الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحجرات
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحجرات) وهي مدنية بالإجماع، وهي ثماني عشرة آية، وثلاثمئة، وثلاث وأربعون كلمة، وألف وأربعمئة، وسبعون حرفا. انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} ذكر هذا اللفظ في هذه السورة خمس مرات، والمخاطب فيها المؤمنون، والمخاطب به أمر، أو نهي، وذكر فيها:{يا أَيُّهَا النّاسُ} مرة، والخطاب فيها يعم المؤمنين، والكافرين، كما أنّ المخاطب به، وهو قوله:{إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} يعمهما؛ فناسب فيها ذكر الناس. انتهى. جمل.
{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ:} من: قدم بمعنى: تقدم، وجرت هذه العبارة هنا على سنن من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا؛ أي: استعارة تمثيلية، شبه تعجل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من أمور الدين بغير إذن الله، ورسوله بحالة من تقدم بين يدي متبوعه؛ إذا سار في طريق فإنه في العادة مستهجن، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملا في جانب المشبه به من الألفاظ، والغرض تصوير كمال الهجنة، وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله. انتهى. جمل.
وفيه أيضا نقلا عن الخطيب: {بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} معناه: بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان، فهو بين يديه، ناظر إليه. وحقيقة قولهم: جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره، وداناه في غير موضع. انتهى.
واختلف في أسباب نزول الاية على أقوال كثيرة: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أنها نزلت في الذبح يوم الأضحى؛ أي: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن ناسا ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يعيدوا الذبح. فعن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي، ثمّ نرجع، فننحر، فمن فعل ذلك؛ فقد أصاب سنّتنا، ومن ذبح قبل أن يصلّي؛ فإنّما هو لحم عجّله لأهله ليس من النّسك في شيء» . متفق عليه.
وروي عن عائشة-رضي الله عنها: أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك؛ أي: لا تصوموا قبل نبيكم. فعن عمار بن ياسر-رضي الله عنه-قال: (من صام في اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود، والترمذي. وقيل: نزلت الاية في ناس كانوا يقولون: لو نزل فيّ كذا، أو صنع كذا، وكذا، فكره الله ذلك منهم.
وقيل في سبب نزول هذه الاية: ما روي عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-أنه قدم وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر-رضي الله عنه-أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر-رضي الله عنه: بل أمّر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا؛ حتى ارتفعت أصواتهما. أخرجه البخاري، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء. و (ها): حرف تنبيه لا محلّ له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من: (أيها)، وانظر الاية رقم [13] وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محلّ لها. {لا:}
ناهية. {تُقَدِّمُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، اقتصارا، أو اختصارا، مثل قوله تعالى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا} وقولهم: هو يعطي، ويمنع، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، كالجملة الندائية قبلها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {يَدَيِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، {يَدَيِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَرَسُولِهِ:} معطوف عليه. والهاء في محل جر بالإضافة. {وَاتَّقُوا:} الواو: حرف عطف. (اتقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهِ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {سَمِيعٌ:} خبر أول. {عَلِيمٌ:}
خبر ثان، والجملة الاسمية تعليل لما قبلها، لا محلّ لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ..} . إلخ: نادى الله المؤمنين الصادقين ثانية؛ استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتحريك منهم؛ لئلا يغفلوا عن تأملهم. والمعنى: لا تجعلوا
كلامكم مرتفعا على كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب، وذلك؛ لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام. وقوله تعالى في الاية السابقة:{لا تُقَدِّمُوا..} . إلخ نهي عن فعل، وقوله هنا:{لا تَرْفَعُوا..} . إلخ نهي عن قول.
{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ..} . إلخ، أمرهم الله أن يبجلوه، ويفخموه، ويعظموه، ولا يرفعوا أصواتهم عنده، ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا، فيقول: يا محمد، بل يقولون: يا رسول الله! يا نبي الله! قال تعالى في سورة (النور) رقم [63]: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} انظر شرحها هناك. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} أي: مخافة أن تحبط أعمالكم. انظر شرح:
(حبط) في الاية رقم [9] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم. {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ:} وأنتم لا تعلمون.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الاية؛ قال أبو بكر-رضي الله عنه:
يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار، أو أخا السرار، حتى ألقى الله! وعن عمر-رضي الله عنه: أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه، وروي أيضا:
لما نزلت الاية الكريمة قعد ثابت بن قيس بن شماس في بيته، وكان جهوري الصوت، وقال: أنا من أهل الاية، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ-رضي الله عنه-فقال:
يا أبا عمرو ما شأن ثابت؛ أيشتكي؟ فقال سعد-رضي الله عنه: إنه لجاري، وما علمت له شكوى! قال، فأتاه سعد، فذكر له قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت-رضي الله عنه: نزلت هذه الاية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار! فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل هو من أهل الجنّة» . متفق عليه، زاد في رواية «فكنّا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة». وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت، وأتخوف أن تكون هذه الاية نزلت فيّ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة» فقال: رضيت ببشرى الله، ورسوله، لا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا، فنزلت الاية التالية.
فقال أنس-رضي الله عنه: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة؛ رأى ثابت-رضي الله عنه-من المسلمين بعض انكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا، وقاتلا؛ حتى قتلا، واستشهد ثابت، وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام، فقال له: اعلم أنّ درعي عند فلان رجل من المسلمين نزعه مني، فذهب به، وهو في ناحية من العسكر عند فرس يستن في طوله، فأت خالد ابن الوليد، فأخبره حتى يسترد درعي، وائت أبا بكر، وقل له: إن عليّ دينا حتى يقضيه عني، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالدا، فوجد الدرع، والفرس على ما وصفه، فاسترد
الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر-رضي الله عنه-وصيته. قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف مني.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} مثل الاية السابقة بلا فارق. {أَصْواتَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {فَوْقَ} مضاف، و {صَوْتِ:} مضاف إليه، و {صَوْتِ:} مضاف، و {النَّبِيِّ} مضاف إليه. {وَلا تَجْهَرُوا:} مثل سابقه في إعرابه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {لَهُ بِالْقَوْلِ:}
كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. {كَجَهْرِ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: جهرا كائنا كجهر
…
إلخ، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاّ في مواضع محصورة، وليس هذا منها، و (جهر): مضاف، و {بَعْضِكُمْ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} متعلقان بالمصدر قبلهما، والمصدر المؤول من:
{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} في محل جر بإضافته لمفعول لأجله محذوف عند البصريين، التقدير:
كراهية إحباط أعمالكم، وهو على تقدير: لئلا تحبط عند الكوفيين. قال الزمخشري: وفي متعلقه وجهان: أحدهما أن يتعلق بمعنى النهي، فيكون المعنى: انتهوا عمّا نهيتم عنه لحبوط أعمالكم؛ أي: لخشية حبوطها. والثاني أن يتعلق بنفس الفعل، ويكون المعنى: إنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف الواقعة في محل جر بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ:} نزلت هذه الاية الكريمة في مدح المسلمين الذين أدبتهم الايتان السابقتان، وعلى رأسهم الصديق، والفاروق، وثابت بن قيس، كما رأيت فيما سبق. ومعنى غض الصوت: خفضه، وعدم الجهر به. {اِمْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} أي: اختبرها، وأخلصها للتقوى، كما يمتحن الذهب بالنار؛ ليخرج خالصه. وحقيقته:
عاملها معاملة المختبر، فوجدها مخلصة. وقال عمر-رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان: افتعال من: محنت الأديم محنا؛ حتى أوسعته. قال أبو عمرو: كل شيء جهدته؛ فقد محنته، وأنشد:[الرجز]
أتت رذايا باديا كلالها
…
قد محنت واضطربت آطالها
أي: أتت النوق الرذايا المهزولة من السير جمع: رذية. والأطل: الخاصرة، وجمعها:
آطال. هذا؛ والتقوى: حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأنّ أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا، والاخرة. وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة)، وانظر الاية رقم [13] الاتية.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَغُضُّونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَصْواتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَسُولِ} مضاف إليه، و {رَسُولِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:}
اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:
{إِنَّ،} وجملة: {اِمْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {لِلتَّقْوى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:
{إِنَّ..} . إلخ، ابتدائية، أو مستأنفة، لا محلّ لها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ مؤخر. {وَأَجْرٌ:} معطوف على ما قبله. {عَظِيمٌ:} صفة: (أجر) والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. هذا؛ وإن اعتبرت:{الَّذِينَ} بدلا من: {أُولئِكَ،} أو صفة له؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر: {أُولئِكَ} . وهو وجه صحيح لا غبار عليه.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)}
الشرح: نزلت الاية الكريمة في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة، وهو راقد؛ وفيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، وقالوا: اخرج إلينا يا محمد! فإن مدحنا زين، وذمّنا شين! فاستيقظ، وخرج إليهم، وقال:«ذاك الله عز وجل» ذكره الترمذي والإمام أحمد، والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف، أو قدام، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [10] من سورة (الجاثية)، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان.
والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وحظيرة الإبل تسمى:
الحجرة، وهي:«فعلة» بمعنى مفعولة، كالقبضة بمعنى مقبوضة، وجمعها: الحجرات، والمراد:
حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل منهن حجرة، ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، أو نادوه من وراء الحجرة، التي كان صلى الله عليه وسلم فيها، ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفعل وإن كان مسندا إلى جميعهم، فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان
الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا، وسميت الغرفة: حجرة؛ لامتناع فيها، فلا يدخلها أجنبي إلاّ بإذن، واستئذان. وانظر ما ذكرته في سورة (الحجر) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
وورود الاية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: التسجيل على الصائحين به بالسفه، والجهل. ومنها: إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته، ومقيله مع بعض نسائه. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر الاية لوجدها كذلك، فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت، والجهر، كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدلّ على عظم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا؛ لينبه على فظاعة ما جسر عليه؛ لأنّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول؛ كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغا عظيما. انتهى. نسفي. {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ:} انظر سورة (الدخان) رقم [39].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم {إِنَّ} . {يُنادُونَكَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ وَراءِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. و {وَراءِ:} مضاف، و {الْحُجُراتِ:} مضاف إليه. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْقِلُونَ:} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ، لا محلّ لها؛ لأنّها مبتدأة، أو مستأنفة.
الشرح: معنى الاية: لو انتظروا خروجك يا محمد؛ لكان أصلح لهم في دينهم، ودنياهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلاّ في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب. {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} بليغ الغفران، والرحمة، واسعهما، فلن يضيق غفرانه، ورحمته عن هؤلاء؛ إن تابوا، وأنابوا.
هذا؛ وعن زيد بن أرقم-رضي الله عنه-قال: اجتمع ناس من العرب، فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا؛ فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا؛ نعش بجناحه، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما قالوا، فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا ينادونه، وهو في حجرته: يا محمد! يا محمد! فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ..} . إلخ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها، فجعل يقول:«لقد صدّق الله تعالى قولك يا زيد! لقد صدّق الله قولك يا زيد!» أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّهُمْ:}
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والجملة الفعلية:{صَبَرُوا..} . إلخ، في محل رفع خبرها، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرّد، التقدير: ولو ثبت صبرهم، أو حصل، ونحوه، وقال سيبويه: المصدر المؤول في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو صبرهم ثابت، أو حاصل. وقول المبرد هو المرجح؛ لأنّ (لو) لا يليها إلاّ فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر، وفاعله المؤول جملة فعلية لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {حَتّى:} حرف غاية، وجر بعدها «أن» مضمرة. {تَخْرُجَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {إِلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {صَبَرُوا} . {لَكانَ:} اللام:
واقعة في جواب (لو). (كان): فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى مصدر الفعل السابق، التقدير: كان الصبر. {خَيْراً:} خبر: (كان). {لَهُمْ:} متعلقان ب: {خَيْراً،} والجملة الفعلية جواب: (لو)، لا محلّ لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة، لا محلّ لها. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الشرح: قال أكثر المفسرين: إن الاية الكريمة نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان بن عفان-رضي الله عنه-لأمه (وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-فصلى بالناس؛ وهو سكران صلاة الفجر أربعا، ثم قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان عنهم. كشاف) بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق عاملا على الزكاة، يأخذ منهم زكاة أموالهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم خرجوا لاستقباله، تعظيما لأمر الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثه شيطانه أنهم يريدون قتله، فخافهم، فرجع من بعض الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنهم منعوا الزكاة، وأرادوا قتله، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهمّ أن يغزوهم.
فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه، ونكرمه، ونؤدي إليه ما عندنا من حقّ الله عز وجل، فبدا له في الرجوع، فخشينا أنه إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك، وإنا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله! فاتّهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد بن الوليد-رضي الله عنه-خفية في جيش. وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال: انظر، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم؛ فخذ زكاة أموالهم، وإن لم تر منهم ذلك فافعل فيهم ما تفعله في
الكفار، ففعل ذلك، ووافاهم عند الغروب، فسمع منهم أذان صلاتي: المغرب، والعشاء، ووجدهم باذلين وسعهم، ومجهودهم في امتثال أمر الله، فأخذ منهم زكاة أموالهم، ولم ير منهم إلاّ الطاعة، والخير، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، فنزلت الاية الكريمة.
وقال الرازي-رحمه الله تعالى-: هذا ضعيف؛ لأنّ الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه: أنه قال: وردت الاية لبيان ذلك فقط. غاية ما في الباب: أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل تاريخ نزول الاية. انتهى. جمل نقلا من الخطيب وغيره. وقال الخازن:
وقيل: هو عام، نزلت لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق. وهذا أولى من حمل الاية على رجل بعينه. انتهى.
رحم الله تعالى الرازي لم يقل الله تعالى في بيان نزول آية من آيات القرآن نزلت في كذا صراحة، ورحم الله الخازن أيضا من المعلوم: أنّ خصوص السبب لا يمنع التعميم، وقد ذكرت هذا مرارا، وتكرارا، وما نقلته من الكشاف يؤكد أن الاية نزلت فيه، وبسببه، وحكمها عام إلى يوم القيامة بلا ريب. وبعد: فهذا أمر عجيب حقا رجل من الصحابة الذين تشرّفوا بصحبة النبي، وتمتعوا بمجالسته، ومحادثته يكذب مرة واحدة، فيحكم الله عليه بأنه أصبح فاسقا؛ أي: خارجا عن الحق، بعيدا عن الدين، ضالا عن الصراط المستقيم، فما بالك بمن لا يتكلم إلاّ بالكذب، وقد لا يكتفي به، فيؤكد بيمين، أو أكثر؟! وما بالك بمن يختلق الأقوال الكاذبة، والأخبار المصطنعة، والأنباء الملفقة؟! وهل هذا يكون من المؤمنين؟ كلاّ، ثمّ كلاّ!
هذا؛ وانظر شرح: الفاسق، والفسوق في الاية رقم [54] من سورة (الزخرف)، وشرح:
«الجهل» في الاية رقم [23] من سورة (الأحقاف). أما الندم فهو ضرب من الغم، وهو أن تغتم على ما وقع منك، تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام، ولزام؛ لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه، من: الندام، وهو لزام الشريب ودوام صحبته. ومن مقلوباته:
أدمن الأمر: أدامه. ومدن بالمكان: أقام به، ومنه: المدينة، وقد تراهم يجعلون الهمّ صاحبا، ونجيا، وسميرا، وضجيعا، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه. انتهى. كشاف.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [1]. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {جاءَكُمْ:}
فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {فاسِقٌ:} فاعله. {بِنَبَإٍ:} متعلقان بالفعل (جاء)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{فَتَبَيَّنُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (تبينوا): فعل أمر مبني على حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {إِنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{تُصِيبُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، و {إِنْ}
والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة مفعول لأجله إليه محذوف، التقدير:
كراهة، أو مخافة إصابتكم، وهذا عند البصريين، وهو عند الكوفيين على تقدير: لئلا تصيبوا. كما في الاية رقم [2]. {قَوْماً:} مفعول به. {بِجَهالَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: جاهلين. {فَتُصْبِحُوا:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لئلا تكون منكم إصابة قوم بجهالة، فندامة على فعلكم. {عَلى ما:} متعلقان ب: {نادِمِينَ} و {قَوْماً} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى،} والجملة: {فَعَلْتُمْ} صلة {قَوْماً،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
على الذي، أو شيء فعلتموه، وعلى اعتبار {قَوْماً} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:{عَلى،} التقدير: على فعلكم. {نادِمِينَ:} خبر: (تصبحوا) منصوب
…
إلخ.
الشرح: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ:} فلا تكذبوا، فإن الله يعلمه أنباءكم، ويكشف أسراركم، فتفتضحون؛ لذا يجب عليكم أن تعظّموه وتوقّروه، وتنقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم. {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو يسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه؛ لكان خطأ، وهذا يدل على أنّ بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن بعضهم كانوا يتصونون، ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك. والتعبير بالمضارع دليل على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه، وأنّه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا به بدليل قوله:
{فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} . هذا؛ والعنت: الإثم والمشقة، والعناء، كما في قوله تعالى في آخر سورة (براءة):{عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} والعنت أيضا: الفجور، والزنى كما في سورة (النساء) رقم [25]:{ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . هذا؛ والعنت في الأصل: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة، وضرر.
{وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ:} هذا خطاب للمؤمنين الصادقين المخلصين؛ الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخبرونه بالباطل. {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حسّنه إليكم؛ حتى اخترتموه.
وفي هذا رد على المعتزلة، والقدرية، والإمامية، وغيرهم حسب ما تقدم كثيرا. فالله سبحانه هو المتفرّد بخلق ذوات الخلق، وخلق أفعالهم، وصفاتهم، واختلاف ألسنتهم، وألوانهم لا شريك له في ملكه، ولا مناوئ له في سلطانه، فمنه الهداية للإيمان، والتوفيق للطاعة.
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد الكذب خاصة.
{وَالْعِصْيانَ:} جميع المعاصي على جميع أنواعها، وتفاوت مراتبها، ودرجاتها. قال الخازن:
وفي هذه لطيفة، وهو أنّ الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزيّن في القلب، المحبّب إليه. والإيمان الكامل ما اجتمع فيه ثلاثة أمور: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، فقوله:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} في مقابلة: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ} وهو التصديق بالجنان. وقوله: {وَالْفُسُوقَ} وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان. وقوله:
{وَالْعِصْيانَ} في مقابلة العمل بالأركان، فكره للمؤمنين الصادقين العصيان، وحبّب إليهم العمل الصالح بالأركان، وهذا من فضله، وكرمه، وجوده، وإنعامه، كما قال تعالى:{فَضْلاً..} . إلخ.
{أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ:} إشارة إلى المؤمنين المحبّب إليهم الإيمان، المزيّن في قلوبهم؛ أي: أولئك هم المهتدون إلى محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق. والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه. من: الرشادة، وهي الصخرة. قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة، وأنشد:[الوافر] وغير مقلّد وموشّمات
…
صلين الضّوء من صمّ الرّشاد
فهو يصف صلابة النوق، وقوتها على السير بحيث يظهر شرر من الأحجار في سيرها، وأنها اليعملات غير المولدات والموشمات المنحر. ولا تنس الطباق بين (حبّب) و (كرّه).
الإعراب: {وَاعْلَمُوا:} الواو: حرف عطف. (اعلموا): فعل أمر مبني على حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِيكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدم على اسمها. {رَسُولَ:} اسم {أَنَّ} مؤخر، و {رَسُولَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي (اعلموا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة: (تبينوا
…
) إلخ فهي في محل جزم مثلها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {يُطِيعُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {رَسُولَ اللهِ،} والكاف مفعول به. {فِي كَثِيرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْأَمْرِ:}
متعلقان ب: {كَثِيرٍ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَعَنِتُّمْ:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (عنتم): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ،} لا محلّ لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب حال من الضمير المجرور في:{فِيكُمْ،} أو من الضمير المستتر فيه، والمعنى: أنه فيكم كائنا على حالة
يجب تغييرها، أو كائنين على حالة كذلك. ويجوز أن يكون هذا الكلام مستأنفا، إلاّ أنّ الزمخشري منع هذا الاحتمال لأدائه إلى تناقض النظم. ولا يظهر ما قاله، بل الاستئناف واضح أيضا. انتهى. جمل.
وقال أبو البقاء: {لَوْ يُطِيعُكُمْ..} . إلخ، مستأنف، ويجوز أن يكون في موضع الحال، والعامل فيه الاستقرار، وإنما جاز ذلك من حيث جاز أن يقع صفة للنكرة، كقولك: مررت برجل لو كلّمته؛ لكلّمني؛ أي: متهيئ لذلك. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل مفيد للاستدراك. {اللهِ:} اسمها. {حَبَّبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله).
{إِلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْإِيمانَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، فهما في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية: (لكن
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي استدراك من حيث المعنى دون اللفظ؛ لأنّ من حبّب إليه الإيمان
…
إلخ، غايرت صفته صفة من تقدّم ذكره. ويوضحه قول الكشاف: فإن قلت: كيف موقع (لكنّ) وشرطيتها مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا، وإثباتا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى؛ لأنّ الذين حبّب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم، فوقعت (لكنّ) في موقعها من الاستدراك.
{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محلّ له من الإعراب. {الرّاشِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار {هُمُ} مبتدأ ثانيا، و {الرّاشِدُونَ:} خبره، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وعلى الوجهين؛ فالجملة الاسمية:
{أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ} مستأنفة معترضة، لا محلّ لها.
{فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
الشرح: {فَضْلاً..} . إلخ: أي فعل الله ذلك بكم فضلا منه، ونعمة عليكم. {وَاللهُ عَلِيمٌ} أي:
عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية. {حَكِيمٌ:} في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وأحكامه.
الإعراب: {فَضْلاً:} مفعول لأجله، عامله:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ..} . إلخ، فقد اتحد الفاعل في الفعل والمصدر خلافا للمعتزلة الذين يؤولون تأويلات شاذة. وانظر الكشاف لتأويلات الزمخشري، وعلى هذا فما بينهما اعتراض، وهو الجملة الاسمية:{أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ} والثاني أنّ عامله: {الرّاشِدُونَ} . أو هو مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأنها فضلة أيضا. واعتبره ابن عطية من المصدر المؤكد لنفسه. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {فَضْلاً،} أو بمحذوف صفة له. {وَنِعْمَةً:} معطوف على: {فَضْلاً،} وحذف متعلقه لدلالة ما قبله عليه.
{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {عَلِيمٌ حَكِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: ذكر في نزول الاية الكريمة ثلاثة أسباب: الأول: روى المعتمر بن سليمان عن أنس-رضي الله عنه-قال: قلت: يا نبي الله! لو أتيت عبد الله بن أبيّ؟! فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني! فو الله لقد آذاني نتن حمارك! فقال رجل من الأنصار (عبد الله بن رواحة): والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك! فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالأيدي، والجريد، والنعال، فبلغنا: أنه أنزل فيهم هذه الاية.
أخرجه الإمام أحمد.
الثاني: ذكر سعيد بن جبير-رضي الله عنه: أنّ الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف، والنعال، فأنزل الله تعالى هذه الاية فأمر بالصلح بينهما. ومثله عن مجاهد-رحمه الله تعالى-.
الثالث: قال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار يقال له: عمران، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها، وجعلها في علّيّة لا يدخل عليها أحد من أهلها، وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها، فأنزلوها؛ لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث بأهله، فخرج بنو عمه؛ ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا، وتجالدوا بالنعال، فنزلت الاية الكريمة فيهم، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلح بينهم، وفاؤوا إلى أمر الله تعالى.
هذا؛ والطائفة تتناول الواحد، والمثنى، والجمع، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفة في معنى الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل: نفر، ومعشر، ورهط
…
إلخ وجمعها: طائفات، وطوائف. وفي «القاموس»: والطائفة من الشيء القطعة منه، أو الواحد فصاعدا. {اِقْتَتَلُوا:} جمع الضمير نظرا إلى المعنى؛ لأنّ كل طائفة جماعة، كما رأيت. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ:} ثني نظرا إلى اللفظ.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى} أي: تعدّت إحداهما على الأخرى؛ إذ لم تتأثر بالنصيحة، وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى. {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ} أي: ترجع إلى
أمر الله؛ أي: إلى كتابه الذي جعله حكما بين خلقه. {فَإِنْ فاءَتْ} أي: رجعت إلى الحق.
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} أي: الذي يحملهما على الإنصاف، والرضا بحكم الله. {وَأَقْسِطُوا} أي:
اعدلوا. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين. هذا؛ وأقسط رباعي معناه: العدل، واسم الفاعل منه: مقسط بمعنى العادل، أو العدل، بخلاف:«قسط» الثلاثي، فمعناه: الجور، والظلم. يقال: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط إذا عدل، قال تعالى في سورة الجن رقم [15]:
{وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وهذا هو المشهور خلافا للزجّاج في جعلهما سواء. انتهى.
جمل. وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا» . رواه مسلم، والنسائي. وعنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدّنيا» . أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي، وخذ قول الحارث بن حلزة في معلقته:[الخفيف] ملك مقسط، وأكمل من يم
…
شي ومن دون ما لديه الثّناء
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {طائِفَتانِ:} فاعل لفعل محذوف، يفسّره المذكور بعده مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة:
{طائِفَتانِ} . {اِقْتَتَلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها مفسرة للفعل المحذوف على المعنى، كما رأيت على حدّ قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [19]:{هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} والجملة المحذوفة لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَأَصْلِحُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أصلحوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ لها.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {بَغَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، التي هي حرف لا محلّ لها. {إِحْداهُما:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالاّن على التثنية، والجملة الفعلية لا محلّ لها حسبما رأيت في سابقتها. {عَلَى الْأُخْرى:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَقاتِلُوا..} . إلخ:
في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تَبْغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى:{الَّتِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة، وهي بمعنى: إلى، أو لام التعليل. {تَفِيءَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل يعود إلى: {الَّتِي} أيضا. {إِلى أَمْرِ:} متعلقان بما قبلهما، و {أَمْرِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، و «أن» المضمرة، والفعل:{تَفِيءَ} في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى} . والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {تَفِيءَ} .
{فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما:} الإعراب مثل سابقه بلا فارق. {بِالْعَدْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال، وجملة:{وَأَقْسِطُوا} معطوفة على جملة: (أصلحوا
…
) إلخ، فهي في محل جزم مثلها. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يُحِبُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {الْمُقْسِطِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:
{إِنْ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها.
الشرح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أي: في الدين، والحرمة، لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب، وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا» .
وانظر ما ذكرته في آخر سورة (الفتح)، وانظر الاية التالية.
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} أي: بين كل مسلمين تخاصما. {وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، وراقبوه في جميع أموركم، وأحوالكم، وشؤونكم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ:} الترجي في هذه الاية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا في هذه الاية، والتي قبلها دليل على أنّ البغي لا يزيل اسم الإيمان؛ لأنّ الله تعالى سمّاهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين، قال الحارث الأعور: سئل علي-رضي الله عنه-وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل، وصفّين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا! فقيل: أمنافقون؟ قال: لا؛ لأنّ المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلا، قيل: فما حالهم؟ قال:
إخواننا بغوا علينا. وبها استدلّ البخاري، وغيره على أنّه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية، وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج، والمعتزلة، ولأنه ثبت: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي-رضي الله عنهما-فجعل ينظر إليه مرة، وفي الناس أخرى، ويقول:
«إن ابني هذا سيّد، ولعلّ الله تعالى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . أخرجه البخاري عن أبي بكرة-رضي الله عنه، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم أصلح الله تعالى به بين أهل الشام، وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة، والواقعات المهولة.
فائدة: خصّ الاثنين بالذكر بقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} دون الجمع؛ لأنّ أقل من يقع منهم الشقاق اثنان، فإذا التزمت المصالحة بين الأقل؛ كانت بين الأكثر ألزم؛ لأنّ الفساد، والشر المترتبين على شقاق الجمع أكثر منهما في شقاق الاثنين.
الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {الْمُؤْمِنُونَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ.
{إِخْوَةٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {فَأَصْلِحُوا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فأصلحوا.
(أصلحوا بين): تقدّم مثلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.
و {بَيْنَ} مضاف، و {أَخَوَيْكُمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ:} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تُرْحَمُونَ:}
مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية خبر:(لعلّ)، والجملة الاسمية تعليلية، لا محلّ لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: نزلت هذه الاية في ثابت بن قيس بن شماس، الذي ذكرته لك في أول هذه السورة، وذلك: أنه كان في أذنيه صمم، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبقوه، أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أخذ أصحابه مجالسهم حوله؛ ليسمعوا منه، فلما فرغ ثابت-رضي الله عنه-من الصلاة؛ أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطّى رقاب الناس، وهو يقول: تفسّحوا، تفسّحوا. فجعلوا يتفسّحون له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه وبينه رجل، فقال له: تفسح، فقال له الرجل: أصبت مجلسا؛ فاجلس، فجلس ثابت خلفه مغضبا، ثم غمز ثابت الرجل، فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، قال ثابت: ابن فلانة؟ وذكر أما له كان يعيّر بها في
الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، واستحيا، فنزلت الاية الكريمة. هذا قول ابن عباس-رضي الله عنهما، ونزلت آية المجادلة رقم [11].
وقال الضحاك-رضي الله عنه: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في أول السورة، استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل: عمار، وخباب، وبلال
…
إلخ لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. والمعنى: لا يستهزئ غني بفقير، ولا مستور عليه بذنب بمن لم يستر، ولا ذو حسب بلئيم، وأشباه ذلك مما ينتقصه به، ولعلّه عند الله خير منه، وهو فحوى قوله تعالى:{عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} . وخذ ما يلي:
عن حارثة بن وهب-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟! كلّ ضعيف مستضعف لو يقسم على الله؛ لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النّار؟! كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» . رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه. وعن حذيفة-رضي الله عنه-قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال:«ألا أخبركم بشرّ عباد الله؟! الفظّ المستكبر. ألا أخبركم بخير عباد الله؟! الضعيف المستضعف ذو الطّمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله؛ لأبرّه» . رواه أحمد، والأحاديث في ذلك كثيرة مستفيضة.
{وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} أي: لا يستهزئ نساء من نساء: روي: أن هذه الجملة نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيّرن أم سلمة-رضي الله عنها-بالقصر. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنها نزلت في صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم: يهودية بنت يهوديين. وعن أنس رضي الله عنه، بلغ صفية-رضي الله عنها: أنّ حفصة بنت عمر-رضي الله عنهما-قالت:
بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهوديّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنّك لابنة نبي، وعمّك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفتخر عليك؟!» . ثم قال: «اتّقي الله يا حفصة» . أخرجه الترمذي وفي رواية أخرى: «هلاّ قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل الله هذه الاية. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أفرد الله النساء بالذكر؛ لأن السخرية منهن أكثر. وبالإضافة لما ذكرته من أحاديث، فخذ ما يلي: وهو يشمل الرجال، والنساء:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم» . أخرجه الإمام مسلم، وفحوى ما تقدم وجوب أن يعتقد كل واحد: أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر؛ إذ لا إطلاع للناس إلا على الظواهر، ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعلّه أخلص ضميرا، وأتقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير
من وقره الله تعالى. فعن ابن مسعود-رضي الله عنه: البلاء موكّل بالقول، لو سخرت من كلب؛ لخشيت أن أحوّل كلبا. وخذ ما يلي:
فعن الحسن-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الاخرة باب من الجنة، فيقال له: هلمّ، فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر، فيقال له: هلمّ هلمّ، فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه أغلق دونه، فما يزال كذلك؛ حتّى إنّ أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة، فيقال له: هلمّ، فما يأتيه من الإياس» . رواه البيهقي مرسلا.
فائدة جليلة: لم يقل الله: لا يسخر رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة إيذانا بإقدام غير واحد من رجالهم، وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه، ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى، ويستضحك على قوله، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار الواجب على المسلم السامع، فيكون شريك الساخر في تحمل الوزر، وكذلك كل من يستطيبه، ويضحك منه، فيؤدي ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة، وانقلاب الواحد جماعة، وقوما.
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يعب بعضكم بعضا، ولا يطعن بعضكم في بعض، والمراد بالأنفس: الإخوان هنا، والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين؛ لأنهم كأنفسكم، فإذا عاب عائب أحدا بعيب؛ فكأنه عاب نفسه، فهو كقوله تعالى في سورة (النساء) [29]:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضا؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه.
وكقوله تعالى في سورة (النور) رقم [61]: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} . واللمز: العيب، والطعن. قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [58]:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ..} . إلخ وقال في رقم [79] منها: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ..} . إلخ.
{وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ:} فعن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري، أخو ثابت بن الضحاك رضي الله عنهما، قال: فينا نزلت هذه الاية في بني سلمة، قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من رجل، إلا وله اسمان، أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: يا فلان! فيقولون: مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فأنزل الله تعالى:{وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ..} . إلخ. أخرجه أبو داود. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات، ثم تاب عنها، فنهي أن يعير بما سلف من عمله. وقيل: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق! يا منافق! يا كافر! وقيل: هو أن تقول لأخيك: يا كلب! يا حمار! يا خنزير! ومعنى {تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ:} لقّب بعضهم بعضا، والنبز (بفتحتين) مختص بلقب السوء عرفا.
هذا؛ واللقب على نوعين: لقب ذم، ولقب مدح، فالأول ما أشعر بضعة، كالجاحظ، والأعرج، والأعمش، والأقرع
…
إلخ، وهذا الذي يحرم التنابز به إلا إذا عرف به، فيجوز
النداء له، والتعريف به من غير أن يقصد احتقار الملقب، فهناك علماء أجلاء عرفوا بمثل هذه الألفاظ، كالأخفش، والأعمش
…
إلخ، والثاني ما أشعر برفعة، وقد لقب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من أصحابه، فلقب أبا بكر بالصدّيق، وعمر بالفاروق، وعثمان بذي النورين، وعليا بأبي تراب، وخالدا بسيف الله
…
إلخ.
{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} أي: بئس الاسم أن تلقبوا إخوانكم بألقاب الذم. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من حقّ المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحبّ أسمائه إليه» . ولهذا كانت التكنية من السنة، والأدب الحسن. قال عمر-رضي الله عنه: أشيعوا الكنى، فإنها منبهة. ومعنى التكنية أن تقول: يا أبا فلان! يا أم فلان! وبنسب لبعض بني فزارة، وهو الشاهد رقم [334] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط] أكنيه حين أناديه لأكرمه
…
ولا ألقّبه والسوأة اللّقب
كذاك أدّبت حتى صار من خلقي
…
أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي: عن هذه الألقاب التي يتأذّى بها السامعون. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ:}
لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي، ومعصيتهم، ومخالفتهم لصريح الكتاب، والسنة؛ التي تنهى عن ذلك.
بقي أن تعرف: أن {قَوْمٌ:} اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر
…
إلخ، وهو يطلق على الرجال دون النساء بدليل الاية الكريمة، التي نحن بصدد شرحها، وقال زهير بن أبي سلمى المزني:[الوافر] وما أدري-وسوف إخال أدري-
…
أقوم آل حصن أم نساء؟
وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ {قَوْمٌ} في القرآن، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا، وهو يذكر، ويؤنث، قال تعالى في سورة (الشعراء):{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار المعنى، وهو أنهم أمة، وطائفة، وجماعة، وسمّوا: قوما؛ لأنهم يقومون مع داعيهم بالشدائد، والمتاعب، إما بالمعاونة معه على كشفها، وإما بالإيذاء، والمضايقة إن عارضوه، وهذا حال أعداء الخير، والإصلاح في كل زمان، ومكان.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [1]. {لا:} ناهية. {يَسْخَرْ:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية. {قَوْمٌ:} فاعل، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {مِنْ قَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عَسى:} فعل ماض تام هنا مبني على فتح مقدر على الألف. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكُونُوا:} مضارع ناقص منصوب ب: «أن» وعلامة
نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو اسمه، والألف للتفريق، {خَيْراً:} خبره. {مِنْهُمْ:} متعلقان ب:
{خَيْراً،} و {أَنْ يَكُونُوا} في تأويل مصدر في محل رفع فاعل {عَسى،} والجملة الفعلية تعليل للنهي لا محلّ لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية داخلة على فعل مقدر محذوف لدلالة ما قبله عليه. {نِساءٌ:} معطوف على: {قَوْمٌ،} وهو في المعنى فاعل للفعل المحذوف. {مِنْ نِساءٍ:} متعلقان بالفعل المقدر. {عَسى:} ماض تام. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكُنَّ:}
مضارع ناقص مبني على السكون، ونون النسوة اسمه، وهو في محل نصب ب:{أَنْ،} {خَيْراً:}
خبره. {مِنْهُنَّ:} متعلقان ب: {خَيْراً} والنون حرف دال على جماعة الإناث، و {أَنْ يَكُنَّ} في تأويل مصدر في محل رفع فاعل:{عَسى} . والجملة الفعلية تعليلية مثل سابقتها لا محلّ لها مثلها. هذا؛ واختصّت «عسى» و «اخلولق» و «أوشك» من بين أفعال المقاربة بجواز إسنادهن إلى: «أن» والفعل المضارع، حال كونه مستغنى به عن الخبر، فتكون تامة، فتكتفي بالفاعل الذي هو المصدر المؤول. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد
…
غنى بأن يفعل عن ثان فقد
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَلْمِزُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية
…
إلخ، والواو فاعله. {أَنْفُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لا يَسْخَرْ..} . إلخ، لا محلّ لها مثلها، وأيضا جملة:{وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} معطوفة عليها لا محلّ لها مثلها. {بِئْسَ:} فعل ماض جامد دالّ على إنشاء الذم.
{الاِسْمُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {الْفُسُوقُ:} بدل من: {الاِسْمُ} . قاله الجلال. وعلى هذا فالمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هو، ولو أعربه مخصوصا بالذم لكان أحسن. انتهى. جمل نقلا من شيخه. وفي محله وجهان: أولهما: هو مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مقدم. والثاني: هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الفسوق.
{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من: {الْفُسُوقُ،} و {بَعْدَ} مضاف، و {الْإِيمانِ} مضاف إليه. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَتُبْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» ، وقد راعى لفظ (من) بإعادة الضمير إليه، وراعى معناها في الإشارة. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، والجملة الاسمية:
(أولئك هم الظالمون) في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها. وانظر إعراب مثلها في الاية رقم [7] وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ؛ فالجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية: (أولئك
هم الظالمون) في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: قيل: نزلت الاية الكريمة في رجلين اغتابا رفيقهما، وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا سافر، أو غزا ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما، ويتقدمهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام، والشراب، فضمّ سلمان الفارسي-رضي الله عنه-إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان-رضي الله عنه-إلى المنزل، فغلبته عيناه، فنام، ولم يهيئ لهما شيئا، فجاآ، فلم يجدا طعاما، وإداما، فقالا له: انطلق، فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما.
فذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى أسامة بن زيد، فقل له:«إن كان عنده فضل طعام؛ فليعطك» . وكان أسامة-رضي الله عنه-خازن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شيء! فرجع إليهما، فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة، ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع، قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة (بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء) لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء؟ فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» فقالا: يا نبي الله! والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما، ولا غيره! فقال:«ولكنّكما ظللتما تأكلان لحم أسامة، وسلمان» . ونزلت الاية الكريمة.
ذكره الثعلبي. والمعنى: لا تظنوا بأهل الخير سوآ إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.
انتهى. خازن، وقرطبي.
هذا؛ وإن الظن في الشريعة قسمان: محمود، ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظانّ، والمظنون به عند بلوغه، والمذموم ضده بدليل قوله تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ،} وقوله تعالى في سورة (النور) رقم [12]: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً،} وقوله تعالى في سورة (الفتح) رقم [12]: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} . هذا؛ وينبغي للإنسان أن يحسن ظنه بالناس، ولا يسيء ظنه بهم استجابة لأمر الله تعالى في هذه الاية، ولا يسيء الظن بهم إلاّ الذي أعماله سيئة. قال الشاعر:[الطويل] إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدّق ما يعتاده من توهّم
وكذلك ينبغي له أن يحسن ظنّه بالله تعالى بأن الله يرحمه، ويعفو عنه، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي
…
إلخ» ولكن ينبغي أن يقرن حسن ظنّه بالله بحسن
العمل، وإلاّ فهو ظنّ خاطئ، وزعم فاسد، ففي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، إنّ قوما ألهتهم الأمانيّ حتّى خرجوا من الدّنيا؛ ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله، كذبوا! لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل» .
{وَلا تَجَسَّسُوا} أي: لا تبحثوا عن عيوب الناس. نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس، وتتبع عوراتهم؛ حتى لا يظهر على ما ستره الله منها. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله. إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم» . متفق عليه. هذا؛ والتجسس بالجيم: التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر، ومنه الجاسوس، وهو بالحاء: الاستماع إلى حديث الغير. وقيل: إن التحسس يكون في الخير، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي: فتعرفوا منهما وتطلبوا خبرهما. علما بأنه قرئ في الايتين بالجيم، والحاء. وكذلك يروى قول عنترة بالجيم، والحاء، وهو من معلقته رقم [77]. [الكامل] فبعثت جاريتي فقلت لها: اذهبي
…
فتجسّسي أخبارها لي واعلمي
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع، سمعته العواتق في البيوت، فقال:«يا معشر من أسلم بلسانه؛ ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبع عورة أخيه المسلم؛ تتبع الله عورته! ومن تتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله» . انتهى. خازن، وهو في القرطبي عن أبي برزة الأسلمي-رضي الله عنه-وخذ قول الشاعر الحكيم:[المنسرح] المرء إن كان عاقلا ورعا
…
أشغله عن عيوب النّاس ورعه
كما السقيم المريض يشغله
…
عن وجع النّاس كلّهم وجعه
وقال آخر: [البسيط] لا تكشفنّ مساوي النّاس ما ستروا
…
فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
…
ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً:} فهذا نهي عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه؛ فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم: عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«ذكرك أخاك بما يكره» ، قيل:
أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول؛ فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه؛ فقد بهتّه» . وعن عائشة-رضي الله عنها: قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفيّة كذا، وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: قصيرة، فقال:«لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر؛ لمزجته» .
قالت: وحكيت له إنسانا، فقال:«ما أحبّ أن حكيت لي إنسانا، وإنّ لي كذا وكذا» . رواه أبو داود، والترمذي.
وبالجملة: فالغيبة من الكبائر، التي تحتاج إلى توبة صادقة بشروطها المعروفة بدليل ما رواه أبو داود عن سعيد بن زيد-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ من أربى الرّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حقّ» . والأحاديث المنفرة من الغيبة كثيرة مسطورة في: «الترغيب والترهيب» وغيره. أما عقوبة صاحب الغيبة في الاخرة؛ فقد بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أكل لحم أخيه في الدنيا قرّب إليه يوم القيامة، فيقال له: كله ميّتا، كما أكلته حيّا، فيأكله، ويكلح، ويضجّ» .
رواه أبو يعلى، والطبراني عن أبي هريرة-رضي الله عنه. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا عرج بي؛ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» . رواه أبو داود.
ممّا تقدّم يتبيّن لنا: أن الغيبة حرام، حرّمها الله، ورسوله، وشدّد النكير على مقترفيها إلاّ لغرض صحيح مشروع لا يتحقق إلاّ بها؛ كمصلحة شرعية يتوقف تحقيقها على ذكر أحد بعيوبه، وقبيح أفعاله، مثل أن يقول المظلوم لمن له ولاية كالقاضي: فلان ظلمني؛ كي ينصفه منه. ومنها:
الاستفتاء، كما يقول للمفتي: فلان يفعل بي كذا، وكذا. فقد ورد: أن هندا زوج أبي سفيان قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فقال:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . ومنها:
الاستعانة على تغيير المنكر، مثل أن يقول لمن يرجو قدرته على تغيير المنكر: فلان يشرب الخمر، أو يلعب بالقمار، ونحو ذلك. ومنها: الاستشارة في نكاح فاسق، أو مشاركته في تجارة، أو زراعة، ومنها: أن يكون معروفا بلقب يعرب عن عيبه، كالأعرج، والأخفش
…
إلخ، من غير أن يقصد احتقار الملقب بذلك، ومنها: أن يكون إنسان مجاهرا بالفسق، والفجور، والظلم، والتعدي على حرمات الناس، وحقوقهم. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أتورّعون عن ذكر الفاجر أن تذكروه؟ اذكروه يعرفه النّاس» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس» . وكقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو» . وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس
-رضي الله عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم:«أمّا معاوية، فصعلوك، وأمّا أبو الجهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه» . ورحم الله من يقول: [الكامل] القدح ليس بغيبة في ستّة
…
متظلّم ومعرف ومحذّر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن
…
طلب الإعانة في إزالة منكر
ولكن يجب أن تكون الحكمة رائد العقل؛ حتى يعرف كيف يذكر هذا الفاجر، ويتوصل إلى درء خطره، ومنع أذاه، وإلاّ كان السكوت أسلم، وانتظار الفرص أفضل، وأحكم.
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ..} . إلخ: مثل الله الغيبة بأكل الميتة؛ لأنّ الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أنّ الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، ودمه؛ لأنّ الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء، كما يتألم جسده؛ إذا قطع لحمه، والعرض أشرف من اللحم، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحم الناس؛ فترك أعراضهم أولى. وقوله تعالى:{لَحْمَ أَخِيهِ} آكد في المنع؛ لأن العدو قد يحمله الغضب على أكل لحم عدوه، وقوله تعالى:{مَيْتاً} أبلغ في الزجر، والردع، ولا تنس التمثيل، والتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه، وأفحش صورة.
{فَكَرِهْتُمُوهُ:} فيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة، فكذلك فاكرهوا الغيبة. روي معناه عن مجاهد. الثاني: فكرهتم أن يغتابكم الناس، فاكرهوا غيبة الناس. وقيل: لفظه خبر، ومعناه أمر؛ أي: اكرهوه. {وَاتَّقُوا اللهَ} أي: في أمر الغيبة، واجتناب نواهيه، وانظر الاية رقم [10]. {إِنَّ اللهَ تَوّابٌ} أي: بليغ في قبول التوبة. بمعنى: أنه يقبل توبة التائب. {رَحِيمٌ:} كثير الرحمة بعباده المؤمنين التائبين.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً:} انظر الاية رقم [1] فالإعراب مثله. {مِنَ الظَّنِّ:}
متعلقان ب: {كَثِيراً،} أو بمحذوف صفة له. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {بَعْضَ:} اسمها، وهو مضاف، و {الظَّنِّ} مضاف إليه. {إِثْمٌ:} خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَجَسَّسُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اِجْتَنِبُوا..} . إلخ، لا محلّ لها مثلها، والتي بعدها:{وَلا يَغْتَبْ..} . إلخ معطوفة أيضا عليها.
{أَيُحِبُّ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (يحب): مضارع. {أَحَدُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، والمصدر المؤول من:
{أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ} في محل نصب مفعول به، و {لَحْمَ} مضاف، و {أَخِيهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة.
{مَيْتاً:} حال من: {لَحْمَ أَخِيهِ،} أو من: {أَخِيهِ} نفسه. {فَكَرِهْتُمُوهُ:} الفاء: هي الفصيحة، التقدير: إن صحّ ما ذكر؛ فاكرهوا. (كرهتموه): فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها مع الشرط المقدر، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ} معطوفة على جملة (اجتنبوا) و (لا تجسسوا) لا محلّ لها مثلهما، وما بينهما اعتراض. وقيل: معطوفة على ما قبلها على تأويلها؛ بالأمر كما رأيت، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر، لا محلّ لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} يعني: آدم، وحواء. أو خلقنا كل واحد منكم من أب، وأم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من الذاكر فلانة» . قال ثابت:
أنا يا رسول الله! قال: «انظر في وجوه القوم» . فنظر، فقال:«ما رأيت يا ثابت؟!» . قال: رأيت أبيض، وأحمر وأسود، قال:«فإنك لا تفضلهم إلا بالدّين والتقوى» . فنزلت في ثابت، ونزل في الذي لم يفسح له:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ..} . إلخ، الاية رقم [11] من سورة (المجادلة).
وقيل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا؛ حتى علا على ظهر الكعبة، وأذن.
فقال عتّاب بن أسيد بن العيص: الحمد لله الذي قبض أبي، ولم ير هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يكره الله شيئا يغيّره! وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا، أخاف أن يخبره ربّ السماء! فنزل جبريل عليه السلام، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا، وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله هذه الاية، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء. انتهى. خازن، وقرطبي.
وزاد القرطبي سببا ثالثا لنزول الاية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند (مولى لهم) امرأة منهم، فقالوا: نزوج بناتنا موالينا؟! فأنزل الله عز وجل الاية، وذكر هذا السبب السيوطي في أسباب النزول، وخذ ما يلي:
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق فقال: «أيّها النّاس إنّ ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجمي على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتّقوى، إن أكرمكم
عند الله أتقاكم، ألا هل بلّغت؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فليبلّغ الشاهد الغائب». رواه البيهقي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلاّ أن تقولوا:
فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي، وأضع نسبكم». رواه الطبراني والبيهقي.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أذهب عنكم عبّيّة الجاهليّة، وفخرها بالاباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب: مؤمن تقيّ، وفاجر شقيّ، لينتهينّ أقوام يفتخرون برجال، إنما هو فحم من فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان، التي تدفع النتن بأنفها» . رواه أبو داود، والترمذي. وخذ قول علي-رضي الله عنه-وهو مشهور من شعره:[البسيط] النّاس من جهة التمثيل أكفاء
…
أبوهم آدم والأمّ حوّاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب
…
يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلاّ لأهل العلم إنهم
…
على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه
…
وللرجال على الأفعال سيماء
وضدّ كلّ امرئ ما كان يجهله
…
والجاهلون لأهل العلم أعداء
وخذ هذين البيتين وهما الشاهد رقم [210] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [الطويل] لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه
…
على ما تجلّى يومه، لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرميم وإنّما
…
فخار الّذي يبغي الفخار بنفسه
وخذ بيتين آخرين: [المنسرح] كن ابن من شئت واكتسب أدبا
…
يغنيك محموده عن النّسب
إنّ الفتى من قال ها أنا ذا
…
ليس الفتى من قال كان أبي
{وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا:} ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالاباء، والقبائل، والأنساب هذا؛ وطبقات الناس عند العرب سبع، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، والعشيرة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، والفصيلة تجمع العشائر، وليس بعد العشيرة شيء يوصف عند العرب. واستحدث اسم الأسرة والعائلة لما يشمل الزوج، والزوجة، وأولادهما الذين يعيشون في دار واحدة، وقد نظم بعض الأدباء طبقات العرب بقوله:[الخفيف]
اقصد الشعب فهو أكثر حيّ
…
عددا في الحواء ثمّ القبيلة
ثم تتلوها العمارة ثم ال
…
بطن والفخذ بعدها والفصيله
ثمّ من بعدها العشيرة لكن
…
هي في جنب ما ذكرناه قليله
هذا؛ والشّعب بمعنى ما تقدم هو بفتح الشين، وهو بكسرها الطريق في الجبل، أو ما انفرج بين الجبلين، والناحية أيضا، وجمعه: شعاب، وجمع الأول: شعوب، كما في الاية.
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ:} فإن التقوى تكمل بها النفوس، وتتفاضل بها الأشخاص، وترتفع بها الدرجات في أعلى الجنات، فمن أراد شرفا، وعزا، وكرامة فليلتمس ذلك منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سرّه أن يكون أكرم الناس؛ فليتّق الله» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: (كرم الدنيا الغنى، وكرم الاخرة التقوى) وقيل: (أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور). وخلاصة التقوى: العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل. قال ميمون بن مهران:
لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبته شريكه. وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين؛ حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. قال الشاعر: [البسيط] لم يجدك الحسب العالي بغير تقى
…
مولاك شيئا فحاذر واتق الله
وابغ الكرامة في نيل الفخار به
…
فأكرم النّاس عند الله أتقاها
وقال الأعشى: [الطويل] إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
…
ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على ألاّ تكون كمثله
…
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
هذا؛ ويظن كثير من الناس أنّ تقوى الله بكثرة الصلاة، والصيام، وأداء فريضة الحج، ثم هم لا يأتمرون بمعروف، ولا ينتهون عن منكر، يؤذون الناس، ويعتدون على حرماتهم، ثم هم لا يتورّعون عن أكل أموال الناس بالباطل، وهذا ظن خاطئ، وزعم فاسد. قال عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرّم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا؛ فهو خير إلى خير. هذا؛ وعن عطية بن عروة السعدي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس» . رواه الترمذي.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر الاية رقم [1] هذا؛ وبعضهم يعرب {النّاسُ} وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد أي وبعد اسم الإشارة، إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا؛ فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع أعني:«أيّ» منصوب
محلا، وكذا التابع أعني «الناس» وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده الصبان؛ لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم: أنّ ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول، نحو: يدعى. وهو مع ما فيه من التكلف يؤدي إلى قطع المتبوع. وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأنّ المنادى في الحقيقة هو المحلّى بأل، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصلوا إلى ندائه ب:«أي» أي: مع قرنها بحرف التنبيه. ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له. والإعراب السائد الان أن تقول: مرفوع تبعا للفظ. انتهى. جرجاوي. هذا؛ والأخفش يعتبر: (أيّ) في مثل هذه الاية موصولة، و {النّاسُ} خبرا لمحذوف، والجملة الاسمية صلة، وعائد. التقدير: يا من هم الناس؛ على أنه قد حذف العائد حذفا لازما، كما في قول امرئ القيس، وهو في معلقته رقم [13]:[الطويل] ألا ربّ صالح لك منهما
…
ولا سيّما يوم بدارة جلجل
وهذا هو الشاهد رقم [242] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وما قاله الأخفش لا يعتدّ به عند جمهرة النحاة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {خَلَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {مِنْ ذَكَرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكاف. (أنثى): معطوف على ما قبله مجرور مثله.
{وَجَعَلْناكُمْ:} الواو: حرف عطف. (جعلناكم): فعل، وفاعله، ومفعول به أول. {شُعُوباً:}
مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَقَبائِلَ:}
معطوف على ما قبله. {لِتَعارَفُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(جعلناكم).
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَكْرَمَكُمْ:} اسم {إِنَّ} . {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: (أكرم)، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أَتْقاكُمْ:} خبر: {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية تعليلية لا محلّ لها. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة (أنّ)، وعليه فتؤول مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل قبلهما أيضا، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: قال المفسرون: نزلت الاية الكريمة في نفر من بني أسد بن خزيمة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة، فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون، ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون:
أتتك العرب بأنفسهم على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال، والعيال، والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان. يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ويريدون الصدقة، ويقولون:
أعطنا. فأنزل الله فيهم هذه الاية.
وقيل: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة (الفتح)، وهم: جهينة، ومزينة
…
إلخ، كانوا يقولون: آمنا؛ ليأمنوا على أنفسهم، وأموالهم، فلما استنفروا للحديبية؛ تخلفوا عنها، فأنزل الله عز وجل الاية الكريمة. انظر الاية رقم [11] من سورة (الفتح).
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} أي: لم تصدقوا بقلوبكم، ولم يدخلها الإيمان. {وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} أي:
استسلمنا، وانقدنا مخافة القتل، والأسر، والسبي. وهذه صفة المنافقين؛ لأنهم أسلموا في الظاهر؛ ولم تؤمن قلوبهم. قال الحميدي-رحمه الله تعالى-: اعلم: أنّ الإسلام هو الدخول في السلم، وهو الانقياد والطاعة، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان، والأبدان، والجنان لقوله عز وجل لإبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- «أسلم، قال:
أسلمت لربّ العالمين». ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب، وذلك قوله تعالى:{وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا..} . إلخ.
فإن قلت: المؤمن، والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا القول؟ قلت:
بين العام، والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلاّ بالقلب، والانقياد قد يحصل بالقلب، وقد يحصل باللسان، فالإسلام أعم، والإيمان أخص، لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمرا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فذلك المؤمن، والمسلم. انتهى. خازن. أقول: ومن تعريف الإيمان، والإسلام يتضح لك فحوى ما تقدم، فقد عرفوا الإيمان بأنه التصديق بالقلب مع الثقة، وطمأنينة النفس عليه، والإسلام هو الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربا للمسلمين مع إظهار الشهادتين، وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، وهو في
صحيح مسلم، وغيره. ولا تنس أنّ الله عز وجل قد جمع الإيمان، والإسلام لأهل بيت لوط، كما ستعرفه في سورة (الذاريات).
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: ظاهرا، وباطنا، سرا، وعلانية. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: تخلصوا له الإيمان. {لا يَلِتْكُمْ:} لا ينقصكم، يقال: لاته، يليته ليتا، ويلوته: نقصه، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ أبو عمرو:«(لا يألتكم)» بالهمزة من: ألت يألت ألتا اعتبارا بقوله تعالى في سورة الطور رقم [21]: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. وهذه لغة غطفان، وأسد.
بقي أن تعرف: أن {الْأَعْرابُ} جمع أعرابي، وهو من يسكن البادية. وقيل: الأعراب: اسم جنس، وأعرابي نسبة إلى الأعراب. هذا؛ والعرب أهل الأمصار، وهو أيضا اسم جنس، والنسبة إليهم عربي، فالأعرابي على الأول مفرد الأعراب، ونسبة إليهم، والعربي على الثاني مفرد العرب، ونسبة إليهم. هذا؛ وقد وصف الله الأعراب في الاية رقم [97] من سورة (التوبة) بأنهم أشد كفرا، ونفاقا، انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {قالَتِ:} ماض، والتاء للتأنيث. {الْأَعْرابُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {قُلْ:}
فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُؤْمِنُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {قُولُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {أَسْلَمْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلَمّا:} الواو:
واو الحال. (لما): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَدْخُلِ:} مضارع مجزوم ب: (لمّا).
{الْإِيمانُ:} فاعله. {فِي قُلُوبِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تُطِيعُوا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} معطوف عليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَلِتْكُمْ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية. {مِنْ أَعْمالِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان
بمحذوف حال من: {شَيْئاً،} كان صفة له
…
إلخ، {شَيْئاً:} مفعول به ثان ل: (يلت) لأنه بمعنى: ينقص، و {الْإِيمانُ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليلية، أو مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ..} . إلخ أي: المؤمنون الصادقون في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله إيمانا صحيحا، وصدقوا رسوله، وانقادوا لأوامرهما، وأذعنوا لحكمهما إذعانا كاملا مقرونا بالرضا. {ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا} أي: لم يشكوا في دينهم وكل ما يأتيهم من ربهم، بل يعتبرونه حقا وصدقا. هذا؛ و «ارتاب» مطاوع: رابه: إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وجيء ب:{ثُمَّ} التي للتراخي للإشارة إلى أن نفي الريب عنهم ليس وقت حصول الإيمان فيهم وإنشائه فقط، بل هو مستمر بعد ذلك فيما يتطاول من الأزمنة. فكأنه قيل: ثم داموا على ذلك. {وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: في طاعته. والمجاهدة بالأموال، والأنفس تشمل العبادات المالية، والبدنية بأسرها، فالمجاهدة بالأموال عبارة عن العبادات المالية، كالزكاة، والكفارات على جميع أنواعها، وما ينفقه المؤمن تبرعا للمجاهدين. وقدم الأموال بالذكر لحرص الإنسان عليه، فإن المال شقيق الروح، وقد يبذل الإنسان روحه في سبيل ماله، بل قد يبذل الرجل شرفه، وكرامته، ومروءته في سبيل تحصيل المال، وما أكثرهم في هذا الزمن، الذي رقّ فيه دين الناس. {أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ:} في إيمانهم؛ لا الذين قالوا: آمنا؛ ولم يوجد منهم غير الإسلام؛ أي: نطق الشهادتين باللسان فقط. ولما نزلت الايتان؛ أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله بأنهم مؤمنون صادقون في السرّ، والعلانية، وعرف الله منهم غير ذلك، فأنزل الاية التالية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة، ومكفوفة. {الْمُؤْمِنُونَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل خبر المبتدأ، أو هو في محل رفع صفة:{الْمُؤْمِنُونَ،} وجملة: {آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {ثُمَّ:}
حرف عطف. {لَمْ:} حرف جازم. {يَرْتابُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، وأيضا جملة:{وَجاهَدُوا} معطوفة عليها. {بِأَمْوالِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما.
{وَأَنْفُسِهِمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل: (جاهدوا) و {سَبِيلِ} مضاف، و {بِاللهِ} مضاف إليه. {أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} انظر
إعراب مثل هذه الجملة في الاية رقم [7] وهي مستأنفة على اعتبار الموصول خبر المبتدأ، وفي محل رفع خبر المبتدأ على اعتبار الموصول صفة:{الْمُؤْمِنُونَ} .
الشرح: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ} أي: تخبرون الله بدينكم؛ الذي أنتم عليه، وهو قولكم:{آمَنّا} . {وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي: لا تخفى عليه تعالى خافية فيهما. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} يعلم كل شيء من النفاق، والإخلاص، وغير ذلك فلا يحتاج إلى إخباركم.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَتُعَلِّمُونَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. (تعلّمون): مضارع مرفوع، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {بِدِينِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. {وَاللهُ:} الواو:
واو الحال. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة لفظ الجلالة. وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محلّ لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله):
مبتدأ. {بِكُلِّ:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ} بعدهما، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه.
{عَلِيمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
الشرح: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا:} هو قولهم: أسلمنا، ولم نحاربك، يمنون بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّن بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصا. {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} أي: لا تعتدّوا عليّ بإسلامكم. {بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ} أي: لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وادّعيتم. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} أنكم مؤمنون.
هذا؛ والمنّ: ذكر الصنيعة، وتعداد النعمة، والمنّان من بني آدم: هو الذي يعطي العطاء، ثم يذكّر به من أعطاه. ويعدّد له ما فعله من المعروف، مثل أن يقول له: أعطيتك كذا، وفعلت لك كذا، وصنعت معك كذا، وهو تعيير، وتكدير تنكسر منه القلوب؛ لذا كان مذموما يمحق الثواب، ويبطله، بل ويغضب الله تعالى. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [264]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} وقال الشاعر الحكيم: [الطويل] وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة
…
وذكّرنيها مرّة للئيم
وقال آخر يذمّ المنّان بالعطاء مخاطبا له: [الطويل] أتيت قليلا ثمّ أسرعت منة
…
فنيلك ممنون لذاك قليل
وفي نوابغ الكلم: صنوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ، وفيها طعم الالاء أحلى من المن، وهو أمرّ من اللأواء مع المنّ. والمن لا يليق إلاّ في جانب الله تعالى؛ لأنه المتفضل بما يملكه حقيقة، وغيره لا ملك له حقيقة، فلا يليق به المنّ، كيف لا؛ وقد سمّى نفسه سبحانه: المنان؟!
الإعراب: {يَمُنُّونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة. {عَلَيْكَ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {أَسْلَمُوا:} ماض مبني على الضم في محل نصب ب: {أَنْ} والواو فاعله، و {أَنْ} والفعل في تأويل مصدر في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: لأن، أو بأن أسلموا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قُلْ:}
أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} ناهية. {تَمُنُّوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله. {عَلَيَّ:} متعلقان بما قبلهما. {إِسْلامَكُمْ:}
مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا تَمُنُّوا..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. {بَلِ:} حرف عطف، وإضراب.
{اللهُ:} مبتدأ. {يَمُنُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.
{عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والمصدر المؤول من:{أَنْ هَداكُمْ} منصوب بنزع الخافض مثل سابقه، والكاف مفعول به. {لِلْإِيمانِ:} متعلقان بما قبلهما. {أَنْ:} حرف شرط جازم.
{كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.
{صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. التقدير: إن كنتم
صادقين في ادّعائكم الإيمان بالله، فلله المنة عليكم، والكلام كله في محل نصب مقول القول أيضا.
{إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)}
الشرح: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} المعنى: أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في السموات، والأرض؛ فكيف يخفى عليه حالكم؟! بل يعلم سركم، وعلانيتكم. {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} أي: بصير بأعمالكم الظاهرة، والخفية، وعليم بجوارحكم الظاهرة، والباطنة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . {غَيْبَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ، مستأنفة، أو مبتدأة، لا محلّ لها. (الله): مبتدأ.
{بَصِيرٌ:} خبره. {بِما:} متعلقان ب: {بَصِيرٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بصير بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب:{بَصِيرٌ} التقدير: بصير بعملكم، والجملة الاسمية: (الله
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (الحجرات) بحمد الله وتوفيقه شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.