية، فلم يرجع منهم أحد. {وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ} أي: يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام، واستنكار لقوله؛ فلذا يقولان له:{وَيْلَكَ آمِنْ:} هو دعاء عليه بالثبور، والمراد به: الحث، والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك، فإنهما لم يريداه له. {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أي: صدق لا خلف فيه. {فَيَقُولُ ما هذا} أي: الذي تدعونني إليه. {إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: أحاديثهم، وما سطروه مما لا أصل له. هذا؛ واستغاث يتعدى بنفسه تارة، وبالباء أخرى، وإن كان ابن مالك زعم: أنّه يتعدى بنفسه فقط، وعاب قول النحاة مستغاث به، قلت: لكنه لم يرد في القرآن إلاّ متعديا بنفسه، قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [9]:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (القصص) رقم [15]:{فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ..} . إلخ، وقال في سورة (الكهف) رقم [29]:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ..} . إلخ. انتهى. جمل نقلا عن السمين. تأمل غلطه في آية (الكهف) كيف استدلّ بها فغلط، فسبحان من لا يسهو، ولا يغفل.

هذا، وانظر {وَيْلَكَ} في سورة (الزخرف) رقم [65]. أما {الْقُرُونُ} فهو جمع: قرن بفتح القاف وسكون الراء مئة سنة على الصحيح، وقيل: ثمانون، وقيل: ثلاثون. ويقال: القرن في الناس أهل زمان واحد، وهو المراد في الاية الكريمة، ونحوها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني» ومنه قول الشاعر: [الطويل]

ص: 30

إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم

وخلّفت في قرن، فأنت غريب

وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل] فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب

لعلّك تهديك القرون الأوائل

والقرن (بفتح القاف) أيضا: الزيادة العظمية، التي تنبت في رؤوس بعض الحيوانات، ومنه إسكندر ذو القرنين. والقرن: الجبل الصغير، وذؤابة المرأة من الشعر. والقرن من القوم:

سيدهم، ومن السيف: حده، ونصله، وجمعه في كل ما تقدم: قرون. هذا؛ وهو بكسر القاف، وسكون الراء: الكفء في الشجاعة، والعلم، ونحوهما، والجمع على هذا: أقران.

هذا؛ و {أَساطِيرُ} جمع: أسطورة، وإسطارة بضم الهمزة في الأول وكسرها في الثاني، فالأول مثل: أحدوثة، وأضحوكة، وأعجوبة، وجمعها: أحاديث، وأضاحيك، وأعاجيب.

وقيل: واحدها: سطر بفتح السين والطاء. وأسطار: جمع، وأساطير: جمع الجمع، مثل:

أقوال، وأقاويل. هذا؛ وسطر الكتابة جمعه في القلة: أسطر، وفي الكثرة: سطور، مثل: فلس، وأفلس، وفلوس. هذا؛ وقد قيل في معنى {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ:} إنها الترهات، وهي عند العرب غامضة، ومسالك وعرة مشكلة، يقول قائلهم: أخذنا في الترهات، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل؛ الذي لا يعرف، فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف، ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها.

بعد هذا لقد اختلف فيمن نزلت فيه الاية الكريمة، فقد قال ابن عباس، والسدي، وأبو العالية، ومجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر-رضي الله عنهما-وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، فيجيبهما بما أخبر الله، عز وجل. وقال قتادة، والسدي أيضا: هو عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه، وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام، ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه، وروي: أن عائشة-رضي الله عنها-أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمن. وقال الحسن، وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال: نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه، والله عز وجل يقول:{أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي: العذاب، ومن ضرورته عدم الإيمان، وعبد الرحمن من أفاضل المؤمنين؟! فالصحيح: أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. انتهى. قرطبي.

هذا؛ وجاء في مختصر ابن كثير قوله: وهذا عام في كل من قال هذا. ومن زعم: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، فقوله ضعيف؛ لأنه أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه، وإنما هذا عام في كل من عقّ والديه، وكذّب بالحق، فقال لوالديه:{أُفٍّ لَكُما..} . إلخ. روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن المديني؛ قال: إني لفي المسجد حين خطب

ص: 31

مروان بن الحكم، فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين معاوية في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه؛ فقد استخلف أبو بكر عمر-رضي الله عنهما. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر-رضي الله عنهما: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلاّ رحمة، وكرامة لولده! فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن-رضي الله عنه: ألست ابن اللعين، الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك، قال: وسمعتها عائشة-رضي الله عنها-فقالت: يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن كذا، وكذا؟ كذبت، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان، ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر، حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها؛ حتى انصرف.

وروى النسائي عن محمد بن زياد؛ قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد؛ قال مروان: سنة أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل، وقيصر. فقال مروان: هذا الذي قال الله تعالى فيه: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما..} . إلخ. فبلغ ذلك عائشة-رضي الله عنها-فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله؛ أي: قطعة من لعنة الله. انتهى. بتصرف بسيط، وفي الكشاف. نحوه. وفي السيرة الحلبية وزيني دحلان أحاديث كثيرة في ذم مروان وأبيه الحكم وذريتهما. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِي:} الواو: حرف استئناف. (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، خبره في الاية التالية. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(الذي)، وهو العائد. {لِوالِدَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {أُفٍّ:} اسم فعل مضارع، انظر الشرح لبنائه وما ذكرته فيه، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . {لَكُما:} متعلقان ب: {أُفٍّ} . وقيل:

متعلقان بمحذوف حال. والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَتَعِدانِنِي:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (تعدانني): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {أُخْرَجَ:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» ، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والمصدر المؤول من:{أَنْ أُخْرَجَ} في محل نصب مفعول به ثان للفعل: «يعد» ، أو هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: بالخروج، والأول أقوى. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال.

(قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {خَلَتِ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث، التي هي حرف، لا محلّ له. {الْقُرُونُ:}

فاعله. {مِنْ قَبْلِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم،

ص: 32

منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من نائب الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{وَهُما:} الواو: واو الحال. (هما): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{يَسْتَغِيثانِ:} فعل مضارع مرفوع، والألف فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (والديه)، والرابط:

الواو، والضمير. هذا؛ والكلام:{أُفٍّ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَيْلَكَ:} مفعول مطلق لم يذكر فعله أبدا، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ألزمك الله ويلك، وعلى كلا التقديرين: فالجملة في محل نصب مقول القول لقول مقدر؛ أي: يقولان: ويلك آمن، والجملة الفعلية على هذا التقدير في محل نصب حال من ألف الاثنين؛ أي: يستغيثان الله قائلين: ويلك. {آمِنْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة مقولة للمحذوف. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {وَعْدَ:}

اسمها، وهو مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر {أَنْ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، وهي من جملة المقول. {فَيَقُولُ:} الفاء: حرف عطف.

(يقول): مضارع، والفاعل يعود إلى «الذي». {لَكُما:} نافية. {هذا:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَساطِيرُ:} خبر، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية هذه معطوفة على المقدرة قبلها.

{أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)}

الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي: بأنهم أهل النار، ومعنى {حَقَّ:} وجب عليهم العذاب، وهي قوله تعالى في سورة (السجدة):{وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} وقوله تعالى في الحديث القدسي: «هؤلاء في الجنّة ولا أبالي، وهؤلاء في النّار ولا أبالي» . هذا؛ وجمع الإشارة العائدة إلى الموصول دليل واضح على أن المراد به الجنس، وليس مرادا فردا واحدا كما ذكر عن عبد الرحمن بن أبي بكر-رضي الله عنهما-الذي هو مع أبيه من أفاضل المؤمنين الصادقين. {فِي أُمَمٍ:} مع أمم، وهو جمع: أمة، انظر الاية رقم [8] من سورة (الشورى). {قَدْ خَلَتْ:} مضت، وتقدمت، {مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ..} . إلخ، المراد بهم الكافرون من الثقلين. {إِنَّهُمْ} أي: تلك الأمم الخالية. {كانُوا خاسِرِينَ} أي: لأعمالهم؛ التي عملوها في الدنيا، بمعنى: ضاع سعيهم، وخسروا الجنة. وانظر ما ذكرته في سورة (الشورى) رقم [45] بشأن هذا الخسران.

ص: 33

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ (الذي). {حَقَّ:} فعل ماض. {عَلَيْهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقَوْلُ:} فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {فِي أُمَمٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا ب: (على). {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى:{أُمَمٍ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة: {أُمَمٍ} . {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْجِنِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الأمم؛ لأنّها وصفت بالجملة الفعلية، أو هما متعلقان بمحذوف صفة ثانية. {وَالْإِنْسِ:} معطوف على ما قبله. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {خاسِرِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية فيها معنى التأكيد لقوله:{حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وقول الجمل: تعليل. وقال البيضاوي: «تعليل للحكم على الاستئناف» لا أراه قويا.

{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)}

الشرح: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ} أي: ولكل واحد من الفريقين: المؤمنين، والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم من الخير، والشر. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الاية تذهب سفالا، ودرجات أهل الجنة تذهب علوا. هذا؛ ومقتضاه: أنّ مراتب أهل النار يقال لها درجات بالجيم، والذي في الحديث:«أنها دركات» . وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} .

وأجيب بوجوه: أحدها: أنّ ذلك على جهة التغليب. ثانيا: أنّ المراد بالدرجات المراتب مطلقا؛ أي: سواء أكانت إلى علو، وهي مراتب أهل الجنة، أو إلى سفل، وهي مراتب أهل النار. {مِمّا عَمِلُوا} أي: من أجل ما عملوا. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ} أي: جزاء أعمالهم. وقرئ الفعل بالياء، والنون. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ؛} أي: لا يزاد على مسيء سيئة، ولا ينقص من محسن حسنة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلِكُلٍّ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لكلّ): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دَرَجاتٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {دَرَجاتٌ،} وانظر إعراب: {أَحْسَنَ ما عَمِلُوا} في الاية رقم [16]، فالإعراب واحد على جميع الاعتبارات، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ:} الواو: حرف عطف.

(ليوفيهم): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:

ص: 34

«هو» أو تقديره: «نحن» ، والهاء مفعول به أول. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وجازاهم بذلك ليوفيهم. وهذه الجملة معطوفة على جملة: {عَمِلُوا} . {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محل لها. والأول أقوى.

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}

الشرح: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} أي: ذكرهم يا محمد يوم يعرض. {الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ} أي:

يكشف الغطاء فيقربون من النار، وينظرون إليها. عرضهم على النار: تعذيبهم بها؛ من قولهم:

عرض بنو فلان على السيف: إذا قتلوا به. وقيل: المراد: عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون عرض الحوض عليها، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس-رضي الله عنهما: يجاء بهم إليها، فيكشف لهم عنها. ولقد قال بهذا القلب الجوهري، وجماعة، منهم: السكاكي، والزمخشري، قالوا: فالأصل: ويوم تعرض النار على الذين كفروا؛ لأن المعروض عليه ما له ميل، فيختار المعروض، أو خلافه. وقيل: لا قلب. واختاره أبو حيان، ورد على قول الزمخشري في الاية بأن عرض الكفار على النار ليس بمقلوب؛ لأنّ الكفار مقهورون، فكأنهم لا اختيار لهم، والنار متصرفة فيهم كالمتاع، الذي يتصرف فيه من يعرض عليه، كما قالوا: عرضت الجارية على البيع، وعرضت القاتل على السيف، والزاني على السوط. هذا؛ وانظر الشاهد رقم [1192] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» وهو من قول القطامي من أبيات في وصف ناقة، وهاك نصه:[الوافر] فلمّا أن جرى سمن عليها

كما طيّنت بالفدن السّياعا

هذا؛ وقد اختلف في هذا العرض، متى يكون؟ هل هو في القبور، أو هو يوم القيامة؟ انظر الاية رقم [45] من سورة (الشورى). {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ..}. إلخ: أي يقال لهم: إن كل ما قدر لكم من الطيبات، واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا، وتمتعتم به، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ} أي: الذي فيه ذل، وخزي. {بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ..}. إلخ: علق هذا العذاب بأمرين: أحدهما: الاستكبار، وهو الترفع، ويحتمل أن يكون عن الإيمان.

ص: 35

والثاني: الفسق، وهو المعاصي، والأول من عمل القلوب، والثاني من عمل الجوارح، وقدّم الأول على الثاني؛ لأنّ أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح.

هذا؛ وقال القرطبي: ومعنى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا، واتبعتم الشهوات، واللذات؛ يعني: المعاصي. وقيل: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} أي: أفنيتم شبابكم في الكفر، والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات: الشباب، والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهبت أطيباه؛ أي:

شبابه، وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا. قلت: القول الأول أظهر. انتهى.

هذا؛ وخذ قول الربيع بن ضبع الفزاري أحد الشعراء المعمرين، وهو الشاهد رقم [402] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الوافر] إذا عاش الفتى مئتين عاما

فقد ذهب المسرّة والفتاء

هذا؛ وأما في أيامنا هذه إذا عاش الإنسان ستين عاما؛ فقد ذهب الهناء، والسرور، وحلّت الأوجاع، والأكدار، والهموم، والأحزان. هذا؛ وانظر شرح {الطَّيِّباتِ} في الاية رقم [16] من سورة (الجاثية).

قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما وبّخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات؛ آثر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الاخرة، فعن عمر رضي الله عنه-قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟! قال: «نعم» . فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلاّ أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال:«أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» . فقلت: استغفر لي يا رسول الله! متفق عليه. انتهى.

وأهبة: جمع: إهاب، وهو الجلد.

هذا؛ وفي: «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري مثل هذا عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه. وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: اشتهى أهلي لحما، فاشتريته لهم، فمررت بعمر، رضي الله عنه، فقال: ما هذا يا جابر؟! فأخبرته، فقال: أو كلّما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه، أما يخشى أن يكون من أهل هذه الاية:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} . وهذا كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابن العربي-رحمه الله تعالى-: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم، والخروج عن جلف الخبز، والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع، وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها؛ استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض، بغلبة العادة، واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر-رضي الله عنه-الأمر من أوله، وحماه

ص: 36

من ابتدائه، كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب، ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان، أو قفارا (خشنا)، ولا يتكلف الطيب، ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع؛ إذا وجد، ويصبر؛ إذا عدم، ويأكل الحلوى؛ إذا قدر عليها، ويشرب العسل؛ إذا اتفق له، ويأكل اللحم؛ إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام، وفساد الحطام، فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته! وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر، لا على تناول الطيبات المحللة. وهو حسن، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه، واستعان به على ما لا يحل له؛ فقد أذهبه. والله أعلم. انتهى. قرطبي بحروفه. أقول: وهذا القول الأخير هو الذي يعتمد، ويؤخذ به، فالله يقول في سورة (الأعراف) رقم [31]:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ..} . إلخ انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، التقدير: يقال لهم يوم

إلخ. {يُعْرَضُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محلّ لها. {عَلَى النّارِ:} متعلقان بالفعل: {يُعْرَضُ} . {أَذْهَبْتُمْ:} فعل، وفاعل. {طَيِّباتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي حَياتِكُمُ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {الدُّنْيا:} صفة لما قبله مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{أَذْهَبْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول ل: «يقال

إلخ» الذي رأيت تقديره، والجملة المقدرة: «يقال لهم يوم

إلخ» معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {وَاسْتَمْتَعْتُمْ:} فعل، وفاعل. {بِها:}

متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول.

{فَالْيَوْمَ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: الفصيحة، ولا وجه له. (اليوم): ظرف زمان متعلق بما بعده. {تُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْهُونِ} مضاف إليه من إضافة الموصوف لصفته، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما):

مصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَسْتَكْبِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{تُجْزَوْنَ} التقدير: بسبب استكباركم، وبسبب فسقكم. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة،

ص: 37

و «غير» مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه. هذا؛ وأجاز الجلال اعتبار (ما) في الموضعين موصولة، واعتبارها مصدرية أقوى. تأمل، وتدبر.

{وَاُذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)}

الشرح: {وَاذْكُرْ أَخا عادٍ:} هو هود، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقد مضت قصته مفصلة في سورة (الأعراف) وفي سورة (الشعراء) وفي السورة المسماة باسمه، فلا حاجة إلى المزيد على ما ذكرته في تلك السور. {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ:} خوفهم عقاب الله، وغضبه. والمعنى: اذكر لهؤلاء المشركين قصة هود مع قومه؛ ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود؛ ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له.

و (الأحقاف) ديار قوم عاد، وهي الرمال العظام في قول الخليل، وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. و (الأحقاف) جمع: حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم، واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع: حقاف، وأحقاف، واحقوقف الرمل، والهلال؛ أي: اعوج.

وقال قتادة: هي جبال مشرفة بالشّحر، والشّحر قريب من عدن. وعنه أيضا: ذكر لنا: أنّ عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشّحر. وقال مقاتل:

كانت منازل عاد باليمن في حضرموت، بموضع يقال له: مهرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، فيقال: إبل مهرية، ومهاري، وهو المعتمد. والله أعلم. هذا؛ وقال صاحب القاموس:

(الأحقاف) جمع: الحقف بالكسر: المعوج من الرمل، والجمع: أحقاف، وحقاف، وحقوف، وجمع الجمع: حقائف، وحقفة. والحقف: رمل مستطيل مرتفع، فيه اعوجاج، وانحناء، ومنه:

احقوقف الشيء: اعوج، قال امرؤ القيس في معلّقته رقم [28]:[الطويل] فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ:} مضت الرسل. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: قبل هود عليه السلام، فالذين قبله أربعة: آدم، وشيث، وإدريس، ونوح. {وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: جاؤوا بعد هود، كصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وكذا سائر أنبياء، ورسل بني إسرائيل. {أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} والمعنى: قال لهم هود: اعبدوا الله، ولا تعبدوا غيره أبدا. {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: قال لهم هود ذلك. هذا، وقد قال تعالى في سورة (فصلت):{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} والمراد ب: {يَوْمٍ} يوم القيامة، وما بعده. هذا؛ والتعبير عن الأمام، والخلف بقوله تعالى:{ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ}

ص: 38

كثير في القرآن الكريم، وإن اختص كل موضع بتفسير حسب مقتضيات الأحوال، واختلافها؛ فمثلا قوله تعالى:{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} في الاية رقم [28] من سورة (الأنبياء) يفسر بغير ما في هذه الاية هنا، وكذلك الاية رقم [110] من سورة (طه). وكلتاهما تخالفان معنى الاية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه: {عادٍ} المذكورة هنا باختصار هي التي تسمى عادا الأولى، وأما عاد الثانية فمتأخره، قال تعالى في سورة (النجم) رقم [50 و 51]:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى} وتسمى عاد إرم لقوله تعالى في سورة (الفجر): {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ..} . إلخ وقد كانت هذه القبيلة من العمالقة أشداء أقوياء. وقد زادهم الله بسطة في الجسم، وكانوا مترفين في الحياة، يبنون القصور الشامخة، ويقيمون القلاع، والحصون، وعندهم البساتين النضرة، والعيون الجارية، وقد غرقوا في النعيم، وانغمسوا في البذخ، والترف، وقد قصّ القرآن الكريم علينا ما كانوا عليه من مظاهر النعمة، والترف في سورة (الشعراء) حيث قال تعالى في الاية رقم [128]:

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ..} . إلخ وكانت أجسامهم قوية، وبنيتهم ضخمة متينة، وكانوا إذا مشوا على الأرض؛ تهتز الأرض تحت أقدامهم لثقلهم، كأنهم الجبال لفرط طولهم، وضخامة أجسامهم، فاغتروا بقوتهم، واستكبروا على الله، وعتوا عن أمر رسله، وتمادوا في طغيانهم، فأهلكهم الله بالريح العاتية، كما قال تعالى في سورة (فصلت) رقم [15]:{فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ. هذا؛ و {عادٍ} اسم للحي، ولذلك صرف، ومنهم من جعله اسما للقبيلة، ولذلك منعه، وعاد في الأصل: اسم الأب الكبير، وهو عاد بن عوص بن إرم، بن سام، بن نوح على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام فسميت به القبيلة، أو الحي، وكذلك ما أشبهه من نحو (ثمود) إن جعلته اسما لمذكر؛ صرفته، وإن جعلته اسما لمؤنث؛ منعته.

الإعراب: {وَاذْكُرْ:} الواو: حرف استئناف. (اذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:

«أنت» . {أَخا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الخمسة، و {أَخا} مضاف، و {عادٍ} مضاف إليه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب بدل اشتمال من: {أَخا عادٍ} . {أَنْذَرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{أَخا عادٍ} . {قَوْمَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة:{بِالْأَحْقافِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {قَوْمَهُ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {إِذْ} إليها. {وَقَدْ:}

الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتِ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، التي هي حرف لا محل له. {النُّذُرُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{أَخا عادٍ،} والرابط:

الواو، والضمير. أو هي معترضة بين الفعل:{أَنْذَرَ} ومتعلقه، فلا محلّ لها حينئذ. {مِنْ}

ص: 39

{بَيْنِ:} متعلقان بالفعل: {خَلَتِ} وقيل: متعلقان بمحذوف حال. وهو ضعيف. و {بَيْنِ} مضاف، و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمِنْ خَلْفِهِ:} معطوفان على ما قبلهما

إلخ.

{أَلاّ:} (أن): يجوز فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون هي المخففة من الثقيلة، التقدير:

أنه؛ أي: الحال والشأن، و (لا) ناهية. والثاني: أنها هي المصدرية، التي تنصب المضارع، و (لا) نافية. الثالث: أن تكون مفسرة؛ لأن {أَنْذَرَ} يتضمن قولا بالمعنى، و (لا) ناهية.

{تَعْبُدُوا:} فعل مضارع منصوب ب: (أن) وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

بعدم عبادة أحد إلاّ الله، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَنْذَرَ،} وعلى الوجه الأول، والثالث؛ فالفعل مجزوم ب:(لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، وعلى الوجه الأول، فالجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، علما بأن الجلال قدر الكلام بأن قال: وهذا يعني: أنّ الجملة في محل نصب مقول القول، وجملة: «قال: لا تعبدوا

إلخ» المقدرة في محل رفع خبر (أن) المخففة من الثقيلة، وعلى الوجه الثالث؛ فالجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: «قال: لا تعبدوا

إلخ» مفسرة للفعل: {أَنْذَرَ} . {أَلاّ:} حرف حصر. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم. هذا؛ ومثل هذه الاية في إعرابها الاية رقم [14] من سورة (فصلت).

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه. {عَظِيمٍ:} صفة: {يَوْمٍ،} وجملة: {أَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل لعبادة الله، والنهي عن ضدها، لا محل لها.

{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (22)}

الشرح: {قالُوا} أي: قوم هود له: {أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا:} فيه وجهان: أحدهما: أنّ المعنى: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: أنّ المعنى: لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قاله الضحاك. قال عروة بن أذينة:[المنسرح] إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

وانظر ما ذكرته في الاية رقم [87] من سورة (الزخرف) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك، وفي سورة (غافر) رقم [62]. {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا:} هذا يدل على أنّ الوعد قد يوضع موضع الوعيد.

{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ:} أنك نبي، وصادق في وعدك.

ص: 40

هذا؛ وكان قوم هود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أصحاب أوثان، يعبدونها من دون الله تعالى، وهم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان. وقال ابن كثير: وكانت لهم أصنام ثلاثة: صدا، وصمودا، وهرا، وكانوا عربا جفاة، عتاة كافرين متمرّدين على الله، وكان هود عليه السلام ينذرهم، ويحذّرهم عذاب الله، ويضرب لهم المثل بقوم نوح، ويذكرهم بنعم الله تعالى عليهم، ويبين لهم أنه لا يطلب على نصيحته أجرا منهم، ولا يبتغي جزاء، ولا شكورا، وكان ناس منهم قد عتوا عتوا كبيرا، فقد قاوموا دعوته، وسفّهوا رأيه، وعزموا الفتك به، ورمؤه بالسفه والجنون، واتهموه بأنّ آلهتهم قد أصابته بسوء، وأنّ ما يهذي به إنما هو بسبب مسّ الالهة له، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:{قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ..} . إلخ رقم [53] وما بعدها من السورة المسماة باسمه. انتهى. النبوة والأنبياء للصابوني. هذا؛ وقد طلبوا تعجيل عذاب الله، وعقوبته في هذه الاية ونحوها استبعادا منهم وقوعه، كقوله تعالى جلّت عظمته في سورة (الشورى) رقم [18]:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها..} . إلخ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَجِئْتَنا:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (جئتنا): فعل، وفاعل، ومفعول به. {لِتَأْفِكَنا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {عَنْ آلِهَتِنا:} متعلقان بالفعل (جاء)، و (نا) في محل جر بالإضافة.

{فَأْتِنا:} الفاء: هي الفصيحة. (ائتنا): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب شرط يقدر ب:«إذا» . هذا؛ وبعضهم يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها في مثل ذلك للسببية المحضة، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة في محل نصب مقول القول. {بِما:} متعلقان بما قبلهما، و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. {تَعِدُنا:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: بالذي تعدنا به، أو إياه. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مِنَ الصّادِقِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والكلام في محل نصب مقول القول.

ص: 41

{قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)}

الشرح: {قالَ} أي: هود عليه السلام. {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ} أي: الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب، فسيفعل ذلك بكم. أو المعنى: العلم بمجيء العذاب عند الله، لا عندي. {وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ:} وأما أنا فمن شأني أبلغكم ما أرسلت به، وأمرني الله بتبليغه إياكم. {وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي: لا تعلمون: أنّ الرسل بعثوا مبلّغين منذرين، لا معذبين مقترحين، أو المعنى تجهلون عقاب الله، وقدره.

هذا؛ والجاهل من يجهل ما يتعلق به من المكروه، والمضرة، ومن حق الحكيم ألاّ يقدم على شيء؛ حتى يعلم كيفيته، وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش، ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل

وإن لم يكن كذلك يصدق عليه أنه من أكبر الجهال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر الحكيم:[البسيط] فضل الحمار على الجهول بخلّة

معروفة عند الّذي يدريها

إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر

وتعاود الجهّال ما يؤذيها

والدليل على ذلك من يرتكب الفواحش، والمنكرات، ويفعل المعاصي، والسيئات، مثل لاعب القمار، وشارب الخمر

إلخ، فالحمار لا يلقي نفسه بتهلكة، والجاهل يفعل ذلك، والحمار لا يشرب الخمر، والجاهل يشربها إلى غير ذلك!

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى هود عليه السلام.

{إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {الْعِلْمُ:} مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَأُبَلِّغُكُمْ:}

الواو: حرف عطف. (أبلغكم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {إِنَّمَا:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {أُرْسِلْتُ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَأُبَلِّغُكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، ويبعد اعتبارها حالا. {وَلكِنِّي:} الواو:

حرف عطف. (لكني): حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {أَراكُمْ:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا»

ص: 42

والكاف مفعول به أول. {قَوْماً:} مفعول به ثان. {تَجْهَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{قَوْماً،} وهي المرادة هنا؛ لأنهم معروفون: أنهم قوم. والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، واعتبارها حالا من فاعل:(أبلغكم) لا بأس به، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24)}

الشرح: {فَلَمّا رَأَوْهُ:} قال المبرد: الضمير يعود إلى غير مذكور، وبيّنه قوله:{عارِضاً} فالضمير يعود إلى السحاب. أي: فلما رأوا السحاب عارضا. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله:

{فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} . والعارض: السحاب الذي يعترض في أفق السماء. وقال أبو حيان:

والعارض: المعترض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الفرزدق وهو الشاهد رقم [710] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المنسرح] يا من رأى عارضا أسرّ به

بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى، في معلقته رقم [38]:[البسيط] يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه

كأنّه البرق في حافاته الشّعل

{مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ:} وذلك: أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية واد، يقال له:

المغيث، وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة، فلما رأوا تلك السحابة؛ فرحوا بها، واستبشروا، وقالوا:{هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا} أي: يأتينا بالمطر. {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ..} . إلخ:

هذا يحتمل أن يكون من قول الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول هود لهم.

هذا؛ وعن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها: أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما، أو ريحا؛ عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم؛ فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال:«يا عائشة! ما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» }. أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي، وقال فيه: حديث حسن، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . الصبا (بفتح الصاد) الاتية من جهة المشرق والدبور عكسها.

ص: 43

وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال: اللهمّ إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها، وشرّ ما فيها، وشرّ ما أرسلت به، وقالت: وإذا تخيّلت السماء؛ تغيّر لونه، وخرج، ودخل، وأقبل وأدبر، وإذا أمطرت؛ سرّي عنه. فعرفت ذلك عائشة-رضي الله عنها-فسألته، فقال: لعلّه يا عائشة كما قال الله عن قوم عاد: {فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً..}. إلخ» أخرجه مسلم. انتهى. مختصر ابن كثير، والقرطبي بتصرف.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف زمان بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {رَأَوْهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والهاء مفعوله. {عارِضاً:} حال، أو تمييز.

{مُسْتَقْبِلَ:} قال السمين: صفة: {عارِضاً،} وهو مضاف، و {أَوْدِيَتِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة الصفة لمفعولها، وفاعلها مستتر، لذا فالإضافة لفظية، فساغ وصف النكرة به على حدّ قوله تعالى:{هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} رقم [95] من سورة (المائدة)، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{رَأَوْهُ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {هذا عارِضٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {مُمْطِرُنا:} صفة: {عارِضٌ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة الوصف لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وقل فيه مثل سابقه، والجملة الاسمية:{هذا عارِضٌ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{مُسْتَقْبِلَ:} حرف إضراب. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فَلَمّا:}

اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {اِسْتَعْجَلْتُمْ:} فعل، وفاعل. {بِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:

{هُوَ مَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر الشرح. {رِيحٌ:} بدل من (ما)، أو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي ريح، أو هو ريح، وهذه الجملة في محل رفع خبر ثان للمبتدأ، أو هي مستأنفة لا محلّ لها. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع صفة:{رِيحٌ} . {أَلِيمٌ:} صفة {عَذابٌ} .

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}

الشرح: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها} أي: تهلك كل شيء مرّت به من رجال عاد،

ص: 44

ومواشيهم، وأموالهم بإذن الله لها في ذلك، كقوله سبحانه وتعالى في سورة (الذاريات) رقم [42]:{ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي كالشيء البالي. {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ مَساكِنُهُمْ} أي: قد هلكوا عن بكرة أبيهم، ولم تبق لهم باقية؛ لأنّ الريح لم تبق منهم إلاّ الاثار، والمساكن معطلة. هذا؛ وقرئ:«(فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم)» بفتح التاء على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما ترى يا محمد إلاّ مساكنهم خاوية عاطلة من السكان ليس فيها أحد. {كَذلِكَ نَجْزِي..} . إلخ؛ أي: نجزي، ونعاقب كل من أجرم مثل جرمهم عقابا مثل عقابهم، وانظر التعبير ب:{الْمُجْرِمِينَ} في الزخرف رقم [74].

تنبيه: لما طغت قبيلة عاد، وتمرّدت على نبي الله هود، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ولم ينفعها التذكير، والإنذار، حبس الله عنهم المطر ثلاث سنين، حتى اشتدّ عليهم الجهد، والبلاء، فاستغاثوا، واستنجدوا، فأرسل الله عليهم سحابا كثيفا من السماء، فلما رأوا السحاب؛ فرحوا، واستبشروا، وظنّوا: أنه مطر غزير، فلما أظلتهم السحابة؛ رأوها سوداء قاتمة، ففزعوا، ثم هبّت عليهم الريح، وكانت ريحا عقيما، وسلّطها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فأهلكهم الله وأبادهم، وصارت أجسامهم لضخامتها كأنها أعجاز نخل خاوية، ونجّى الله هودا، والذين آمنوا معه برحمته من ذلك العقاب الشديد.

يقال: إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط، وتحمل الظعينة؛ حتى ترى كأنها جرادة، فلما رأوا ذلك دخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح، فقلعت الأبواب، وصرعتهم، وأمر الله الريح، فأهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين، ثم أمر الله الريح، فكشفت عنهم الرمل، واحتملتهم، فرمت بهم في البحر. وقيل: إن هودا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لما أحس بالريح خطّ على نفسه، وعلى من معه من المؤمنين خطا، فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة، والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة، وهذه معجزة عظيمة ل:«هود» على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل: إن الله تعالى أمر خازن الريح أن يرسل عليهم مثل مقدار الخاتم، فأهلكهم الله بهذا القدر. وفي هذا إظهار كمال القدرة.

هذا؛ وقد سكن هود عليه السلام بلاد حضرموت بعد هلاك قبيلة عاد إلى أن مات، ودفن في شرقي حضرموت على بعد مرحلتين من مدينة:«تريم» وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه مدفون في كثيب أحمر، وعند رأسه سمرة في حضرموت. وكان بين هود وبين نوح ثمانمئة سنة، وعاش أربعمئة وأربعا وستين سنة، وذكر القرطبي: أنه عمّر في قومه بعدهم مئة وخمسين سنة.

الإعراب: {تُدَمِّرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الريح). {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، وله صفة محذوفة، تقدر: بسلطت عليه، وانظر الشاهد رقم

ص: 45

[1066]

من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {بِأَمْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و «أمر» مضاف، و {رَبِّها} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، و «ها»: في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{تُدَمِّرُ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {رِيحٌ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، أو هي مستأنفة لا محلّ لها.

{فَأَصْبَحُوا:} الفاء: حرف عطف، وقيل: الفصيحة ولا وجه له قطعا، (أصبحوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وليس المراد التوقيت في الصبح؛ لأنّ الفعل بمعنى: صاروا، {لا:} نافية. {يُرى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَسْكَنِهِمْ:} نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالتاء، فالفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و {مَسْكَنِهِمْ:} بالنصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير:

فأهلكت رجالهم، ونساءهم، وصغارهم، وأموالهم فأصبحوا

إلخ، والجملة المقدرة معطوفة على جملة:{تُدَمِّرُ..} . إلخ وهي في معنى الماضي أيضا.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف يقع مفعولا مطلقا، عامله الفعل بعده، التقدير: نجزي القوم المجرمين جزاء كائنا مثل الجزاء؛ الذي حلّ بقوم هود، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {نَجْزِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الْمُجْرِمِينَ:} صفة:

{الْقَوْمَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.

{وَلَقَدْ مَكَّنّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)}

الشرح: {وَلَقَدْ مَكَّنّاهُمْ} أي: قوم هود. {فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ:} الخطاب لكفار قريش، قيل:

إنّ «إن» زائدة، تقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي، وأنشد الأخفش قول جابر ابن رألان الطائي الجاهلي، وهو الشاهد رقم [26] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر] يرجّي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

وقول فروة بن مسيك المرادي، وهو الشاهد رقم [24] من كتابنا المذكور:[الوافر] فما إن طبّنا جبن، ولكن

منايانا ودولة آخرينا

ص: 46

وقيل: إنّ (ما) بمعنى الذي، و {إِنْ} بمعنى «ما» والتقدير: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه. قاله المبرد. وقيل: {إِنْ} شرطية، وجوابها مضمر محذوف، والتقدير: ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه؛ كان بغيكم أكثر، وعنادكم أشد. وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال:{وَجَعَلْنا..} . إلخ.

انتهى. قرطبي. ورجح الزمخشري النفي، ولم يذكر الشرطية، وبقوله قال النسفي، ووافقهما البيضاوي، وزاد الشرطية، ونقل الجمل عن السمين الأوجه الثلاثة، وصحّح النفي عنه، ونقل عن كرخي ضعف الزيادة، حيث قال: يكون المعنى: مكناهم في مثل ما مكناكم فيه، فيلزم تفضيل تمكين قريش على تمكين عاد؛ لأنّ المشبه به أقوى في وجه الشبه غالبا، والمعنى عليه: ولقد مكناهم في أمور عظيمة لم نمكنكم فيها، وهذا أبلغ في الإنذار، والموعظة.

{وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً:} ليعرفوا تلك النعم، ويستدلوا بها على معطيها، ومانحها، ويواظبوا على شكرها، كما جعلنا لكم ذلك، فما استعملوها إلا في طلب الدنيا، ولذاتها، فلا جرم، ومخالفة الله تعالى. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ..}. إلخ: فما نفعهم ولا أجداهم ما منحوا من الجوارح؛ لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له، وأنتم مثلهم في عدم الانتفاع بجوارحكم.

هذا؛ ووحد السمع، وجمع ما بعده؛ لأنه لا يدرك به إلا الصوت، وما يتبعه بخلاف البصر؛ حيث يدرك به أشياء كثيرة، بعضها بالذات، وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعمّ إدراكه كل شيء.

وقيل: وحد السمع؛ لأنه مصدر، والمصدر لا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه اسم جنس يقع على القليل، والكثير، فلا يحتاج إلى تثنية، أو جمع.

{إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ:} يكفرون، وينكرون ما أنزل الله من آيات على رسله. {وَحاقَ بِهِمْ:}

أحاط بهم. {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي: أهلكهم استهزاؤهم بالرسل، وبما جاؤوا به من آيات الله البينات.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [46] من سورة (الزخرف). اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{مَكَّنّاهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في). {إِنْ:} انظر ما قيل فيها في الشرح. {مَكَّنّاكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، على اعتبار «إن» زائدة، أو نافية، ولا محلّ لها لأنّها ابتدائية على اعتبار «إن» شرطية، وقد رأيت تقدير جوابها، وعليه فإن ومدخولها صلة «ما» ، أو صفتها، وجملة:{وَلَقَدْ مَكَّنّاهُمْ..} .

إلخ جواب القسم، لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما.

ص: 47

{وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَمْعاً:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{وَلَقَدْ..} . إلخ لا محلّ لها مثلها. {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَغْنى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {عَنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {سَمْعُهُمْ:} فاعل {أَغْنى،} وما بعده معطوف عليه، و (لا) نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول مطلق، أو هو مفعول به، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) اسم استفهام مبنيا على السكون في محل نصب مفعول به مقدما، ولكن دخول {مِنْ} للتأكيد يدلّ على أنّ (ما) للنفي، والجملة الفعلية:{فَما أَغْنى..} .

إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.

{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل:

{أَغْنى} وأشربت معنى التعليل. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{يَجْحَدُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها على اعتبار:{إِذْ} تعليلا. {وَحاقَ:} الواو: حرف عطف. (حاق): فعل ماض. {بِهِمْ:} متعلقان به. {فِيما:}

مصدرية. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. {بِهِ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:{بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} في محل نصب خبر {كانُوا،} و (ما) والفعل {كانُوا} في تأويل مصدر في محل رفع فاعل: (حاق)، وفي الكلام حذف مضاف؛ إذ التقدير؛ وحاق بهم عقاب استهزائهم. لأن الاستهزاء لا يحلّ عليهم يوم القيامة، وإنما يحلّ عليهم عقابه.

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى:} الخطاب لأهل مكة، والمراد: قرى ديار ثمود، وقرى لوط، ونحوهما مما يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم، ولا سيّما قرى قوم عاد باليمن. {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} أي: كررنا، وأكثرنا ذكر الحجج، والدلالات، وأنواع البينات، والعظات. وقيل: صرّفنا آيات القرآن في الوعد، والوعيد، والقصص، والإعجاز، وتبيين الحلال، والحرام

إلخ. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ:} عن كفرهم، فلم يرجعوا. وهذا الترجي بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله لا يقع منه ترج لعباده.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الاية السابقة. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {حَوْلَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة

ص: 48

الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْقُرى:} متعلقان بمحذوف حال من: {ما،} و {مِنَ} بيان لما أبهم فيها. {وَصَرَّفْنَا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{يَرْجِعُونَ} في محل خبر: (لعلّ)، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل لما قبلها، لا محلّ لها.

{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)}

الشرح: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ..} . إلخ؛ أي: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم الذين يتقربون بهم إلى الله حيث قالوا: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ} . قال الكسائي: القربان: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة، ونسيكة، والجمع: قرابين، كالرهبان، والرهابين. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ:} غابوا عن نصرهم، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم آلهتهم، التي كانوا يعبدونها من دون الله.

{وَذلِكَ إِفْكُهُمْ} أي: كذبهم، وافتراؤهم الذي كانوا يقولون: إنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم عنده. هذا؛ وقرئ:{إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة، وسكون الفاء مصدر: أفك يأفك إفكا؛ أي: كذبهم. وقرئ بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وهو مصدر أيضا، وقرئ بثلاث فتحات على أنه فعل ماض، وقرئ بغير ذلك، وانظر شرح:{يُؤْفَكُونَ} في الاية رقم [87] من سورة (الزخرف). {وَما كانُوا يَفْتَرُونَ:} يكذبون، ويختلقون بقولهم: إنها آلهة، وإنها تشفع لهم.

هذا؛ و (ضل) بمعنى: كفر، وأشرك، وهو ضد: اهتدى، واستقام، ومصدره: الضلال، ويأتي (ضلّ) بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} وما في هذه الاية منه: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ..} . إلخ، ويأتي بمعنى خفي، يخفى. قال تعالى في سورة (طه) رقم [52] حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى}

وضلّ الشيء: ضاع، وهلك، وضلّ: أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وضلّ: تحيّر، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} هذا؛ وأضل، يضل غيره من الرباعي ومصدره: الإضلال، فهو متعد، والثلاثي لازم.

وانظر سورة (الشورى) رقم [18]. هذا؛ والضلال: الخروج عن جادة الحق، والانحراف عن الصراط المستقيم. وينبغي أن تعلم أن طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، وأمّا الضلال فطرقه كثيرة، ومتشعبة. قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف

ص: 49

صلاة، وألف سلام:{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} الاية رقم [32] وقال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [153]: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وقال الشاعر الحكيم: [البسيط] الطّرق شتّى وطرق الحقّ مفردة

والسالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والناس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقاد

الإعراب: {فَلَوْلا:} الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف تحضيض. {نَصَرَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:

{اِتَّخَذُوا..} . إلخ، صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من:

{قُرْباناً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة. انظر الاية رقم [6]. و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. هذا؛ ومفعول {اِتَّخَذُوا} الأول العائد إلى الموصول محذوف، والثاني آلهة، و {قُرْباناً} حال من الأول، والتقدير: اتخذوهم قربانا من دون الله آلهة، ولا يصح أن يكون:{قُرْباناً} مفعولا ثانيا، و {آلِهَةً} بدلا منه لفساد المعنى. انتهى. كشاف. قال ابن هشام: ووجه فساده: أنهم ذمّوا على اتخاذهم قربانا من دون الله، اقتضى مفهومه الحث على أن يتخذوا الله سبحانه قربانا، كما أنك إذا قلت: أتتخذ فلانا معلما دوني؟ كنت آمرا له أن يتخذك معلما له دونه، والله تعالى يتقرب إليه بغيره، ولا يتقرب به إلى غيره سبحانه. انتهى.

هذا؛ وقال سليمان الجمل: عبارة السمين قوله: {قُرْباناً آلِهَةً} فيه أوجه: أوجهها: أنّ المفعول الأول ل: {اِتَّخَذُوا} محذوف، هو عائد الموصول، و {قُرْباناً} نصب على الحال، و {آلِهَةً} هو المفعول الثاني للاتخاذ، والتقدير: فهلاّ نصرهم الذين اتخذوهم متقربا بهم آلهة.

الثاني: أن المفعول الأول محذوف أيضا، كما تقدم تقديره، و {قُرْباناً} مفعول ثان، و {آلِهَةً} بدل منه. وإليه نحا ابن عطية، والحوفي، وأبو البقاء. الثالث: أنّ {قُرْباناً} مفعول من أجله.

وعزاه الشيخ للحوفي. قلت: وإليه ذهب أبو البقاء أيضا، وعلى هذا ف:{آلِهَةً} مفعول ثان، والأول محذوف، كما تقدم. هذا؛ والكلام:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ..} . إلخ، مستأنف، لا محل له.

{بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {ضَلُّوا:} فعل ماض، والواو فاعله. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {إِفْكُهُمْ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وعلى اعتباره فعلا ماضيا؛ ففاعله يعود إلى اسم

ص: 50

الإشارة، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على: {إِفْكُهُمْ،} وعلى اعتبار: {إِفْكُهُمْ} فعلا ماضيا، فهو معطوف على ذلك. وقيل: على المضمر المرفوع في الفعل: (أفكهم)، ويحسن ذلك للتفرقة بالمضمر المنصوب بينهما، فقام مقام التأكيد. انتهى. مكي. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَفْتَرُونَ} في محل نصب خبر: (كان). والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: وذلك إفكهم والذي كانوا يفترونه.

هذا؛ وأجاز الجلال اعتبار (ما) مصدرية، وموصولة، ورجح سليمان الجمل المصدرية؛ ليعطف مصدر على مثله، ويكون التقدير: وذلك إفكهم، وافتراؤهم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}

الشرح: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً..} . إلخ، قال القرطبي: هذا توبيخ لمشركي قريش؛ أي: إن الجن سمعوا القرآن، فآمنوا به، وعلموا: أنه من عند الله، وأنتم معرضوان مصرون على الكفر!! ومعنى {صَرَفْنا:} وجهنا إليك، وبعثنا. قال المفسرون: ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة، فقصد عبد ياليل، ومسعودا، وحبيبا، وهم إخوة ثلاثة (بنو عمرو بن عمير) وعندهم امرأة من قريش، من بني جمح، فدعاهم إلى الإسلام، وسألهم أن ينصروه على قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الاخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟! وقال الثالث:

والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول، فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب، فما ينبغي لي أن أكلمك.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذ فعلتم ما فعلتم؛ فاكتموا عليّ» (وكره أن يبلغ قومه، فيزيد ذلك في تجرؤهم عليه) فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم، فجعلوا يسبونه، ويصيحون به، ويرجمونه بالحجارة، حتى اجتمع الناس عليه، وألجؤوه إلى حائط (بستان) لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه ينظران إليه، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة، التي من بني جمح، فقال لها:

«ماذا لقينا من أحمائك؟» . ثم قال: «اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المستضعفين، وأنت ناصر المظلومين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني؟! أو إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا

ص: 51

أبالي! ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا، والاخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك! لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك» وقد روي: أنه نزل عليه في تلك الساعة ملك الجبال، وقال له: يا محمد! إن الله أمرني أن أطيعك فيما تأمر به؛ إن أردت أن أطبق عليه الأخشبين (الجبلين) لفعلت! فقال: «لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون!» . فقال الملك: صدق من سمّاك الرؤوف الرحيم.

فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له:

عدّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، وضعه في هذا الطبق، ثم ضعه بين يدي هذا الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«باسم الله» . ثم أكل، فنظر عدّاس إلى وجهه، ثم قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«من أي البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك؟» . قال: أنا نصرانيّ من أهل نينوى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» فقال له عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متّى؟ قال: «ذاك أخي، كان نبيا، وأنا نبيّ» . فانكبّ عدّاس يقبّل رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ويديه، ورجليه، فقال أحد ابني ربيعة: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عداس؛ قالا له: ويلك يا عدّاس مالك تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه، وقدميه؟! فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بكلام ما يعلمه إلاّ نبي! فقالا له: ويحك يا عدّاس! لا يصرفك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف راجعا من الطائف إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي، فمرّ به نفر من جنّ نصيبين، كانوا قاصدين اليمن، وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء، ورموا بالشهب، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته؛ ولّوا إلى قومهم منذرين، وقد آمنوا، وأجابوا لمّا سمعوا القرآن، فقصّ الله خبرهم عليه:{وَإِذْ صَرَفْنا..} . إلخ. وفي الاية قول آخر سيأتي في سورة (الجن) وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما.

هذا؛ وروي: أنّ الجن لما رجموا بالشهب؛ بعث إبليس سراياه؛ ليعرف الخبر، فكان أول بعث بعثه من أهل نصيبين، وهم أشراف الجن، وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، وقال أبو حمزة:

بلغنا: أنهم من بني الشيصبان، وهم أكثر الجن عددا، وهم عامة جنود إبليس، فلما رجعوا إلى قومهم؛ قالوا:{إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} .

وقال جماعة: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن، ويدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن، وهم من أهل نينوى، وجمعهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن الليلة، فأيكم يتبعني؟» . فأطرقوا، ثم استتبعهم،

ص: 52

فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة، فتبعه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه. قال عبد الله: لم يحضر معه أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا، يقال له:

شعب الحجون، وخطّ لي خطا، وأمرني أن أجلس فيه، وقال:«لا تخرج منه؛ حتى أعود إليك» . فانطلق حتى قام عليهم، فافتتح القرآن.

فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا شديدا؛ حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة (جماعة) حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مع الفجر، فانطلق إليّ، فقال لي:«أنمت؟» .

فقلت: لا والله يا رسول الله! ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس؛ حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم: اجلسوا، فقال:«لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم» . ثم قال: «هل رأيت شيئا؟» . قلت: نعم يا رسول الله! رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض قال: «أولئك جن نصيبين (والأصح: جن نينوى) سألوني المتاع (والمتاع: الزاد) فمتعتهم بكل عظم حائل، وروثة، وبعرة» .

فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم، والروث.

فقلت: يا رسول الله! وما يغني عنهم ذلك؟ فقال: «إنهم لا يجدون عظما إلاّ وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبها يوم أكلت» . فقلت: يا رسول الله سمعت لغطا شديدا. فقال:

«إنّ الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ، فقضيت بينهم بالحق» .

ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاني، فقال:«هل معك ماء؟» . قلت: يا رسول الله! معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه، فصببت على يديه، فتوضأ، وقال:«ثمرة طيبة، وماء طهور» . قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزّط، فأفزعوه حين رآهم، ثم قال: اظهروا، فقيل له: إنّ هؤلاء قوم من الزّط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. قلت: حديث الوضوء بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه «الخلافيات» بأسانيده، وأجاب عنها كلها.

هذا؛ واختلف في عدد أولئك الجن، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم، وقال آخرون: كانوا تسعة، وروي عن زر بن حبيش قال: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. وروي: أنّ الجن ثلاثة أصناف: صنف منهم لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف على صور الحيات، والكلاب، وصنف يحلون، ويظعنون. ونقل بعضهم أنّ أولئك الجن كانوا يهودا، فأسلموا. قالوا: وفي الجن ملل كثيرة مثل الإنس، ففيهم اليهود، والنصارى، والمجوس، وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر، وخلق القرآن، ونحو ذلك من البدع، والمذاهب. وأطبق المحققون على أنّ الكل مكلفون. سئل ابن عباس-رضي الله عنهما: هل للجن ثواب؟ قال: نعم لهم ثواب، وعليهم عقاب. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

ص: 53

وهذا هو المؤكد، والمحقق: أن مؤمنهم يدخل الجنة، وكافرهم، ومجرمهم يدخل النار، ولكن يكونون في الجنة على عكس حالهم في الدنيا، حيث نراهم في الجنة، ولا يروننا. هذا؛ ونصيبين بلدة في اليمن، ونينوى بلدة في العراق قرب الموصل.

هذا؛ والنفر يطلق على ما دون العشرة، مثل: معشر، ورهط، وجمعه: أنفار. {فَلَمّا حَضَرُوهُ:} الضمير يعود إلى القرآن، يعني: فلما حضروا القرآن. وقيل: يحتمل أنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل استماع القرآن. {قالُوا أَنْصِتُوا} أي: قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمع إلى قراءته، ولا يحول بيننا وبين سماعه شيء، وهذا أدب منهم، ولكن الناس في هذه الأيام لا يعرفون آدابا للقرآن، ولا ينصتون لتلاوته، فالقهوة، والشاي، والسيجارات، واللغو عند تلاوة القرآن، ولا سيما في الماتم، هذا ما يجري، ويقع، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله! فأنصتوا، واستمعوا القرآن؛ حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم على سماعه. {إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ:} يعني داعين لهم إلى الإيمان، مخوفين لهم من المخالفة، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وذلك بعد إيمانهم؛ لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق إلاّ بعد إيمانهم، وتصديقهم له.

هذا؛ ومن تعدد الروايات يتبين لنا: أنّ النفر الذين سمعوا من النبي ببطن نخلة كانوا نفرا قليلين، لم يظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكلموه، ولكنهم لما عادوا إلى أقوامهم منذرين؛ وفد عليه صلى الله عليه وسلم عدد كبير منهم، فخرج إليهم، واصطحب عبد الله بن مسعود معه، وكان ما تقدم من الحديث معهم وإليهم، وانظر ما أذكره في سورة (الجن) بعون الله، وتوفيقه.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف زمان متعلق بمحذوف، تقديره:

اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. {صَرَفْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {نَفَراً:} مفعول به. {مِنَ الْجِنِّ:} متعلقان بمحذوف صفة: {نَفَراً} . {يَسْتَمِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{نَفَراً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم على حدّ قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} وجمع الضمير على معنى نفر، ولو أفرد على لفظه لجاز، والكلام:{وَإِذْ صَرَفْنا..} .

إلخ، مستأنف، لا محلّ له. {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. (لمّا): انظر الاية رقم [24].

{حَضَرُوهُ:} فعل ماض، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار (لمّا) حرفا. {قالُوا:}

ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {أَنْصِتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب

ص: 54

(لمّا)، لا محلّ لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله. {فَلَمّا:}

الفاء: حرف عطف. (لمّا): مثل سابقتها. {قُضِيَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{الْقُرْآنَ،} وقل في هذه الجملة مثل ما تقدم. {وَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {إِلى قَوْمِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُنْذِرِينَ:} حال منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محلّ لها، و (لما) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.

{قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)}

الشرح: {قالُوا يا قَوْمَنا}

{مُوسى:} قال عطاء-رحمه الله تعالى-: كان دينهم اليهودية، ولذلك قالوا:{إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ:} يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء، وذلك: أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد، وتصديق الأنبياء، والإيمان بالمعاد، والحشر، والنشر، وجاء هذا الكتاب-وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم-كذلك، فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب؛ أي: لما تقدم من الكتب السماوية. {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ:} يهدي إلى دين الحق، وهو دين الإسلام، وهو دين العقيدة الصحيحة. {وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ:} هو طريق الإيمان، والعمل الصالح المؤدي إلى الجنة. هذا؛ وإعلال {مُسْتَقِيمٍ} مثل إعلال {مُقِيمٍ} في الاية رقم [45] من سورة (الشورى).

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو.

(قومنا): منادى، و (نا): في محل جر بالإضافة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {كِتاباً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ). {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى:{كِتاباً،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {كِتاباً} . {مِنْ بَعْدِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر؛ أي:

منزلا من، و {بَعْدِ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مُصَدِّقاً:} صفة ثانية ل: {كِتاباً،} أو هو حال منه بعد وصفه بما تقدم، وفاعله مستتر فيه. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُصَدِّقاً،} و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام. هذا؛ وقد اعتبر ابن هشام اللام في مثل ذلك زائدة، وسماها لام التقوية؛ أي: تقوية عامل ضعيف ضعف عن العمل فيما بعده، وعليه ف:(ما) مجرورة لفظا،

ص: 55

منصوبة محلا ب: {مُصَدِّقاً} . وأورد ابن هشام آيات كثيرة شواهد على ذلك، وأورد قول حاتم الطائي. وقيل: هو لقيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه: [الطويل] إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإني لست آكله وحدي

وهذا هو الشاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَهْدِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{كِتاباً} . {إِلَى الْحَقِّ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية يجوز فيها ما جاز ب:{مُصَدِّقاً،} أو هي في محل نصب حال من الفاعل المستتر فيه. {وَإِلى طَرِيقٍ:} معطوفان على ما قبلهما. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة:

{طَرِيقٍ} . هذا؛ والكلام {يا قَوْمَنا..} . إلخ، كله في محل نصب مقول القول. وجملة:{قالُوا..} .

إلخ، مستأنفة لا محل لها.

{يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)}

الشرح: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ:} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن، والإنس. قال مقاتل-رحمه الله تعالى-: ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: قلت: يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي، كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيّبة طهورا ومسجدا، فأيّما رجل أدركته الصلاة؛ صلّى حيث كان، ونصرت بالرّعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشّفاعة» . قال مجاهد:

الأحمر والأسود: الجن والإنس، وفي رواية من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه:«وبعثت إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيّون» .

{وَآمِنُوا بِهِ} أي: بالداعي، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أي بالله؛ لقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} . وعلى الأول إنما أعاد الإيمان مع أنه داخل في إجابته؛ لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به، وأشرفها، فلذلك ذكره على التعيين، فهو من باب ذكر العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه.

{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ:} قال بعضهم: لفظة {مِنْ} هنا زائدة، والتقدير: يغفر لكم ذنوبكم. وقيل: هي على أصلها، وذلك: أنّ الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام، فإذا

ص: 56

أسلموا؛ جرت عليهم أحكام الإسلام، فمن أتى بذنب؛ أخذ به ما لم يتب منه، أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء الله غفر له، وإن شاء آخذه بذنبه، أقول: القاعدة النحوية لا تزاد «من» في الإيجاب إلا على مذهب الأخفش، وهو قول ضعيف، لا يقره جمهرة النحاة، ومثل هذه الاية الاية رقم [4] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، والقول الأصح أن {مِنْ} على بابها من التبعيض. وأن الغفران بالإيمان إنما يكون للذنوب الخاصة والتي هي بين العبد وربه، أما حقوق العباد؛ فلا يمكن غفرانها إلا بعد أن يرضى أصحابها، فإن الله تعالى لا يغفر بالإيمان حقوق العباد.

تنبيه: هذه الاية تدل على أنّ الجن كالإنس في الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ..} . إلخ، وبه قال أبو حنيفة. قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة، ويأكلون، ويشربون. قال القشيري: والصحيح: أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله. انتهى. قرطبي.

ثم قال: قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [132]: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا} يدلّ على أنهم يثابون، ويدخلون الجنة؛ لأنه قال في أول الاية:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ..} . إلى أن قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا} والله أعلم. انتهى. بحروفه، والصحيح: أنهم يثابون، ويعاقبون. قال أرطأة بن المنذر: سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ قال: نعم، وقرأ قوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} قال: فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقال عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه: إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض، ورحاب ليسوا فيها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا قَوْمَنا:} منادى. و (نا): في محل جر بالإضافة. {أَجِيبُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {داعِيَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَآمِنُوا:} فعل أمر معطوف على ما قبله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يَغْفِرْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تجيبوا؛ يغفر، وفاعله يعود إلى الله. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ ذُنُوبِكُمْ:} متعلقان بالفعل: {يَغْفِرْ} أيضا، وهما مفعوله؛ لأن {مِنْ} بمعنى بعض، وانظر الشرح على القول بزيادة:{مِنْ،} والكاف في محل جر بالإضافة. (يجركم): معطوف على: {يَغْفِرْ،} والفاعل يعود إلى الله

ص: 57

أيضا، والكاف مفعول به. {مِنْ عَذابٍ:} متعلقان بما قبلهما. {أَلِيمٍ:} صفة: {عَذابٍ} . هذا؛ والاية بكاملها في محل نصب مقول القول.

{وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)}

الشرح: {وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ} أي: الذي يدعو إلى الإيمان بالله، ورسوله، واليوم الاخر. {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ:} بمعنى لا يعجز ربه عن إدراكه. بمعنى: لا يفوته إن هرب من حكمه، وقضائه. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [31] من سورة (الشورى). {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ} أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله. {أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ:} حيث أعرضوا عن إجابة الداعي إلى الله.

هذا؛ وقد اجتمع بقوله تعالى: {أَوْلِياءُ أُولئِكَ} همزتان مضمومتان من كلمتين، وليس لهما نظير في القرآن؛ أي: لا وجود لهما في محل منه غير هذا، كما اجتمع في الاية رقم [124] من سورة (الأنعام) بقوله تعالى:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} لفظا الجلالة بدون فاصل ما، وليس لهما نظير في القرآن أيضا.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف، (من) اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُجِبْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {داعِيَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{فَلَيْسَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ليس): فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى (من) أيضا. {بِمُعْجِزٍ:} الباء: حرف جر صلة. (معجز): خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي الْأَرْضِ:}

متعلقان ب: (معجز)، وجملة:(ليس بمعجز في الأرض) في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، وهي من مقول الجن الذين سمعوا القرآن. {وَلَيْسَ:} الواو: حرف عطف. (ليس): فعل ماض ناقص. {اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {أَوْلِياءُ} كان صفة له

إلخ، انظر الاية رقم [6]، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءُ:} اسم: (ليس) مؤخر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جزم مثلها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

ص: 58

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي: الكفار، والمشركون المنكرون للبعث بعد الموت، والحساب، والجزاء. {أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي: ولم يتعب ولم يعجز بخلقهن، بل قال لها: كوني، فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة، مجيبة، خائفة، وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟! قال الله عز وجل في سورة (غافر) رقم [57]:{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . هذا؛ ويقال: عيّ بأمره، وعيي:

إذا لم يهتد لوجهه، ومعناهما: العجز، والضعف، قال تعالى في سورة (ق):{أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو مستحيل في حقه تعالى، وهو مجاز مرسل علاقته السببية.

{بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى:} دخلت الباء في خبر: {أَنَّ} لتقدم النفي، والاستفهام، فهو بمعنى: أو ليس. قال الكسائي، والفراء، والزجاج: الباء فيه خلف الاستفهام، والجحد في أول الكلام. وقال الزجاج: والعرب تدخلها مع الجحد، تقول: ما ظننت أن زيدا بقائم، ولا تقول:

ظننت أن زيدا بقائم. {بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: هذا تقرير للقدرة على وجه عام، يكون كالبرهان على المقصود، كأنه لما صدّر السورة بتحقيق المبدأ، ختمها بإثبات المعاد. انتهى. بمعنى: أنه قادر على إماتة الخلق، وإحيائهم؛ لأنه قادر على كل شيء. هذا؛ وانظر شرح {بَلى} في (الزخرف) رقم [80].

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الواو: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والفعل هنا بمعنى اليقين، فهو قلبي. {أَنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة للفظ الجلالة. {خَلَقَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {وَلَمْ:}

الواو: واو الحال. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعْيَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:{خَلَقَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {بِخَلْقِهِنَّ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دالّ على جماعة الإناث.

ص: 59

{بِقادِرٍ:} الباء: حرف جر صلة. (قادر): خبر: {أَنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وذكرت لك: أن الباء زيدت في خبر: {أَنَّ} لأنه بمعنى: أوليس الله بقادر. قال ابن هشام في المغني: والذي سهل ذلك التقدير تباعد ما بينهما، ولهذا لم تدخل في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} الاية رقم [99] من سورة (الإسراء). {عَلى:} حرف جر.

{أَنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {يُحْيِيَ:} مضارع منصوب ب: {أَنَّ،} والفاعل يعود إلى:

{الَّذِي} أيضا، و {أَنَّ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب: (قادر)، وفاعله مستتر فيه. {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:{يَرَوْا،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.

{بَلى:} حرف جواب، بعده جملة مقدرة، التقدير: بلى: إنه قادر على أن يحيي الموتى! وهذه الجملة مستأنفة، لا محلّ لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَلى كُلِّ:}

متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للجملة المقدرة بعد {بَلى} .

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}

الشرح: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ:} انظر الاية رقم [20] ففيها الكفاية. {أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ} أي: هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل، وهو الحق، كما يقال لهم:{أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} سورة (الطور). {قالُوا بَلى وَرَبِّنا:} وهذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك، وفيه توبيخ، وتقريع لهم. {قالَ:} أي الله لهم. {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ:} هذه الجملة يكثر ذكرها في القرآن، والأمر للإهانة، كما ذكرته مرارا، وتكرارا، وانظر {ذُقْ} في الاية رقم [49] من سورة الدخان.

الإعراب: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ:} انظر الاية رقم [20]. {أَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. (ليس): فعل ماض ناقص. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم: (ليس)، والهاء حرف تنبيه، لا محلّ له. {بِالْحَقِّ:} الباء: حرف جر صلة. (الحق):

خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول للقول المقدر ب:«يقال» .

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بَلى:} حرف جواب

ص: 60

بعده جملة مقدرة؛ أي: بلى هو الحق الذي وعدنا به رسل الله. {وَرَبِّنا:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: نقسم بربنا، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا بَلى وَرَبِّنا} مستأنفة لا محلّ لها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله).

{فَذُوقُوا:} الفاء: صلة، أو هي الفصيحة، أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا بكم؛ فذوقوا

إلخ. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله.

{الْعَذابَ:} مفعول به. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَكْفُرُونَ} في محل نصب خبره، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(ذوقوا)، وهذه الجملة على الوجهين المعتبرين في الفاء في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .

إلخ، مستأنفة لا محلّ لها.

{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)}

الشرح: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

ذوو الحزم. وقال الضحاك-رحمه الله تعالى-: ذوو الجد، والصبر. واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم؟ فذكر الخازن، والقرطبي أقوالا كثيرة، والمعتمد ما قاله ابن عباس، وقتادة رضي الله عنهما: هم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين خمسة، وقد ذكرهم الله على التخصيص، والتعيين في قوله:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} الاية رقم [7] من سورة (الأحزاب)، وفي قوله جلّ ذكره في سورة (الشورى) رقم [13]:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .

روى البغوي بسنده عن عائشة-رضي الله عنها-قالت، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عائشة! إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد، ولا لال محمّد، يا عائشة! إن الله لم يرض من أولي العزم إلاّ بالصّبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ولم يرض إلاّ أن كلّفني ما كلّفهم، فقال: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وإنّي والله، ولا بدّ لي من طاعته، والله لأصبرنّ كما صبروا! ولأجهدنّ! ولا قوّة إلاّ بالله!» . {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ:} يعني: اصبر على أذاهم، ولا تستعجل بنزول العذاب عليهم، فإنه نازل بهم لا محالة. كأنه صلى الله عليه وسلم ضجر بعض الضجر، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى

ص: 61

منهم، فأمره الله بالصبر، وترك الاستعجال. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ} أي: من العذاب في الاخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا:} في الدنيا، أو في القبور. {إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ} يعني: أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا، أو في القبور كأنه قدر ساعة من نهار؛ لأنّ ما مضى، وإن كان طويلا؛ فهو يسير إلى ما يدوم عليهم من العذاب، وهو أبد الابدين بلا انقطاع، ولا فناء.

وانظر ما ذكرته في سورة (الروم)[55] فإنه جيد جدا. {بَلاغٌ} أي: هذا القرآن، وما فيه من البينات، والهدى بلاغ من الله إليكم. والبلاغ بمعنى: التبليغ. {فَهَلْ يُهْلَكُ} أي: لا يهلك بالعذاب. {إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ} أي: الخارجون عن الإيمان بالله وطاعته. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله، وفضله إلاّ القوم الفاسقون، ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الاية، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا فقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن استعجال العذاب لقومه، وقد قال تعالى في سورة (المزمل):{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقال جلّ ذكره في سورة (الطارق): {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} ومثل الاية قوله جلّ وعلا في سورة (يونس) رقم [45]: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقال في آخر سورة (النازعات): {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} .

فائدة: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا عسر على المرأة ولدها، تكتب هاتين الايتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل، وتسقى منها، وهي:«بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلاّ الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله ربّ السموات، وربّ الأرض، وربّ العرش العظيم» {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ..} . إلخ. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: حرف استئناف. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):

مصدرية. {فَاصْبِرْ:} ماض. {أُولُوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولُوا} مضاف، و {الْعَزْمِ} مضاف إليه.

{مِنَ الرُّسُلِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {أُولُوا الْعَزْمِ،} و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق، التقدير: اصبر صبرا مثل صبر أولي العزم، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها، وجملة: (اصبر

) إلخ مستأنفة لا محلّ لها، وعند التأمل يتبين لك: أنّ الجملة جواب شرط يقدر ب: «إذا» ؛ أي: إذا كان عاقبة الكفار ما ذكر؛ فاصبر على أذاهم

إلخ، والكلام كله مستأنف، لا محلّ له.

ص: 62

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَسْتَعْجِلْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل تقديره:«أنت» . {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها على الوجهين المعتبرين فيها، والمفعول محذوف؛ إذ التقدير: ولا تستعجل لقومك نزول العذاب. {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {لَمْ يَلْبَثُوا} الاتي. {يَرَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {كَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير:

الذي يوعدونه، والجملة الفعلية:{يَرَوْنَ..} . إلخ، في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها.

{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَلْبَثُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون

والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {ساعَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{كَأَنَّهُمْ،} والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محلّ لها، وفيها معنى التعليل للنهي، واعتبارها في محل نصب حال لا بأس به. {مِنْ نَهارٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {ساعَةً} . {بَلاغٌ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هذا بلاغ، ويؤيده قوله تعالى في آخر سورة (إبراهيم):{هذا بَلاغٌ،} وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وهو ضعيف جدا. هذا؛ وقرئ بنصبه شاذا على اعتباره صفة:{ساعَةً،} أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف. التقدير: بلغ بلاغا، وقرئ أيضا شاذا بجره على أنه صفة:{نَهارٍ} . {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل):

حرف استفهام معناه النفي. {يُهْلَكُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {إِلاّ:} حرف حصر.

{الْقَوْمُ:} نائب فاعل، وقرئ الفعل بالبناء للمعلوم، ونصب «(القوم)» ، وعليه فالفاعل يعود إلى (الله)، ويقرأ «(الفاسقين)» تبعا لنصب «(القوم)» . تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

انتهت بحمد الله وتوفيقه سورة (الأحقاف) شرحا وإعرابا والحمد لله رب العالمين.

ص: 63