المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الطّور بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الطور) وهي مكية، وهي - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الطّور بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الطور) وهي مكية، وهي

‌سورة الطّور

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الطور) وهي مكية، وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمئة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمسمئة حرف. انتهى. خازن. وروى الأئمة عن جبير بن مطعم-رضي الله عنه. قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ب: (الطور) في المغرب. متفق عليه. انتهى. قرطبي.

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)}

الشرح: في مطلع هذه السورة الكريمة أقسام خمسة، جوابها قوله تعالى:{إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} والواو الأولى للقسم، والواوات بعدها للعطف، كما قال الخليل. انتهى. خطيب، أو كل واحد منها للقسم، كما قاله السمين. أقول: والأول أقوى؛ لأن الثاني يحوج إلى تقدير جواب لكل قسم، وقد بينات ذلك في الشاهد رقم [80] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، وخذه وهو من قول أبي صخر الهذلي:[الطويل] أما والّذي أبكى وأضحك والّذي

أمات وأحيا والّذي أمره الأمر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى

ألفين منها لا يروعهما الذّعر

{وَالطُّورِ:} اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، أقسم الله به تشريفا له، وتكريما، وتذكيرا لما فيه من الايات، وهو أحد جبال الجنة، والمراد به طور سينا. وقيل: هو بمدين، وهو ضعيف. {وَكِتابٍ مَسْطُورٍ} أي: مكتوب، يعني:

القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، كما قال تعالى في سورة (الواقعة):{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} وقيل: المراد به: التوراة؛ التي كتبها الله لموسى. وموسى يسمع صرير الأقلام. وقيل: هو اللوح المحفوظ. وقيل: هو ما تسجله الحفظة، والكتبة من أعمال بني آدم، يخرج إليهم يوم القيامة منشورا، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ:} والرق: كل ما يكتب عليه جلدا كان، أو غيره. قاله الراغب.

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} أي: معمور بكثرة من يطوفون فيه، وهو بيت في السماء السابعة، قدام العرش بحيال الكعبة، يقال له: الضّراح، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض. وصح في

ص: 276

حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة، قال:«فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه» . وفي رواية أخرى: «قال: فانتهيت إلى بناء، فقلت للملك: ما هذا؟ قال: بناء بناه الله للملائكة، يدخل فيه سبعون ألف ملك، لا يعودون، يسبحون الله، ويقدسونه» . وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رأى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ:} المراد به: السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت. وانظر الاية رقم [47] من سورة (الذاريات). {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي: الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور، وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما-وذلك ما روي: أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة، فيزاد بها في نار جهنم، ودليل هذا قوله تعالى في سورة (التكوير):{وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ} وقيل:

المسجور: المملوء، وأنشد النحويون للنمر بن تولب الصحابي-رضي الله عنه:[المتقارب] إذا شاء طالع مسجورة

ترى حولها النّبع والسّاسما

يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة ماء. وقيل: المسجور: اليابس؛ الذي ذهب ماؤه، ونضب. وقيل: هو المختلط العذب بالملح. والمعتمد الأول، وانظر سورة (التكوير).

{إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} أي: إنه لحق، ونازل بالمشركين في الدنيا وفي الاخرة، قال جبير بن مطعم-رضي الله عنه: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب:{وَالطُّورِ} إلى قوله: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وجبير رضي الله عنه-لم يدخل المسجد وقتئذ، وإنما سمع القراءة، وهو خارج المسجد؛ لأن صوت النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا، ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده رجل يقرأ:{وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ..} . إلخ فبكى الحسن، وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه، ولما ولّي بكّار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان، فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب في الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول {وَالطُّورِ} إلى أن قال له قل:{إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} إن كنت كاذبا، فقالها، فخرج فكسر من حينه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالطُّورِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره أقسم. وقد اختلف في المقسم به، فقيل: هو على ظاهره، وإنما أقسم الله بهذه الأشياء وأمثالها تنويها بشأنها، ورفعا لقدرها. وقيل: المقسم به محذوف، التقدير: ورب الطور، ورب كتاب

إلخ، انظر الذاريات وذكرت لك ما قيل عن الخليل، وعن السمين، وأنني رجحت الأول، الذي لا تقدير فيه، وكل

ص: 277

الأسماء المتعاطفة فيها صفة، وموصوفة. {فِي رَقٍّ:} متعلقان ب: {مَسْطُورٍ} . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَذابَ:} اسم {إِنَّ} وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَواقِعٌ:} (اللام): هي المزحلقة.

(واقع): خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية جواب القسم الأول وما عطف على المعتمد. {ما:}

نافية. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {دافِعٍ:}

مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائدة، والجملة الاسمية، قيل: مستأنفة. وقيل: صفة ل: (واقع) والأجود القول بأنها مفسرة ل: (واقع). وقيل: مفعول به ل: (واقع) وهو ضعيف جدا. وقيل: خبر ثان ل: {إِنَّ} . ولا بأس به.

{يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}

الشرح: {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً:} المراد به يوم القيامة، وتمور: تدور كدوران الرحى، وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة. قاله أبو عبيدة، والأخفش، وأنشد للأعشى من معلقته رقم [3]:[البسيط] كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مرّ السّحابة، لا ريث ولا عجل

وقيل: تتحرك، وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض، وتضطرب. وانظر سورة (الملك) رقم [16]. {وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} أي: تزول عن أماكنها، وتصير هباء منثورا، قال تعالى في سورة (القارعة):{وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ،} وقال تعالى في سورة (طه): {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً..} . إلخ. قال الخازن: والحكمة في مور السماء، وتسيير الجبال، الإنذار والإعلام بأن لا رجوع، ولا عود إلى الدنيا، وذلك؛ لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال، والبحار، وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا، وانتفاع بنى آدم بذلك، فلما لم يبق لهم عود إليها، أزالها الله تعالى، وذلك لخراب الدنيا، وعمارة الاخرة. {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} المعنى: الويل، والعذاب الشديد في يوم القيامة لمن يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقد بالإسلام، وتعاليمه.

{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ} أي: يخوضون في الباطل، ففيه استعارة لا تخفى؛ لأن الأصل في الخوض أن يكون في الماء. {يَلْعَبُونَ:} غافلون لاهون مما يراد بهم، ولكنهم يندمون، ويتحسرون، كما ذكر الله عنهم في سورة (المدثر) قولهم:{وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ} وهذا يكون منهم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء). {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يدفعون دفعا بعنف، وجفوة في جهنم، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعا إلى النار على

ص: 278

وجوههم، وزخا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، قال تعالى في سورة (الماعون):{فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} .

هذا؛ والخوض من المعاني الغالبة، فإنه يصلح في كل شيء، إلا أنه غلب في الخوض في الباطل، كالإحضار، فإنه عام في كل شيء، ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب، قال تعالى في سورة (الصافات) حكاية عن قول المؤمن:{وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} .

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: (واقع). {تَمُورُ:} مضارع. {السَّماءُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {مَوْراً:} مفعول مطلق، وجملة:{وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها، وإعرابها مثلها. {فَوَيْلٌ:} (الفاء): حرف استئناف. (ويل): مبتدأ، وساغ الابتداء به؛ لأنه بمعنى الدعاء. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق ب: (ويل)، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر.

{لِلْمُكَذِّبِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

هذا؛ وقال مكي: والفاء جواب الجملة المتقدمة، وحسن ذلك؛ أي: دخول الفاء في (ويل) لأن الكلام في معنى الشرط؛ لأن المعنى؛ إذا كان ما ذكر واقعا، وصحيحا؛ فويل يومئذ للمكذبين.

انتهى. بتصرف. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة (المكذبين)، أو هو بدل منه، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف. التقدير: أعني الذين، أو هو مبتدأ خبره ما بعده. {هُمْ:} مبتدأ. {فِي خَوْضٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {يَلْعَبُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الموصول على الوجهين الأولين المعتبرين فيه، وفي محل رفع خبره على الوجه الثالث فيه. {يَوْمَ:} بدل من {يَوْمَئِذٍ} . وقيل: بدل من {يَوْمَ تَمُورُ} والأول أقوى؛ لأن الجملة الاسمية (ويل

) إلخ مستأنفة. {يُدَعُّونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {إِلى نارِ:} متعلقان بما قبلهما، و {نارِ} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {دَعًّا:} مفعول مطلق.

{هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اِصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}

الشرح: {هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا، وهذا الكلام مقول لقول محذوف.

{أَفَسِحْرٌ هذا} أي: يقال لهم على جهة التوبيخ، والتقريع: أهذا سحر؟! لأنهم كانوا يقولون في

ص: 279

الدنيا: إن ما يأتيهم به النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وإنه يموه عليهم، ويغطي أبصارهم، فوبخوا بذلك. {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ:} كما كنتم لا تبصرون في الدنيا؛ أي: أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عميا عن الخبر. {اِصْلَوْها:} قاسوا حر نار جهنم. {فَاصْبِرُوا} على شدة حرها. {أَوْ لا تَصْبِرُوا} عليه. {سَواءٌ عَلَيْكُمْ} أي: الصبر، وعدمه. {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الكفر، والتكذيب.

المعنى: تقول لهم خزنة جهنم: هذه النار، التي وعدتم، فكذبتم بها، فذوقوا حرها بسبب كفركم في الدنيا! وهو أمر بإهانة، وتحقير لهم، وهو كقوله تعالى في سورة (يس):{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اِصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ،} وقوله تعالى في سورة (الرحمن):

{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} .

فقد روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس، والجنّ، والأوّلين، والاخرين في صعيد واحد، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق، فأحاط بهم، ثم ينادي مناد: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ..}. إلخ فحينئذ تجثو الأمم على ركبها، وتضع كلّ ذات حمل حملها، وتذهل كلّ مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» .

هذا وفي «المصباح المنير» : صلي بالنار، وصليها صلى من باب: تعب: وجد حرها، والصلاء وزان كتاب: حرّ النار، وصليت اللحم، أصليه من باب رمى: شويته. وقال الجوهري: يقال:

صليت الرجل نارا: إذ أدخلته النار، وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق، قلت: أصليته، وصلّيته تصلية. ويقال أيضا: صلي بالأمر: إذا قاسى حره وشدته، واصطليت بالنار، وتصلّيت بها: إذا استدفأت بها، وفلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا، لا يطاق.

هذا؛ و {سَواءٌ} مصدر بمعنى الاستواء؛ فلذا صح الإخبار به عن متعدد. وقيل: هو اسم بمعنى مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع، قالوا: هما هم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى، قالوا:

سيان، وإن شئت قلت: سواآن، وفي الجمع: هما سواء، وهذا كله ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية؛ أي: متساويان، ومتساوون. هذا؛ ويأتي بمعنى الوسط، كما في قوله تعالى في سورة (الصافات) الاية رقم [55]:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} ويأتي بمعنى العدل، كما في قوله تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} رقم [58] من سورة (الأنفال) وسواء الشيء: غيره، قال الأعشى:[الطويل] تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائكا

وسواء السبيل: ما استقام منه، وسواء الجبل: ذروته.

الإعراب: {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {النّارُ:} خبر المبتدأ. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة

ص: 280

النار. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون والتاء اسمه. {بِها:} متعلقان بما بعدهما، {تُكَذِّبُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ: صلة الموصول، لا محل لها، والاية بكاملها في محل نصب مقول القول للقول المحذوف، التقدير: فيقال لهم: هذه

إلخ. {أَفَسِحْرٌ:} (الهمزة): حرف استفهام وتوبيخ، وتبكيت. (الفاء): حرف عطف. (سحر):

خبر مقدم. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. وقيل: معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر

إلخ، والكلام في محل نصب مقول القول.

{أَمْ:} حرف عطف. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {تُبْصِرُونَ:}

مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{اِصْلَوْها:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. (وها): مفعول به. {فَاصْبِرُوا:}

(الفاء): حرف عطف، وفيها معنى الفصيحة. (اصبروا): أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَوْ:} حرف عطف. {لا:}

ناهية جازمة. {تَصْبِرُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة معطوفة على ما قبلها.

{سَواءٌ:} فيه وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: صبركم، وعدمه سواء.

والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: سواء الصبر والجزع، والأول أولى، وأحسن؛ لأن جعل النكرة خبرا أولى من جعلها مبتدأ، وجعل المعرفة خبرا. ونحا الزمخشري إلى الوجه الثاني، فقال: سواء خبره محذوف؛ أي: سواء عليكم الأمران: الصبر وعدمه. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة، {تُجْزَوْنَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ.

والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {إِنَّما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إنما تجزون الذي، أو شيئا كنتم تعملونه، والجملة:{إِنَّما تُجْزَوْنَ..} . إلخ تعليل لما قبلها، وهي من جملة مقول القول أيضا.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18)}

الشرح: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ} أي: في أية جنات! {وَنَعِيمٍ} أي: وأي نعيم! بمعنى

ص: 281

الكمال في الصفة، أو في جنات، ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة. هذا؛ و {الْمُتَّقِينَ} اسم فاعل من التقوى، وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا، والاخرة. وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة)، وأيضا في سورة (الذاريات)، وبين ما أعد الله لهم في الاخرة في هذه الايات، وأصل المتقين:«المؤتقين» قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء. مثل: متصل من اتصل، أصلهما: مؤتصل، أوتصل. ولا تنس: أن الله جلت قدرته لما ذكر حال الكفار في الايات السابقة؛ ذكر حال المؤمنين المتقين في هذه الايات، وهذا من باب المقابلة، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [15] من سورة (الذاريات).

{فَكِهِينَ:} ناعمين متلذذين. {بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: منحهم، وأعطاهم من الخير، والكرامة، وأصناف الملاذ من ماكل، ومشارب، وملابس، ومساكن، ومراكب، وغير ذلك.

{وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ:} وحفظهم ربهم من عذاب جهنم، وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة؛ التي فيها من السرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُتَّقِينَ:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {فِي جَنّاتٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، ويجوز أن تكون من جملة المقول للكفار زيادة في غمهم، وتحسرهم. {وَنَعِيمٍ:} معطوف على ما قبله. {فَكِهِينَ:} حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور؛ أي: في الخبر المحذوف. {بِما:} جار ومجرور متعلقين بفاكهين، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالياء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء آتاهم ربهم إياه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بإيتاء ربهم.

{آتاهُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعوله الأول، والثاني محذوف، كما رأيت تقديره. {رَبُّهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَوَقاهُمْ:} معطوف على آتاهم فيكون مؤولا معه بمصدر.

التقدير: فاكهين بإيتاء ربهم وبوقايته لهم عذاب الجحيم. هذا وجه له. والثاني: أن الجملة:

{وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير العائد على {الْمُتَّقِينَ} والرابط: الواو، والضمير، و «قد» مقدرة بعد الواو. والثالث: أن الجملة الفعلية معطوفة على: {فِي جَنّاتٍ} . قاله الزمخشري، فيكون مخبرا به عن {الْمُتَّقِينَ} أيضا. انتهى. جمل. وإعراب الجملة التفصيلي مثل ما قبلها بلا فارق، فهو واضح إن شاء الله تعالى.

ص: 282

{كُلُوا وَاِشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}

الشرح: {كُلُوا وَاشْرَبُوا..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [43]:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،} وقال جل ذكره في سورة (الزخرف) رقم [72]: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،} وقال تعالى في سورة (السجدة) رقم [19]: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بسبب أعمالهم، وليس المراد السبب الحقيقي؛ حتى يخالف نص الحديث الشريف، وفحوى هذا: أن نص الايات جميعا يفيد أن دخول الجنة مسبب عن الأعمال الصالحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يدخل أحدا عمله الجنة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «لا، ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله بفضله، ورحمته! فسدّدوا وقاربوا» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

والجمع بين هذه الايات والحديث الشريف بأن مجمل الايات على أن منازل الجنة إنما تنال بالأعمال؛ لأن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن محمل الحديث الشريف على أصل دخول الجنة. فإن قيل: آية السجدة صريحة في أن دخول الجنة أيضا بالأعمال، أجيب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث الشريف، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة، وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد أصل الدخول، أو المراد ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله، وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخولها، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته، وفضله، لا إله إلا هو له الملك وله الحمد. انتهى. حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة.

ومعنى {هَنِيئاً:} لا كدر، ولا تنغيص فيه. وقيل: مأمون العاقبة من التخمة، والسقم. وقيل:

لا أذية فيه، ولا غائلة. وفي سورة (الحاقة):{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} . {مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ:} جمع: سرير. {مَصْفُوفَةٍ:} موضوعة بعضها إلى بعض؛ حتى تصير صفا. وفي الأخبار:

أنها تصف في السماء بطول كذا، وكذا، فإن أراد المؤمن أن يجلس عليها تواضعت له، فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد، والدر والياقوت. {وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بهنّ. قال يونس بن حبيب: تقول العرب:

زوجته امرأة، وتزوجت امرأة، وليس من كلام العرب: تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل {وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بهن. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة.

بعد هذا خذ ما يلي: عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه، قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم! تزعم: أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون! قال: «نعم والّذي

ص: 283

نفس محمد بيده إن أحدهم ليعطى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع!». قال: فإن الذي يأكل ويشرب، تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى! قال:«تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك، فيضمر بطنه» . رواه أحمد والنسائي. هذا؛ وانظر شرح: (حور عين) في سورة (الواقعة).

الإعراب: {كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال لهم: كلوا، واشربوا.

{هَنِيئاً:} حال من واو الجماعة بمعنى: مهنئين، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير:

كلوا، واشربوا أكلا هنيئا، وشربا هنيئا. وفاعله محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: هنيئا الأكل، والشرب. وقيل الفاعل (ما) المجرورة بالباء، وعليه يكون مثله قول كثير عزة:[الطويل] هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلّت

فيكون مثل «ما» يرتفع بالفعل؛ أي: كما تقول، هنأكم ما كنتم تعملون، أو هنأكم الأكل والشرب، فعلى الأول الباء زائدة في الفاعل، وعلى الثاني الباء أصلية، والجار والمجرور متعلقان ب:{هَنِيئاً،} والجملة الفعلية بعدها صلتها على الاعتبارين، والعائد محذوف، التقدير:

بالذي كنتم تعملونه، وإعراب الجملة واضح إن شاء الله تعالى. {مُتَّكِئِينَ:} حال من الضمير المستتر بقوله: {فِي جَنّاتٍ} أي: من الضمير المستتر في الخبر المقدر، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {عَلى سُرُرٍ:} متعلقان به. {مَصْفُوفَةٍ:} صفة: {سُرُرٍ} .

{وَزَوَّجْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على قوله:{فِي جَنّاتٍ} أي:

عطف على الخبر، فهو خبر آخر في المعنى. {بِحُورٍ:} متعلقان بما قبلهما. {عِينٍ:} صفة:

(حور)، وساغ ذلك؛ لأنه جمع بمعنى: عظام العيون.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)}

الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} أي: آمنت الذرية كما آمن الاباء، والأمهات.

ويقرأ: «(وأتبعناهم ذريتهم بإيمان)» أي: ألحقنا أولادهم الصغار، والكبار بإيمانهم، فالكبار البالغون بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه؛ إذا كان مسلما. {أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} يعني: المؤمنين في الجنات بدرجات آبائهم، وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لابائهم، لتقر بذلك أعينهم. هذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما-وفي رواية أخرى عنه: أن معنى الاية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} يعني:

ص: 284

البالغين (بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم) الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم. أخبر الله تعالى: أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة، كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه، فيدخلهم الجنة بفضله، ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الاباء من أعمالهم شيئا، وذلك قوله تعالى:{وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني: وما نقصنا الاباء من أعمالهم شيئا.

فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يرفع ذرية المؤمن معه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقرّ بهم عينه» . ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ..} . إلخ. وعن علي-رضي الله عنه-قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هما في النار» فلما رأى الكراهية في وجهها؛ قال: «لو رأيت مكانهما؛ لأبغضتهما!» قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: «في الجنة» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإنّ المشركين وأولادهم في النار» ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي. هذا؛ وحديث خديجة-رضي الله عنها-كان قبل قوله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي فأعطاني أولاد المشركين خدما لأهل الجنة» هذا؛ وانظر ما ذكرته في سورة (الرعد) رقم [23] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ والذرية: النسل من بني آدم، وهي تقع على الجمع، كما في قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً} رقم [9] من سورة (النساء). وتطلق على الواحد، كما في قوله تعالى حكاية عن قول زكريا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} رقم [38] من سورة (آل عمران) قيل: هي مشتقة من الذّر بفتح الذال، وهو كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه؛ أي: في كنفه، وستره، وتحت حمايته، وهي بضم الذال: أعلى الشيء. وقيل: هي مشتقة من الذّرء، وهو الخلق، قال تعالى في سورة (الملك) رقم [24]:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ،} وقال تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} رقم [11] من سورة (الشورى) أبدلت همزة الذرء ياء، ثم شددت الياء، وتبعتها الراء في التشديد.

هذا؛ وقرأ ابن كثير: «(وما ألتناهم)» بكسر اللام، وفتح الباقون، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه (آلتناهم) بالمد، قال ابن الأعرابي: آلته، يألته، ألتا، وآلته، يؤلته، إيلاتا، ولاته، يليته، ليتا، كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه، يلوته، ويليته؛ أي: حبسه عن وجهه، وصرفه، وكذلك: ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا؛ أي: ما نقصه، مثل: ألته. هذا؛ ومن الأول قول الشاعر: [البسيط] أبلغ بني ثعل عني مغلغلة

جهد الرّسالة لا ألتا ولا كذبا

أي: لا نقصا، ولا كذبا. ومن الثاني قول رؤبة:[الرجز]

ص: 285

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها كيت

أي: لم يمنعني عن سراها مانع. ومن الأخير قول عدي بن زيد: [الطويل] ويأكلن ما أعنى الوليّ فلم يلت

كأنّ بحافات النّهاء المزارعا

فلم يلت: فلم ينقص منه شيئا، و «أعنى» بمعنى: أنبت، والولي: المطر بعد الوسميّ. وانظر سورة (الحجرات).

{كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرهون بعمله، فإن عمل صالحا؛ فلها، وإلا؛ أهلكها.

وقيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم؛ ولهذا قال تعالى في سورة (المدثر):{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ} وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله، فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل؛ فهي تفضل من الله تعالى، وهو ما أعتمده إن شاء الله تعالى.

{اِمْرِئٍ:} أصل هذه الكلمة: المرء، ولما كثر استعمالهم لها؛ أصبحت تستعمل للدلالة على الإنسان، وعلى الحيوان مجازا، وكان الهمز في آخرها ثقيلا بعد السكون خففوها بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الراء، فقالوا: المر، وبذلك أشبهت الراء منها النون من (ابن) في تلقي حركات الإعراب، ولإعلالهم هذه الكلمة كثيرا بحذف الهمز شبهوها بما حذف آخره، نحو (اسم، ابن، است) فجبروها بهمزة وصل في حالة التنكير، ثم ردوا إليها الهمزة، فقالوا: امرؤ، وبذلك أصبحت تعرب من مكانين، فتظهر حركات الإعراب فيها على الراء، والهمزة، فتقول:

هذا امرؤ، ورأيت امرآ، ومررت بامرئ، قال تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ،} {ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ،} {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} .

هذا؛ ومثل كلمة (امرئ) كلمة (ابن) إذا زيدت في آخرها (ما) فإن حركة الإعراب تظهر على النون والميم، فتقول: حضر ابنم، ورأيت ابنما، ومررت بابنم، ولا ثالث لهما في اللغة العربية فاحفظه، فإنه جيد. والله ولي التوفيق.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، والخبر الجملة الفعلية:

(ألحقنا

) إلخ. والثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير: وأكرمنا الذين.

والثالث: أنه معطوف على: {بِحُورٍ عِينٍ} . قاله الزمخشري، وتبعه البيضاوي. وأعتمد الأول، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {وَاتَّبَعَتْهُمْ:} الواو:

حرف عطف. (اتبعتهم): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {ذُرِّيَّتُهُمْ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها. {بِإِيمانٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول. {أَلْحَقْنا:} فعل وفاعل. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما

ص: 286

قبلهما. {ذُرِّيَّتُهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على اعتبار الموصول مبتدأ، وفي محل نصب حال من الضمير الغائب على الوجهين الاخرين في الموصول، والرابط: الضمير فقط، و «قد» قبلها مقدرة. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية، {أَلَتْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير. وهي حال متداخلة. {مِنْ عَمَلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {شَيْءٍ} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:}

حرف جر صلة، {شَيْءٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اِمْرِئٍ:}

مضاف إليه. {بِما:} متعلقان ب: {رَهِينٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كسبه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبها. {كَسَبَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {كُلُّ امْرِئٍ}. {رَهِينٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{كُلُّ امْرِئٍ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية، ولا محل لها على الاعتبارين.

{وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23)}

الشرح: {وَأَمْدَدْناهُمْ} أي: زدناهم في وقت بعد وقت. من الإمداد. وفي سورة (الواقعة):

{وَفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ} بمعنى يأخذون خيارهم. {وَلَحْمٍ:} وفي سورة (الواقعة): {وَلَحْمِ طَيْرٍ} انظر شرحهما هناك. {يَشْتَهُونَ:} يتمنون من أنواع اللحوم. هذا؛ ويجمع لحم على: لحوم، ولحام، قال لبيد بن ربيعة-رضي الله عنه-في معلقته رقم [74]:[الكامل] أدعو بهنّ لعاقر أو مطفل

بذلت لجيران الجميع لحامها

هذا؛ ويقال: لحم، وألحم، ولحمان، ولحام، ورجل لحيم شحيم: إذا كان قرما إلى اللحم، والشحم. {يَتَنازَعُونَ فِيها} أي: يتناول بعضهم من بعض الكأس، وهو المؤمن، وزوجاته، وخدمه في الجنة، وهذا من يد هذا. هذا؛ والكأس عند أهل اللغة: اسم شامل لكل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس، قال الضحاك، والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا: إناء، وقدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان، ومنه:

ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وأضيف: أنه لا يقال: ذنوب، وسجل إلا وفيه ماء، وإلا فهو

ص: 287

دلو. ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب. ولا يقال: قلم إلا وهو مبرى، وإلا فهو أنبوب. هذا؛ وشاهد التنازع، والكأس في اللغة قول الأخطل النصراني:[البسيط] وشارب مريح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسوّار

نازعته طيّب الرّاح الشمول وقد

صاح الدجاج وحانت وقعة السّاري

وقال امرؤ القيس: [الطويل] فلمّا تنازعنا الحديث وأسمحت

هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال

{لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} أي: لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [47]:

{لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} والغول: أن تغتال عقول شاربيها، وهذه موجودة في خمر الدنيا. قال الشاعر:[المتقارب] فما زالت الكأس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل

أي: تصرعنا واحدا واحدا. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: في الخمر أربع خصال:

السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة. فنزهها عن هذه الخصال. انتهى.

فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، فلا خمار يصدع الرؤوس، ولا سكر، ولا عربدة يذهب لذة الاستمتاع، كما هي الحال في خمر الدنيا. يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس؛ أي: تذهب بها. كيف لا؛ وقد قال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} ! قال ابن عطاء-رحمه الله تعالى-: أيّ لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله {وَلا تَأْثِيمٌ:} أي لا يكون فيها ما يؤثمهم، ولا يكذب بعضهم بعضا. وقيل: لا يأثمون بشربها.

هذا؛ والكأس تذكر، وتؤنث؛ لأنها من المؤنث المجازي، فمن التأنيث الاية التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [45 و 46]:{يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} ومن التذكير قولك: هذا كأس، والجمع كؤوس، وأكؤس، وكأسات، وكئاس.

الإعراب: {وَأَمْدَدْناهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أمددناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَلْحَقْنا بِهِمْ} على الوجهين المعتبرين فيها، وعليه: فالجملة الاسمية: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} معترضة بين المتعاطفتين. {بِفاكِهَةٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَلَحْمٍ:} معطوف على ما قبله. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (لحم).

{يَشْتَهُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء يشتهونه.

ص: 288

{يَتَنازَعُونَ:} مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الضمير فقط. وقيل: مستأنفة. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كَأْساً:} مفعول به.

{لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ:} يقرأ الاسمان بالرفع، والتنوين، وبالبناء على الفتح، فالرفع على أن {لا} عاملة عمل:«ليس» ولغو: اسمها. أو مهملة و {لَغْوٌ} مبتدأ. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} أو بمحذوف خبر المبتدأ. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا):

صلة لتأكيد النفي. {تَأْثِيمٌ:} معطوف على {لَغْوٌ،} أو هو مبتدأ خبره محذوف، أو اسم {لا} وخبرها محذوف، لدلالة الأول عليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب صفة مثلها؛ لأن الأولى صفة {كَأْساً} وعلى البناء ف:{لا} عاملة عمل: «إنّ» ، و {لَغْوٌ} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب اسمها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها.

{وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): مثل سابقتها، وخبرها محذوف، والجملة معطوفة على سابقتها، ومحل الجملتين في محل نصب صفة {كَأْساً} مثل حالة الرفع، ولا يفوتني أن أذكر:

أن ابن مالك-رحمه الله تعالى-ذكر هذه المسألة في ألفيته بأوسع من هذا. خذ قوله: [الرجز] وركّب المفرد فاتحا كلا

حول، ولا قوة، والثّاني اجعلا

مرفوعا، أو منصوبا، أو مركّبا

وإن رفعت أوّلا لا تنصبا

قال ابن عقيل-رحمه الله تعالى-: وأشار-أي: ابن مالك-بقوله: «والثاني اجعلا» إلى أنه إذا أتى بعد «لا» والاسم الواقع بعدها بعاطف ونكرة مفردة، وتكررت لا، نحو (لا حول ولا قوة إلا بالله) يجوز فيه خمسة أوجه، وذلك لأن المعطوف عليه، إما أن يبنى مع «لا» على الفتح، أو ينصب، أو يرفع، فإن بني مع «لا» على الفتح؛ جاز في الثاني ثلاثة أوجه: الأول: البناء على الفتح؛ لتركبه مع «لا» الثانية، وتكون «لا» الثانية عاملة عمل «إنّ» نحو:(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). الثاني: النصب عطفا على محل اسم «لا» ، وتكون «لا» الثانية زائدة بين العاطف والمعطوف، نحو:(لا حول ولا قوة إلا بالله)، ومنه قول أنس بن العباس بن مرداس، وهو الشاهد رقم [304] من كتابنا:«فتح رب البرية» ، ورقم [413] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [السريع] لا نسب اليوم ولا خلة

اتسع الخرق على الرّاقع

الثالث: الرفع، وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون معطوفا على محل «لا» واسمها؛ لأنهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه، وحينئذ تكون «لا» زائدة، الثاني: أن تكون «لا» الثانية عملت عمل: «ليس» . الثالث: أن يكون مرفوعا بالابتداء، وليس ل:«لا» عمل فيه، وذلك نحو:(لا حول ولا قوة إلا بالله) ومنه قول ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، وهو الشاهد رقم [302] من كتابنا:«فتح رب البرية» والشاهد رقم [1018] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الكامل]

ص: 289

هذا-وجدّكم-الصّغار بعينه

لا أمّ لي-إن كان ذاك-ولا أب

وإن نصب المعطوف عليه؛ جاز في المعطوف الأوجه الثلاثة المذكورة، أعني: البناء، والنصب، والرفع، نحو (لا غلام رجل، ولا امرأة، ولا امرأة، ولا امرأة) وإن رفع المعطوف عليه؛ جاز في الثاني وجهان: الأول: البناء على الفتح، نحو لا رجل، ولا امرأة، ولا غلام رجل، ولا امرأة، ومنه قول أمية بن أبي الصلت وهو الشاهد رقم [303] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الوافر] فلا لغو ولا تأثيم فيها

ولا حين ولا فيها مليم

وفيها لحم ساحرة وبحر

وما فاهوا به أبدا مقيم

والثاني: الرفع، نحو لا رجل، ولا امرأة، ولا غلام رجل، ولا امرأة، ولا يجوز النصب للثاني؛ لأنه إنما جاز فيما تقدم للعطف على محل اسم «لا» ، و «لا» هنا ليست بناصبة، فيسقط النصب. ولهذا قال المصنف:(وإن رفعت أوّلا لا تنصبا). انتهى. بحروفه.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25)}

الشرح: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ:} على المتقين بالفواكه، والتحف، والطعام، والشراب. دليله قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [71]:{يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ،} وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [45]: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . {غِلْمانٌ لَهُمْ} أي: مماليك مخصوصون بهم. وقيل: هم أولادهم الذين سبقوهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم، قال تعالى في سورة (الواقعة):{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} . {كَأَنَّهُمْ} أي: في الحسن، والبياض، والجمال. {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ:} مصون في الصدف الذي لم تمسه الأيدي، ولم يقع عليه الغبار، فهو أشد ما يكون صفاء، وتلألأ، كما قال الشاعر:[البسيط] كأنّما خلقت في قشر لؤلؤة

وكلّ أكنافها وجه لمرصاد

وعن الحسن-رضي الله عنه-أنهم قالوا: يا رسول الله! إذا كان الخادم كاللؤلؤ؛ فكيف يكون المخدوم؟ فقال: «ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب» . فإن قيل:

الجنة التي وعد المتقون لا تعب فيها، ولا نصب، فلا حاجة إلى الخدم! فيجاب بأن هذا تمام النعمة، ونهاية النعيم، ودوام السرور، وانظر تشبيه هؤلاء الخدم باللؤلؤ المنشور في سورة (الدهر) رقم [19] وما قيل فيهم: من هم، وما أصلهم.

ص: 290

هذا؛ وقال الكسائي: كننت الشيء: سترته، وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي:

أسررته. وقال أبو زيد: كننته، وأكننته بمعنى في الكن، وفي النفس جميعا، تقول: كننت العلم، وأكننته فهو مكنون، ومكنّ، وكننت الجارية، وأكننتها، فهي مكنونة، ومكنّة. وما يحفظ به هذا الشيء المصون المكنون يسمى: كنانا، وجمعه: أكنة بمعنى أغطية، وفي كثير من الايات:

{وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ،} والكن أيضا: ما يحيط بالشيء، ويحفظه، وجمعه: أكنان، قال تعالى في سورة (النحل) فقط:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً} . {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} أي: يسأل بعضهم بعضا عن أحواله، وأعماله، وما توجب به نيل ما عند الله، ويتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا، وهو من تمام السرور، والأنس في الجنة. والمعنى: يشربون من خمر الجنة الموصوف بما ذكر، ويطوف عليهم الغلمان الموصوفون بما ذكر، فيتحادثون على الشراب كعادة الشرّاب. قال بعضهم:[الوافر] وما بقيت من اللّذّات إلاّ

أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم، وعليهم في الدنيا، ويحمدون الله على ما أنعم عليهم، وعلى زوال الخوف عنهم، ويقول بعضهم لبعض: بم نلت هذه المنزلة الرفيعة؟! وقد جيء بالفعل ماضيا على سنة الله تعالى في التعبير عن المستقبل بالماضي؛ لتحقق وقوعه.

هذا؛ وتساؤل المؤمنين في الجنة غير تساؤل الكافرين، والظالمين في النار، فإن تساءلهم توبيخ لبعضهم بعضا. انظر ما ذكرته في سورة (الصافات) رقم [27] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَيَطُوفُ:} الواو: حرف عطف. (يطوف): مضارع. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {غِلْمانٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {غِلْمانٌ} . {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لُؤْلُؤٌ:} خبر (كأن). {مَكْنُونٌ:} صفة {لُؤْلُؤٌ،} والجملة الاسمية:

{كَأَنَّهُمْ..} . إلخ صالحة للوصفية، والحالية من {غِلْمانٌ}. {وَأَقْبَلَ:} الواو: حرف عطف. (أقبل):

ماض. {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يَتَساءَلُونَ:} في محل نصب حال من: {بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ،} فهي حال متداخلة، والرابط: الضمير فقط.

{قالُوا إِنّا كُنّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}

الشرح: {قالُوا} أي: قال كل مسؤول منهم لسائله. {إِنّا كُنّا قَبْلُ} أي: في الدنيا. {فِي أَهْلِنا:} بين أهلنا. {مُشْفِقِينَ:} خائفين من عذاب الله، أو خائفين من نزع الإيمان، وفوت

ص: 291

الأمان، أو من رد الحسنات، والأخذ بالسيئات. {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا:} بالتوفيق للإيمان، والعمل الصالح؛ حتى نلنا هذا النعيم. {وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ:} وحفظنا من عذاب السموم. قال الحسن: السموم: اسم من أسماء النار، وطبقة من طبقات جهنم. والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، فسميت بها نار جهنم؛ لأنها بهذه الصفة، وقد تستعمل السموم في لفح البرد، وهي في لفح الحر، والشمس أكثر. قال الراجز:[الرجز] اليوم يوم بارد سمومه

من جزع اليوم فلا ألومه

{إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ:} في الدنيا. {نَدْعُوهُ:} نسأله، ونضرع إليه أن يوفقنا إلى الهداية؛ التي هي طريق الجنة، وأن يجنبنا المعاصي؛ التي هي سبب جهنم، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ:} المحسن الجواد اللطيف الكريم. {الرَّحِيمُ:} الواسع الرحمة، الذي إذا عبد؛ أثاب، وإذا سئل؛ أجاب، وخذ ما يلي:

عن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا؛ حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكئ هذا، ويتكئ هذا، فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان! أتدري أيّ يوم غفر لنا؟ يوم كنا في موضع كذا، وكذا، فدعونا الله عز وجل فغفر لنا» . أخرجه الحافظ البزار. وعن مسروق عن عائشة: أنها قرأت هذه الاية: {فَمَنَّ اللهُ..} . إلخ فقالت: اللهم منّ علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم! قيل للأعمش: في الصلاة؟ قال: نعم. أخرجه ابن أبي حاتم.

الإعراب: {قالُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} (إنّ):

حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {قَبْلُ:} ظرف زمان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {فِي أَهْلِنا:} متعلقان بما بعدهما.

(ونا): في محل جر بالإضافة. {مُشْفِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنّا كُنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَمَنَّ:} (الفاء):

حرف عطف. (منّ الله): ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَوَقانا:} الواو: حرف عطف. (وقانا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله، (ونا):

مفعول به أول. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {السَّمُومِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنّا كُنّا:} مثل سابقه. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما بعدهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. {نَدْعُوهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة

ص: 292

الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وفيها معنى البدلية من سابقتها. {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الاية رقم [30] من سورة (الذاريات)، وهي تعليلية لا محل لها، ويقرأ بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل، والمعنى لا يتغير، ولكن يحتاج إلى تأويل مصدر، وجره بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نَدْعُوهُ} .

{فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29)}

الشرح: {فَذَكِّرْ} أي: فذكر يا محمد قومك بالقرآن، واثبت على التذكير، ولا تكترث بقولهم: كاهن، أو مجنون، فإنه قول باطل متناقض؛ لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة، ودقة نظر، وقد يخلطه بالكذب، وهو يوهم: أنه يعلم الغيب، ويخبر بما في غد من غير وحي.

والمجنون مغطّى على عقله، وما أنت بحمد الله، وإنعامه عليك بصدق النبوة، ورجاحة العقل أحد هذين الوصفين. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن، فأكذبهم الله، وردّ عليهم، فهو كقوله تعالى في سورة (الذاريات):{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} ومثل هذه الاية رقم [2] من سورة (ن).

الإعراب: {فَذَكِّرْ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: الفصيحة، ولا وجه له. (ذكّر): فعل أمر، فاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَما:} الفاء: حرف تعليل. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِنِعْمَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالنفي الذي أفادته (ما)، و (نعمة) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِكاهِنٍ:} (الباء): حرف جر صلة. (كاهن): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي. {مَجْنُونٍ:} معطوف على لفظ كاهن، والجملة الاسمية:{فَما أَنْتَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

هذا؛ وفي السمين: قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} فيه أوجه: أحدها: أنه مقسم به متوسط بين اسم (ما) وخبرها ويكون الجواب حينئذ محذوفا لدلالة هذا المذكور عليه، والتقدير: ونعمة ربك ما أنت بكاهن، ولا مجنون. الثاني: أن الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها {بِكاهِنٍ} أو {مَجْنُونٍ} والتقدير: ما أنت كاهنا، ولا مجنونا حال كونك ملتبسا بنعمة ربك. قاله أبو البقاء. وعلى هذا فهي حال لازمة؛ لأنه عليه السلام، لم يفارق هذه الحال. الثالث: أن

ص: 293

الباء سببية، وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية، وهذا هو مقصود الاية الكريمة، والمعنى:

انتفى عنك الكهانة، والجنون بسبب نعمة ربك عليك، كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد الله وغناه.

انتهى. جمل نقلا عن السمين. وأعتمد ما جريت عليه في الأول من الإعراب، وهو الموافق لما في المغني لابن هشام.

{أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}

الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ} أي: بل يقول الكفار: محمد شاعر. {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ:}

قال قتادة: قال قوم من الكفار: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه، كما كفى شاعر بني فلان.

قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي: يهلك عن قريب، كما هلك من قبله من الشعراء، وإن أباه مات شابا، فربما يموت كما مات أبوه. هذا؛ والمنون: الموت في قول ابن عباس-رضي الله عنهما، قال أبو الغول الطهوي:[الوافر] هم منعوا حمى الوقبى بضرب

يؤلّف بين أشتات المنون

أي: المنايا، يقول الشاعر: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم؛ لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد، فأتتهم المنايا مجتمعة، وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس-رضي الله عنهما:(ريب) في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور:

{رَيْبَ الْمَنُونِ} يعني: حوادث الأمور. قال الشاعر: [الطويل] تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما، أو يموت حليلها

وقال مجاهد: {رَيْبَ الْمَنُونِ} حوادث الدهر، و {الْمَنُونِ} هو الدهر، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الكامل] أمن المنون وريبه تتوجّع

والدّهر ليس بمعتب من يجزع

وقال الأعشى في معلقته رقم [20]: [البسيط] أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به

ريب المنون ودهر متبل خبل

هذا؛ وإطلاق «الريب» على الحوادث استعارة تصريحية، شبهت بالريب؛ أي: الشك؛ لأنها لا تدوم. ولا تبقى على حال، كما أنه كذلك. قال الأصمعي: المنون: الليل، والنهار، وسمّيا بذلك؛ لأنهما ينقصان الأعمار، ويقطعان الاجال. قال الفراء: والمنون مؤنثة، وتكون واحدا؛ وجمعا. وقال الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. وقال الأخفش: هو جماعة لا

ص: 294

واحد له، والمنون يذكر، ويؤنث، فمن ذكره؛ جعله الدهر، أو الموت، ومن أنثه؛ فعلى الحمل على المعنى، كأنه أراد المنية. {قُلْ تَرَبَّصُوا} أي: انتظروا، فهو تهديد. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ:} من المنتظرين بكم العذاب، فعذبوا يوم بدر بالسيف، وفي آخر سورة (طه) قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} .

هذا؛ وذكرت {أَمْ} هنا خمس عشرة مرة، وكلها إلزامات، ليس للمخاطبين بها عنها جواب، لكن قال الثعلبي نقلا عن الخليل: إن كل ما في سورة (الطور) من {أَمْ} فهو استفهام، وليس بعطف، وإنما استفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحا عليهم، وتوبيخا لهم، كقول الشخص لغيره: أجاهل أنت مع علمه بجهله. انتهى. جمل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، بمعنى:«بل» فهي منقطعة. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها؛ لأن {أَمْ} منقطعة كما رأيت. {شاعِرٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو شاعر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {نَتَرَبَّصُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» ، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {شاعِرٌ}. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَيْبَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْمَنُونِ} مضاف إليه. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {تَرَبَّصُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَإِنِّي:} (الفاء): حرف تعليل. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {مَعَكُمْ:}

ظرف مكان متعلق بما بعده، وبعضهم لا يجيزه، بل يعلقهما بمحذوف يدل عليه ما بعده؛ لأنه لا يعمل ما بعد (أل) الموصولة فيما قبلهما، ولكن إن اعتبرتها للتعريف فهو جائز لا غبار عليه.

وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له. والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ:}

متعلقان بمحذوف خبر (إن)، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، وهي من جملة مقول القول.

{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)}

الشرح: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ} أي: عقولهم. {بِهذا} أي: بالكذب والافتراء عليك. وفي البيضاوي: أي: بهذا التناقض في القول، فإن الكاهن يكون ذا فطنة، ودقة نظر، والمجنون مغطى عقله، والشاعر يكون ذا كلام موزون مقفى متسق، ولا يتأتى ذلك من المجنون، وأمر الأحلام بها مجاز عن أدائها إليه، فهو مجاز عقلي، حيث أسند الأمر إلى الأحلام، وقد كان العرب يتفاخرون بعقولهم، فأزرى الله بها، وحقرها؛ حيث لم تثمر لهم معرفة الحق، والباطل.

{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} أي: أم طغوا بغير عقول. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي: اختلقه، وافتراه؛ أي:

ص: 295

القرآن. ولم يتقدم له ذكر لفهمه من المقام، والتقول: تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: جحدا، واستكبارا.

هذا؛ وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا؛ وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله. أي: لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: {أَحْلامُهُمْ:} أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر، ولو كان له عقل؛ لامن. وإنما يعطى الكافر الذهن، فصار حجة عليه، والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم، ويقدر المقادير لحدود الأمر، والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال:«مه إنّ الكافر لا عقل له، أما سمعت قول الله تعالى-في سورة (الملك) -: {وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» }.

وفي حديث ابن عمر-رضي الله عنهما، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«مه، فإن العاقل من يعمل بطاعة الله» . ذكره الترمذي الحكيم. انتهى. قرطبي.

هذا؛ و «أمر» يتعدى لمفعولين تارة بنفسه، كما في قولك: أمرتك الخير، وتارة يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، كما في قولك: أمرتك بالخير، ومثله استغفر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدق، وزوّج، وكان، ووزن، فمثال:«استغفر» وقد نصب مفعولين صريحين قول الشاعر: [البسيط] أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

ومثال «أمر» وقد نصب مفعولين صريحين قول عمرو بن معدي كرب، وينسب لغيره، وهو الشاهد رقم [485] من كتابنا:«فتح رب البرية» ، والشاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط] أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا؛ والأمر من أمر: مر، وأصله: أؤمر، لكن لم يستعمل في الأصل، وحذفت الهمزتان تخفيفا لاجتماع الضمات، وهذا الحذف واقع في الأمر المأخوذ من: أخذ، وأكل، فيقال: خذ، وكل، وقد قالوا: أؤمر، واؤخذ، فاستعملا على الأصل، ومنه:(اؤمر) في الاية رقم [145] و [199] من سورة (الأعراف)، ورقم [132] من سورة (طه)، والاية رقم [17] من سورة (لقمان).

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {تَأْمُرُهُمْ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {أَحْلامُهُمْ:}

فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بِهذا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَمْ:} حرف عطف معناه الإضراب. {هُمْ قَوْمٌ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{طاغُونَ:} صفة {قَوْمٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة

إلخ. {أَمْ:} حرف

ص: 296

عطف. {يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {تَقَوَّلَهُ:} ماض، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتقدم له ذكر لعلمه من المقام، وسترى مزيدا من ذلك في سورة (الواقعة) رقم [83] إن شاء الله تعالى. والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{بَلْ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)}

الشرح: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي: بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم. {إِنْ كانُوا صادِقِينَ:}

في أن محمدا صلى الله عليه وسلم اختلقه، وافتراه، واصطنعه من عند نفسه، وهم فرسان البلاغة، ورجال الفصاحة. قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عامة، وقريشا خاصة بالقرآن أربعة:

أولها: أنه تحداهم بكل القرآن، كما في قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ..} . إلخ الاية رقم [88] من سورة (الإسراء).

ثانيها: أنه تحداهم بعشر سور، قال تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ..} . إلخ الاية رقم [13] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ..} . إلخ الاية رقم [23] من سورة (البقرة)، وقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ..} . إلخ الاية رقم [38] من سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

رابعها: أنه تحداهم بحديث مثله. قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ..} . إلخ الاية التي نحن بصدد شرحها، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات: أن القرآن معجز. انتهى.

هذا؛ واعتبر محمد علي الصابوني الأول من التحدي العام لجميع الخلائق، والثلاثة بعده من التحدي الخاص؛ الذي جاء للعرب خاصة، وعلى الأخص منهم كفار قريش، كما تحداهم بالقرآن كله في سورة (القصص) في قوله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} رقم [49].

الإعراب: {فَلْيَأْتُوا:} (الفاء): هي الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: فإن قالوا: اختلقه؛ فليأتوا

إلخ. (اللام): لام الأمر. (يأتوا): مضارع مجزوم بلام الأمر،

ص: 297

وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب للشرط الذي رأيت تقديره. {بِحَدِيثٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{مِثْلِهِ:} صفة (حديث)، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانُوا:}

ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)}

الشرح: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: وجدوا في هذه الدنيا من غير موجد؛ فلذلك لا يعبدونه، ولا يقرون بواحدانيته! أو خلقوا من غير تكليف بعبادة، ولا مجازاة على عمل ما! وقيل: المعنى: أخلقوا من غير أب، ولا أم، فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة؟! لا، أليس قد خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. {أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ} أي: أيدعون:

أنهم خلقوا أنفسهم، فهم لا يأتمرون لأمر الله، وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا، واعترفوا بأن لهم خالقا، ورازقا؛ فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة، والتوحيد دون الأصنام، وما الذي يمنعهم من الإقرار بأن الله قادر على بعثهم، كما أوجدهم من العدم.

{أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} يعني: ليس الأمر كذلك قطعا، فإنهم لم يخلقوا شيئا من ذلك. {بَلْ لا يُوقِنُونَ} أي: بالحق، وهو: توحيد الله، وقدرته على البعث، والحساب، والجزاء، وأن الله هو خالقهم، وخالق السموات، والأرض فليؤمنوا به، وليوقنوا: أنه ربهم، وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم.

هذا؛ وأصل يوقنون: (يؤيقنون)؛ لأنه من: (أيقن) الرباعي، فحذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل (أأيقنون) الذي حذفت همزته للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار (ييقنون) ثم قلبت الياء الثانية واوا لسكونها، وانضمام ما قبلها. وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي، مزيدة الهمزة في أوله، مثل: أجاب يجيب، وأكرم، يكرم

إلخ. وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي: فإنّه أهل لأن يؤكرما.

ولا تنس: أن هذه الهمزة المزيدة تحذف من اسمي الفاعل، والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس مؤكرم، ومؤكرم. وقس على ذلك. هذا؛ و «غير» اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، وهو ملازم

ص: 298

للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها؛ إن فهم المعنى، أو تقدمت عليها كلمة ليس، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم، أو على الفتح خلاف.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، وهي بمعنى همزة الاستفهام. {خُلِقُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {مِنْ غَيْرِ:} متعلقان بما قبلهما، وغير مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {أَمْ:} حرف عطف. {هُمُ الْخالِقُونَ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {خُلِقُوا:}

ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {لا:} نافية. {يُوقِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)}

الشرح: {أَمْ عِنْدَهُمْ:} عند كفار قريش، ومن على شاكلتهم من الملاحدة، والفجرة.

{خَزائِنُ رَبِّكَ} يعني: النبوة، ومفاتيح الرسالة، فيضعونها حيث شاؤوا، ويمنحونها لمن أرادوا.

وقيل: المراد خزائن الرزق، والمطر. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ:} المسلطون الجبارون. وقيل:

الأرباب القاهرون، فلا يكونون تحت أمر، ولا نهي، ويفعلون ما شاؤوا، ويشاؤون، والمسيطر: القاهر الغالب، من: سيطر عليه: إذا راقبه، وحفظه، أو قهره، ولم يأت على مفيعل إلا خمسة ألفاظ، أربعة صفة اسم فاعل، وهي: مهيمن، ومبيقر، ومبيسط، ومبيطر، وواحد اسم جبل، وهو: المجيمر، قال امرؤ القيس في معلقته رقم [79]:[الطويل] كأنّ ذرا رأس المجيمر غدوة

من السّيل والأغثاء فلكة مغزل

هذا؛ ويقرأ {الْمُصَيْطِرُونَ} بالصاد، وبالسين. هذا؛ وفي الصحاح المسيطر، والمصيطر:

المسلط على الشيء ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأقواله. وفي سورة (الغاشية) قوله تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} ولم يرد المسيطرون في غير هذه السورة، ولم يرد مصيطر في غير سورة (الغاشية). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {عِنْدَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، {خَزائِنُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {أَمْ:} حرف عطف. {هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ:} مبتدأ، وخبر الجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

ص: 299

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)}

الشرح: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} أي: أيدعون: أن لهم مرتقى إلى السماء، ومصعدا. {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ:} كلام الملائكة، وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم، وظفرهم في العاقبة دونه، كما يزعمون. أو المعنى: يعلمون أن ما هم عليه حق فهم مستمسكون به. {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي: إن ادّعوا ذلك؛ فليأت المستمع منهم بحجة ظاهرة على ذلك. هذا؛ وقال الزجاج، وغيره:{فِيهِ} بمعنى: عليه. كقوله تعالى في سورة (طه) رقم [71] حكاية عن قول فرعون للسحرة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} . وقال سويد ابن أبي كاهل اليشكري، وهو الشاهد رقم [305] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] هم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

هذا؛ والسلم: الدرج يصعد عليه إلى الأعلى، وهو مشتق من السلامة، قالوا: لأنه يسلم به إلى المكان الذي يريد الارتقاء إليه، وربما سمي الغرز بذلك مجازا، أو استعارة. قال أبو الرّبيس الثعلبي يصف ناقته:[الطويل] مطارة قلب إن ثنى الرجل ربّها

بسلّم غرز في مناخ يعاجله

وقال زهير بن أبي سلمى المزني في معلقته رقم [50]: [الطويل] ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السّماء بسلّم

وقال آخر: [الطويل] تجنّيت لي ذنبا وما إن جنيته

لتتّخذي عذرا إلى الهجر سلّما

وجمعه: السلالم، قال ابن مقبل، وقد أشبع كسرة اللام:[البسيط] لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا

يبنى له في السموات السّلاليم

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سُلَّمٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {يَسْتَمِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشرح. والجملة الفعلية في محل رفع صفة {سُلَّمٌ}. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وقال الزمخشري: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: صاعدين فيه. {فَلْيَأْتِ:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان لهم سلم يستمعون فيه، فليأت. (اللام): لام الأمر.

(يأت): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {مُسْتَمِعُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم

ص: 300

الفاعل لفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، كما رأيت، والجملة الشرطية المقدرة معطوفة بواو محذوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {بِسُلْطانٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة (سلطان).

{أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)}

الشرح: {أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ:} فيه توبيخ، وتسفيه لأحلامهم. والمعنى: أتنسبون إلى الله البنات، مع أنفتكم منهن، فهو كقوله تعالى في سورة (النحل) رقم [62]:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ} وانظر سورة (النجم) رقم [21]. ومن كان هذا عقله وشأنه فلا يستبعد منه إنكار الإعادة بعد الموت. هذا؛ وفي سورة (الصافات) رقم [149] قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} . قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى؛ التي قسموها حيث جعلوا لله الإناث، ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهن، واستنكافهم من ذكرهن.

ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر: أحدها: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام. والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حيث جعلوا أوضع الجنسين له، وأرفعها لهم، كما قال تعالى في سورة (الزخرف) [17 - 18]:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه، وأقربهم إليه؛ حيث أنثوهم، ولو قيل لأدناهم، وأقلهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء؛ للبس لقائله جلد النمر، ولا نقلبت حماليقه، وذلك في أهاجيهم بيّن مكشوف، فكرر الله سبحانه الأنواع في كتابه مرات، ودل على فظاعتها في آيات كثيرة.

انتهى. هذا؛ والذين زعموا: أن الملائكة بنات الله هم قبيلة جهينة، وخزاعة، وبنو مليح، وبنو سلمة، وبنو عبد الدار.

{أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً} أي: جعلا، وجائزة على ما جئتهم به من النبوة، ودعوتهم إليه من الدين، أو على التبليغ والإنذار. وهو استفهام إنكاري على معنى نفي الحصول من أصله. {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} يعني: أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم، فمنعهم من الإيمان، والمغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه. والمعنى: ألزمهم مغرم ثقيل فدحهم، فزهدهم ذلك في اتباعك. {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أي: علم الغيب، وهو ما غاب عنهم حتى علموا: أن ما يخبرهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم

ص: 301

من أمر القيامة، والبعث بعد الموت باطل. وقيل: هو جواب لقولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} والمعنى: أعلموا: أن محمدا صلى الله عليه وسلم يموت قبلهم. {فَهُمْ يَكْتُبُونَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه، ويخبرون الناس به. {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي: يريد أهل مكة بك يا محمد مكرا، وحيلة، وغدرا في دار الندوة ليهلكوك، وهو ما عزموا عليه في ليلة الهجرة الشريفة من الأمور الثلاثة في قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ..} . إلخ رقم [30] من سورة (الأنفال). {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي: المجزيون بكيدهم، والمعنى: أن ضرر كيدهم يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم، كما قال تعالى:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} رقم [43] من سورة (فاطر)، وقد انتقم الله منهم؛ حيث قتلوا في غزوة بدر، فكانوا عبرة لمن يعتبر، وما يعتبر إلا أولو الألباب، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{الْبَناتُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَلَكُمُ:}

الواو: حرف عطف. (لكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْبَنُونَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَمْ:} حرف عطف. {تَسْئَلُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول.

{أَجْراً:} مفعول به ثان والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَهُمْ:} (الفاء): حرف عطف.

(هم): مبتدأ. {مِنْ مَغْرَمٍ:} متعلقان بما بعدهما. {مُثْقَلُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {أَمْ:} حرف عطف. {عِنْدَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْغَيْبُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {يَكْتُبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{أَمْ:} حرف عطف. {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {كَيْداً:}

مفعول به، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {فَالَّذِينَ:} (الفاء): حرف استئناف.

(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{هُمُ الْمَكِيدُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{فَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها، والأول أقوى.

ص: 302

{أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ (43)}

الشرح: {أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ:} يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع، يرفع، ويضع، يعز، ويذل

إلخ. {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ:} نزه الله نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل-رحمه الله تعالى-: كل ما في سورة (الطور) من ذكر {أَمْ} فكلمة استفهام، وليس بعطف. وأقول:

فهذا في المعنى، وهو مفيد للإنكار، والتوبيخ، والتقريع، ولكن في الإعراب لا بد من اعتبارها عاطفة صناعة.

هذا؛ و {سُبْحانَ} اسم مصدر. وقيل: هو مصدر، مثل: غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل «سبّح» بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلاّ مضافا منصوبا بإضمار فعله، مثل:

معاذ الله. وقد أجري علما على التسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى: [السريع] قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهد بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة، فقد قال الله تعالى، حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:

{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ،} وقد نزه الله ذاته في كثير من الايات بنفسه تنزيها يليق بجلاله وعظمته. وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجئ من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين: الألف والنون، ومعناه: التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى، لا يصلح لغيره. وقد روي عن طلحة الخير بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين بالجنة-رضي الله عنهم أجمعين-أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كلّ سوء» . والعامل فيه على مذهب سيبويه، الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر له من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع سبحان الله مكان قولك: تنزيها لله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{إِلهٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {غَيْرُ:} صفة {إِلهٌ} وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف كما رأيت في الشرح، و {سُبْحانَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والفعل المقدر، والمصدر جملة فعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {سُبْحانَ،} و (ما) تحتمل

ص: 303

الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو عن شيء يشركونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: عن شركهم.

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44)}

الشرح: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً:} هذا جواب لما حكى الله من قولهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ} الاية رقم [187] من سورة (الشعراء)، وأيضا قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً} رقم [92] من سورة (الإسراء). هذا؛ و {كِسْفاً} يقرأ هنا وفي غير هذه الاية بفتح السين، وسكونها. قال الأخفش: من قرأ بالسكون جعله واحدا، ومن قرأه بالفتح جعله جمعا، وقال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون كسفة، وجاز أن يكون مصدرا، من: كسفت الشيء: إذا غطيته، فكأنهم قالوا حين طلبوا ذلك: أسقطها علينا طبقا واحدا. وفي القاموس المحيط: الكسفة بالكسر: القطعة من الشيء، والجمع كسف وكسف وجمع الجمع:

أكساف، وكسوف. وفي القرطبي: و «الكسف» جمع: كسفة، وهي القطعة من الشيء.

{يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ} أي: بعضه فوق بعض سقط علينا، وليس سماء. وهذا فعل المعاند، أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. هذا؛ والسحاب: الغيوم التي تراها العيون في السماء، وهو واحد في اللفظ، ولكن معناه الجمع. وقيل: السحاب: اسم جنس، واحده: سحابة، فلذلك وصف بالجمع، وهو {الثِّقالَ} في آية (الرعد) رقم [12]، وهي قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ} وأيضا في سورة (الأعراف) رقم [56]: {حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً} . هذا؛ وتجمع السحابة على: سحاب، وسحائب، وسحب، وهو غربال الماء، قال تعالى في سورة (النور) رقم [43]:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} قاله علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه. هذا؛ وقيل: السحاب: الغيم فيه ماء، أو لم يكن فيه ماء، ولهذا قيل: سحاب جهام، وهو الخالي من الماء. وأصل السحب: الجر، وسمي السحاب سحابا، إما لجر الريح له، أو لجره الماء، أو لانجراره في سيره. ووصفه الله ب:{الثِّقالَ} في آية (الرعد) وآية (الأعراف) لثقله بالماء؛ الذي يحمله إلى حيث شاء الله الخلاق العظيم.

الإعراب: {وَإِنْ:} (الواو): حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَرَوْا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كِسْفاً:} مفعول به، واكتفى الفعل به؛ لأنه بصري. {مِنَ السَّماءِ:}

ص: 304

جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {كِسْفاً} . {ساقِطاً:} صفة ثانية ل: {كِسْفاً} أو حال منه، بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{يَرَوْا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَقُولُوا:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب شرط جازم، ولم تقترن بالفاء، أو ب:«إذا» الفجائية. {سَحابٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هذا سحاب. {مَرْكُومٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وإن ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{فَذَرْهُمْ حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)}

الشرح: {فَذَرْهُمْ:} اتركهم، وأعرض عنهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كان في مكة قبل الهجرة، وقبل الأمر بالقتال. {حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي: يموتون، ويهلكون، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصاعقة، وهي المذكورة في الاية رقم [68] من سورة (الزمر)، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ..} . إلخ. وقيل:

المراد: يوم بدر. وهو ضعيف.

هذا؛ و (ذر) بمعنى: اترك، وأعرض، والمستعمل من هذه المادة المضارع، والأمر بكثرة في القرآن الكريم، وفي الكلام العربي، ومثله:(دع) ومضارعه: «يدع» فكلا المادتين ناقص التصرف، وهما بمعنى الترك، وقد سمع الماضي منهما سماعا نادرا، فقالوا: وذر، وودع، بوزن: وضع، إلا أن ذلك شاذ في الاستعمال؛ لأن العرب كلهم إلا قليلا منهم قد أميت هذا الماضي من لغاتهم، وليس المعنى أنهم لم يتكلموا به ألبتة، بل تكلموا به دهرا طويلا، ثم أماتوه بإهمالهم استعماله، فلما جمع العلماء ما وصل إليهم من لغات العرب؛ وجدوه مماتا إلا ما سمع منه سماعا نادرا.

هذا؛ وقال قطة العدوي-رحمه الله تعالى-: قال بعض المتقدمين: زعم النحاة: أن العرب أماتت ماضي (ودع) ومصدره، واسم فاعله، واسم مفعوله، مع أنه قد قرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام-رضي الله عنهما-قوله تعالى في سورة (الضحى):{ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} بتخفيف الدال، بمعنى ما تركك، وكذا قرأ مقاتل، وابن أبي عبلة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«شرّ الناس من ودعه الناس اتقاء شرّه» وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» ورواه الجمل: (ذروا الحبشة ما وذرتكم) وقال أبو العتاهية الصوفي: [المنسرح] أثروا فلم يدخلوا قبورهم

شيئا من الثروة التي جمعوا

وكان ما قدّموا لأنفسهم

أعظم نفعا من الذي ودعوا

ص: 305

وقال آخر: [الطويل] وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراء المثقفة السّمر

وقال أنس بن رؤيم: [الرمل] ليت شعري عن خليلي ما الّذي

غاله في الحب حتّى ودعه؟

فها هو الماضي قد ورد عن أفصح العرب قراءة، وحديثا، وكذا في شعر العرب، وورد المصدر أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لينتهينّ قوم عن ودعهم الجمعات» وفي رواية: (الجماعات)، «أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» . أخرجه مسلم وغيره، وورد اسم المفعول، واسم الفاعل من:«ودع» في قول خفاف بن ندبة-رضي الله عنه: [الطويل] إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جرى وهو مودوع ووادع مصدق

فكيف يقال: إن العرب أماتته، فالصواب القول بقلة الاستعمال لا بالإماتة. انتهى. بتصرف كبير. وقريب منه ما ذكره محب الدين الخطيب شارح شواهد الكشاف. هذا؛ وما قيل في:

«وذر» ومضارعه: «يذر» ، وما قيل في:«ودع» ومضارعه: «يدع» ، يقال في:«وعم» ، ومضارعه «يعم» ، وأمره:«عم» وانظر الشاهد رقم [308] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {فَذَرْهُمْ:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (ذرهم): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط يقدر ب:«إذا» التقدير: إذا بلغوا في الكفر والعناد إلى هذا الحد، وتبين: أنهم لا يرجعون عن الكفر؛ فدعهم حتى يموتوا عليه. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها: «أن» مضمرة.

{يُلْقُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل {يُلْقُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {يَوْمَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {يَوْمَهُمُ} .

{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يُصْعَقُونَ:} مضارع يقرأ بالبناء للفاعل، وللمفعول، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)}

الشرح: {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ:} لا ينفعهم. {كَيْدُهُمْ} أي: ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا.

{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ:} يمنعون من عذاب الله تعالى.

ص: 306

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من {يَوْمَهُمُ} بدل كل من كل، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني يوم. {لا:} نافية. {يُغْنِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كَيْدُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة:{لا يُغْنِي..} . إلخ في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها.

{وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية. {عَنْهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْصَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47)}

الشرح: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: كفروا، والكفر أقسى أنواع الظلم، وأقبحه، وأشنعه.

{عَذاباً دُونَ ذلِكَ} أي: قبل موتهم. قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: مصائب الدنيا من الأوجاع، والأسقام، والبلايا، وذهاب الأموال، والأولاد. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: هو الجوع، والجهد سبع سنين. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو القتل يوم بدر. وعنه أيضا: عذاب القبر. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} أن العذاب نازل بهم. وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لا يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو لأنه يقوم مقام الكل.

هذا؛ و {لا يَعْلَمُونَ} هنا من المعرفة لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر. وأيضا: فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النسب بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني، والنسب. وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا؛ فالمعنى أنك عرفت ذاته، ولم ترد: أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا لم يتجاوز مفعولا واحدا؛ لأن العلم، والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما؛ لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.

الإعراب: {وَإِنَّ:} (الواو): حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها. وجملة: {ظَلَمُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {عَذاباً:} اسم (إنّ) مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {دُونَ:} ظرف مكان

ص: 307

متعلق بمحذوف صفة {عَذاباً،} و {دُونَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {وَلكِنَّ:} (الواو): حرف عطف.

(لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسم (لكنّ) والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَاِصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}

الشرح: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ:} لقضاء ربك فيما حمّلك من الرسالة. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك مع إمهالهم حتى يقع بهم ما يستحقون من العقاب الشديد، والعذاب الأليم.

{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا} أي: بمرأى منا، نرى، ونسمع ما تقول، وتفعل. وقيل: معناه: إنك بحيث نراك، ونحفظك، ونحوطك، ونحرسك، ونرعاك، فلا يصلون إليك بمكروه. وهذه الاية من المتشابهات، وفي ذلك مذهبان: مذهب السلف: التفويض، يقولون: لله عين تليق به، لا نعلمها. ومذهب الخلف: التأويل، يؤولونها بما ذكرته، وانظر الاية رقم [47] من سورة (الذاريات)، والمحال عليهما بسورة (الفتح) وسورة (ص)، والله ولي التوفيق.

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ:} اختلف في تأويله، فقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه وغيره: يسبح الله حين يقوم من مجلسه، فيقول: سبحان الله، وبحمده، أو سبحانك اللهم، وبحمدك، فإن كان المجلس خيرا؛ ازددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك؛ كان كفارة له. ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس مجلسا، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» .

وقال أبو الجوزاء، وحسان بن عطية: المعنى: حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجّد قال: «اللهمّ لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض، ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت ربّ السموات والأرض، ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، ولقاؤك الحقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والساعة حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد حقّ. اللهمّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخّرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك» . متفق عليه.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 308

الإعراب: {وَاصْبِرْ:} (الواو): حرف استئناف. (اصبر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» . {لِحُكْمِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (حكم) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَإِنَّكَ:} (الفاء): حرف تعليل. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، {بِأَعْيُنِنا:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها، وجملة:

{وَاصْبِرْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَسَبِّحْ:} (الواو): حرف عطف. (سبح): فعل أمر، وفاعله: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {بِحَمْدِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر التقدير: ملتبسا بحمد ربك. و (حمد) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة

إلخ. {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {تَقُومُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حِينَ} إليها.

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)}

الشرح: لا أرى حاجة إلى المزيد على ما ذكرته في آخر سورة (ق) غير أني أضيف هنا ما يلي: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدّ معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا ركعتي الفجر، ولو طردتكم الخيل» . رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} تعدل ربع القرآن». وكان يقرؤهما في ركعتي الفجر، وقال:«هاتان الركعتان فيهما رغب الدّهر» . رواه الطبراني في الكبير، وأبو يعلى بإسناد حسن.

هذا؛ و (إدبار النجوم) أي: جنوحها للغيبوبة. هذا؛ ويقرأ {وَإِدْبارَ} بكسر الهمزة على أنه مصدر، وهي قراءة السبعة، وقرأ سالم بن أبي الجعد، ومحمد بن السميقع بفتح الهمزة على أنه جمع دبر، ودبر الأمر، ودبره: آخره وانظر شرح التسبيح، وما قيل في الاية رقم [9] من سورة (الفتح) وما ذكرته في آخر سورة (ق) جيد جدا جدا. وأما في الترغيب في التسبيح؛ فخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السّلام، وأخبرهم: أنّ الجنة طيبة

ص: 309

التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» رواه الترمذي، والطبراني، وزاد:«ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» .

الإعراب: {وَمِنَ:} (الواو): حرف عطف. (من الليل): متعلقان بما بعدهما. {فَسَبِّحْهُ:}

(الفاء): صلة لتحسين اللفظ إلا إذا قدرت فعلا محذوفا قبل: (من الليل) فتكون حرف عطف، والفعلان: المحذوف والمذكور معطوفان على (سبح) السابق. (سبحه): أمر، وفاعله: أنت، والهاء مفعول به، {وَإِدْبارَ:} معطوف على محل (من الليل) فهو منصوب بنزع الخافض، و (إدبار) مضاف، و {النُّجُومِ} مضاف إليه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.

انتهت سورة (الطور) بحمد الله وتوفيقه، شرحا وإعرابا.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 310