الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ق
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (ق) وهي مكية بالإجماع، وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمئة، وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمئة، وأربعة وتسعون حرفا. انتهى. خازن.
فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-أنه سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأضحى، والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب: (ق) و (اقتربت). أخرجه مسلم، وأصحاب السنن. وعن أم هشام بنت حارثة-رضي الله عنها-قالت: لقد كان تنورنا، وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين، أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلاّ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرؤها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس، أخرجه مسلم، وأبو داود، وأحمد.
والقصد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث، والنشور، والمعاد، والقيامة، والحساب، والجنة، والنار، والثواب، والعقاب، والترغيب، والترهيب. انتهى. صابوني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {ق:} قال ابن عباس-رضي الله عنه: هو قسم. وقيل: هو اسم للسورة.
وقيل: اسم من أسماء الله. وقيل: اسم من أسماء القرآن. وقيل: هو مفتاح اسمه: القدير، والقادر، والقاهر، والقريب، والقابض، والقدوس، والقيوم. وقيل: معناه: قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن. وقال أبو بكر الوراق: معناه: قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما، ويجوز فيه ما جاز ب:(ص) من قراآت، انظرها هناك. {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي: الشريف الكريم على الله، الكثير الخير والبركة؛ لأنّه المهيمن على سائر الكتب، أو لأنه كلام الله المجيد، أو لأن من علم معانيه، وامتثل أحكامه؛ عظم ومجد عند الله، وعند الناس. {بَلْ عَجِبُوا} أي: كفار مكة.
{أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي: محمد صلى الله عليه وسلم. فهو إنكار لتعجبهم مما ليس بعجيب، وهو أن ينذرهم غضب الله، وعقابه رجل منهم قد عرفوا صدقه، وعدالته، وأمانته، ومن كان كذلك لم يكن إلاّ
ناصحا لقومه، خائفا أن ينالهم مكروه. {فَقالَ الْكافِرُونَ} من أهل مكة. {هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي:
معجب، وغريب كل الغرابة. وفي الحقيقة والواقع ليس هذا بعجيب، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس، لا اعتراض عليه فيمن يصطفيه.
الإعراب: {ق:} فيه أوجه: أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه {ق} . الثاني:
أنه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اتل {ق} . الثالث: أنه مقسم به، التقدير: أقسم ب: {ق} .. {وَالْقُرْآنِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بالقرآن.
{الْمَجِيدِ:} صفة (القرآن)، وعلى اعتبار {ق} مقسما به ف:(القرآن) معطوف عليه، وقد اختلف في الجواب، فقال الأخفش: هو جملة: {لَقَدْ عَلِمْنَا} على حذف اللام؛ أي: لقد علمنا، وقال الزجاج: الجواب محذوف، تقديره: والقرآن المجيد لتبعثنّ؛ لأنهم أنكروا البعث في الاية بعده، وقال ابن هشام: التقدير: لنهلكن، أو إنك لمنذر، وقال الكوفيون: الجواب: {بَلْ عَجِبُوا} والمعنى: لقد عجبوا، وقدر الجلال الجواب: ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الجواب قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقيل: غير ذلك.
{بَلْ:} حرف انتقال. {عَجِبُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها مستأنفة. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {جاءَهُمْ:} ماض مبني على الفتح في محل نصب ب: {أَنْ،} والهاء مفعول به. {مُنْذِرٌ:} فاعل. {مِنْهُمْ:} متعلقان ب: {مُنْذِرٌ} أو بمحذوف صفة له، و {أَنْ} والفعل (جاء) في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بل عجبوا من مجيء منذر منهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَقالَ:}
الفاء: حرف عطف. (قال): ماض. {الْكافِرُونَ:} فاعل مرفوع
…
إلخ. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محلّ له. {شَيْءٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على جملة:
{عَجِبُوا..} . إلخ، لا محلّ لها مثلها، وإظهار:{الْكافِرُونَ} في محل الإضمار للإشعار بتعنّتهم في هذا المقام، ثم التسجيل على كفرهم بهذا المقال.
{أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}
الشرح: {أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً} أي: أنبعث حين نموت ونبلى؟! وترك البعث لدلالة الكلام عليه. {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: بعيد الوقوع، فهم يعتقدون استحالة الرجوع بعد الموت والفناء إلى هذه البنية والتركيب الموجودين قبل الموت، وما أكثر ما ذكر القرآن مثل هذا عنهم في آياته، وآية (يس) رقم [78]:{وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} من أكبر الشواهد على تعنّتهم. انظر شرحها هناك.
الإعراب: {أَإِذا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف زمان مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، التقدير: أنبعث إذا. {مِتْنا:} فعل، وفاعل، وهو في المعنى فعل، ونائب فاعله؛ لأننا لا نموت، بل الله يميتنا. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {وَكُنّا:} الواو: حرف عطف. (كنا): فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {تُراباً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {رَجْعٌ:} خبر المبتدأ. {بَعِيدٌ:} صفة له، والاية بكاملها في محل نصب مقول القول المذكور في الاية السابقة.
{قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)}
الشرح: {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي: ما تأكل من لحومهم، وأبشارهم، وعظامهم، وأشعارهم؛ أي: نعلم ذلك، ولا يخفى علينا كيف تفرقت الأبدان، وأين ذهبت، وإلى أين صارت، فلا يغيب عنا شيء من ذلك، فكيف تتعذر الإعادة؟! قال تعالى في سورة (طه) رقم [51 و 52] حكاية عن قول موسى في جواب فرعون:{قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} وفي الصحيح: «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه ركّب» . وثبت: أنّ الأنبياء، والأولياء، والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم، وقال السدي: النقص هنا: الموت، يقول: قد علمنا منهم من يموت، ومن يبقى؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. {وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ:} بمعنى محفوظ من التبديل، والتغيير.
وقيل: {حَفِيظٌ} بمعنى حافظ لعددهم، وأسمائهم، ولما تنقص الأرض منهم، وهو اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه ما يكون. وأيضا: حفيظ لأعمال العباد. أو هو كتاب الأعمال، قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [49]:{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} .
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم على وجه مرّ ذكره، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على اعتبار جواب القسم محذوفا. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تَنْقُصُ الْأَرْضُ:}
مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: قد علمنا الذي تنقصه الأرض. {مِنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والمفعول الأول الضمير الذي رأيت تقديره. {وَعِنْدَنا:} الواو: واو الحال. (عندنا): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، و (نا): في محل جر بالإضافة. {كِتابٌ:} مبتدأ مؤخر. {حَفِيظٌ:} صفة: {كُتِبَ،} والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا) الواقعة فاعلا، والرابط: الواو، والضمير.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}
الشرح: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ:} بالقرآن. {لَمّا جاءَهُمْ:} قيل: معناه: كذبوا به لما جاءهم.
وقيل: كذبوا المنذر، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لما جاءهم. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي: مختلط ملتبس، قيل: معنى اختلاط أمرهم: قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم مرة شاعر، ومرة ساحر، ومرة معلّم مجنون، ومرة كاهن، ويقولون في القرآن: مرة سحر، ومرة رجز، ومرة مفترى، ومرة كهانة، فهو كقوله تعالى في سورة (الذاريات) مخاطبا لهم:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم. وقيل في هذه الاية: من ترك الحق مرج عليه أمره، والتبس عليه دينه، قال أبو دؤاد الإيادي:[الرمل] مرج الدّين فأعددت له
…
مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: «كيف بك يا عبد الله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فكانوا هكذا، وهكذا (وشبّك بين أصابعه)» أخرجه أبو داود. هذا؛ والفعل بمعنى ما تقدم من الباب الرابع، كفرح، يفرح، وهو من الباب الأول بمعنى: أرسل الدابة، تركها ترعى. قال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [19]:
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} وقال في سورة (الفرقان) رقم [53]: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} .
الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب، وانتقال مما هو شنيع إلى ما هو أشنع، وأقبح، وهو تكذيب النبوة بعد إنكار البعث. {كَذَّبُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها مستأنفة. وقيل: معطوفة على جملة {بَلْ عَجِبُوا..} . إلخ. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَمّا:} ظرف بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بما قبله.
هذا؛ وقرئ: «(لما)» بكسر اللام على أن (ما) مصدرية، فتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، التقدير: لمجيئهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والهاء في محل نصب مفعول به، والفاعل يعود إلى (الحق)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف تعليل. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي أَمْرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مَرِيجٍ:} صفة: {أَمْرٍ،} والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ:} نظر تفكر واعتبار، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. {كَيْفَ بَنَيْناها} أي: رفعناها بلا عمد. {وَزَيَّنّاها:} بالنجوم، والكواكب. {وَما لَها}
{مِنْ فُرُوجٍ:} جمع: فرج، وهو: الشق، بمعنى: أنها سليمة من العيوب، لا صدع فيها، ولا فتق، ولا خلل. هذا؛ وشرح {أَفَلَمْ} مثل شرح:{أَفَلا} في الاية رقم [51] من سورة (الزخرف).
الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف استئناف. (لم):
حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَنْظُرُوا:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، أو هي معطوفة على محذوف، التقدير: أغفلوا، وعموا، فلم ينظروا
…
إلخ. {إِلَى السَّماءِ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {فَوْقَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من: {السَّماءِ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم. {بَنَيْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بدلا من:
{السَّماءِ،} التقدير: أفلم ينظروا إلى السماء كيفية بنائها. ومثل الاية الكريمة قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [373] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل] إلى الله أشكو بالمدينة حاجة
…
وبالشام أخرى كيف يلتقيان؟!
{وَزَيَّنّاها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وداخلة معها في التأويل. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {فُرُوجٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، العائد إلى:{السَّماءِ،} والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها:} بسطناها، وفرشناها. {وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ:} ثوابت، وهي الجبال؛ لئلا تميد بأهلها، وتضطرب، كما قال تعالى في سورة (النحل) رقم [15]:{وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} جمع: راسية؛ لأنّ الأرض ترسو بها؛ أي: تثبت، وتستقر.
وانظر ما ذكرته في الاية رقم [3] من سورة (الرعد) والذاريات [48]. {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ:}
من كل صنف من أصناف النبات. {بَهِيجٍ:} حسن جميل، والبهيج: هو الشيء المبهج المشرق النضير، وفي سورة (الحج) رقم [5]:{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
الإعراب: {وَالْأَرْضَ:} معطوف على محل قوله: {إِلَى السَّماءِ} المنصوب ب: (ينظر) فهو منصوب بذلك؛ أي: أفلم ينظروا الأرض؟ ويجوز أن يكون منصوبا على الاشتغال بفعل
محذوف، يفسّره المذكور بعده، التقدير: ومددنا الأرض مددناها. {مَدَدْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (الأرض) على الوجه الأول فيها، ولا محلّ لها على الوجه الثاني فيها لأنها مفسرة. {وَأَلْقَيْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما. {رَواسِيَ:} مفعول به، ولم ينون؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع. {وَأَنْبَتْنا:} الواو: حرف عطف.
(أنبتنا): فعل، وفاعل. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بما قبلهما أيضا، وهما في محل نصب مفعول به، و {كُلِّ} مضاف، و {زَوْجٍ} مضاف إليه.
{بَهِيجٍ:} صفة: {زَوْجٍ،} والجملة الفعلية (أنبتنا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}
الشرح: {تَبْصِرَةً} أي: جعلنا ذلك تبصرة؛ لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم:
نصب على المصدر، يعني: جعلنا ذلك تبصيرا، وتنبيها على كمال قدرتنا. {وَذِكْرى} أي:
تذكرة. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ:} رجاع إلى الله عز وجل، خائف، خاضع، متذلل له تعالى، والفرق بين التذكرة، والتبصرة: هو أنّ في السموات والأرض آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي.
الإعراب: {تَبْصِرَةً:} مفعول لأجله، والعامل فيه:{كَيْفَ بَنَيْناها..} . إلخ، وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: بصرناهم تبصرة، وذكرناهم تذكرة. وقيل: حال، بمعنى مبصرين ومذكرين حال من (نا). وقيل من المفعول به. هذا؛ وقرئ:«(تبصرة)» بالرفع على تقدير: هي تبصرة وتذكرة. {لِكُلِّ:} متعلقان بكل من المصدرين على التنازع، و (كل) مضاف، و {عَبْدٍ} مضاف إليه، {مُنِيبٍ:} صفة: {عَبْدٍ} .
الشرح: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً} أي: كثير الخير والبركة، فيه حياة كل نام، وهو المطر. {فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ:} حدائق، وبساتين، ورياضا. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ:} حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، كالبر، والشعير، ونحوهما مما يقتات به الإنسان، والحيوان، ويدخر.
هذا؛ والتقدير: وحب النبت الحصيد. هذا قول البصريين، وقول ابن هشام في المغني. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأول، وحق اليقين، وحبل الوريد، ونحوها، قاله الفراء. والأصل: الحب الحصيد، فحذفت الألف واللام،
وأضيف المنعوت إلى النعت. {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ:} طوالا. وقيل: مستويات. وقال عبد الله بن شداد: بسوقها: استقامتها في الطول، يقال: بسق النخل بسوقا: إذا طال. قال الشاعر: [الوافر] لنا خمر، وليست خمر كرم
…
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السّماء ذهبن طولا
…
وفات ثمارها أيدي الجناة
وقرئ: «(باصقات)» بالصاد لأجل القاف، قال قطبة بن مالك-رضي الله عنه: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} حتى قرأ:{وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ} قال: فجعلت أرددها، ولا أدري ما قال، إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. أخرجه مسلم في صحيحه. ويجمع على بواسق أيضا. {لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ:} الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، وهو ما يكون منه وفيه التلقيح؛ حيث يؤخذ من طلع الذكر، ويوضع في طلع النخل الأنثى بعد شقه، ثم الربط عليهما. وقد أفردها الله جلّ ذكره بالذكر لفرط ارتفاعها، وكثرة منافعها؛ ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بها. انظر ما ذكرته في الاية رقم [24] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {نَضِيدٌ:}
متراكب بعضه على بعض لكثرته، وتراكمه.
فائدة: عن علي-كرّم الله وجهه-قوله: (إذا اشتكى أحدكم شيئا، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم ليشتر به عسلا، فليشربه بماء السماء، فيجمع الله له هنيئا، ومريئا، وشفاء، ومباركا) أخذه-رضي الله عنه-من هذه الاية، ومن آية النساء رقم [4] ومن آية (النحل) رقم [69].
الإعراب: {وَنَزَّلْنا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (نزلنا): فعل، وفاعل. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا
…
إلخ. {السَّماءِ:} مفعول به. {مُبارَكاً:} صفة له، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. (أنبتنا): فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {جَنّاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَحَبَّ:} معطوف على:
{جَنّاتٍ،} و (حب) مضاف، و (الحصيد): مضاف إليه، وانظر الشرح. {وَالنَّخْلَ:} الواو: حرف عطف. (النخل): معطوف على ما قبله. {باسِقاتٍ:} حال من (النخل) منصوب
…
إلخ.
{لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {طَلْعٌ:} مبتدأ مؤخر. {نَضِيدٌ:} صفة:
{طَلْعٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب حال من: (النخل الباسقات) بطريق الترادف، أو من الضمير في {باسِقاتٍ} على التداخل. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور:{لَها} متعلقين بمحذوف حال من: (النخل)، و {طَلْعٌ} مرتفع به على الفاعلية؛ أي: بمتعلقهما.
{رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)}
الشرح: {رِزْقاً لِلْعِبادِ} أي: رزقناهم رزقا، أو على معنى: أنبتناها رزقا؛ لأن الإنبات في معنى الرزق، والرزق: ما كان مهيأ للانتفاع به. {وَأَحْيَيْنا بِهِ:} بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً:} لا نبات فيها، ولا حياة، فإذا نزل عليها المطر اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وذكّر:
{مَيْتاً} باعتبار البلدة بلدا، أو مكانا. {كَذلِكَ الْخُرُوجُ} أي: من القبور، والمعنى: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، فأخرج منها النبات بعد ما انهضم، وتفتت في الأرض، وصار ترابا كما كان من بين أصفره، وأبيضه، وأحمره، وأزرقه إلى غير ذلك، كذلك يعيدكم من الأرض بعد ما تفتتت عظامكم، وتمزّقت لحومكم، وتفرّقت شعوركم.
وهذا من خصائص أسلوب القرآن العظيم: أنه يخاطب العقل، والقلب معا، ويجمع بين الحق، والجمال معا، وأنه يسوق الاستدلال سوقا يهزّ القلوب هزا، ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طيّ هذه الايات من إقامة الدليل العقلي على البعث، والنشور في مواجهة المنكرين المكذبين. تأمل هذا الأسلوب البارع الذي أقنع العقل، وأمتع العاطفة في آن واحد، حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل، حيث قال في آخر الايات:{كَذلِكَ الْخُرُوجُ} أي: الخروج من القبور للبعث، والحساب، والجزاء، والثواب، والعقاب.
الإعراب: {رِزْقاً:} مفعول لأجله؛ أي: أنبتنا ما تقدم لرزقهم، أو هو مفعول مطلق عامله:
(أنبتنا) لأنه بمعنى رزقناهم رزقا. أو هو حال، بمعنى: مرزوقا للعباد، أو ذا رزق. {لِلْعِبادِ:}
متعلقان ب: {رِزْقاً،} أو بمحذوف صفة له. {وَأَحْيَيْنا:} الواو: حرف عطف. (أحيينا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بَلْدَةً:} مفعول به. {مَيْتاً:} صفة: {بَلْدَةً} . {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {الْخُرُوجُ:} مبتدأ مؤخر.
هذا؛ وأجيز اعتبار الكاف اسما مبتدأ و {الْخُرُوجُ} خبره، وعليه تكون الكاف مضافة، واسم الإشارة مضافا إليه، وعلى الوجهين؛ فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ:} قبل كفار قريش، والمفعول محذوف؛ أي: كذبوا رسلهم. قوم نوح، وثمود، وعاد، وفرعون، وإخوان لوط ذكرت هذه الأقوام بالتفصيل في سورة (الأعراف)
وفي سورة (هود) وفي سورة (الشعراء)، وذكر أصحاب الأيكة في سورة (الشعراء) الاية رقم [176] وما بعدها، وذكر أصحاب الرس اسما فقط في الاية رقم [38] من سورة (الفرقان) وقد توسعت في الكلام عليهم. انظره هناك؛ فإنه جيد؛ والحمد لله! وانظر شرح {تُبَّعٍ} في سورة (الدخان) رقم [37]. هذا؛ وذم الله قوم تبع، ولم يذمه، وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه، فلهذا خصّ بالذكر دونهم. {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي: كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم.
{فَحَقَّ وَعِيدِ} أي: وجب عذابي لهم. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد، ووعيد لأهل مكة.
هذا؛ وإن لوطا هو ابن أخي إبراهيم الخليل، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، وتقدم معنا: أنه هاجر معه من العراق إلى الشام، فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بسدوم من الأردن، وأرسله الله إلى أهلها. فهو أجنبي منهم، لكن الله عبّر عنهم بإخوانه من حيث: أنه صاهرهم، وتزوج منهم. انتهى. جمل.
الإعراب: {كَذَّبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَوْمُ:} فاعل: {كَذَّبَتْ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، و {قَوْمُ} مضاف، و {نُوحٍ} مضاف إليه. {وَأَصْحابُ:} الواو: حرف عطف. (أصحاب): معطوف على: {قَوْمُ،} وهو مضاف، و {الرَّسِّ} مضاف إليه. {وَثَمُودُ (12) وَعادٌ:} معطوفان على: {قَوْمُ نُوحٍ} . {وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ:} معطوفان أيضا، و {الْأَيْكَةِ} و {تُبَّعٍ:} مضاف إليهما. {كُلٌّ،} مبتدأ، جوز الابتداء به الإضافة المقدرة. {كَذَّبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{كُلٌّ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {الرُّسُلَ:} مفعول به.
{فَحَقَّ:} الفاء: حرف عطف. (حق): فعل ماض. {وَعِيدِ:} فاعل: (حق) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المحذوفة مراعاة لرؤوس الاي، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
الشرح: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ:} هذا جواب لقولهم: {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} والمعنى: أعجزنا حين خلقناهم أولا، فنعيا بالإعادة ثانيا؟! وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول، وأنكروا البعث.
هذا؛ و «عيي بالأمر» : إذا لم يهتد لوجه عمله. وفي المختار: العيّ ضد البيان، وقد عيّ في منطقه فهو عيّ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ:} في خلط، وشبهة، قد لبس عليهم الشيطان، وحيّرهم، وذلك تسويله إليهم: أنّ إحياء الموتى خارج عن العادة، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح، وهو: أنّ من قدر على الإنشاء؛ كان على الإعادة أقدر، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: من إعادة الأجسام بعد فنائها، وتفتت أوصالها، وأجزائها.
الإعراب: {أَفَعَيِينا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي تقريعي. الفاء: حرف استئناف. (عيينا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. وقيل: معطوفة على جملة محذوفة مقدرة، ولا داعي له. {بِالْخَلْقِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْأَوَّلِ:} صفة:
(الخلق). {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي لَبْسٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
{مِنْ خَلْقٍ:} متعلقان ب: {لَبْسٍ،} أو بمحذوف صفة له. {جَدِيدٍ:} صفة: {بِالْخَلْقِ} . هذا؛ وقال الجمل: الجملة الاسمية معطوفة على مقدر يقتضيه السياق، يدلّ عليه ما قبله، كأنه قيل: هم غير منكرين لقدرتنا عن الخلق الأول، بل هم في خلط، وشبهة من خلق جديد مستأنف؛ لما فيه من مخالفة العادة. وتنكير:{بِالْخَلْقِ} لتفخيم شأنه، والإشعار بخروجه عن حدود العادات، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتمّ بمعرفته. انتهى. نقلا من أبي السعود.
الشرح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ:} آدم، وكل واحد من ذريته. {وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي:
ما يختلج في سرّه، وقلبه، وضميره. وفي هذا زجر عن المعاصي؛ التي يستخفى بها.
والوسوسة: حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي، ومنه: وسواس الحلي. قال الأعشى: [البسيط] تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
…
كما استعان بريح عشرق زجل
انظر شرح هذا البيت وإعرابه في كتابنا: «إعراب المعلّقات العشر» ورقمه [4] من معلقة الأعشى. هذا؛ ومن فضل الله وكرمه أنه تجاوز عن وسوسة القلب، وحديث النفس، فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل، أو تعمل» وانظر ما ذكرته في سورة (البقرة) رقم [284] و [286].
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ:} هذا بيان لكمال علمه؛ أي: نحن أعلم به منه، و {الْوَرِيدِ:}
العرق الذي يجري منه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن، وهو بين الحلقوم، والعلباوين. ومعنى الاية: أنّ أجزاء الإنسان، وأبعاضه يحجب بعضها بعضا، ولا يحجب عن علم الله شيء، وحبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو مني مقعد القابلة، ومعقد الإزار، قال ذو الرّمّة:[الرجز] هل أغدون في عيشة رغيد؟
…
والموت أدنى لي من الوريد
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه، ويجري أمرنا فيه كما يجري الدم في عروقه. كما قيل: إن المراد ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده
إليه، كما قال تعالى في المحتضر في سورة (الواقعة):{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ} فإن المراد الملائكة بلا ريب، كما ستعرفه في سورة (الواقعة) إن شاء الله تعالى. قال القشيري: في هذه الاية هيبة، وفزع، وخوف لقوم، وروح، وأنس، وسكون قلب لقوم.
الإعراب: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الاية رقم [46] من سورة (الزخرف). {وَنَعْلَمُ:} الواو: واو الحال. (نعلم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: ونحن نعلم، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:(نا)، والرابط: الواو، والضمير، ولا يصح اعتبار الجملة الفعلية بمفردها حالا؛ لأنها اقترنت بالواو، وفعلها مضارع مثبت. هذا؛ وإن اعتبرت الجملة مستأنفة؛ فلا حاجة إلى تقدير مبتدأ قبلها. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ونعلم وسوسة نفسه إياه؛ على اعتبار الباء زائدة، أو وسوسة نفسه له؛ على كونها للتعدية، وهي أصلية. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:(نعلم)، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. {إِلَيْهِ:}
متعلقان ب: {أَقْرَبُ} . {مِنْ حَبْلِ:} متعلقان ب: {أَقْرَبُ} أيضا، و {حَبْلِ} مضاف، و {الْوَرِيدِ} مضاف إليه، وانظر ما ذكرته في مثل هذه الإضافة في الاية رقم [9].
الشرح: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ} أي: يأخذ، ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله، وما يقوله في صحيفتي الحسنات، والسيئات. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ:} قال مجاهد: وكّل الله بالإنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل، وملكين بالنهار، يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والاخر عن شماله يكتب السيئات. فذلك قوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} . وعن أبي أمامة-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السّيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشّمال: دعه سبع ساعات؛ لعلّه يسبّح! أو يستغفر» . وروي من حديث علي-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مقعد ملكيك على ثنيّتك. لسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستح من الله ولا منهما!» . وإنما قال: {قَعِيدٌ،} ولم يقل:
قعيدان؛ وهما اثنان؛ لأنّ المراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. ومنه قول قيس بن الخطيم الأوسي-وهو الشاهد رقم [1053] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المنسرح] نحن بما عندنا، وأنت بما
…
عندك راض والرّأي مختلف
التقدير: نحن بما عندنا راضون، وقال الجوهري: فعيل، وفعول مما يستوي فيه الواحد، والاثنان، والجمع، كقوله تعالى:{إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} رقم [16] من سورة (الشعراء) انظر شرحها هناك؛ فإنه جيد. {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ:} عنده. {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي: حافظ حاضر أينما كان سوى وقت الغائط، وعند جماعه، فإنهما يتأخران عنه، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين؛ حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه، وهو على تلك الحالة؛ حتى يكتبا ما يتكلم به. قيل: إنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلّم به حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا ما له أجر، وثواب، أو عليه وزر، وعقاب.
هذا؛ وتفسير {عَتِيدٌ} بحاضر يجعله صفة: {رَقِيبٌ،} والمعروف والمشهور: أنهما ملكان:
الأول: رقيب، وهو كاتب الحسنات، والثاني: عتيد وهو كاتب السيئات، وهما من الملائكة المقربين العشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ومنكر، ونكير، ورقيب، وعتيد، وخازن الجنة رضوان، وخازن النار مالك-رضي الله عنهم. وقد أزاح هذه الشبهة الجلال بقوله: وكلّ منهما بمعنى المثنى.
قال الجمل معلقا: أي: الرقيب، والعتيد بمعنى المثنى، فالمعنى: إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان، وعتيدان، فكل منهما موصوف بأنه {رَقِيبٌ} أي: حافظ للأعمال، و {عَتِيدٌ} أي:
حاضر عند العبد، لا يفارقه في نوم، ولا في يقظة، فالكاتبان اثنان فقط، وإن كانا يتبدلان ليلا، ونهارا. ولا حاجة إلى هذا كله، بل الأولى جعل الوصفين لشيء واحد؛ أي: إلا لديه ملك موصوف بأنه رقيب، وعتيد؛ أي: حافظ حاضر، والمراد بذلك الملك اثنان: كاتب الحسنات، وكاتب السيئات، فكل منهما يقال له: رقيب عتيد. انتهى. وخذ ما يلي:
عن أنس-رضي الله عنه: أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله وكّل بعبده ملكين يكتبان عمله، فإذا مات؛ قالا: ربنا قد مات فلان فائذن لنا أن نصعد إلى السماء! فيقول الله تعالى: إنّ سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني، فيقولان: ربّنا نقيم في الأرض، فيقول الله تعالى: إن أرضي مملوءة من خلق يسبحونني، فيقولان: يا ربّ فأين نكون؟ فيقول الله تعالى: كونا على قبر عبدي فكبّراني، وهلّلاني، وسبّحاني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة» . أقول: وهذا إن كان العبد الموكل به الملكان مؤمنا، وأما إن كان كافرا، وفاجرا، وفاسدا في حياته؛ فلا شك: أنّ الله تعالى يقول لملكيه: قفا على قبره، والعناه؛ حتى يبعث من قبره! والله أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على الهادي، وسلّم. وانظر ما ذكرته بشأن الحفظة في الاية رقم [11] من سورة (الرعد).
الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو متعلق ب:{أَقْرَبُ} . {يَتَلَقَّى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {الْمُتَلَقِّيانِ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، ومفعوله محذوف، التقدير: يتلقى المتلقيان ما يعمله العبد، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {عَنِ الْيَمِينِ:}
متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {وَعَنِ الشِّمالِ:} معطوفان على ما قبلهما. {قَعِيدٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{الْمُتَلَقِّيانِ} . (عن الشمال): متعلقان بمحذوف خبر، والمبتدأ محذوف لدلالة:{قَعِيدٌ} عليه، فهذا من حذف الثاني لدلالة الأول عليه، وإن اعتبرت:
{قَعِيدٌ} مبتدأ لقوله: (عن الشمال) فيكون المبتدأ محذوفا من الأول لدلالة الثاني عليه، وعلى اعتبار {قَعِيدٌ} بمعنى المثنى؛ فلا حذف، وكذلك إن كان صالحا للمفرد، والمثنى، والجمع؛ فلا حذف أيضا، كذلك عطفت (عن الشمال) على ما قبلهما.
{ما:} نافية. {يَلْفِظُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{الْإِنْسانَ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {الْإِنْسانَ،} والرابط: الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ لا محلّ لها.
{مِنْ:} حرف جر صلة. {قَوْلٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {لَدَيْهِ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء، والهاء في محل جر بالإضافة. {رَقِيبٌ:} مبتدأ مؤخر. {عَتِيدٌ:} بدل مما قبله، أو عطف بيان عليه، وإن اعتبرتهما اثنين؛ فهو معطوف عليه بواو محذوفة، والجملة الاسمية في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال.
{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}
الشرح: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي: غمرته، وشدته؛ التي تغشى الإنسان، وتغلب على عقله. {بِالْحَقِّ} أي: بحقيقة الموت. وقيل: بالحق من أمر الاخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان. وقيل: بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة، والشقاوة. {ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي:
يقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك الذي كنت عنه تميل، وقيل: تهرب. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: تكره. يقال: حاد عن الشيء يحيد: مال عنه، وعدل، قال طرفة بن العبد:[الطويل] أبا منذر رمت الوفاء فهبته
…
وحدت كما حاد البعير عن الدّحض
والمخاطب بذلك الإنسان من حيث هو. وقيل: هو الكافر. وعن بعضهم: أنّه سأل زيد بن أسلم عن ذلك، فقال الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فحكاه لصالح بن كيسان. فقال: والله ما سنّ عالية،
ولا لسان فصيح، ولا معرفة بكلام العرب! هو للكافر. ثم حكاهما للحسين بن عبد الله، بن عبيد الله، بن عباس، فقال: أخالفهما جميعا، هو للبر، والفاجر. روي: أنه لما ثقل أبو بكر رضي الله عنه-جاءت عائشة-رضي الله عنها-فتمثلت بقول حاتم الطائي: [الطويل] لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما، وضاق بها الصّدر
فكشف عن وجهه، وقال-رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي:{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ..} . إلخ. وروي أنه لما حضرت الوفاة سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، كان عنده قدح ماء، فجعل يدخل يده فيه، ويمسح وجهه، ويقول:«لا إله إلاّ الله، إنّ للموت لسكرات! اللهم هوّن عليّ سكرات الموت!» . وفاطمة-رضي الله عنها-تقول: (واكرباه لكربك يا أبتاه) فيقول:
«لا كرب على أبيك بعد الموت» . وقال شداد بن أوس-رضي الله عنه: الموت أفظع هولا في الدنيا والاخرة على المؤمنين، وهو أشدّ ألما من نشر المناشير، وقرض المقاريض، وغليان القدور ولو أن الميت بعث، فأخبر أهل الدنيا بألم الموت؛ لما انتفعوا بعيش، ولا التذوا بنوم.
وكان عمرو بن العاص-رضي الله عنه-يقول: من لي برجل عاقل يصف لي سكرات الموت؟ فلما حضرته الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه! إنك كنت تقول: من لي برجل عاقل يصف لي سكرات الموت؟ وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني! والله كأن السماء قد أطبقت على الأرض، وكأني بينهما، وكأني أتنفس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي! ثم أنشد يقول:[الخفيف] كلّ حيّ وإن تطاول دهرا
…
آيل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
…
في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
الإعراب: {وَجاءَتْ:} الواو: حرف استئناف. (جاءت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{سَكْرَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، و {سَكْرَةُ:} مضاف، و {الْمَوْتِ} مضاف إليه. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{سَكْرَةُ الْمَوْتِ،} التقدير: ملتبسة بالحق. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، فيكون المعنى: ذلك الذي كنت منه تبتعد، وتفرّ منه قد حلّ بك، ونزل بساحتك، أو هي نافية فيكون المعنى ذلك ما كنت تقدر على الهرب، والفرار منه. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْهُ:} متعلقان بما بعدهما. {تَحِيدُ:} مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان)، وجملة:{كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} صلة: {ما} على اعتبارها موصولة، وفي محل رفع خبر المبتدأ على اعتبارها نافية، والجملة
الاسمية: {ذلِكَ ما كُنْتَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها، أو معترضة بين الجمل المتعاطفة، أو هي في محل نصب مقول القول، التقدير: أي: ويقال له عند الموت: {ذلِكَ..} . إلخ.
الشرح: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ:} انظر الاية رقم [68] من (الزمر) وخذ ما يلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم؛ وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟!» قالوا: يا رسول الله! كيف نقول؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل!» فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل!. {ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي: وقت ذلك يوم تحقق الوعيد، وإنجازه، وهو تعذيب الكفار، والفاسدين المفسدين.
{وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي: ملك يسوقه إلى الحشر، وملك يشهد عليه بأعماله.
هذا هو الظاهر من الاية الكريمة، وهو اختيار ابن جرير، وغيره؛ لما روي عن يحيى بن رافع؛ قال: سمعت عثمان بن عفّان-رضي الله عنه-يخطب، فقرأ هذه الاية، فقال: سائق يسوقها إلى الله تعالى، وشاهد يشهد عليها بما عملت. وكذا قال مجاهد، وقتادة. وقال أبو هريرة-رضي الله عنه: السائق: الملك، والشهيد: العمل. وكذا قال الضحاك، والسّدّي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: السائق من الملائكة، والشهيد الإنسان نفسه. يشهد على نفسه، وبه قال الضحاك أيضا. هذا؛ والمراد بنفسه: جوارحه؛ التي بين جنبيه. ويؤيده قوله تعالى في سورة (النور) رقم [24]: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ،} وقوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [20]: {حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} . انظر شرح هذه الايات في محالها. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق الوقوع.
الإعراب: {وَنُفِخَ:} الواو: حرف عطف. (نفخ): فعل ماض مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:}
في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (جاءت
…
) إلخ لا محلّ لها مثلها. {ذلِكَ:} مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {يَوْمُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْوَعِيدِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، أو معترضة بين الجمل المتعاطفة، وجملة:{وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} معطوفة على ما قبلها أيضا، لا محلّ لها. {مَعَها} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، و (ها) في محل جر بالإضافة. {سائِقٌ:} مبتدأ مؤخر.
{وَشَهِيدٌ:} الواو: حرف عطف. (شهيد): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{كُلُّ نَفْسٍ،} وأجيز اعتبار الظرف متعلقا بمحذوف حال من: {كُلُّ نَفْسٍ،} فيكون {سائِقٌ} فاعلا بمتعلق الظرف؛ وقال مكي: والجملة في موضع نصب على الصفة للنفس، أو لكل، فهي في محل رفع، أو في محل جر؛ لأنّ {كُلُّ} مرفوعة، و {نَفْسٍ} مجرورة،
والأصح في محل نصب حال كما قدمت، و {كُلُّ} تخصصت بالإضافة ل:{نَفْسٍ} فصحّ مجيء الحال منها.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}
الشرح: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا:} قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وهذا لا أرتضيه، ولا تؤيده الايات قبله، وبعده. وقال ابن عباس، والضحاك: إنّ المراد به المشركون؛ أي: كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إنّ المراد به البرّ، والفاجر. وهو اختيار الطبري. انتهى. قرطبي.
أقول: وهو المعتمد؛ لأنّ الاخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، قال الإمام علي-رضي الله عنه: الناس نيام؛ إذا ماتوا؛ انتبهوا. أقول: ويؤيده قوله تعالى في سورة (الروم): {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} . {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ} أي: الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا، والمراد: ما كان من أثر الغفلة، فهو استعارة؛ إذ الغطاء الحاجب لأمور المعاد الناتج من الغفلة، والانهماك في المحسوسات، والإلف بها، وقصور النظر عليها. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ:} قوي ثابت نافذ، فقد جعلت الغفلة كأنها غطاء غطّى بها جسده كله، أو غشاوة غطّى بها عينيه، فهو لا يبصر، فإذا كان يوم القيامة؛ تيقّظ، وزالت عنه الغفلة، وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديدا لتيقظه. هذا؛ وقرئ بكسر تاء الفاعل، والكافات، وذلك على خطاب النفس، وهو يرجح: أن المراد البر، والفاجر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:
والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُنْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِي غَفْلَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مِنْ هذا:} متعلقان بمحذوف خبر ثان ل: (كان) وهو أقوى من تعليقهما بمحذوف صفة: {غَفْلَةٍ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في اللام، والكلام في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال له: لقد، أو والله لقد
…
إلخ، والكلام كلّه مستأنف، لا محلّ له. (كشفنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَنْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {غِطاءَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. (بصرك): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْيَوْمَ:}
ظرف زمان متعلق بما بعده. {حَدِيدٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وفيها معنى التعليل. هذا؛ وجاز تعليق الظرف ب:{حَدِيدٌ} . وهو جامد؛ لأنه بمعنى قوي ثابت، ومثل هذه الاية قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [799] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [496] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
وإنّ لساني شهدة يشتفى بها
…
وهوّ على من صبّه الله علقم
فالجار والمجرور: «على من» متعلقان بقوله: «علقم» لأنه بمعنى مرّ، وأيضا قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [3]:{وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ..} . إلخ فالجار والمجرور: {فِي السَّماواتِ} متعلقان بلفظ الجلالة؛ لأنه بمعنى المعبود، أو المسمّى بهذا الاسم.
الشرح: {وَقالَ قَرِينُهُ} أي: الملك الموكل به في الدنيا لكتابة أعماله، وهو الرقيب السابق ذكره، وتقدّم: أنه كاتب الحسنات والسيئات، وأن للإنسان رقيبين، وهما العتيدان. فإفراده لتأويله كما مرّ في الرقيب، وقال الزمخشري: هو الشيطان الذي قيض له في قوله تعالى في سورة (الزخرف) الاية رقم [36]: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ويشهد له قوله تعالى: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} . {هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ:} هذا شيء لديّ، في ملكتي عتيد لجهنم، والمعنى: أن ملكا يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به يقول: قد أعتدته لجهنم وهيئته لها بإغوائي، وإضلالي.
{أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ:} معاند للحق، والعنيد: المعرض عن الحق، يقال: عند يعند بالكسر عنودا؛ أي: خالف، ورد الحق، وهو يعرفه، فهو عنيد، وعاند، وجمع العنيد: عند، مثل رغيف، ورغف. هذا؛ والعنيد: الطاغي؛ الذي لا يقبل الحق، ولا يذعن له. قال أبو عبيد:
العنيد، والعنود، والعاند، والمعاند: المعارض بالخلاف، وعند، يعند من الباب الأول، وعند، يعند من الباب الرابع، وعند، يعند من الباب الخامس، والمصدر: عندا، وعنودا، وعندا.
هذا؛ وألقيا خطاب من الله تعالى للملكين السابقين: السائق، والشهيد، ويجوز أن يكون خطابا للواحد من وجهين: أحدهما قول المبرد: إن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما، كأنه قيل: ألق ألق للتأكيد. والثاني: أنّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: خليليّ، ونحوه، ويجوز أن تكون الألف في {أَلْقِيا} بدلا من النون إجراء للوصل مجرى الوقف، ويؤيده قراءة الحسن البصري، وهي ليست سبعية:«(ألقين)» ومن هذا الباب قول امرئ القيس في أول معلقته رقم [1]: [الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
ومن خطاب الاثنين، والمراد الواحد قول سويد بن كراع العكلي:[الطويل] فإن تزجراني يا بن عفّان أنزجر
…
وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا
{مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي: للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله، وقد يراد به الصد عن الدخول في الإسلام، وكثيرا ما ذكر الله تعالى عنهم ذلك بقوله:{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ،} {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} .
{مُعْتَدٍ:} متجاوز حدّه في منطقه، وسيرته، ظالم لا يقر بتوحيد. {مُرِيبٍ:} واقع في شك من أمر التوحيد، والإسلام.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): ماض. {قَرِينُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ما:} خبر المبتدأ. {لَدَيَّ:} ظرف مكان متعلق ب: {عَتِيدٌ} بعده، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله بياء المتكلم؛ التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عَتِيدٌ:} صفة: {ما،} التقدير: هذا شيء حاضر عندي، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. هذا؛ وأجيز اعتبار {لَدَيَّ} متعلقا بمحذوف صفة:{ما،} واعتبار {عَتِيدٌ} صفة ثانية لما، أو خبر لمبتدأ؛ أي: هو عتيد، وعليه فالجملة الاسمية صفة ثانية ل:{ما،} أو هي حال منها بعد وصفها بالظرف، والعامل في الحال اسم الإشارة. ويجوز أن تكون {ما} موصولة بمعنى «الذي» مبتدأ، و {لَدَيَّ} صلتها، و {عَتِيدٌ} خبر الموصول، والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة. ويجوز أن تكون {ما} بدلا من {هذا} موصولة كانت، أو موصوفة ب:
{لَدَيَّ} و {عَتِيدٌ:} خبر {هذا،} وجوّز الزمخشري في: {عَتِيدٌ} أن يكون بدلا، أو خبرا بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. جمل نقلا من السمين. وعن مكي، وأبي البقاء ما يقرب من هذا؛ وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على جملة: (جاءت
…
) إلخ لا محلّ لها مثلها.
{أَلْقِيا:} فعل أمر مبني على حذف النون، وألف الاثنين فاعله، أو هو مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا في الوقف، كما رأيت في الشرح، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فِي جَهَنَّمَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {كُلَّ:} مفعول به، و {كُلَّ} مضاف، و {كَفّارٍ} مضاف إليه. {عَنِيدٍ:} صفة أولى ل: {كَفّارٍ} . {مَنّاعٍ:} صفة ثانية. {لِلْخَيْرِ:} متعلقان ب: {مَنّاعٍ} .
{مُعْتَدٍ مُرِيبٍ:} صفتان ل: {كَفّارٍ} وفيه، وفي جميع صفاته ضمير مستتر هو فاعل بهنّ، وجملة:{أَلْقِيا..} . إلخ، في محل نصب مقول القول.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)}
الشرح: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ} أي: أشرك بالله، فعبد معه غيره. {فَأَلْقِياهُ:} قل فيه: ما قلته بسابقه. {فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ:} فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال: «يخرج عنق من النّار يتكلّم: يقول: وكّلت اليوم بثلاثة: بكلّ جبّار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حقّ، فينطوي عليهم، فيقذفهم في حمراء جهنّم» . رواه الإمام أحمد في مسنده.
الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الذم بفعل محذوف، أو على البدل من:{كُلَّ} . أو في محل جر بدلا من: {كَفّارٍ} . أو في محل رفع مبتدأ، وجملة:{فَأَلْقِياهُ} في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم. {جَعَلَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من:{إِلهاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به. {آخَرَ:} صفة له، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ، صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَأَلْقِياهُ:} الفاء: هي الفصيحة على الاعتبارات الأولى في الموصول، وزائدة على اعتبار الموصول مبتدأ. (ألقياه): إعرابه مثل سابقه، والهاء مفعول به. {فِي الْعَذابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الشَّدِيدِ:} صفة: {الْعَذابِ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها على اعتبار الفاء الفصيحة، وفي محل رفع خبر الموصول على اعتباره مبتدأ.
{قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)}
الشرح: {قالَ قَرِينُهُ} يعني: الشيطان الذي قيض لهذا الكافر. {رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} أي: ما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى، واختار الضلالة على الهدى. وقيل: هذا جواب لكلام مقدر، وهو: أن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربي أطغاني شيطاني، فيقول الشيطان:{رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ،} وما أضللته، وما أغويته! وقرينه هنا هو شيطانه بغير اختلاف، حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي: قال ابن عباس، ومقاتل: قرينه: الملك، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة-الذي قيل: إنّ الايات نزلت فيه- يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته-أي: ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر: ربي إنه زاد عليّ في الكتابة. فيقول الملك: ربنا ما أطغيته؛ أي: ما زدت عليه في الكتابة، والمعتمد الأول. والله ولي التوفيق، ويوضحه الاية رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: عن الرشد، والحق، والصواب. والضلال مصدر «ضل» الثلاثي، والإضلال مصدر الرباعي، فهو مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضلالا. أو هو مجاز عقلي، على حد جدّ جدّه؛ لأن البعيد في الحقيقة إنما هو الضال؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به قوله. هذا؛ وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى؛ لأنّ
الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها، ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني:
مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قاله له، وأمّا هذه؛ فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما في مقاولة موسى، وفرعون في سورة (طه) وفي سورة (الشعراء)، فكأنّ الكافر قال: رب هو أطغاني، فقال قرينه:{رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ..} . إلخ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ قَرِينُهُ:} ماض، وفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء. و (نا) في محل جر بالإضافة؛ من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ما:} نافية. {أَطْغَيْتُهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف.
(لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه تقديره:«هو» يعود إلى قرينه الأول. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} . {بَعِيدٍ:} صفة:
{ضَلالٍ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)}
الشرح: {قالَ} أي: الله. {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} أي: لا تعتذروا عندي بغير عذر، ولا تختصموا مع بعضكم في دار الجزاء، وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم، ولا طائل تحته. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ:} وعدتكم بعذابي، وأنذرتكم عقابي في كتبي، وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجة تحتجّون بها.
وقال الجمل: يرد عليه: أن قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ} واقع موقع الحال من: {لا تَخْتَصِمُوا} والتقديم بالوعيد في الدنيا، والخصومة في الاخرة، واجتماعهما في زمان واحد واجب.
وإيضاح الجواب: أنّ معناه: لا تختصموا؛ وقد صحّ عندكم: أني قدمت إليكم بالوعيد. وصحة ذلك عندهم في الدار الاخرة.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {لا:} ناهية. {تَخْتَصِمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَدَيَّ:}
ظرف مكان متعلق بما قبله، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله بياء المتكلم والتي هي في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {قَدَّمْتُ:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، و {بِالْوَعِيدِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: الباء صلة، و (الوعيد) مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:{قالَ} المستتر، والرابط:
الواو، والضمير. هذا؛ وأجيز أن يكون {بِالْوَعِيدِ} حالا من الفاعل، أو من المفعول، والمعنى:
قدمت إليكم موعدا لكم به، أو قدمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد، مقترنا به.
{ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)}
الشرح: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ:} قيل: هو قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [160]: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقيل: هو قوله في سورة (السجدة) رقم [13]: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} . وقال الفراء: ما يكذب عندي؛ أي: ما يزاد في القول، ولا ينقص لعلمي بالغيب، وأعلم كيف ضلوا. وهذا القول هو الأولى، يدل عليه: أنه قال: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} ولم يقل: ما يبدل قولي.
{وَما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي: ما أنا بمعذّب من لم يجرم. وقيل: فأزيد إساءة المسيء، أو أنقص من إحسان المحسن. وليس المراد ب:(ظلاّم) المبالغة حتى تنتفي المبالغة، ويبقى أصل الظلم. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما المراد نفي نسبة الظلم إليه تعالى؛ إذ المراد ليس يظلم. ومثل الاية في ذلك قول امرئ القيس، وهو الشاهد رقم [175] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] وليس بذي رمح فيطعنني به
…
وليس بذي سيف وليس بنبّال
الإعراب: {ما:} نافية. {يُبَدَّلُ:} مضارع مبني للمجهول. {الْقَوْلُ:} نائب فاعل. {لَدَيَّ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو مثل ما قبله في إعرابه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» .
{أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {بِظَلاّمٍ:} الباء: حرف جر صلة. (ظلام): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنا» ، {لِلْعَبِيدِ:} متعلقان ب: (ظلام)، والجملة الاسمية:{وَما أَنَا..} . إلخ في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط:
الواو، والضمير.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}
الشرح: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} وهذا استفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. وفي هذا رد على من قال كالزمخشري: سؤال جهنم، وجوابها من باب التخييل، الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب، وتبيينه، وجعله هذا من باب المجاز مردود، لما ورد: تحاجّت الجنة، والنار، واشتكت النار إلى ربها، ولا مانع من
ذلك، فقد سبح الحصى، وسلّم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فتح باب المجاز فيه لاتسع الخرق بخلاف الايات الواردة في الصفات، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. انتهى. جمل نقلا من كرخي.
{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي: ما بقي فيّ موضع للزيادة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«هل ترك لنا عقيل من ربع، أو منزل؟» أي: ما ترك. فمعنى الكلام الجحد، ويحتمل أن يكون الكلام استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي: هل من مزيد، فأزداد؟ وقيل: ليس ثمّ قول، وإنما هو على طريق المثل؛ أي:
إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك، كما قال الشاعر:[الرجز] امتلأ الحوض وقال قطني
…
مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا تفسير مجاهد وغيره. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا هو الأصح فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها.
وتقول: هل من مزيد حتّى يضع ربّ العزة فيها قدمه؟ فينزوي بعضها على بعض، وتقول: قط، قط، بعزتك، وكرمك! ولا يزال في الجنة فضل؛ حتى ينشئ الله لها خلقا، فيسكنهم فضل الجنّة». متفق عليه، وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه:«وأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع الله عليها رجله، يقول لها: قط، قط! فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، فلا يظلم الله من خلقه أحدا، وأمّا الجنة فإنّ الله ينشئ لها خلقا» . قال علماؤنا-رحمهم الله تعالى-: أما معنى القدم هنا، فهم قوم يقدّمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه: أنهم من أهل النار، وكذلك الرّجل، وهو العدد الكثير من الناس، وغيرهم، يقال: رأيت رجلا من الناس، ورجلا من جراد، قال الشاعر:[الطويل] فمرّ بنا رجل من الناس وانزوى
…
إليهم من الحيّ اليمانين أرجل
قبائل من لخم وعكل وحمير
…
على ابني نزار بالعداوة أحفل
«ينزوي بعضها إلى بعض» أي: تنقبض على من فيها، وتشتغل بعذابهم، وتكف عن سؤال:
هل من مزيد؟ انتهى. قرطبي بتصرف.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: (ظلاّم)، أو متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر.
{تَقُولُ:} مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» . {لِجَهَنَّمَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {هَلِ:} حرف استفهام. {اِمْتَلَأْتِ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَتَقُولُ:} الواو: حرف عطف. (تقول): مضارع، والفاعل يعود إلى (جهنم). {هَلِ:} حرف استفهام. {مِنْ:} حرف جر صلة. {مَزِيدٍ:} مبتدأ، وخبره مرفوع، تقديره: هل من مزيد فيّ، أو هو فاعل لفعل محذوف، التقدير: أو هل بقي
مزيد؟ فهو مرفوع على الاعتبارين وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:
{وَتَقُولُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}
الشرح: {وَأُزْلِفَتِ..} . إلخ: أي قربت منهم، قيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي: قربت من قلوبهم حين قيل لهم: اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها، فلا تبعد. انتهى. قرطبي. وقال الحسن البصري: إنهم يقربون منها، لا أنها تزول عن مواضعها.
انتهى. أقول: فيكون هذا من باب القلب. انظر سورة (الأحقاف) رقم [20]. {لِلْمُتَّقِينَ} أي:
الذين اتقوا الشرك. {غَيْرَ بَعِيدٍ:} يعني: أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها. انتهى. خازن. وفائدة قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} بعد قوله: {وَأُزْلِفَتِ} التأكيد، كقولهم: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. ولم يقل: غير بعيدة لكونه وصفا للجنة، وإيضاحه: أنه صفة لمذكر محذوف، أو لأن فعيلا يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأُزْلِفَتِ:} الواو: حرف عطف. (أزلفت): ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {الْجَنَّةُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا، والتعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه. {لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {غَيْرَ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله؛ أي: مكانا غير بعيد، أو هو منصوب على الحال من الجنة. قاله الزمخشري، و {غَيْرَ} مضاف، و {بَعِيدٍ} مضاف إليه.
الشرح: {هذا ما تُوعَدُونَ} أي: يقال لهم: هذا الجزاء الذي وعدتم به على ألسنة الرسل في الدنيا. {لِكُلِّ أَوّابٍ حَفِيظٍ} أي: رجاع عن المعصية إلى الله. قال سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-: هو الذي يذنب، ثم يتوب، ثم يذنب، ثم يتوب. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا؛ حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث: أنّ الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه، قال: سبحان الله، وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. أقول:
وهذا صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك:
سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك، وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك». رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة-رضي الله عنه.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} أي: خاف الرحمن، وأطاعه؛ ولم يره. وقيل: خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد؛ إذا ألقى الستر، وأغلق الباب. و {وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أي: مخلص لله، مقبل على طاعته، وعبادته. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته، مواليا له، متواضعا لجلاله، تاركا لهوى نفسه.
الإعراب: {هذا:} الهاء: حرف تنبيه، لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {تُوعَدُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: هذا الذي، أو شيء توعدونه. {لِكُلِّ:} بدل من قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} بإعادة الجار، كقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [75]:{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} وعليه فالجملة الاسمية: {هذا ما تُوعَدُونَ} معترضة بين البدل، والمبدل منه، لا محلّ لها، و (كل) مضاف، و {أَوّابٍ} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: لكل عبد أواب.
{حَفِيظٍ:} صفة ثانية للمحذوف. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بدل من (كل)، أو هو في محل رفع مبتدأ، والخبر جملة:{اُدْخُلُوها} على اعتباره اسم شرط جازم، فيكون الجواب محذوفا، التقدير: فيقال لهم: ادخلوها، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم من، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني من، وأجاز الزمخشري أن يكون منادى، كقولهم: يا من لا يزال محسنا أحسن إليّ، وحذف حرف النداء للتقريب. {خَشِيَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو في محل جزم فعل الشرط على اعتباره شرطا، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} على اعتبارها موصولة. {بِالْغَيْبِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الرَّحْمنَ} أي: خشيه؛ وهو غائب لم يشاهده. {وَجاءَ:} الواو: حرف عطف. (جاء): ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{بِقَلْبٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُنِيبٍ:} صفة (قلب).
{اُدْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)}
الشرح: {اُدْخُلُوها بِسَلامٍ} أي: يقال لأهل الصفات المتقدمة: {اُدْخُلُوها بِسَلامٍ:} بسلامة من العذاب، والهموم، والأحزان. وقيل: بسلام من الله، وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. هذا؛ ولا تنس: أنه أفرد الضمير في الاية السابقة مراعاة للفظها، وجمعه هنا مراعاة لمعناها. {ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي: يخالدون في الجنة، فلا يموتون، ولا يظعنون أبدا، ولا يبغون عنها حولا.
{لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها} أي: أي شيء اختاروا؛ واشتهوا؛ وجدوا. قال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [71]: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} انظر شرحها هناك، ففيه الكفاية. {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ:} هو كقوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} رقم [26] انظر شرحها هناك، ففيها الكفاية؛ حيث تجد: أن المزيد هو النظر إلى وجهه الكريم. قيل: يتجلى الرب تبارك وتعالى لأهل الجنة في كل جمعة في دار كرامته، فهذا هو المزيد على نعيم الجنة، وعلى ما يشاؤون، ويشتهون، ولكن ينبغي أن تعلم: أنّ هذه الرؤية بلا كيف. والمعتزلة ينكرون هذه الرؤية في الاخرة، كما ستقف عليه إن شاء الله في سورة (القيامة) و (المطففين).
الإعراب: {اُدْخُلُوها:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [70] من سورة (الزخرف). {بِسَلامٍ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر الشرح.
{ذلِكَ:} مبتدأ. {يَوْمُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْخُلُودِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، وانظر تفصيل إعرابها في الاية رقم [3]. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيء يشاؤونه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{ما،} أو من العائد إليها، والأول أقوى. {وَلَدَيْنا:} الواو: حرف عطف. (لدينا):
ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله بنا؛ التي هي في محل جر بالإضافة. {مَزِيدٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها.
الشرح: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ} أي: قبل كفار قريش، {مِنْ قَرْنٍ} أي: من القرون الذين كذبوا رسلهم، كعاد، وفرعون، وثمود
…
إلخ. {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ:} من قومك يا محمد.
{بَطْشاً:} قوة، وسطوة. والبطش: الأخذ بصولة، وعنف. وانظر الاية رقم [16] من سورة (الدخان). {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي: ساروا فيها، وتقلّبوا، وسلكوا كل طريق. والتنقيب: التنقير عن الشيء، والبحث، والطلب، ومنه قول امرئ القيس:[الوافر]
وقد نقّبت في الافاق حتّى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
وقرئ الفعل بالتخفيف، وقرئ بصيغة الأمر على التهديد، والوعيد، والمعنى: طوفوا البلاد، وسيروا فيها؛ فانظروا:{هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي: مهرب، ومفرّ من الموت. وقرئ:
«(فنقبوا)» بكسر القاف مع التخفيف. أي: أكثروا السير في البلاد حتى نقبت أقدامهم، أو أخفاف دوابهم، قال أعرابي: وهو الشاهد رقم [512] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [الرجز] أقسم بالله أبو حفص عمر
…
ما مسّها من نقب ولا دبر
الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): خبرية بمعنى: كثير مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. وقيل: متعلق بمحذوف، ولا وجه له. {مِنْ:}
حرف جر صلة. {قَرْنٍ:} تمييز منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {هُمْ أَشَدُّ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب صفة:{قَرْنٍ} . {مِنْهُمْ:} متعلقان ب: {أَشَدُّ} . {بَطْشاً:} تمييز. {فَنَقَّبُوا:} الفاء: حرف عطف. (نقبوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. وقال أبو البقاء: عطف على المعنى؛ أي: بطشوا، فنقبوا. {فِي الْبِلادِ:} متعلقان بما قبلهما.
{هَلْ:} حرف استفهام. {مِنْ:} حرف جر صلة. {مَحِيصٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والخبر محذوف، التقدير: هل محيص لهم، أو لغيرهم؟! والجملة الاسمية إما على إضمار قول هو حال من واو:
(نقبوا)؛ أي: فنقبوا في البلاد قائلين: هل من محيص، أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع، والتفتيش مجرى القول. أو هو كلام مستأنف وارد لنفي أن يكون لهم محيص. انتهى.
جمل، نقلا من أبي السعود.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}
الشرح: {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: فيما ذكرناه في هذه السورة. {لَذِكْرى:} لموعظة، وعبرة، وتذكرة. {لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل؛ لأنه موضعه. وقيل: له قلب حاضر مع الله، واع عن الله. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي: أصغى إلى المواعظ، وانتفع بها. أو استمع القرآن، واتعظ بما فيه. وأو ليست لأحد الشيئين هنا، فهي مانعة خلو، لا مانعة جمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب، كما يلوح به قوله:{وَهُوَ شَهِيدٌ} .
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {لَذِكْرى:} اللام: لام
الابتداء. (ذكرى): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو ابتدائية لا محلّ لها. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (ذكرى). {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {قَلْبٌ:} اسم {كانَ} مؤخر، وأجيز اعتبار {كانَ} تامة، وعليه ف:{قَلْبٌ} فاعلها، والجار والمجرور متعلقان بها، والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها على اعتبارها موصوفة، وأجيز اعتبار:{كانَ} زائدة وعليه، فالجار، والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {قَلْبٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة صلة:
(من)، واعتبر ابن هشام زيادتها ضعيفا. {أَوْ:} حرف عطف. {أَلْقَى:} ماض، وفاعله يعود إلى (من). {السَّمْعَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وهو مما يؤكد ضعف القول بزيادة:{كانَ،} والجملة الاسمية: {وَهُوَ شَهِيدٌ} في محل نصب حال من فاعل:
{أَلْقَى} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: قال المفسرون: نزلت الاية في اليهود؛ حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أولها الأحد، وآخرها الجمعة، ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فلذلك تركوا العمل فيه، فأنزل الله تعالى هذه الاية ردا عليهم، وتكذيبا لهم في قولهم:
استراح يوم السبت، بقوله تعالى:{وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ} أي: إعياء، وتعب. وانظر ما أذكره في سورة (الحديد) رقم [4] إن شاء الله تعالى. وانظر شرح {بَيْنَهُما} في سورة (الدخان) رقم [7] هذا؛ و (اللغوب) بضم اللام وفتحها، ومثله لغب بفتح اللام مع فتح الغين وسكونها بمعنى واحد، وفعله يأتي من باب قتل كذا في «المصباح». وفي «القاموس»: أنه من باب: منع، وكرم، ومن باب: تعب لغة ضعيفة.
الإعراب: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا:} انظر الاية رقم [46] من سورة (الزخرف). {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم.
{وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {فِي سِتَّةِ:} متعلقان بالفعل: {خَلَقْنَا،} و {سِتَّةِ} مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه. {وَما:} الواو:
واو الحال، أو واو الاستئناف. (ما): نافية. {مَسَّنا:} فعل ماض، و (نا): مفعول به. {مِنْ:}
حرف جر صلة. {لُغُوبٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها
اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:(نا)، والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها، والكلام:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا..} .
إلخ، مستأنف، لا محلّ له.
الشرح: {فَاصْبِرْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {عَلى ما يَقُولُونَ} أي: ما يقوله اليهود، كما رأيت في الاية السابقة، وأيضا ما ينكره كفار قريش من إعادة الأجسام بعد فنائها. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ:}
انظر ما ذكرته في الاية رقم [9] من سورة (الفتح). {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الصبح. {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} صلاة العصر. ورواه جرير بن عبد الله مرفوعا، قال: كنّا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال:«إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألاّ تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها» يعني: العصر، والفجر، ثم قرأ جرير:{وَسَبِّحْ..} . إلخ، متفق عليه، واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:(قبل الغروب): الظهر، والعصر. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} يعني: صلاة العشاءين. وقيل: المراد: تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب. قاله عطاء الخراساني، وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله تعالى:{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ:} ركعتي الفجر، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} الركعتين قبل المغرب. وقال ثمامة بن عبد الله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلّون الركعتين قبل المغرب، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك-رضي الله عنه، قال: كنّا بالمدينة، فإذا أذّن المؤذن لصلاة المغرب؛ ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب: أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلاّ أنسا، وأبا برزة الأسلمي. انتهى. قرطبي. أقول: وهاتان الركعتان سنة عند الشافعي-رضي الله عنه-وأنا أواظب عليهما من يوم طلبت العلم، والحمد لله!.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ:} يعني صلاة المغرب، والعشاء. وقيل: صلاة الليل؛ أيّ وقت صلى.
{وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وفي آخر سورة (الطور): {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} . قال عمر، وعلي-رضي الله عنهما:(أدبار السجود) الركعتان بعد المغرب، و (أدبار النجوم) الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وعن عائشة-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» . رواه مسلم، وعن ابن مسعود-رضي الله عنه قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، والركعتين قبل صلاة الفجر ب:{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ،} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} . أخرجه الترمذي. وأخرج البخاري عن
ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسبّح في أدبار الصلوات كلها.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سبّح في دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبّر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» . وبالإضافة لما ذكرته في سورة (الفتح) رقم [9] بشأن مادة التسبيح أذكر هنا: أنّ في هذه الاية الكريمة دليلا على عدم ما قاله بعض أهل المعاني والبيان: أن الجمع بين الحاء والهاء في كلمة واحدة، يخرجها عن فصاحتها، وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:[الطويل] كريم متى أمدحه أمدحه والورى
…
معي وإذا ما لمته لمته وحدي
ويمكن أن يفرق بين البيت وبين الاية الكريمة بأنّ التكرار في البيت هو المخرج له عن الفصاحة بخلاف الاية، فإنه لا تكرار فيها. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا من قول اليهود، والمشركين؛ {فَاصْبِرْ}. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {عَلى ما:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الفاء، وجملة:{يَقُولُونَ:} صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: على الذي يقولونه. {وَسَبِّحْ:} الواو: حرف عطف. (سبح): فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {بِحَمْدِ:}
متعلقان بمحذوف حال من فاعل: (سبح) المستتر، و (حمد) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: (سبح)، و {قَبْلَ} مضاف، و {طُلُوعِ} مضاف إليه، و {طُلُوعِ} مضاف، و {الشَّمْسِ} مضاف إليه. {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف. (من الليل): متعلقان بما بعدهما. {فَسَبِّحْهُ:} الفاء: صلة لتحسين اللفظ إلا إذا قدرت فعلا محذوفا قبل: (من الليل) فتكون حرف عطف، والفعلان: المحذوف، والمذكور معطوفان على:(سبح) السابق. (سبحه): أمر، وفاعله: أنت، والهاء مفعول به. (أدبار): معطوف على محل: {اللَّيْلِ} فهو منصوب بنزع الخافض، و (أدبار) مضاف، و {السُّجُودِ} مضاف إليه.
{وَاِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41)}
الشرح: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ} أي: استمع يا محمد! أو التقدير: استمع يا مخاطب حديث يوم ينادي المنادي، وهو إسرافيل عليه السلام، يقف على صخرة بيت المقدس، فينادي
بالحشر، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء! {مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ:} وهو صخرة بيت المقدس، قيل: إنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: هي في وسط الأرض.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَاسْتَمِعْ:} الواو: حرف عطف. (استمع): فعل أمر، وفاعله: أنت، والمفعول محذوف، انظر الشرح. و {يَوْمَ} متعلق بما قبله. وقيل: تقدير الكلام استمع ما أقول لك، فعلى هذا يكون {يَوْمَ يُنادِ} متعلقا ب:«يخرجون» مقدرا مدلولا عليه بقوله: {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} وقيل:
معنى (استمع): انتظر، وعليه ف:{يَوْمَ} مفعول به له. {يُنادِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {الْمُنادِ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {مِنْ مَكانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَرِيبٍ:} صفة:
{مَكانٍ} .
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)}
الشرح: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} أي: صيحة البعث، وهي الصيحة الثانية، وأما الصيحة الأولى فهي لإماتة الخلق، كما قال تعالى في سورة (الزمر) رقم [68]:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ..} . إلخ. {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أي: من القبور. ولا تنس: أنّ الواو عائدة إلى غير مذكور.
الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من: {يَوْمَ يُنادِ} . {يَسْمَعُونَ:} مضارع، والواو فاعله. {الصَّيْحَةَ:}
مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أو من:{الصَّيْحَةَ،} التقدير: ملتبسين بالحق، أو ملتبسة بالحق.
{ذلِكَ:} مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {يَوْمَ:} خبر المبتدأ، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْخُرُوجِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}
الشرح: {إِنّا نَحْنُ نُحْيِي} أي: الخلق في الدنيا بالتوالد، والتناسل. {وَنُمِيتُ:} الخلق عند انقضاء الاجال، فهو كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} . {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أي:
مصير الخلائق، فنجازي كلا بعمله، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. وقيل: هو على التقديم، والتأخير، تقديره: نميت في الدنيا، ونحيي للحساب، والجزاء. ولا تنس الطباق بين {نُحْيِي} و (نميت) وحذف المفعول في الفعلين للاختصار.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {نَحْنُ:} مبتدأ. {نُحْيِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير فصلا، أو توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، فتكون الجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ). {وَنُمِيتُ:} معطوف على ما قبله، وفاعله مستتر أيضا. {وَإِلَيْنَا:} الواو: حرف عطف. (إلينا): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ له مثلها.
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44)}
الشرح: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ:} أصله: تتشقق الأرض، فحذفت إحدى التاءين. {عَنْهُمْ:}
عن الناس جميعا، والضمير عائد إلى غير مذكور. {سِراعاً:} مسرعين إلى المنادي، وهو صاحب الصور المذكور فيما سبق، وذلك: أن الله تعالى ينزل مطرا من السماء بعد النفخة الأولى، ينبت به أجساد الخلائق في قبورها، كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل عليه السلام، فينفخ في الصور النفخة الثانية، فإذا نفخ فيه؛ خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الله عز وجل: وعزّتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره! فترجع كل روح إلى جسدها، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ، وتنشق الأرض عنهم، فيقومون إلى موقف الحساب سراعا مبادرين إلى الله عز وجل، كما قال تعالى في سورة القمر:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
{ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ} أي: هيّن سهل، كما قال تعالى في سورة (القمر) الاية رقم [50]:
{وَما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقال جلّ ذكره: «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض» . هذا؛ ومثل الاية في معناها ومغزاها قوله جلّ ذكره في سورة (المعارج) رقم [43]: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} .
فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر النّاس حفاة عراة غرلا» . قالت عائشة، فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: «الأمر أشدّ من أن يهمّهم ذلك» . وفي رواية: «من أن ينظر بعضهم إلى بعض» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وتقديم الجار والمجرور يدلّ على الاختصاص؛ أي: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم؛ إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن.
الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ،} وما بينهما اعتراض، وأجيز تعليقه ب:{الْمَصِيرُ} وقيل: متعلق ب: {الْخُرُوجِ} . وقيل: متعلق ب: «يخرجون» محذوفا مقدرا، وجملة:{تَشَقَّقُ}
{الْأَرْضُ} في محل جر بإضافة: {يَوْمَ} إليها. {عَنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {سِراعاً:} حال من الضمير المجرور في: {عَنْهُمْ؛} أي: مسرعين. وقيل: حال من «يخرجون» المقدر على اعتبار الظرف متعلقا به. {ذلِكَ:} مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {حَشْرٌ:}
خبر المبتدأ. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يَسِيرٌ:} صفة: {حَشْرٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ} أي: يقول كفار قومك من تكذيبك، وشتمك، فهو كقوله تعالى في سورة (الحجر) رقم [97]:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ} وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد لهم. {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ:} تجبرهم على الإيمان، فهو كقوله تعالى في سورة (الغاشية):{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} . وقال مجاهد، والضحاك: المعنى: لا تتجبر عليهم.
والأول أولى، وأحق بالاعتبار، فهو صيغة مبالغة من:«جبر» الثلاثي، فإن فعالا إنما يبنى من الثلاثي، وفي المصباح، وأجبرته على كذا بالألف: حملته عليه قهرا، وغلبته، فهو مجبر. هذه لغة عامة العرب. وفي لغة لبني تميم، وكثير من أهل الحجاز: جبرته جبرا من باب: قتل.
حكاها الأزهري، ثم قال: جبرته، وأجبرته: لغتان جيدتان. وقال الخطابي: الجبار: الذي جبر خلقه على ما أراده من أمره، ونهيه. يقال: جبره السلطان، وأجبره بمعنى. ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى:{وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ} أنّ الثلاثي لغة حكاها الفراء، وغيره، واستشهد لصحتها بما معناه: أنه لا يبنى فعّال إلاّ من فعل ثلاثي، نحو: الفتاح، والعلام، ولم يجئ من أفعل بالألف إلا «دراك» فإن حمل (جبّار) على هذا المعنى؛ فهو وجيه، قال الفراء: وقد سمعت العرب تقول: جبرته على الأمر، وأجبرته؛ وإذا ثبت ذلك؛ فلا يعول على قول من ضعفها.
انتهى. جمل بحروفه.
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ:} فهو كقوله تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} (الرعد)[40]، وقوله جلّ ذكره:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} البقرة [272]، وقوله تعالى شأنه:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} القصص [56].
الإعراب: {نَحْنُ أَعْلَمُ:} مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {بِما:}
متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أعلم بالذي، أو بشيء يقولونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: أعلم بقولهم. {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:
{وَما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} وهي في محل نصب حال مثلها هنا من الواو، والرابط: الواو، والضمير.
{فَذَكِّرْ:} الفاء: هي الفصيحة. (ذكّر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: وإذا كان الأمر كما ذكر؛ فذكّر. {بِالْقُرْآنِ:}
متعلقان بما قبلهما، {مَنْ:} مفعول به، وجملة:{يَخافُ} صلته. {وَعِيدِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمناسبة رؤوس الاي، وقد قرئ بإثباتها. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
انتهت سورة (ق) بحمد الله وتوفيقه شرحا وإعرابا.