المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة محمد صلى الله عليه وسلم - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌سورة محمد صلى الله عليه وسلم

‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (محمد صلى الله عليه وسلم وتسمى سورة (القتال) وهي مدنية في قول ابن عباس-رضي الله عنهما إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج صلى الله عليه وسلم من مكة، وجعل ينظر إلى البيت، وهو يبكي حزنا على فراقه. والاية نصها:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ..} . إلخ رقم [13]. وانظر ما اعتمدته في شرح الاية هناك. وهي ثمان وثلاثون آية.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)}

الشرح: {الَّذِينَ كَفَرُوا:} بالله ورسوله، وباليوم الاخر، وما فيه. {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي:

فلم يكتفوا بكفرهم، بل صدوا الناس، ومنعوهم من الدخول في دين الإسلام. {أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ:}

أبطلها، وأحبطها، وحقيقته: جعلها ضائعة ليس لها من يتقبلها، ويثيب عليها. وأراد بالأعمال:

ما كانوا يفعلون من أعمال البر من إطعام الطعام، وصلة الأرحام، وفكّ العاني (وهو الأسير) وإجارة المستجير، وقرى الضيف، ونحو ذلك.

قال بعضهم: أول هذه السورة متعلق بآخر سورة الأحقاف المتقدمة، كأنّ قائلا قال: كيف يهلك القوم الفاسقون؛ ولهم أعمالهم الصالحة كإطعام الطعام، ونحوه من الأعمال، والله لا يضيع لعامل عمله، ولو كان مثقال ذرة من خير؟ فأخبر الله بأنّ الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم، يعني: أبطلها؛ لأنها لم تكن لله ولا بأمره، إنما فعلوها من عند أنفسهم ليقال عنهم ذلك، فلهذا السبب أبطلها الله تعالى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [23]:{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} . وانظر سورة (النور) رقم [39]:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ..} . إلخ.

هذا؛ وقد يقال: إن الله لا يظلم الناس شيئا، فكيف يضيع أعمالهم الصالحة النافعة؟ والجواب: أنّ الله يجزيهم بها في الدنيا قبل أن يخرجوا منها، بأن يوسع في أرزاقهم، ويرزقهم الصحة، والعافية، ويقر أعينهم فيما حولهم، ويدفع عنهم المكاره. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [55] من سورة (التوبة)، والاية رقم [15] من سورة (هود)، والاية رقم [20] من سورة (الشورى)، وانظر شرح هذه الايات في محالها تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

ص: 64

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{أَضَلَّ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} تقديره: «هو» . {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ، لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. هذا؛ وقد أغرب أبو البقاء-رحمه الله تعالى-حيث قال: ويجوز أن ينتصب أي: {الَّذِينَ} بفعل دلّ عليه المذكور؛ أي: أضل الذين كفروا، ومثله:(الذين آمنوا).

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)}

الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} فهذا يعمّ المهاجرين، والأنصار، والذين آمنوا من أهل الكتاب، ومن آمن، وعمل الصالحات إلى يومنا هذا؛ وإلى يوم القيامة، وهو أولى من قصره على المهاجرين، أو على الأنصار في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنّ الكفر لا يقتصر على عصر النبوة.

وفي الايتين مقابلة بين الإيمان، والكفر. انظر ما ذكرته في الاية رقم [74] من (الزخرف) والمراد ب:{الصّالِحاتِ} الأعمال الصالحات على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها. وفي ذلك احتراس، وقد ذكرته مرارا. {وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ} يعني: القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره بلفظ الاختصاص مع ما يجب من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعظيما لشأن القرآن الكريم، وتنبيها على أنه لا يتم الإيمان إلاّ به، ولذلك أكّده بقوله:{وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} . وقيل: حقيقته بكونه ناسخا لجميع الكتب السماوية قبله، ولا يرد عليه نسخ، وإن كان هناك نسخ لبعض الايات ببعض. هذا؛ و {نُزِّلَ} يقرأ بقراآت كثيرة.

{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} أي: ستر الله بإيمانهم، وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي؛ لرجوعهم وتوبتهم منها، فغفر لهم بذلك ما كان منهم. {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} يعني:

حالهم، وشأنهم، وأمرهم بالتوفيق في أمور الدين، والتسليط على أمور الدنيا، بما أعطاهم من النصر على أعدائهم. وقيل:(أصلح بالهم) يعني: قلوبهم؛ لأنّ القلب إذا صلح؛ صلح سائر الجسد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: عصمهم الله أيام حياتهم. يعني: أنّ الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم؛ حتى لا يعصوا.

هذا؛ والبال كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلاّ في ضرورة الشعر، فيقولون فيه: بالات. هذا؛ وقال الرازي في مختاره: البال: القلب، يقال: ما يخطر فلان

ص: 65

ببالي؛ أي: بقلبي، والبال: رخاء النفس. يقال: فلان رخيّ البال. والبال: الحال، يقال: ما بالك؟ أي: ما حالك؟ والبال: الشأن، يقال: ما باله لا يفعل كذا؟ انتهى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يعرض بمن ينكر عليهم بعض أعمالهم، فيقول:«ما بال أقوام يفعلون كذا، وكذا؟» وقال القرطبي: والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر. وفي القاموس: لا زعنفة له على ظهره، وقد يبلغ طوله [50 - 60] قدما، والكلمة غير عربية، والبالة: القارورة وعاء الطيب.

والبالة: حزمة المنسوجات.

هذا؛ وقد قال البغدادي-رحمه الله تعالى-: وقد التزم بعده ذكر حال يفسره غالبا، وقد يأتي بدونها، كقوله تعالى في سورة (طه) رقم [51]:{قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى} وقد تتبعت استعمال هذه الحال في كلام العرب، ولم أر من سبقني إليه، فرأيتهم يستعملونها على وجوه شتى، منها: أنها ماضوية مقرونة ب: «قد» ، وماضوية بدون «قد» ، ومضارعية مثبتة، ومضارعية منفية، وتكون مفردة، وتكون اسمية غير مقترنة بواو، ومقترنة بالواو. وأورد لكل وجه مثالا شعريا، وانظر الشاهدين [537] و [678] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» .

هذا؛ و {مُحَمَّدٍ} اسم عربي، وهو مفعل من الحمد، والتكرير فيه للتكثير، كما تقول: كرّمته، فهو مكرم، وعظّمته فهو معظم؛ إذا فعلت ذلك مرة بعد مرة، وهو منقول من الصفة على سبيل التفاؤل: أنه سيكثر حمد الناس له، وكان كذلك صلى الله عليه وسلم. روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد أمر عبد المطلب بجزور، فنحرت، ودعا رجال قريش، وكانت سنتهم في المولود إذا ولد في استقبال الليل، كفؤوا عليه قدرا حتى يصبح، ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا وقد انشقت عنه القدر، وهو شاخص إلى السماء، فلما حضرت رجال قريش، وطعموا؛ قالوا لعبد المطلب: ما سميت ابنك هذا؟ قال:

سميته محمدا، قالوا: ما هذا من أسماء آبائك، قال: أردت أن يحمد في السموات، والأرض.

وقد حقق الله رجاءه. قال الأعشى في قصيدته التي نظمها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: [الطويل] إليك أبيت اللعن كان كلالها

إلى الواحد الفرد الجواد المحمّد

وقد سمى جماعات من العرب أولادهم محمدا بلغوا سبعة، منهم محمد بن حمران الجعفي الشاعر، وكان في عصر امرئ القيس، وسماه: شويعرا، ومحمد بن خولي الهمداني، ومحمد بن بلال بن أحيحة. وكان زوج سلمى بنت عمرو جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جده، ومحمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو محمد بن أوس بن زيد شهد بدرا، وقال في «السيرة الحلبية»: وقد عدّ بعضهم من سمّي بمحمد ستة عشر، ونظمهم في قوله:[الكامل] إن الذين سموا بإسم محمّد

من قبل خير الخلق ضعف ثمان

ابن البراء مجاشع بن ربيعة

ثمّ ابن مسلم يحمدي حرماني

ص: 66

ليثي السّليمي وابن أسامة

سعدى وابن سواءة همداني

وابن الجلاح مع الأسيدي يا فتى

ثمّ الفقيمي هكذا الحمراني

قال بعضهم: وفاته آخران، لم يذكرهما، وهما محمد بن الحارث، ومحمد بن عمر بن مغفل بضم أوله، وسكون المعجمة، وكسر الفاء، ثم لام. ووقع النزاع الكثير، والخلاف الشهير في أول من سمي بذلك الاسم منهم، وسبب كثرة التسمية بمحمد ما ذكر بعضهم؛ قال: سمعت محمد بن عدي، وقد قيل له: كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا؟ قال: سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من تميم نريد الشام، فنزلنا عند غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني، وقال: إن هذه للغة قوم ما هي لغة أهل هذه البلد، فقلنا له: نحن قوم من مضر، فقال لنا: إن الله سيبعث فيكم نبيا وشيكا، فسارعوا إليه، وخذوا حظكم، ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، فقلنا له: ما اسمه؟ قال: محمد، ثم دخل ديره فو الله ما بقي أحد منا إلا زرع قوله في قلبه، فأضمر كل واحد منا إن رزقه الله غلاما سماه محمدا رغبة فيما قاله، قال: فلما انصرفنا ولد لكل واحد منا غلام. فسماه محمدا رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته. انتهى. السيرة الحلبية بتصرف كبير.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {نُزِّلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره:«هو» يعود إلى (ما)، وهو العائد، أو الرابط. هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالبناء للمعلوم (نزّل) فالفاعل يعود إلى الله، والعائد محذوف، التقدير: بالذي أنزله الله. {عَلى مُحَمَّدٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{آمَنُوا..} . إلخ، معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَهُوَ:}

الواو: واو الاعتراض. (هو): مبتدأ. {الْحَقُّ:} خبره. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الحق، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معترضة بين المبتدأ والخبر مؤكدة لإيجاب الإيمان، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الموصول؛ فيظهر فيها معنى التأكيد أيضا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

{كَفَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، وهو يؤكد بناء (نزّل) للمعلوم. {عَنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِهِمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَّرَ..} . إلخ، في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

ص: 67

{ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)}

الشرح: {ذلِكَ:} إشارة إلى ما ذكر من الإضلال بالنسبة للكافرين، وتكفير السيئات، وإصلاح العمل بالنسبة للمؤمنين. {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..}. إلخ: أي بسبب اتباع هؤلاء الباطل، واتباع هؤلاء الحق، وهو تصريح بما أشعر به ما قبلها، ولذلك تسمى هذه الاية تفسيرا.

{كَذلِكَ} أي: مثل ذلك الضرب {يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ:} يبيّن لهم أحوال الفريقين، أو أحوال الناس، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، والإضلال مثلا لخيبتهم، واتباع الحق مثلا للمؤمنين، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم.

هذا؛ والكفر: ستر الحق بالجحود، والإنكار، وكفر فلان النعمة، يكفرها كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها وأخفاها، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} رقم [7]. وكفر الشيء: ستره، وغطّاه، وسمي الكافر: كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره. وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب، قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} رقم [20] من سورة (الحديد). وسمّي الليل: كافرا؛ لأنه يغطي، ويستر كل شيء بظلمته، قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه في معلقته رقم [65]. [الكامل] حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

هذا؛ وأطلق لفظ الكافر على النهر، قال المتلمس حين ألقى الصحيفة في النهر:[الطويل] وألقيتها بالثّني من جنب كافر

كذلك ألقي كلّ رأي مضلّل

رضيت لها بالماء لمّا رأيتها

يجول بها التيّار في كلّ جدول

{الْباطِلَ:} ضد الحق، والباطل: الفاسد، والمراد به هنا: الشرك. وقيل: الشيطان. وجاء بمعنى العبث في سورة (ص) رقم [27]، وذلك بقوله تعالى:{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً} والبطلان: عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، وإما بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ وبطل من باب: دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل بضم فسكون: الباطل، والكذب، والبطالة:

التعطل، والتفرغ من العمل، ويجمع باطل على: أباطيل شذوذا، كما شذّ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع: حديث، وعريض، وفظيع. هذا؛ ومبطل: اسم فاعل من: أبطل الرباعي. وانظر شرح {الْحَقَّ} في الاية رقم [22] من سورة (الجاثية).

ص: 68

هذا؛ والإيمان الصحيح هو: الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر، خيره، وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما رأيت في الاية رقم [2] من سورة (الأنفال)، وله شعب كثيرة، وهي سبع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلاّ الله

إلخ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وهو بفتح الهمزة جمع: يمين بمعنى الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو اسم من أسمائه. قال تعالى:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} واليمين أيضا اليد اليمنى، وتجمع أيضا على: أيمان، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم، ولا يجمع بالمعنى الأول؛ لأنه مصدر.

هذا؛ و {أَمْثَلُهُمْ} في هذه الاية جمع: مثل بفتحتين، والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليتبيّن أحدهما من الاخر، ويصوره. وقيل: هو تشبيه شيء بشيء آخر، وبالجملة: هو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه، والممثل بمضربه؛ أي: هو الحالة الأصلية، التي ورد الكلام فيها. وما أكثر الأمثال في اللغة العربية! علما بأن الأمثال لا تغير، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل؛ أي: أصله، مثل:(الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته. وانظر (مثل) بكسر الميم وسكون الثاء في الاية رقم [10] الاتية.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّ:} الباء: حرف جر. (أنّ): حرف مشبه بالفعل.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم (أنّ). وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{اِتَّبَعُوا الْباطِلَ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ} معطوف على ما قبله، وهو مثله في الإعراب، والتأويل. {مِنْ رَبِّهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الْحَقَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يضرب الله للناس أمثالهم ضربا كائنا مثل الضرب الذي يضربه الله لقريش، وأمثالهم من الكفار. {يَضْرِبُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {لِلنّاسِ:}

متعلقان به، {أَمْثَلُهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.

ص: 69

{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)}

الشرح: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: في المحاربة، والمقاتلة، وإنما قال:{لَقِيتُمُ..} . إلخ ولم يقل: إذا لقيكم الذين كفروا، وهو أبين في الكلام؛ لأنّ ما لقيك فقد لقيته، وما لقيته فقد لقيك، قال الله تعالى:{فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} قرئ برفع {آدَمُ} ونصب {كَلِماتٍ،} وقرئ بالعكس، والمعنى لا يتغير، فمعنى القراءتين واحد، كما قرئ قوله تعالى:{لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} قرئ بالواو والياء، قال الفراء: معنى القراءتين واحد؛ لأنّ ما نلته فقد نالك، وما نالك فقد نلته.

{فَضَرْبَ الرِّقابِ:} أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ضمّا إلى تأكيد الاختصار، والتعبير به عن القتل، إشعار بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن، وتصوير له بأبشع صورة وأشنعها، وهو حزّ العنق، وإطارة العضو، الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [12]:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} .

هذا؛ وفي قوله: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} مجاز مرسل، علاقته ذكر الجزء، وإرادة الكل؛ لأنّ ضرب الرقاب كناية عن القتل، وبما أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب الرقبة؛ وقع عبارة عن القتل.

{حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي: أكثرتم القتل فيهم، وأغلظتموه. من: الثخين، وهو الغليظ. قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [67]:{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} . أو المعنى: أثقلتموهم بالقتل، والجراح؛ حتى أضعفتموهم عن النهوض إلى القتال. {فَشُدُّوا الْوَثاقَ} أي: أؤسروهم وشدّوا وثاقهم حتى لا يفلتوا منكم، والوثاق بفتح الواو، وكسرها: اسم لما يوثق به؛ أي: يربط به من حبل، ونحوه. والجمع: وثق، مثل: رباط، وربط، وعناق، وعنق.

{فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً:} والمعنى التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم، فيطلقوهم، وبين أن يفادوهم، فإن قلت: كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت: أما عند أبي حنيفة-رحمه الله تعالى- وأصحابه؛ فأحد أمرين: إما قتلهم، وإما استرقاقهم؛ أيهما رأى الإمام، ويقولون في المنّ، والفداء المذكورين في الاية: نزل ذلك في يوم بدر، ثم نسخ. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ، ولا فداء، وإنما هو الإسلام، أو ضرب العنق. ويجوز أن يراد بالمن، أن يمنّ عليهم بترك القتل، ويسترقوا، أو يمنّ عليهم فيخلّوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمة، وبالفداء أن يفادى

ص: 70

بأسراهم أسارى المشركين، فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور: أنه لا يرى فداءهم لا بمال، ولا بغيره خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين.

وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين، وهي: القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمن. ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عزة الجمحي، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي، وفادى رجلا برجلين من المشركين، وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن، وعطاء، وأكثر الصحابة، والعلماء، وهو قول الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما كثر المسلمون، واشتدّ سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى:{فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً} وهذا القول هو الصحيح؛ ولأنه به عمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. وقال أبو حنيفة ومن وافقه من العلماء: هذه الاية منسوخ حكمها بقوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [57]: {فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ،} وبقوله عز وجل في سورة (التوبة) رقم [5]: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ..} . إلخ.

{حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها:} يعني أثقالها، وأحمالها، والمراد: أهل الحرب، يعني: حتى يضعوا أسلحتهم، ويمسكوا عن القتال، وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان، فسمى الأسلحة وزرا؛ لأنها تحمل. قال الأعشى:[المتقارب] وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وسميت أوزارها؛ لأنه لمّا لم يكن لها بد من جرها، فكأنها تحملها، وتستقل بها، فإذا انقضت، فكأنها وضعتها، كما قال الاخر:[الطويل] فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

وفي الجملة استعارة تصريحية ظاهرة.

طرفة: روي عن بعضهم: أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث، وهم أربعة آلاف، وثمانمئة، فقتل منهم نحوا من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة، فقال: يا حجاج لا جازاك الله عن السنة، والكرم خيرا، قال: ولم ذاك؟ قال: لأنّ الله تعالى قال: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ، في حق الذين كفروا، فو الله ما مننت، ولا فديت، وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:[الطويل] ولا نقتل الأسرى، ولكن نفكّهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي، فخلّي عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين بقول ذلك الرجل. هذا؛ وقد أغرب مجاهد، وسعيد بن جبير-رضي الله عنهما-حيث قالا: هو خروج عيسى على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 71

{ذلِكَ} أي: الأمر فيهم ما ذكر من القتل، أو الأسر، وما بعده من المن، والفداء. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، كقوله تعالى في سورة (ص) رقم [55]:

{هذا وَإِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} . {وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ:} لانتقم منهم بالاستئصال، وأهلكهم بغير قتال ببعض أسباب: من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت جارف. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: لأهلكهم بجند من الملائكة. {وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ:}

ولكن أمركم بالحرب؛ ليختبر المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم، ويقاتلوهم، فيستحقوا الثواب العظيم، والمقام الكريم، ويمتحن الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم؛ كي يرتدع بعضهم عن الكفر.

{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ:} يريد قتلى أحد من المؤمنين. {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ:} فلن يضيعها، بل يوفيهم ثواب أعمالهم، التي عملوها في الدنيا. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: ذكر لنا: أن هذه الاية نزلت يوم أحد، ورسول الله في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات، والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل! ونادى المسلمون: الله أعلى، وأجلّ! وقال المشركون: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون» . فقال المشركون: لنا العزّى، ولا عزّى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم، وقد تقدّم ذكر هذا في سورة (آل عمران). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {لَقِيتُمُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَضَرْبَ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا).

(ضرب): مفعول مطلق نائب عن فعله؛ إذ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول، لذا ففاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والجملة جواب (إذا)، لا محلّ لها.

{حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش في مثل ذلك جارة ل:{فَإِذا} . {فَإِذا:} مثل سابقتها. {أَثْخَنْتُمُوهُمْ:} فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {فَإِذا} إليها. {فَشُدُّوا:} الفاء: واقعة في جواب {فَإِذا} . (شدوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {فَإِذا،} لا محل لها. {الْوَثاقَ:} مفعول به، و {فَإِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له، وعلى قول الأخفش، ف:{حَتّى} ومجرورها متعلقان بالمصدر: (ضرب).

ص: 72

{فَإِمّا:} الفاء: حرف استئناف وتفريع، (إما): أداة شرط وتفصيل، وهي هنا مفيدة للتخيير.

{مَنًّا:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تمنون منا. {بَعْدُ:} ظرف زمان مبني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى في محل نصب متعلق بالمصدر قبله. {وَإِمّا:} الواو: حرف عطف. (إمّا): معطوفة على ما قبلها. وقيل: عاطفة. {فِداءً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تفادون فداء. هذا؛ والفعل المقدر يؤول بمصدر في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، وإذا قدرت: إما أن تمنوا منا، وإما أن تفادوا فداء؛ وضح الأمر، وزال الخفاء، ويكون التقدير:

فإمّا منّكم موجود منكم، وإما فداؤهم. أو وإما فداؤكم موجود منكم أيضا، والجملة الاسمية الحاصلة من هذا التقدير مستأنفة لا محلّ لها، أو هي معطوفة على جملة: (شدوا

) إلخ، لا محلّ لها أيضا. هذا؛ وقد قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] وما لتفصيل كإمّا منّا

عامله يحذف حيث عنّا

قال ابن عقيل-رحمه الله: يحذف عامل المصدر وجوبا إذا وقع تفصيلا لعاقبة ما تقدمه، وذكر الاية التي نحن بصدد شرحها. وأجاز أبو البقاء أن يكونا مفعولين لفعل محذوف، التقدير:

أولوهم منا، واقبلوا منهم فداء، وهو ضعيف جدا. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة.

{تَضَعَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى} . {الْحَرْبُ:} فاعله. {أَوْزارَها:}

مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، وأن المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل المقدر، أو بالمصدر المذكور.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: أي: الأمر ذلك، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: افعلوا ذلك، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له، والجملة على الاعتبارين مستأنفة لا محلّ لها.

{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {يَشاءُ اللهُ:}

مضارع وفاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لانْتَصَرَ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (انتصر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{اللهُ،} والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محلّ لها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {لِيَبْلُوَا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {بَعْضَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِبَعْضٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: ولكن أمركم بالقتال؛ ليبلو

إلخ، والجملة هذه معطوفة على جواب (لو)، لا محل لها مثلها.

ص: 73

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): مبتدأ، وجملة:{قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها، {قُتِلُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق.

{فَلَنْ:} الفاء: حرف صلة. (لن): حرف ناصب. {يُضِلَّ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن) والفاعل يعود إلى: {اللهُ} . {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)}

الشرح: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ:} الضمير يعود إلى الذين قتلوا في سبيل الله، ومن المعلوم: أن المقتول لا يوصف بذلك، وفي ذلك أجوبة، فقال بعضهم: سيهدي من بقي منهم؛ أي: يحقق لهم الهداية، وهذا ضعيف. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر؛ أي: بمعنى يوفقهم للجواب حينما يسألون في القبر. وقال أبو المعالي: وقد ترد الهداية، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين:

{فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ} ومنه قوله تعالى في الكافرين، والفاسدين المفسدين:

{فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} وهو فحوى قوله تعالى: {عَرَّفَها لَهُمْ} وخذ ما يلي:

قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم، ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا. وقال محمد بن كعب القرظي: يعرفون بيوتهم؛ إذا دخلوا الجنة، كما تعرفون بيوتكم؛ إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل: بلغنا: أن الملك الذي كان وكّل بحفظ عمله في الدنيا، يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرّفه كلّ شيء أعطاه الله تعالى في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة؛ دخل إلى منزله، وأزواجه، وانصرف الملك عنه، وقد ورد الحديث الصحيح بذلك:

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خلص المؤمنون من النار؛ حبسوا بقنطرة بين الجنّة والنار، يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتّى إذا هذّبوا، ونقّوا؛ أذن لهم في دخول الجنّة، والّذي نفسي بيده، إنّ أحدهم بمنزله في الجنة، أهدى منه بمنزله الّذي كان في الدّنيا» أخرجه البخاري.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: {عَرَّفَها لَهُمْ} أي: طيّبها لهم بأنواع الملاذ. مأخوذ من العرف، وهو الرائحة الطيبة. وطعام معرّف؛ أي: مطيّب، ورحم الله أبا تمام؛ إذ يقول:[الكامل] وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

ص: 74

الإعراب: {سَيَهْدِيهِمْ:} السين: حرف استقبال، وتسويف، وهي في حق الله تعالى تفيد تحقيق الوقوع، وتنفيذ الموعود. (يهديهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {الْجَنَّةَ:} مفعول به ثان، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [70] من سورة (الزخرف). {عَرَّفَها:} ماض، ومفعوله، وفاعله يعود إلى (الله) أيضا. {يُدْخِلُهُمُ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، أو من الجنة، والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط، و «قد» قبلها مقدرة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: هذا وعد من العزيز الحكيم بأنه ينصر عباده المؤمنين؛ إن هم نصروا دينه، ونصروا نبيه بالأموال، والأرواح، والله لا يخلف وعده، فقد شرط سبحانه وتعالى لنصره عباده المؤمنين ذلك، وإذا لم ينصروا دين الله؛ فكيف ينصرهم على أعدائهم؟! {وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} أي: في الميدان؛ إذا التحم القتال، والتقى السنان بالسنان. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [51] من سورة (غافر) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. وقال تعالى في سورة (الحج) رقم [40]:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . هذا؛ والمراد ب: (الأقدام) الذوات بتمامها، وعبّر بذلك؛ لأنّ الثبات، والتزلزل يظهران فيها، فهو من التعبير بالجزء عن الكل مجازا.

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محلّ له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من (أيها)، وانظر الاية رقم [13] من سورة (الحجرات)، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَنْصُرُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَنْصُرْكُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام لا محلّ له؛ لأنه مبتدأ مثل الجملة الندائية قبله. {وَيُثَبِّتْ:} الواو: حرف عطف. (يثبت): مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وانظر الاية رقم [36] الاتية، وفاعله يعود إلى:{اللهَ} . {أَقْدامَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

ص: 75

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ:} فهلاكا، وعثارا، وانحطاطا. وهو نقيض لعا له، قال الأعشى:[البسيط] كلّفت مجهولها نفسي وشايعني

همّي عليها إذا ما آلها لمعا

بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتّعس أولى لها من أن يقال: لعا

وقال ابن دريد في مقصورته-وهو الشاهد رقم [1042] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الرجز] فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا: لا لعا

يقول الأعشى: كلفت نفسي سير المجهول من المفازة، وعاودني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها، وهو السراب، الذي يرى عند شدة الحر، كأنه ماء، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل، ثم قال: مع ناقة صاحبة قوة، ويطلق اللوث على الضعف أيضا، فهو من الأضداد.

وعفرناة: غليظة، ويقال للعاثر:«لعا لك» دعاء له بالسلامة، والانتعاش، و «تعسا له» دعاء عليه بالسقوط يريد: أنها لا تعثر، ولو عثرت، فالدعاء عليها أحقّ بها من الدعاء لها، و «لعا» اسم فعل ماض. هذا؛ وقد تعس بفتح العين يتعس تعسا، وأتعسه الله. قال مجمّع بن هلال:[الطويل] تقول وقد أفردتها من خليلها

تعست كما أتعستني با مجمّع

ومنه حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، والدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي؛ رضي، وإن لم يعط؛ سخط، تعس، وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش

إلخ». رواه البخاري. هذا؛ والخميصة: ثوب خز، ونحوه. شيك: أصابته شوكة. فلا انتقش: فلا خرجت الشوكة من رجله، ونحوها بالمنقاش. هذا؛ وفي قوله تعالى:

(أضل أعمالهم) استعارة مكنية. فقد شبه أعمالهم الصالحة بالشيء الضائع في الأرض الفلاة، لا صاحب يحفظه، ويعتني به. أو بالماء الذي يضل في اللبن ويستهلك فيه، والمعنى: أنّ الكفار ضلت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر، والمعاصي، وحتى صار صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم، ومقابله في المؤمنين: ستر الله لأعمالهم السيئة في كنف أعمالهم الصالحة من الإيمان، والطاعة؛ حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح أعمالهم.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (الذين): مبتدأ. وجوز القرطبي نصبه على الاشتغال بفعل محذوف. ورده ابن هشام بقوله: لأنّ {لَهُمْ} ليس متعلقا بالمصدر، وقال مكي: ويجوز في الكلام الرفع على الابتداء، و {لَهُمْ} الخبر، والجملة خبر عن

ص: 76

(الذين). انتهى. ولكن لم يقرأ بالرفع، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَتَعْساً:} الفاء: حرف صلة. (تعسا): مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير:

فتعسوا تعسا. وهذه الجملة في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (تعسا)، مثل: سقيا لك.

{وَأَضَلَّ:} الواو: حرف عطف. (أضل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {أَعْمالَهُمْ:}

مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ لا محلّ لها على الاعتبارين في الواو.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)}

الشرح: {ذلِكَ} أي: ذلك الإضلال، والإتعاس. {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ} أي: القرآن وما فيه من التكاليف، والأحكام؛ لأنهم ألفوا الإهمال، وإطلاق العنان في الشهوات، والملاذ، فشقّ عليهم ذلك، وتعاظمهم. {فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} أي: أبطل ثواب أعمالهم؛ التي عملوها من عمارة مسجد، وقرى ضيف، وصلة رحم؛ لأنّ عمل الخير لا يقبل إلاّ إذا قرن بالإيمان.

هذا؛ و «حبط» الثلاثي لازم، و «أحبط» الرباعي متعد بالهمزة. وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط من باب: تعب حبطا بالسكون، وحبوطا: فسد، وهدر. وحبط، يحبط من باب:

ضرب لغة، وقرئ بها في الشواذ. وحبط دم فلان حبطا من باب: تعب: هدر، وأحبطت العمل، والدم بالألف: أهدرته. وفي مختار الصحاح: والحبط بفتحتين أن تأكل الماشية، فتكثر، حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها. وقيل: هو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق، وهو الحندقوق، وفي الحديث الشريف:«إنّ ممّا ينبت الربيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» .

انتهى. واسم هذا الداء: حباط.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير:

فعل الله بهم ذلك، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كَرِهُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: كرهوا الذي، أو شيئا أنزله الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ على الوجه الأول في ذلك، أو هما متعلقان بالفعل المحذوف، على الوجه الثالث فيه، أو متعلقان بمحذوف حال

ص: 77

من ذلك على الوجه الثاني فيه، وجملة:{فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} معطوفة على جملة: {كَرِهُوا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)}

الشرح: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ أي: أفلم يمش كفار مكة في نواحي الأرض، وجهاتها؛ ليروا مصارع الأمم؛ التي كذبت رسلها، وما حلّ بها من الهلاك، والدمار، فيعتبروا بهم؟! وفيه ردع، وزجر للكافرين المكذبين، وللفاسقين الظالمين بأن الله سيهلكهم كما أهلك من قبلهم، فهو حض؛ لينظروا نظرة تبصر، واعتبار، لا نظرة غفلة وإهمال، ينظرون إلى مساكن الأمم الماضية، وديارهم، وآثارهم: كيف أهلكهم الله بذنوبهم، كما قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [11] وغيرها كثير:{ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . هذا؛ وعاقبة كل شيء: آخره، ونتيجته، ومصيره، وماله، ولم يؤنث الفعل {كانَ} لأنّ (عاقبة) مؤنث مجازي وما كان منه يستوي فيه التذكير، والتأنيث للفعل، أو لأن (عاقبة) اكتسب التذكير من المضاف إليه. وهذا باب من أبواب النحو. انظر الشاهد رقم [901] وما بعده من كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ} أي: دمر الله عليهم ما اختصّ بهم من أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وكل ما كان لهم. هذا؛ ودمّره: أهلكه، ودمر عليه: أهلك عليه ما يختص به. {وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها:}

الضمير يعود إلى العاقبة المذكورة، أو للهلكة؛ لأنّ التدمير يدلّ عليها، أو للسنة لقوله عز وجل:

{سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} . هذا؛ و {أَمْثالُها} جمع: مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ومثله: مثيل، وشبه، وشبيه. وهو اسم متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير ونحوه من المعارف، ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى في سورة (المؤمنون) حكاية عن قول فرعون وقومه:{فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهو واضح في مواضعه، وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشبيه، كما في الاية الكريمة، ونحوها. والثاني: بمعنى نفس الشيء وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم؛ حيث قال: المعنى ليس كذاته شيء. الثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي بما آمنتم به، وانظر شرح:(مثل) برقم [3].

الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على مقدر؛ أي: أعجزوا فلم

إلخ؟. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسِيرُوا:}

فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها على

ص: 78

الوجهين المعتبرين في الفاء. {فَيَنْظُرُوا:} فعل مضارع مجزوم على اعتبار الفاء عاطفة، وهو منصوب على اعتبار الفاء للسببية، و «أن» مضمرة بعدها، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى اعتبار الفعل منصوبا يؤول مع «أن» المضمرة الناصبة له بمصدر، معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، ويكون التقدير: فهلا حصل منهم سير في الأرض، فنظر في عاقبة الذين من قبلهم؟! هذا؛ ومثل هذه الاية في جواز اعتبار الفعل مجزوما، أو منصوبا بعد الفاء قول زهير بن أبي سلمى المزني-وهو الشاهد رقم [167] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الطويل] ومن لا يقدّم رجله مطمئنّة

فيثبتها في مستوى الأرض يزلق

{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر: {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها، وهو معلق للفعل قبله عن العمل لفظا. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسمها، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وإن اعتبرت:

{كانَ} تامة فالمعنى لا يأباه، ويكون {عاقِبَةُ} فاعلها، و {كَيْفَ} في محل نصب حال من:

{عاقِبَةُ،} والعامل {كانَ،} وهي بمعنى: حدث، وعلى الاعتبارين فالجملة الفعلية في محل نصب سدّت مسدّ مفعول الفعل قبلها. {دَمَّرَ اللهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي بمنزلة جواب لسؤال مقدر، أو ل:{كَيْفَ} المذكورة. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلِلْكافِرِينَ:} الواو: حرف عطف. (للكافرين):

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَمْثالُها:} مبتدأ مؤخر، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال؛ فلست مفندا.

{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)}

الشرح: {ذلِكَ} أي: الإهلاك، والذل، والهوان. {بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا:} وليهم وناصرهم، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [4] شرح:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} ففيها الكفاية. {وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ} أي: لا ناصر لهم، ولا معين لهم، يدفع عنهم العذاب، وهذا لا يخالف قوله تعالى في الاية رقم [62] من سورة (الأنعام):{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ..} . إلخ فإن المولى فيه بمعنى: المالك، كما يأتي المولى بمعنى: الحليف، والصديق، وابن العم. وانظر ما ذكرته في سورة (الدخان) رقم [41].

الإعراب: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ:} هو مثل الاية رقم [9] إعرابا، وتأويلا. {مَوْلَى:} خبر: (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {مَوْلَى} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول

ص: 79

مبني على الفتح في محل جر بالإضافة وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مشبه بالفعل. {الْكافِرِينَ:} اسم:

(أنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {مَوْلَى:} اسم {لا} مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر: (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر معطوف على ما قبله، فهو في محل جر مثله.

{إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} يعني: في الدنيا بشهواتها ولذاتها. {وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ} يعني: ليس لهم همة إلا بطونهم، وفروجهم، وهم مع ذلك لاهون ساهون عما يراد بهم في غدهم، ولهذا شبههم بالأنعام؛ لأن الأنعام لا عقل لها، ولا تمييز، وكذلك الكافر لا عقل له، ولا تمييز؛ لأنه لو كان له عقل ما عبد ما يضره، ولا ينفعه. قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، وإنما وصف الكافر بالتمتع؛ لأنها جنته، وهي سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعده الله له في الاخرة من النعيم العظيم الدائم. {وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ} أي: مقام، ومنزل. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» . رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وغيرهم.

هذا؛ والتمتع: التلذذ بالشيء، والانتفاع به، ومثله: الاستمتاع، والاسم: المتعة، فهنيئا لمن تمتع واستمتع بالمباح الحلال، وويل، ثم ويل لمن تمتع، واستمتع بالحرام! هذا؛ والمتعة بكسر الميم وضمها: اسم للتمتيع، والزاد القليل، وما يتمتع به من الصيد، والطعام، ومتعة المرأة ما وصلت به بعد الطلاق من نحو قميص، وإزار، وملحفة، قال تعالى في سورة (البقرة):

{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . هذا؛ والأنعام: ما يؤكل من البهائم من بقر، وغنم، وما عز، وإبل.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُدْخِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وانظر الاية رقم [70] من سورة (الزخرف). وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {جَنّاتٍ:}

مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:

ص: 80

{يُدْخِلُ..} . إلخ، في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية هذه لا محلّ لها؛ لأنها مستأنفة، أو ابتدائية. {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.

{مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل: {تَجْرِي،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {جَنّاتٍ} .

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {يَتَمَتَّعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{وَيَأْكُلُونَ} معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية.

{تَأْكُلُ:} فعل مضارع. {الْأَنْعامُ:} فاعل، و (ما) المصدرية، والفعل:{تَأْكُلُ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، يقع مفعولا مطلقا، التقدير: يأكلون أكلا مثل أكل الأنعام، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [35] من سورة (الأحقاف)، والجملة الاسمية: (الذين كفروا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

(النار): مبتدأ. {مَثْوىً:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مَثْوىً} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها أيضا.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)}

الشرح: قال قتادة، وابن عباس-رضي الله عنهما: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار في ليلة الهجرة؛ التفت إلى مكة، وقال:«اللهمّ أنت أحبّ البلاد إلى الله، وأنت أحبّ البلاد إليّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني؛ لما خرجت منك» فنزلت الاية. ذكره الثعلبي. وهو حديث صحيح. انتهى. قرطبي. وهذا ينفي ما ذكرته في المقدمة من أنّ الاية نزلت بعد حجة الوداع، وهو المعتمد، وذكره السيوطي في أسباب النزول.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي: من أهل قرية، فلذا جمع الضمير فيما يأتي. {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد ب:{قَرْيَتِكَ} مكة المكرمة. {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ:} أخرجك أهلها منها، وكان ذلك بالهجرة منها إلى المدينة المنورة. {أَهْلَكْناهُمْ} أي: بأنواع البلاء والهلاك الذي نزل بالأمم السابقة؛ التي كذبت رسلها. {فَلا ناصِرَ لَهُمْ} أي: من العذاب، والهلاك، وهذه الجملة جارية مجرى الحال المحكية، كأنه قال: أهلكناهم، فهم لا ينصرون.

هذا؛ و (كأيّن) أصلها: أيّ الاستفهامية، دخلت عليها كاف التشبيه، فصارت بمعنى «كم» الخبرية التكثيرية، وهي كناية عن عدد مبهم، مثل: كم، وكذا، وفيها خمس لغات، كلها قرئ

ص: 81

بها: إحداها: كأيّن، وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاّ ابن كثير. والثانية: كائن بوزن كاعن، وبها قرأ ابن كثير، وجماعة، وهي أكثر استعمالا من (كأين) وإن كانت الأصل، وهو كثير في الشعر العربي. والثالثة:(كئين) بوزن: كريم. الرابعة: (كيئن) بياء ساكنة وهمزة مكسورة.

الخامسة: (كأن) بوزن: كفن. هذا؛ والجلال المحلي اعتبر كأيّن بسيطة غير مركبة، وأن آخرها نون من نفس الكلمة لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، والشيخ-رحمه الله تعالى-سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتشحين الذهن، وتمرينه. انتهى. جمل.

الإعراب: {وَكَأَيِّنْ:} الواو: حرف استئناف. (كأين): اسم كناية بمعنى: كثير مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وأجاز السمين اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرْيَةٍ:} تمييز ل: (كأيّن) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبره، والجملة الاسمية في محل جر على اللفظ، أو في محل نصب على المحل صفة:{قَرْيَةٍ} . {قُوَّةً:} تمييز. {مِنْ قَرْيَتِكَ:} متعلقان ب: {أَشَدُّ،} والكاف في محل جر بالإضافة. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {قَرْيَتِكَ} . {أَخْرَجَتْكَ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى:{الَّتِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَهْلَكْناهُمْ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو:(كأين)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. هذا؛ وعلى اعتبار (كأين) مفعولا به فالجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها مفسرة، وعليه تكون جملة «أهلكنا كأين» المقدرة فعلية لا اسمية. {فَلا:}

الفاء: حرف تعليل. (لا ناصر لهم) إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {لا مَوْلى لَهُمْ} في الاية رقم [11] وهي هنا تعليلية، أو معطوفة، لا محلّ لها من الإعراب

{أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)}

الشرح: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: على ثبات، ويقين، وهدى، ونور من دينه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه. {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ:} وهذا هو الكافر أبو جهل، ومن حذا حذوه من الضالين المضلين من يومه إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة. والمزين في الحقيقة هو الله تعالى عند أهل السنة، والجماعة، وليس للشيطان إلاّ الوسوسة، وهذا بخلاف رأي المعتزلة. انظر ما ذكرته في سورة (غافر) رقم [37] تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} أي: ما تزينه لهم نفوسهم من الكفر، والمعاصي، والسيئات. هذا؛ وقد روعي لفظ (من) في:{رَبِّهِ} {لَهُ} {عَمَلِهِ،} وروعي معناها بقوله: {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} وانظر الاية رقم [18] من سورة (الجاثية).

ص: 82

الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام داخلة على مقدر محذوف، يقتضيه المقام، التقدير: أليس الأمر كما ذكر فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة، وبرهان بيّن كمن زيّن له

إلخ. الفاء: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:(من)، وهو العائد. {عَلى بَيِّنَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ،} والجملة الفعلية صلة (من) لا محل لها. {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {بَيِّنَةٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و (من): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{زُيِّنَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُ:} متعلقان بما قبلهما. {سُوءُ:} نائب فاعل:

{زُيِّنَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، و {سُوءُ} مضاف، و {عَمَلِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والكلام {أَفَمَنْ..} . إلخ، مستأنف، لا محل له. {وَاتَّبَعُوا:}

الواو: حرف عطف. (اتبعوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. هذا؛ ومثل الاية في إعرابها الاية رقم [19] من سورة (الرعد).

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)}

الشرح: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفة الجنة، التي هي مثل في الغرابة. ووقوع المثل بمعنى الصفة موجود في قوله تعالى في آخر سورة (الفتح):{ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} وأنكر أبو علي الفارسي المثل بمعنى الصفة، وقال: إنما معناه: الشبه، ألا تراه يجري مجراه في مواضعه، ومتصرفاته، كقولك: مررت برجل مثلك، كما تقول: مررت برجل شبهك.

وقال الفراء: المثل مقحم للتوكيد. {الْمُتَّقُونَ:} جمع: متق، وهو من لم يفعل كبيرة، ولم يصرّ على صغيرة. هذا؛ ولما بين الله عز وجل حال الفريقين في الاهتداء، والضلال؛ بين في هذه الاية ما أعدّ لكل واحد من الفريقين من الجزاء؛ الذي يستحقه في الاخرة.

{فِيها أَنْهارٌ:} جمع نهر، وقد قسمها العلي القدير، وبينها أربعة أنواع:

النوع الأول: {أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي: غير متغير، ولا منتن، يقال: أسن الماء، وأجن:

إذا تغير طعمه، وريحه، ولونه، وقرئ:«(أسن)» بالقصر، وأنشدوا ليزيد بن معاوية. [البسيط] لقد سقتني رضابا غير ذي أسن

كالمسك فتّ على ماء العناقيد

ص: 83

النوع الثاني: {وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي: لم يحمض بطول المقام، كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة، فلا يعود قارصا، ولا حاذرا، ولا ما يكره من الطعوم.

النوع الثالث: {وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} أي: لم تدنسها الأرجل ولم ترنّقها الأيدي، كخمر الدنيا، فهي لذيذة الطعم، طيبة الشرب، لا يتكرّهها الشاربون. والمعنى: ما فيها إلا التلذذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل، ولا خمار، ولا صراع، ولا آفة من آفات الخمر الموجودة في الدنيا. قال تعالى في سورة (الصافات):{لا فِيها غَوْلٌ} رقم [47].

النوع الرابع: {وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أي: من الشمع، والقذى، خلقه الله كذلك، لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل، بل هو خالص صاف من جميع شوائب عسل الدنيا. هذا؛ و (العسل) يذكر، ويؤنث. انظر كتب اللغة.

فعن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنّة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللّبن، وبحر الخمر، ثمّ تشّقّق الأنهار بعد» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كلّ من أنهار الجنّة» . رواه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان: أحدهما: أن الإيمان عم بلادها، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. الثاني-وهو الصحيح-: أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة، فالجنة مخلوقة موجودة اليوم. هذا مذهب أهل السنة. انتهى. خازن بتصرف، وقريب منه في القرطبي، أما الزمخشري فلم يذكر في كشافه شيئا من ذلك؛ لأنه معتزلي.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: {لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} ولم يقل في اللبن: لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل: مصفى للناظرين؟ أجاب الرازي بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الاخر، فلذلك قال: لذة للشاربين بأسرهم، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال: لذة؛ أي: لا يكون في خمر الاخرة كراهة طعم، وأمّا الطعم، واللون؛ فلا يختلفان باختلاف الناس، فإن الحلو، والحامض، وغيرهما يدركه كل أحد، لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم: أن له طعما واحدا، وكذلك اللبن، فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة. انتهى. جمل.

{وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ:} في ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة، لا لحاجة، فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب؛ لأنها للتفكه، واللذة. {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ:}

فإن قلت: المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة، فكيف يكون لهم فيها المغفرة، قلت:

ليس بلازم أن يكون المعنى: ولهم مغفرة فيها؛ لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب، فيكون المعنى:

ولهم فيها من كل الثمرات، ولهم مغفرة قبل دخولهم إليها، وجواب آخر وهو أن المعنى: ولهم

ص: 84

مغفرة فيها برفع التكاليف عنهم فيما يأكلون، ويشربون بخلاف الدنيا، فإن مأكولها يترتب عليه حساب، وعقاب، ونعيم الجنة لا حساب عليه، ولا عقاب فيه. انتهى. من الخازن.

{كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ} يعني: من هو في هذا النعيم المقيم الدائم كمن هو في النار خالد فيها، يتجرع من حميمها، ويصلى سعيرها؟! وقال ابن كيسان: مثل هذه الجنة التي فيها الثمار، والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم؟! ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم؟!

{وَسُقُوا ماءً حَمِيماً:} شديد الحر، قد استعرت عليه جهنم منذ خلقت؛ إذا دنا منهم؛ شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم (ف): إذا شربوه (قطع أمعاءهم) يعني: فخرجت من أدبارهم.

والأمعاء جمع: معى، وتثنيته: معيان، وهو جميع ما في البطن من الحوايا. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه؛ حتّى يمرق من قدميه، وهو الصّهر، ثمّ يعاد كما كان» . أخرجه الترمذي، والبيهقي. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الحج) رقم [19 و 20]:{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} . عن أبي أمامة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى من سورة (إبراهيم) رقم [17]: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} قال: يقرّب إلى فيه، فيكرهه، فإذا أدني منه؛ شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه؛ قطّع أمعاءه؛ حتى يخرج من دبره، يقول الله تعالى:{وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} ويقول: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ} . رواه أحمد، والترمذي، وقال: حديث غريب. وهذه الاية من سورة (الكهف) رقم [29] انظر شرح الايات في محالها تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {مَثَلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ:} مضاف إليه. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {الْجَنَّةِ} . {وُعِدَ:} ماض مبني للمجهول. {الْمُتَّقُونَ:}

نائب فاعل مرفوع

إلخ، وهو المفعول الأول. والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، وهو المفعول الثاني، التقدير: التي وعدها المتقون. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {أَنْهارٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنْ ماءٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَنْهارٌ} . {غَيْرِ:} صفة: {ماءٍ،} وهو مضاف، و {آسِنٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{فِيها..} . إلخ، في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو {مَثَلُ} . واعترض هذا الإعراب بأن الخبر جملة، ولا رابط فيها يعود على المبتدأ، ويمكن أن يجاب بأن الخبر عين المبتدأ؛ لأن اشتمالها على أنها من كذا، وكذا صفة لها.

وفي السمين: قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ:} فيه أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره مقدر، قدره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون، ف:«ما تسمعون خبره» و {فِيها أَنْهارٌ} مفسر له، وقدره

ص: 85

سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، والجملة بعدها أيضا مفسرة للمثل. الثاني: أن {مَثَلُ} زائدة، تقديره: الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار. الثالث: أنّ {مَثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ، والخبر قوله:{فِيها أَنْهارٌ} وهذا ينبغي أن يمتنع؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ، ولا ينفع كون الضمير عائدا إلى ما أضيف إليه المبتدأ. الرابع: أنّ {مَثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ، خبره:{كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ} فقدره ابن عطية: أمثل أهل الجنة، كمن هو خالد؟! فقدّر حرف الإنكار، ومضافا؛ ليصح. وقدّره الزمخشري: كمثل جزاء من هو خالد؟! والجملة من قوله: {فِيها أَنْهارٌ..} . إلخ، على هذا فيها ثلاثة أوجه: أحدها: هي حال من {الْجَنَّةِ} أي: مستقرة فيها أنهار. الثاني: أنها خبر لمبتدأ مضمر؛ أي: هي فيها أنهار. كأنّ قائلا قال: ما مثلها، فقيل: فيها أنهار. الثالث:

أن يكون من تكرير الصلة؛ لأنها في حكمها. ألا ترى أنه يصح قولك: التي فيها أنهار، وإنما عرّي من حرف الإنكار. انتهى. جمل بحروفه. وأنت ترى أن الإعراب الأول أسهل، وأخصر.

{وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ:} معطوف على سابقه، وهو مثله في إعرابه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَتَغَيَّرْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} . {طَعْمُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{لَبَنٍ} . {وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ:} معطوف أيضا على سابقه. {لَذَّةٍ:}

قال الزمخشري، وتبعه البيضاوي: قرئ بالحركات الثلاث، فالجر على أنه صفة (الخمر)، والرفع على أنه صفة (الأنهار)، والنصب على أنه مفعول لأجله. {لِلشّارِبِينَ:} متعلقان ب: {لَذَّةٍ،} أو بمحذوف صفة له. {وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق.

{وَلَهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بمحذوف صفة مبتدأ محذوف، التقدير: ولهم فيها أصناف من كل الثمرات. هذا؛ وأجيز اعتبار {مِنْ} صلة، و {كُلِّ} مبتدأ مؤخرا، فهو مجرور لفظا مرفوع محلا، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. وإن اعتبرتها معطوفة على ما قبلها؛ فلا محلّ لها. {وَمَغْفِرَةٌ:} معطوف على المبتدأ في الجملة السابقة على الاعتبارين فيه؛ أي: المقدار، أو المذكور. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان ب: (مغفرة)، أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

هذا؛ وأجيز اعتبار (مغفرة) مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: ولهم مغفرة، فيكون العطف عطف جملة اسمية على مثلها.

{كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أيضا، التقدير: أمن هو في هذا النعيم كمن

إلخ. انتهى. جلال. وقدره الكواشي: أمثل هذا الجزاء الموصوف كمثل جزاء من هو خالد في النار؟! وهو مأخوذ من اللفظ فهو أحسن. وقيل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ خبره: {كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ} وما بينهما اعتراض. وقال أبو البقاء: الكاف في موضع رفع؛ أي: حالهم كحال من

ص: 86

هو خالد في الإقامة الدائمة. وقيل: هو في موضع نصب؛ أي: يشبهون من هو خالد فيما ذكرناه.

وكلا القولين لم يقل بهما أحد، وقد أغرب القرطبي حيث قال:{كَمَنْ} بدل من قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} . ولو قال: بدل من قوله: {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} لكان أقرب إلى الصواب.

{هُوَ خالِدٌ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محلّ لها. {فِي النّارِ:}

متعلقان ب: {خالِدٌ} لأنه اسم فاعل؛ لذا فاعله مستتر فيه. {وَسُقُوا:} الواو: حرف عطف.

(سقوا): فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {ماءٍ:} مفعول به ثان. {حَمِيماً:} صفة: {ماءٍ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {فَقَطَّعَ:} الفاء: حرف عطف. (قطع): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ماءٍ} .

{أَمْعاءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة الصلة، فهو عطف صلة فعلية على صلة اسمية، وفي المعطوف مراعاة معنى (من) وفي المعطوفة عليه مراعاة لفظها.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي: من هؤلاء الذين يتمتعون، ويأكلون، كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك، وهم المنافقون، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها؛ أعرضوا عنه، فإذا خرجوا؛ سألوا عنه. قاله الكلبي، ومقاتل. وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن، ولا يعيه الكافر. انتهى. قرطبي. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

{حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي: إذا فارقوا مجلسك. {قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: لعلماء الصحابة-منهم: ابن مسعود، وابن عباس-استهزاء، وسخرية. {ماذا قالَ} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {آنِفاً:} يقرأ بمد الهمزة، وقصرها لغتان بمعنى واحد، وهما اسما فاعل، كحاذر وحذر، وآسن، وأسن؛ إلاّ أنه لم يستعمل لهما فعل مجرد، بل المستعمل: ائتنف، يأتنف، واستأنف، يستأنف. والائتناف، والاستئناف: الابتداء، قال الزجاج: هو من: استأنفت الشيء: إذا ابتدرته، ومعنى:{آنِفاً:} سالفا. أو المعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا.

هذا؛ وأنف الثلاثي بمعنى: كره الشيء، وأنف من العار: ترفع، وتنزه عنه. ومنه: أمر أنف، وروضة أنف؛ أي: لم يرعها أحد. وكأس أنف؛ إذا لم يشرب منها شيء. قال لقيط بن زرارة: [الرجز] إنّ الشّواء والنشيل والرّغف

والقينة الحسناء والكأس الأنف

ص: 87

وأنف كل شيء: أوله، بل وأعلاه، قال الحطيئة في مدح آل بغيض بن شماس:[البسيط] قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يساوي بأنف النّاقة الذّنبا؟!

{أُولئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر، وهم المنافقون. {الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} المعنى:

ختم عليها؛ إذا الطبع الختم، وهو التأثير في الطين، ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى عليها، وإذا طبع على قلب إنسان؛ فلا تؤثر فيه حينئذ الموعظة، ولا تجدي معه النصيحة.

قال تعالى في كثير من الايات: {فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} والطبع: السجية، والخلق الذي طبع عليه الإنسان، والطبيعة مثله، وجمع الأول: طباع، وجمع الثاني: طبائع. هذا؛ والطبع: تدنس العرض، وتلطخه. يقال: طبع السيف: إذا دخله الجرب من شدة الصدأ، وطبع الرجل، فهو طبع: إذا أتى عيبا، يقال: نعوذ بالله من طمع؛ يدني إلى طبع؛ أي: إلى دنس. قال ثابت بن قطنة: [البسيط] لا خير في طمع يدني إلى طبع

وغفّة من قوام العيش تكفيني

هذا؛ وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله، فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل، ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [12]. هذا؛ وقد روعي لفظ {مَنْ} في فاعل يستمع ومعناها في الضمائر الباقية في الاية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. هذا هو الإعراب الظاهر، والمتعارف عليه في مثل هذا التركيب، والأصح: أنّ مضمون الجار والمجرور: (منهم) مبتدأ، و {مَنْ} هي الخبر؛ لأنّ (من) الجارة دالة على التبعيض؛ أي: فبعض المنافقين يستمع إليك، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [110]:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فعطف: (أكثرهم) على {مِنْهُمْ} يؤيد: أن معناه: بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل] منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضم حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: «منهم» بما هو مبتدأ، أعني لفظة «بعضهم» وهذا مما يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ وليوث: جمع ليث، وهو السبع. لا ترام: لا تقصد، قمشت: جمعت من هنا، وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء. {يَسْتَمِعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} والجملة الفعلية صلة: {مَنْ،} أو صفتها على اعتبارها نكرة موصوفة. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ، مستأنفة لا محلّ لها. {حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش جارة ل:{إِذا} وهو ضعيف. {إِذا:}

ص: 88

انظر الاية رقم [4]. {خَرَجُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها. {مِنْ عِنْدِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. {آنِفاً:} فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوب على الحال، فقدره أبو البقاء: ماذا قال موئنفا؟ وقدره غيره مبتدئا. والثاني: أنه منصوب على الظرف؛ أي: ماذا قال الساعة؟ قاله الزمخشري، وأنكره الشيخ. قال: لأنا لم نعلم أحدا عدّه من الظروف. انتهى. جمل. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي قاله آنفا؟ والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ، جواب:{إِذا،} لا محلّ لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {طَبَعَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {عَلى قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَاتَّبَعُوا:} الواو:

حرف عطف. (اتبعوا): ماض، وفاعله. {أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَالَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)}

الشرح: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} أي: والذين قصدوا الهداية؛ وفقهم الله تعالى لها، فهداهم إليها، وثبتهم عليها، وزادهم منها. {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} أي: ألهمهم رشدهم، وأعطاهم ثواب أعمالهم الصالحة. قال الخازن: -رحمه الله تعالى-: لما بين الله: أن المنافق يسمع، ولا ينتفع، بل هو مصر على متابعة الهوى؛ بيّن حال المؤمن المهتدي؛ الذي ينتفع بما يسمع، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} بهداية الله إياهم إلى الإيمان.

هذا؛ والفعل «زاد» ضد نقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين، كما في هذه الاية، وقولك: زاد الله خالدا خيرا بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك:

زاد المال درهما، والبر مدا، فدرهما، ومدا تمييز، ومثله قل في: نقص، فمن المتعدي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .

ص: 89

أما {هُدىً} فأصله: هديا، أو هدي بضم الهاء وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف والتنوين، الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:{هُدىً} وإنما أتوا بياء أخرى لتدل على الياء الأصلية المحذوفة، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا: هدا فلا يوجد ما يدلّ عليها، وقل مثل هذا في كل اسم مقصور جرّد من:«أل» والإضافة، ونون.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): مبتدأ. {اِهْتَدَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {زادَهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به أول، والفاعل تقديره:«هو» ، يعود إلى (الله). {هُدىً:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَآتاهُمْ:} الواو: حرف عطف. (آتاهم):

فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله أيضا، والهاء مفعول به أول، {تَقْواهُمْ:} مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)}

الشرح: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يعني: الكافرين، والمنافقين الذين قعدوا عن الإيمان بالله، ورسوله، وكتابه، فلم يؤمنوا، فالساعة تأتيهم بغتة تفجؤهم، وهم على كفرهم، ونفاقهم. فيه وعيد، وتهديد، والمعنى: لا ينتظرون إلاّ الساعة، والساعة آتية لا محالة. وسميت القيامة ساعة لسرعة قيامها. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [61 و 66] من سورة (الزخرف) وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعا: فهل تنتظرون إلاّ فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مقعدا، أو موتا مجهزا، أو الدجّال؛ فشرّ غائب ينتظر، أو الساعة؛ والساعة أدهى وأمرّ» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. هذا؛ والبغت: الفجأة، قال الشاعر:[الطويل] ولكنّهم بانوا ولم أدر بغتة

وأعظم شيء حين يفجؤك البغت

{فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها} أي: أماراتها، وعلاماتها، واحدها: شرط، وأصله: الأعلام، ومنه قيل: الشّرط؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، ومنه الشّرط في البيع، وغيره، قال أبو الأسود الدؤلي:[الطويل]

ص: 90

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوّله تبدو

ولما كان قيام الساعة أمرا مستبطأ في النفوس، وقد قال الله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فكأن قائلا قال: متى يكون قيام الساعة؟ فقال تعالى: {فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها} ومن أشراط الساعة: انشقاق القمر، وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما رأيت في الاية رقم [17] من سورة (الشورى) وخذ ما يلي:

فعن أنس-رضي الله عنه-قال عند قرب وفاته: ألا أحدثكم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تقوم السّاعة، أو قال: من أشراط السّاعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنى، ويذهب الرجال، ويبقى النساء حتّى يكون لخمسين امرأة قيّم» . متفق عليه. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أشراط السّاعة أن يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويبقى الشحّ، ويكثر الهرج» . قالوا: وما الهرج؟ قال: «القتل» . متفق عليه.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدّث القوم؛ إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه؛ قال: «أين السائل عن السّاعة؟» . قال:

ها أنذا يا رسول الله قال: «إذا ضيّعت الأمانة؛ فانتظر السّاعة» . قال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر السّاعة» . رواه البخاري. هذا؛ ويروى عن الكلبي: أنه قال: كثرة المال، والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلة الكرام، وكثرة اللئام.

{فَأَنّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ} يعني: فمن أين لهم التذكر، والاتعاظ، والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة؟! وقيل: معناه كيف يكون حالهم إذا جاءتهم الساعة بغتة؟! فلا تنفعهم الذكرى، ولا تقبل منهم التوبة، ولا يعتدّ بالإيمان في ذلك الوقت. انتهى. خازن، ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (الفجر):{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكْرى} . هذا؛ وقرئ: «(إن)» بكسر الهمزة أيضا على اعتبارها شرطية، وعليه فالوقف على (الساعة) تام. وانظر الإعراب. والله الموفق للحق، والصواب.

الإعراب: {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام بمعنى النفي. {يَنْظُرُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {إِلاَّ:} حرف حصر. {السّاعَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَأْتِيَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» ، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{السّاعَةَ،} و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب بدل اشتمال من: {السّاعَةَ} . {بَغْتَةً:} حال بمعنى: باغتة، أو هو مفعول مطلق، وانظر تفصيل ذلك في الاية رقم [66] من سورة (الزخرف). هذا؛ وعلى اعتبار

ص: 91

(إن) شرطية، فالفعل:{تَأْتِيَهُمْ} شرطها، وهو مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وعليه؛ فالجملة لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ:} الفاء: حرف تعليل. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {جاءَ:} ماض. {أَشْراطُها:} فاعله، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها تعليلية.

{فَأَنّى:} الفاء: حرف استئناف على اعتبار (أن) مصدرية، وواقعة في جواب:(إن) على اعتبارها شرطية. (أنّى): اسم استفهام بمعنى: كيف، أو بمعنى: من أين، فهو مبني على السكون في محل رفع خبر مقدم. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر: {ذِكْراهُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال منه. {ذِكْراهُمْ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وأجيز تعليق:{لَهُمْ} بمحذوف خبر (أنّى) على اعتباره مبتدأ، واعتبار (أن) مصدرية، وفي محل جزم جوابها على اعتبارها شرطية. هذا؛ وقال السمين: ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفا؛ أي: أنّى لهم الخلاص؟ ويكون ذكراهم فاعلا ب: {جاءَتْهُمْ} ولا تنس أنّ (إذا)، ومدخولها كلام معترض، وجوابها محذوف، التقدير: كيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؛ فكيف يتذكرون؟

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)}

الشرح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأورد على هذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله، وأنه لا إله إلا هو؛ فما فائدة هذا الأمر؟ وأجيب عنه: بأن معناه: دم على ما أنت عليه من العلم. فهو كقول القائل للجالس: اجلس؛ أي: دم على ما أنت عليه من الجلوس، أو يكون معناه: ازدد علما إلى علمك. وقيل: إن هذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد به غيره من أمته. انتهى. خازن.

{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: يحتمل وجهين: أحدهما: يعني:

استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. انتهى. أقول: وعليه فالمعنى عليها استعذ بالله، واعتصم به، والتجئ إليه. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين، والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان؛ أي: اثبت على ما أنت عليه من التوحيد، والإخلاص، والحذر عمّا تحتاج معه إلى استغفار. وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من كفر الكافرين، والمنافقين، فنزلت الاية: أي فاعلم: أنه لا كاشف يكشف ما بك إلاّ الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار؛ لتقتدي به الأمة. وقيل: الخطاب له، والمراد به الأمة. انظر ما

ص: 92

ذكرته في الاية رقم [106] من سورة (النساء)، وفي الاية رقم [43] من سورة (التوبة) من جواب للرد على من يرى جواز صدور الذنب من النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر أول سورة (الفتح) الاتية.

ولا يفوتني أن أذكر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار تعليما لأمته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّي لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة» . رواه البخاري، وفي رواية:«أكثر من سبعين مرة» . وفي الصحيح أيضا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهمّ اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي! اللهمّ اغفر لي هزلي، وجدّي، وخطئي، وعمدي! وكل ذلك عندي» ، وفي الصحيح أيضا أنه كان يقول في آخر الصلاة:«اللهمّ اغفر لي ما قدّمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي، لا إله إلاّ أنت» . ولا تنس أن في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إكراما لهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على الاستغفار، وهو تعليم لأمته إلى يوم القيامة، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إنّ داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار» . رواه البيهقي. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وغير ذلك كثير.

{وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ} أي: يعلم تصرفكم في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، كقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [60]:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} وقوله تعالى في سورة (هود) رقم [6]: {*وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في الدنيا والاخرة. وقال السدي: متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في قبوركم.

وقيل: متقلبكم من أصلاب الاباء إلى أرحام الأمهات، وبطونهن، ومثواكم في الدنيا، وفي القبور. والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وإن دقّ وخفي.

هذا؛ و (مثواكم) بمعنى: مقركم، ومقامكم، وهو مشتق من ثوى بالمكان: إذا أقام به، يثوي ثواء، وثويا، مثل مضى، يمضي، مضاء، ومضيّا، ولو كان من: أثوى؛ لكان: مثوى، وهذا يدلّ على أن ثوى هي اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى من قصيدته التي نظمها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:[الكامل] أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا

ومضى وأخلف من قتيلة موعدا

والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروي البيت (أثوى) على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى، ولا يتعدى. هذا؛ ومثوى بمعنى مأوى، والفرق بينهما: أن المثوى مكان الإقامة المنبئة

ص: 93

عن المكث، وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، ولو مؤقتا، وقدم المأوى على المثوى في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [151]:{وَمَأْواهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ؛} لأنه على الترتيب الوجودي، يأوي، ثم يثوي.

الإعراب: {فَاعْلَمْ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: الفصيحة، ولا وجه له. (اعلم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها {لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ} انظر إعرابها في الاية رقم [8] من سورة الدخان، والجملة الاسمية في محل خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي (اعلم)، وجملة:

(اعلم

) إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَاسْتَغْفِرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {لِذَنْبِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما.

{وَالْمُؤْمِناتِ:} معطوف على ما قبله. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من كاف الخطاب، وما عطف عليه؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير. {مُتَقَلَّبَكُمْ:} مفعول به.

{وَمَثْواكُمْ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف فيهما في محل جر بالإضافة.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)}

الشرح: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي: يقول المؤمنون الصادقون المخلصون:

هلا

إلخ، وذلك أن المؤمنين كانوا حراصا على الجهاد في سبيل الله، فقالوا: هلاّ أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد لكي نجاهد. {فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} أي: لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد، فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وقيل لها: محكمة؛ لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال قد نسخ ما كان من الصفح، والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ} أي: فرض فيها الجهاد، وشجعت عليه، ووعدت بالثواب العظيم للمجاهدين الصابرين. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك، ونفاق، فهو يمرض قلوبهم؛ أي: يضعفها، وذلك بضعف الإيمان فيها، والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت واستعير هنا لما في

ص: 94

قلوبهم من الجهل، وفساد العقيدة. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: نظر مغموصين مغتاظين بتحديد، وتحديق، كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا، وهلعا ولميلهم في السرّ إلى الكفار. {فَأَوْلى لَهُمْ:} فيه وعيد، وتهديد، وهو معنى قولهم في التهديد: ويلك! وقاربك ما تكره! قال الشاعر: [الوافر] فأولى ثمّ أولى ثمّ أولى

وهل للدّرّ يحلب من مردّ؟!

قال الأصمعي: معناه: قاربه ما يهلكه؛ أي: نزل به، وأنشد:[الوافر] فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثّلاث

وانظر الشاهد رقم [694] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وما يتعلق به. وانظر ما ذكرته في سورة (القيامة) رقم [34]. هذا؛ والمراد ب: {سُورَةٌ} في هذه الاية: الطائفة من القرآن؛ التي أقلها ثلاث آيات، منقولة من: سور المدينة؛ لأنها محيطة بطائفة من القرآن، محتوية على أنواع من العلم، احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السّورة، وهي الرتبة؛ لأنّ السور كالمراتب، والمنازل، يرتقي فيها القارئ، ولها مراتب في الطول، والقصر، والفضل، والشرف، وثواب القراءة. قال النابغة في مدح النعمان بن المنذر:[الطويل] ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

والحكمة في تفصيل القرآن، وتقطيعه سورا كثيرة: منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف؛ كان أحسن من أن يكون بيانا واحدا. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة، ثم أخذ في أخرى كان أنشط له، وأبعث على القراءة منه، لو استمرّ على القرآن بطوله، ومن ثمّ جزّئ القرآن أسباعا، وأجزاء، وعشورا، وأخماسا. ومنها: أن الحافظ إذا حفظ سورة، اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، لها فاتحة، وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجلّ في نفسه، ومنه حديث أنس-رضي الله عنه:«كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جلّ فينا» أي: عظم. ولذا أنزل الله التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السور، وبوب المصنّفون في كل فنّ من كتبهم أبوابا موشحة الصّدور بالتراجم. انتهى.

نسفي في غير هذه السورة بتصرف كبير مني.

الإعراب: {وَيَقُولُ:} الواو: حرف استئناف. (يقول): فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَوْلا:} حرف تحضيض، بمعنى هلاّ. {نُزِّلَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محلّ له. {سُورَةٌ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقول

) إلخ مستأنفة. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا):

ص: 95

انظر الاية رقم [4]. {أُنْزِلَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {سُورَةٌ:} نائب فاعل. {مُحْكَمَةٌ:} صفة له، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {وَذُكِرَ:} الواو: حرف عطف. (ذكر): ماض مبني للمجهول. {فِيهَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقِتالُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {رَأَيْتَ:} فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور:{فِي قُلُوبِهِمْ} متعلقين بمحذوف صلة الموصول، و {مَرَضٌ} فاعلا متعلق الجار والمجرور؛ فهو وجه صحيح، لا غبار عليه.

{يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الاسم الموصول، والرابط: الضمير فقط. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{رَأَيْتَ..} . إلخ، جواب (إذا)، لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {نَظَرَ:} مفعول مطلق مبيّن للنوع، وهو مضاف، و {الْمَغْشِيِّ} مضاف إليه، وهناك محذوفان؛ إذ التقدير: ينظرون نظرا مثل نظر المغشي. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: (المغشيّ)، أو هما في محل رفع نائب فاعله؛ لأنه اسم مفعول. {مِنَ الْمَوْتِ:} متعلقان ب: (المغشيّ).

{فَأَوْلى:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (أولى): فعل ماض، أو اسم فعل ماض. قاله الأصمعي، والمبرد، معناه: قربه ما يهلكه، وفاعله مضمر يدل عليه السياق، كأنه قيل: فأولى هو. وقد ارتضى هذا الرأي ثعلب، فقال: لم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي.

والأكثرون: أنها اسم، وعليه في إعرابه أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، خبره الجار والمجرور، التقدير: فالهلاك لهم. والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: العقاب، أو الهلاك أولى لهم.

والثالث: أنه مبتدأ، و {لَهُمْ} متعلقان به، واللام بمعنى الباء، و (طاعة) خبره، والتقدير: فأولى بهم طاعة دون غيرها. انتهى. سمين والجملة على الاعتبارين: الفعلية، والاسمية معطوفة على جواب:(إذا)، لا محلّ لها مثله.

{طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)}

الشرح: {طاعَةٌ} أي: الطاعة، والامتثال لما يأمر الله به، والانصياع لما يطلب منهم خير لهم، وأجمل بهم، وأليق من المخالفة لأمر الله تعالى، وعدم الانصياع لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. {وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: كلام جميل، ولطيف، واعتذار مقبول كذلك خير لهم، وأولى

ص: 96

بهم. {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: جدّ القتال، أو وجب فرض القتال؛ كرهوه، وأمر الله ورسوله به؛ تبرموا به وأعرضوا عنه. وانظر {عَزْمِ الْأُمُورِ} في الاية رقم [43] من سورة (الشورى).

{فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ} أي: فيما زعموا من الحرص على الجهاد، أو: فلو صدقوا في إيمانهم، ووافقت قلوبهم فيه ألسنتهم. ومعنى الاية، وسابقتها: أن المؤمنين تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله، وأمر به، نكل عنه كثير من الناس، وهم المنافقون؛ الذين يجبنون عند ملاقاة الأعداء، فهو كقوله عز وجل في سورة (النساء) رقم [77]:{فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} .

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {طاعَةٌ:} فيه أوجه: أحدها: أنه خبر: (أولى) على ما تقدم، الثاني: أنه صفة ل: {سُورَةٌ} ذكره مكي، وأبو البقاء. وفيه بعد لكثرة الفواصل. الثالث: أنه مبتدأ، و (قول) عطف عليه، والخبر محذوف، تقديره: أمثل بكم من غيرهما. وقدره مكي: منّا طاعة، فقدره مقدما. الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أمرنا طاعة. الخامس: أن {لَهُمْ} خبر مقدم، و {طاعَةٌ} مبتدأ مؤخر، والوقف، والابتداء يعرفان مما قدمته، فتأمل. انتهى. جمل نقلا من السمين. {مَعْرُوفٌ:} صفة: (قول). {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الاية رقم [4]. {عَزَمَ الْأَمْرُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجوابها محذوف، قدره القرطبي: فكرهوه، وقدره أبو البقاء: فإذا عزم الأمر؛ فاصدق. وقيل: جوابها قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا} نحو قولك: إذا جاءني طعام فلو جئتني؛ أطعمتك.

{فَلَوْ:} الفاء: حرف عطف على تقدير جواب (إذا) محذوفا، وواقعة في جواب:(إذا) على اعتبار (لو) ومدخولها جوابا لها. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {صَدَقُوا:}

ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَكانَ:} اللام: واقعة في جواب (لو).

(كان): فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الصدق المفهوم من:

{صَدَقُوا} . {خَيْراً:} خبر (كان). {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْراً،} وجملة: {لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام لا محلّ له على الوجهين المعتبرين في الفاء. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم.

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)}

الشرح: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ:} يقرأ هنا وفي سورة (البقرة) رقم [246] بكسر السين، وفتحها، والاستفهام ب:(هل) هنا للتقرير. قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: «عسى» طمع،

ص: 97

وترج، وتوقع، وذلك على الله محال؛ لأنه تعالى عالم بكل شيء، فما معناه؟ قلت: قال بعضهم: معناه: يفعل بكم فعل المترجي المبتلي. وقال بعضهم: معناه كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. هذا؛ ولعل، وعسى، وسوف في مواعيد الملوك البشرية كالجزم بها، وإنما يطلقونها إظهارا لوقارهم، وإشعارا بأن الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم، وعليه يجري وعد الله، ووعيده، بل هو أولى، وآكد إن شاء الله تعالى. {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم عن سماع القرآن، وفارقتم أحكامه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} وتعودوا إلى جاهليتكم. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-:

كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟! وقيل: هو من الولاية، وعليه فالمعنى: فهل عسيتم إن توليتم الحكم، فجعلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا، والظلم، والمعاصي، وقطع الأرحام. وعن يعقوب:

{تَوَلَّيْتُمْ} أي: إن تولاكم ظلمة؛ خرجتم معهم، وساعدتموهم في الإفساد، وقطيعة الرحم، وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمجهول، وقد قرأ بها علي-رضي الله عنه.

هذا؛ و (الأرحام) جمع: رحم، وهو كل من يمتّ إليك بصلة القرابة من جهة الأب، أو الأم، وقد أكد الله حقها بهاتين الايتين، والرسول صلى الله عليه وسلم رغّب في صلة الرحم، وحذّر من قطعها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق؛ حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى! قال: فذاك لك! ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ..}. إلخ الايتين» . رواه البخاري ومسلم.

والمعنى والله أعلم: أنّ الرحم لو كانت إنسانا يتكلم؛ لقال: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة! كما أنه لا يبعد أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش، وتكلم على لسانها بذلك أمر الله تعالى. وسواء أكانت الرحم تستجير بالله من قطيعتها على لسان الملائكة أو بلسان الحال الذي هو أبلغ من لسان المقال في كثير من الأحوال، فإن المراد توجيه النفوس إلى مكانة ذوي الأرحام، والقيام بواجبها من البر، والصلة، والود، والوفاء، والحب، والمعاونة، وأنها عند الله تعالى بمكان عظيم؛ حيث استجارت به من القطيعة؛ التي يترتب عليها الحقد، والحسد، والعداوة، والبغضاء، والفساد في الأرض، كما هو مشاهد في بعض الأسر؛ التي مزّقت فيها أواصر الرحم المقدسة.

الإعراب: {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام. {عَسَيْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَوَلَّيْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، ومتعلقه محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب

ص: 98

الشرط محذوف، لدلالة {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} عليه، أو هو نفس:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} عند من يرى تقديمه، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُفْسِدُوا} في محل نصب خبر (عسى)، ولا بدّ من تحويل المصدر إلى اسم فاعل «مفسدين» ؛ لأن المصدر لا يخبر به عن الجثة، والجملة الشرطية معترضة بين اسم:(عسى) وخبرها، ومثل هذه الاية في إعرابها الاية رقم [246] من سورة (البقرة). {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَتُقَطِّعُوا:} الواو: حرف عطف. (تقطعوا): معطوف على:

{تُفْسِدُوا،} فهو منصوب مثله، وعلامة نصبهما حذف النون؛ لأنهما من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. {أَرْحامَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{عَسَيْتُمْ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.

{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)}

الشرح: {أُولئِكَ:} إشارة إلى الذين قطعوا أرحامهم. {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ:} طردهم من رحمته، وحرمهم من جوده، وفضله، وإحسانه. {فَأَصَمَّهُمْ} أي: أذهب سمعهم. فلم يقل جلّت قدرته: فأصم آذانهم، كما قال: وأعمى أبصارهم، ولم يقل: وأعماهم؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السماع، فلم يتعرض لها، والأعين يلزم من ذهابها ذهاب الأبصار، {فَأَصَمَّهُمْ} أي: عن الحق. {وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} أي: عن الحق، وأبعدهم عن الخير، فأتبع الله الأخبار بأن من فعل ذلك؛ حقّت عليه لعنته، وسلبه الانتفاع بسمعه، وبصره؛ حتى لا ينقاد للحق، وإن سمعه بأذنه، ورآه بعينه، فجعله كالبهيمة؛ التي لا تعقل، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [18]:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وقال جلّ ذكره في سورة (الأعراف) رقم [179]: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ..} . إلخ.

هذا؛ وعن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرّحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها؛ وصلته، ومن قطعها؛ قطعته، أو قال: بتتّه» . رواه أبو داود، والترمذي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه» . رواه البخاري. وعن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرّحم معلّقة بالعرش، تقول: من وصلني؛ وصله الله، ومن قطعني؛ قطعه الله» . رواه البخاري، ومسلم. واللفظ له. وعن أبي بكرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدّنيا مع ما يدّخره له في الاخرة من البغي، وقطيعة الرّحم» . رواه ابن ماجه، والترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح، والأحاديث في «الترغيب والترهيب» في ذلك كثيرة مشهورة ومسطورة.

ص: 99

هذا؛ ولقد كرّر الله لعن الكافرين في الاية رقم [161] من سورة (البقرة)، كما لعن الظالمين، والكاذبين، والناقضين للعهد، والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره، فقد استحق اللعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين، وأمّا الأحياء من الكفار؛ فقد قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأنّ حاله لا يعلم عند الوفاة، فلعله يؤمن، ويموت على الإيمان، وقد قيد الله في آية البقرة إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم، فجمّلوها، وباعوها» .

وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله، وهو الصحيح، كيف لا؟ وقد لعن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان وزوجه هندا قبل أن يسلما في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم خذ قوله:[الكامل] لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم؛ الذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك! فشق ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق، فقال الفاروق: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال:«إني أعطيتهم الأمان!» . فقال الفاروق-رضي الله عنه: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، كيف لا؟ وآية النور رقم [7] تأمر المسلم أن يلعن نفسه إن كان من الكاذبين، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن عبد الله بن أبي ابن سلول وبني قينقاع لمّا تشفع فيهم، وألحّ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:«خلّوهم لعنهم الله، ولعنه معهم» ؛ وقال له:

«خذهم لا بارك الله لك فيهم» . زيني دحلان. هذا؛ وقال بكر المزني: نزلت الايتان في الحرورية، والخوارج؛ وفيه بعد. وقال ابن حيان: نزلت في قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك، والفراء؛ قالا: نزلت في بني أمية وبني هاشم. ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ..} . إلخ ثم قال: «هم الحيّ من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس؛ ألاّ يفسدوا في الأرض، ولا يقطعوا أرحامهم» . انتهى. قرطبي، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أُولئِكَ الَّذِينَ:} انظر الاية رقم [16] فالإعراب لا يتغير. {لَعَنَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فَأَصَمَّهُمْ:}

الفاء: حرف عطف. (أصمهم): فعل ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها أيضا.

ص: 100

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)}

الشرح: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي: يتفهمونه، فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام. أو المعنى: يتفكرون فيه، وفي مواعظه، وزواجره، وأصل التدبر: التفكر في عاقبة الشيء، وما يؤول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلاّ مع حضور القلب، وجمع الهمّ وقت تلاوته. ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف، وخلوص النية. {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} أي: بل على قلوب أقفالها، أقفلها الله عز وجل عليهم، فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية، والإمامية، والمعتزلة مذهبهم، وفي حديث مرفوع: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ عليها أقفالا كأقفال الحديد حتّى يكون الله يفتحها» . وقال أبو معاذ: الرّين أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرّين، والأقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب.

فإن قيل: قد أخبر الله تعالى بأنه أصمهم، وأعمى أبصارهم، فكيف يوبخهم على ترك التدبر، فهذا كقولك للأعمى: أبصر، وللأصم: اسمع؟! وقد أجيب بوجوه: الأول: أنّ التكليف بما لا يطاق جائز، وقد أمر الله من علم: أنّه لا يؤمن بالإيمان، فلذلك وبّخهم على ترك التدبر مع كونه أصمّهم، وأعمى أبصارهم، والله يفعل ما يريد.

الثاني: أنّ قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} راجع للناس، لا بقيد كونه أعماهم، وأصمّهم. الثالث:

أن يقال: إنّ هذه الاية وردت محققة لمعنى الاية المتقدمة، كأنه تعالى قال: أولئك الذين لعنهم الله؛ أي: أبعدهم عنه، أو عن الصدق، أو الخير، أو غير ذلك من الأمور الحسنة، فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام، فإذا هم بين أمرين: إما لا يتدبرون القرآن، فيبعدون عنه؛ لأنّ الله لعنهم وأبعدهم عن الخير، والصدق-والقرآن منهما، بل أشرف، وأعلى منهما-وإما يتدبرون، ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة. انتهى. جمل نقلا من الخطيب. هذا؛ وانظر شرح:{أَفَلا} في الاية رقم [51] من سورة (الزخرف).

هذا؛ وتدبر القرآن: التأمل في معانيه، والتبصر بما فيه، وأصل التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تدبر، وتأمل. والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل. وهذا يرد قول من زعم من الروافض: أنّ القرآن لا يفهم معناه إلاّ بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام المعصوم. هذا؛ وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: والله ما تدبّره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن، فما أسقطت منه حرفا، وقد أسقطه، والله كله! ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق، ولا عمل! وقال الزمخشري في كشافه:

وتدبر الايات القرآنية: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات

ص: 101

الصحيحة، والمعاني الحسنة؛ لأنّ من اقتنع بظاهر المتلو؛ لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور، لا يحلبها، ومهرة نثور، لا يستولدها. انتهى.

هذا؛ وقد استدلّ بهذه الاية وأمثالها من يجيز التفسير بالرأي، والاجتهاد. قالوا: والتدبر، والتفكر، والتذكر لا يكون إلاّ بالغوص عن أسرار القرآن، والاجتهاد في فهم معانيه، فهل يعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظورا على العلماء مع أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة؟!. انتهى. علوم القرآن للصابوني.

هذا؛ ولا تنس الاستعارة بقوله: {عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} حيث شبّه قلوبهم بالصناديق المغلقة، واستعار لها شيئا من لوازمها، وهي الأقفال المختصة بها، لاستبعاد فتحها، واستمرار انغلاقها.

الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف. (لا): نافية، {يَتَدَبَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {أَمْ:}

حرف عطف بمعنى (بل). {عَلى قُلُوبٍ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَقْفالُها:} مبتدأ مؤخر، و (ها): في محلّ جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها.

{إِنَّ الَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ..} . إلخ: قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس، والضحاك، والسدي:

هم المنافقون قعدوا عن القتال بعد ما علموه من القرآن. انتهى. أقول: وهو يعمّ كل من تبيّن له الهدى، ووضح الحق له، ثم هو ينحرف إلى الباطل، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه العلوم، وظهرت فيه الدلائل على أحقية الإسلام، ولا سيما المسلمون؛ الذين ارتدوا عن الإسلام، ودخل الإلحاد في قلوبهم، وعشّش فيها، ولا يخلو بيت مسلم من هذا في هذا الزمن.

{الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي: زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وإلحادهم، وضلالهم. {وَأَمْلى لَهُمْ:} قرئ الفعل بضم الهمزة، وكسر اللام، وفتح الياء بالبناء للمجهول، بمعنى: أمهلوا، ومدّ لهم في العمر. وقراءة العامة بفتح الهمزة واللام، بمعنى: أملى لهم الشيطان بأن مدّ لهم في الأمل، قال الخازن-رحمه الله تعالى-:

فإن قلت: الإملاء، والإمهال لا يكونان إلاّ من الله تعالى؛ لأنّه الفاعل المطلق، وليس للشيطان فعل قطّ على مذهب أهل السنة فما معنى القراءة؟ قلت: إن المسوّل، والمحلي هو الله

ص: 102

تعالى في الحقيقة وليس للشيطان فعل، وإنما أسند ذلك إليه من حيث إن الله تعالى قدر ذلك على لسانه ويده، فالشيطان يمنّيهم، ويزين لهم القبيح، ويقول لهم: في آجالكم فسحة، فتمتعوا بدنياكم، ورياستكم إلى آخر العمر. انتهى. بحروفه. هذا؛ وقرئ الفعل بضم الهمزة وسكون الياء على أنه مضارع. هذا؛ واختار أبو عبيد قراءة العامة؛ قال: لأنّ المعنى معلوم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وانظر الإعراب يتضح لك المعنى.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {اِرْتَدُّوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {عَلى أَدْبارِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وليس بالوجه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان به أيضا. {ما:} مصدرية. {تَبَيَّنَ:} فعل ماض. {لَهُمُ:} متعلقان به. {الْهُدَى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {ما} المصدرية، والفعل:{تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه.

{الشَّيْطانُ:} مبتدأ. {سَوَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الشَّيْطانُ} . {لَهُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الشَّيْطانُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ، لا محلّ لها لأنّها ابتدائية، أو مستأنفة.

{وَأَمْلى:} الواو: حرف عطف. (أملى): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ} .

{لَهُمُ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وهذه هي قراءة العامة، وعلى قراءة الفعل بالبناء للمجهول؛ فالجار والمجرور في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا لا محلّ لها. هذا؛ وعلى اعتباره مضارعا؛ فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: وأنا أملي لهم، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محلّ لها. وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المجرور باللام؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)}

الشرح: {ذلِكَ:} إشارة إلى التسويل، والإملاء. {بِأَنَّهُمْ} أي: بأن أهل الكتاب، أو المنافقين. {قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ} أي: وهم مشركو قريش، ومن حالفهم من قبائل العرب على الكفر، والضلال. {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} يعني: من التعاون على عداوة محمد

ص: 103

صلّى الله عليه وسلّم، وترك الجهاد معه، والقعود عنه، وكانوا يقولون ذلك سرا، فأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم خبرهم. هذا؛ وجزم أبو السعود بأن الكارهين ما نزل الله هم اليهود مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم وأنّ القائلين:{سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} هم المنافقون، كما حكى الله عنهم في سورة (الحشر):{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا..} . إلخ، كما ستعرفه هناك إن شاء الله تعالى. {وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ:} يقرأ بفتح الهمزة على أنه جمع سر، وبكسرها على أنه مصدر مثل قوله تعالى في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له

إلخ، وانظر باقي الإعراب في الاية رقم [9] فهو مثله بلا فارق. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بالفعل: {قالُوا،} وجملة: {كَرِهُوا..} . إلخ، صلة الموصول، لا محلّ لها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: كرهوا الذي نزّله الله. {سَنُطِيعُكُمْ:} السين: حرف استقبال. (نطيعكم): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل رفع خبر: (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ

إلخ. {فِي بَعْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْضِ} مضاف، و {الْأَمْرِ} مضاف إليه. والكلام:{ذلِكَ..} . إلخ، مستأنف، لا محلّ له. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف.

(الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {إِسْرارَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الله

) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة في {قالُوا} فالمعنى لا يأباه، وعليه؛ فالرابط: الواو، والضمير.

{فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)}

الشرح: {فَكَيْفَ..} . إلخ أي: فكيف حالهم، أو كيف يعملون إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، وتعاصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف، والقهر، والضرب؟! كما قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [50]:{وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} وقال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [93]: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ..} .

إلخ انظر شرح الايتين في محلهما.

ص: 104

الإعراب: {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فكيف حالهم، أو هو في محل نصب حال عامله فعل محذوف، التقدير: فكيف يصنع هؤلاء، أو كيف يعملون؟. {إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بمضمون المبتدأ، والخبر من هول الأمر وتعظيم الشأن، على الوجه الأول في:(كيف)، أو هو متعلق بالفعل المقدر على الوجه الثاني في:(كيف). {تَوَفَّتْهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة؛ التي هي حرف لا محلّ له، والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {يَضْرِبُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط.

{وُجُوهَهُمْ:} مفعول به. {وَأَدْبارَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أدبارهم): معطوف على ما قبله، والهاء فيهما في محل جر بالإضافة، والكلام {فَكَيْفَ..} . إلخ، مستأنف، لا محلّ له.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)}

الشرح: {ذلِكَ} أي: ذلك الضرب، والتوفي المذكور في الاية السابقة. {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. {وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ} يعني: كرهوا ما فيه رضوان الله، عز وجل، وهو الإيمان والطاعة، والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} أي: إنّ اتباعهم ما أسخط الله، وكراهيتهم رضوانه أحبط أعمالهم؛ التي عملوها من أعمال البر؛ لأنها لم تكن لله، ولا لمرضاته.

الإعراب: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا:} انظر الإعراب في الاية رقم [9] فهو مثله بلا فارق.

{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَسْخَطَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملتان:{وَكَرِهُوا..} . إلخ معطوفتان على جملة الصلة لا محلّ لهما مثلها، وإعرابهما واضح إن شاء الله تعالى.

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (29)}

الشرح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك، ونفاق، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [20]. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ} أي: يظهر أحقادهم على المؤمنين، فيبديها حتى يعرف

ص: 105

المؤمنون نفاقهم، واحدها: ضغن، وهو الحقد الشديد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:

حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم. وأنشد قول الشاعر: [الكامل] قل لابن هند ما أردت بمنطق

ساء الصّديق وشيّد الأضغانا

وقيل: أحقادهم. واحدها: ضغن، قال عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [37]:[الوافر] وأنّ الضّغن بعد الضّغن يفشو

عليك ويخرج الداء الدّفينا

وقال الجوهري: الضغن، والضغينة: الحقد. ولا تنس: أنّ الله عز وجل قد أخرج أضغان المنافقين، وكشف سترهم، وفضح سرائرهم في سورة (التوبة) وفي سورة (الأحزاب) وفي سورة (المنافقون) المسمّاة باسمهم، ولا سيما في سورة (النور) حيث قذفوا عائشة-رضي الله عنها بالزنى، وبرّأها الله وطهّرها تطهيرا مما قالوا، وافتروا.

الإعراب: {أَمْ:} حرف بمعنى «بل» والهمزة، فهي منقطعة عمّا قبلها. {حَسِبَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله مبني على الفتح في محل رفع. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محلّ لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول، و {مَرَضٌ} فاعلا بالجار والمجرور؛ أي: بمتعلقهما؛ فهو وجه صحيح، لا غبار عليه. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفّف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي ونصب واستقبال. {يُخْرِجَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} . {اللهُ:} فاعله. والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ} المخففة من الثقيلة، و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:{حَسِبَ،} والجملة الفعلية مستأنفة بعد {أَمْ} المنقطعة، لا محلّ لها. {أَضْغانَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)}

الشرح: {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ:} قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ} فكأنّ قائلا قال: لم لم يخرج أضغانهم، ويظهرها، فأخبر تعالى: أنه إنما أخّر ذلك لمحض المشيئة، لا لخوف منهم، فقال تعالى:{وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ} لا مانع لنا من ذلك، والإرادة بمعنى التعريف، والعلم. انتهى.

هذا؛ ولكن الله لم يفعل ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردا للسرائر إلى عالمها. هذا؛ والسيما: العلامة.

ص: 106

قال أنس-رضي الله عنه: ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنّا في غزاة، وفيها سبعة من المنافقين يشكّ فيهم الناس، فأصبحوا ذات ليلة، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق، فذلك سيماهم. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: في معنى القول وفحواه ومقصده، ولحن القول أسلوبه وإمالته إلى جهة تعريض، وتورية عن التصريح إلى المعنى، قال الشاعر:[الكامل] ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا

واللحن يعرفه ذوو الألباب

وهذا محمود من حيث البلاغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض» وإليه قصد بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وأمّا اللحن المذموم؛ فظاهر، وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب، أو التصحيف، ومعنى الاية: وإنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرّضون به من القول، من تهجين أمرك، وأمر المسلمين، وتقبيحه، والاستهزاء به. فكان بعد هذا لا يتكلّم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله، ويستدلّ بفحوى كلامه على فساد باطنه، ونفاقه. هذا؛ ولحنت بفتح الحاء ألحن لحنا: إذا قلت له قولا يفهمه عنك، ويخفى على غيره. ولحنه هو عنّي بكسر الحاء يلحنه لحنا؛ أي: فهمه، وألحنته أنا إياه، ولا حنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:[الخفيف] وحديث ألذّه هو ممّا

ينعت النّاعتون يوزن وزنا

منطق رائع وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

يريد أنها تتكلم بشيء، وهي تريد غيره، وتعرّض في حديثها، فتزيله عن جهته من فطنتها، وذكائها، وقد قال تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقال القتّال الكلابي: [الكامل] ولقد وحيت لكم لكي تتفهّموا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقال مرار الأسدي، وكله من القرطبي:[الطويل] لحنت بلحن فيه غشّ ورابني

صدودك ترضين الوشاة الأعاديا

وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، قال عقبة بن عامر-رضي الله عنه:

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:«إنّ منكم منافقين، فمن سمّيت؛ فليقم» ثم قال: «قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان» حتى سمّى ستّة وثلاثين رجلا ثم قال:

«إنّ فيكم، أو منكم منافقين، فاتّقوا الله» . قال: فمرّ عمر-رضي الله عنه-برجل ممن سمّى مقنّع قد كان يعرفه، فقال: مالك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بعدا لك سائر اليوم! {وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ:} فيجازيكم على حسب قصدكم؛ إذ الأعمال بالنيات، ولا يخفى عليه شيء منها.

ص: 107

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{نَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَأَرَيْناكَهُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لو).

(أريناكهم): فعل، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محلّ لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف. {فَلَعَرَفْتَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. اللام: واقعة في جواب (لو) تقديرا. (عرفتهم): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو)، لا محلّ لها مثلها. وكررت اللام للتأكيد. {بِسِيماهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ:} الواو: حرف عطف.

اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (تعرفنهم): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام معطوف على (لو) ومدخولها لا محل له مثله. {فِي لَحْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال؛ أي: حال كونهم لاحنين. و {لَحْنِ} مضاف، و {الْقَوْلِ:} مضاف إليه. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، {أَعْمالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المنصوب؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو فقط.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)}

الشرح: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي: ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد، وسائر التكاليف الشّاقّة. وقال الخازن: يعني: ولنعاملنكم معاملة المختبر، فإن الله تعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها، ووجودها. {حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ} أي: نأمركم بالجهاد؛ حتى يظهر المجاهد، ويتبين من يبادر منكم، ويصبر عليه من غيره؛ لأنّ المراد من قوله:{حَتّى نَعْلَمَ} أي: علم الوجود، والظهور؛ أي: علما شهوديا يشهده غيرنا مطابقا لما كنا نعلمه علما غيبيا في قديم الأزل. {وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} يعني: نظهرها، ونكشفها؛ ليتبين من يأبى القتال، ولا يصبر على الجهاد. هذا؛ وتقرأ الأفعال الثلاثة بالنون والياء، ويقرأ:«(نبلو)» بسكون الواو على تقدير: ونحن نبلو. وعن الفضيل بن عياض: أنه كان إذا قرأ هذه الاية بكى، وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.

الإعراب: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ:} الواو: حرف عطف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، أو نقسم. (نبلونكم):

ص: 108

فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف مفعول به، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {نَعْلَمَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل تقديره: «نحن» ، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة (لنبلونكم) جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه معطوف على ما قبله، لا محلّ له أيضا. {الْمُجاهِدِينَ:} مفعول به. {مِنْكُمْ:} متعلقان بالمجاهدين. {وَالصّابِرِينَ:}

معطوف على: {الْمُجاهِدِينَ} منصوب مثله، وعلامة نصبهما الياء لأنهما جمعا مذكر سالمان، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَنَبْلُوَا:} فعل مضارع معطوف على {نَعْلَمَ} منصوب مثله، والفاعل تقديره:«نحن» . هذا؛ وعلى قراءة الأفعال الثلاثة بالياء؛ فالفاعل مستتر تقديره: «هو» يعود إلى (الله)، ويبقى التأويل، والتقدير، والعطف كما هو، وعلى قراءة تسكين واو «(نبلو)» فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: ونحن نبلو، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من الفاعل المستتر في الفعلين السابقين، والرابط: الواو، والضمير. {أَخْبارَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا:} بالله، ورسوله، ودين الإسلام، وتعاليمه. {وَصَدُّوا} أي:

منعوا الناس. {عَنْ سَبِيلِ اللهِ:} عن دين الإسلام. {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ:} خالفوه، وعاندوه، وآذوه وحاربوه. قيل: هم المنافقون. وقيل: هم اليهود: قريظة، والنضير. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم المطعمون يوم بدر، نظيرها قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [36]:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} .

أقول: وخصوص السبب لا يمنع التعميم، فهو عام إلى يوم القيامة، وانظر ما أذكره في الاية التالية. {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى:} يعني من بعد ما ظهر لهم أدلة الهدى، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحقية الإسلام. {لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً:} بكفرهم، ومخالفتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا صدقه، وإنما يضرون أنفسهم بذلك، والله منزّه عن ذلك. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} أي: سيبطل ثواب أعمالهم، التي يرون: أنها صالحة، من صلة رحم، وبر والدين، وحسن جوار، كما رأيت في سورة (النور) رقم [39] وسورة (الفرقان) رقم [23]. هذا؛ وتبيّن الشيء، وبان، وأبان، واستبان كله واحد، وهو لازم، وقد يستعمل بعضها متعديا.

ص: 109

الإعراب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا:} انظر مثل هذه الكلمات في الاية رقم [25]. {وَصَدُّوا:} الواو:

حرف عطف. (صدوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محلّ لها مثلها، وجملة:{وَشَاقُّوا الرَّسُولَ:} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} مصدرية. {تَبَيَّنَ:} ماض. {لَهُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْهُدى:}

فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {ما} والفعل:{تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد تبيّن الهدى لهم. {لَنْ:} حرف ناصب. {يَضُرُّوا:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {اللهِ:}

منصوب على التعظيم. {شَيْئاً:} نائب مفعول مطلق، التقدير: ضرا شيئا، أو هو صفة له كما ترى. {وَسَيُحْبِطُ:} الواو: حرف عطف. السين: حرف استقبال. (يحبط): مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} . {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي: فيما يأمران به، وينهيان عنه.

هذا؛ وقد قرن الله طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم في كثير من الايات، من ذلك قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [80]:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} . ومن القرطبي: وفي حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال:

أطيع الله، ولا أطيع الرسول، والله تعالى يقول:{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،} ومن قال: أقيم الصلاة، ولا أوتي الزكاة، والله تعالى يقول:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ،} ومن فرّق بين شكر الله، وشكر والديه، والله عز وجل يقول:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} . انتهى. وينبغي أن تعلم:

أنّه لما ذكر الله-عز وجل-الكفار بسبب مشاقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمر الله المؤمنين بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ:} قال عطاء: يعني: بالشرك، والنفاق. والمعنى: داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان، والطاعة، ولا تشركوا، فتبطل أعمالكم. وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصيانه. وقال الكلبي: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء، والسمعة؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلاّ ما كان خالصا لوجهه الكريم. وقال الحسن: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي، والكبائر.

ص: 110

قال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون: أنّه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الاية، فخافوا من الكبائر أن تحبط أعمالهم، واستدلّ بهذه الاية من يرى إحباط الطاعات بالمعاصي (وهم: المعتزلة، والخوارج) ولا حجة لهم فيها، وذلك لأن الله تعالى يقول في سورة (الزلزلة):{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [40]: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} بعد أن قال: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} فالله تعالى أعدل وأكرم من أن يبطل طاعات سنين عديدة بمعصية واحدة.

وروي عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أنه قال: كنا نرى أنه لا شيء من حسناتنا إلاّ مقبولا حتى نزل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر، والفواحش؛ حتى نزل:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} الاية رقم [48 و 116] من سورة (النساء)، فكففنا عن ذلك القول، وكنا نخاف على من أصاب الكبيرة، ونرجو لمن لم يصبها.

واستدلّ بهذه الاية من لا يرى إبطال النوافل (وهم الحنفية، والمالكية) حتى لو دخل في صلاة تطوع، أو صوم تطوع، لا يجوز له إبطال ذلك العمل، والخروج منه، ولا دليل لهم في الاية، ولا حجة؛ لأنّ السنة مبيّنة للكتاب، وقد ثبت في الصحيحين: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائما، فلمّا رجع إلى البيت وجد حيسا، فقال لعائشة-رضي الله عنها:«قرّبيه فلقد أصبحت صائما» . فأكل، وهذا معنى الحديث، وليس بلفظه، وفي الصحيحين أيضا: أنّ سلمان الفارسي زار أبا الدرداء-رضي الله عنهما، فصنع له طعاما، فلما قرّبه إليه، قال: كل فإني صائم، قال:

لست بآكل؛ حتى تأكل! فأكل معه. أقول: والحديث: «المتطوع أمير نفسه مشهور» انتهى. إلا في الحج لا يجوز له إبطاله؛ ولو كان تطوعا. خازن.

وقال مقاتل في معنى الاية: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبطل أعمالكم. نزلت في بني أسد، وسنذكر القصة في سورة (الحجرات) إن شاء الله تعالى. انتهى. خازن بتصرف مني. هذا؛ وقد ذكر الزمخشري في كشافه أدلة تدعم مذهبه في الاعتزال وهو أنّ الكبيرة تحبط العمل، وقد فندها له محشي الكشاف الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [7]. {أَطِيعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، لا محلّ لها مثلها، وجملة:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تُبْطِلُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَعْمالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا.

ص: 111

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (34)}

الشرح: قيل: نزلت هذه الاية في أهل القليب، وهم: أبو جهل، وأصحابه الذين قتلوا ببدر، وألقوا في قليب بدر. وحكمها عام في كل كافر مات على كفره، فإن الله لا يغفر له لقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [48]:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} ويدلّ بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ:} انظر الاية رقم [32] والمحال عليها برقم [25] فإن الإعراب لا يتغير. {ثُمَّ:} حرف عطف. {ماتُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها.

{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{كُفّارٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {فَلَنْ:} الفاء: حرف صلة. (لن): حرف ناصب. {يَغْفِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن). {اللهِ:} فاعله. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:

{إِنَّ،} وزيدت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ، ابتدائية، أو مستأنفة لا محلّ لها.

تنبيه: زيدت الفاء في الخبر في هذه الاية، ولم تزد في الاية رقم [32]؛ لأن عدم المغفرة في هذه الاية مسبب عن كفرهم بالله، وصدهم الناس عن سبيل الله، وموتهم على الكفر، بخلاف الاية السابقة فإنهم لم يضروا الله في حال من الأحوال، ومهما صنعوا من الكفر، وغيره؛ فإنهم لم، ولن يضروا الله مثقال ذرة، كما جاء في الحديث القدسي:«يا عبادي لو أنّ أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا» . والعكس مثله، وهو ما أفادته الجملة السابقة في الحديث:«يا عبادي لو أنّ أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا» .

{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)}

الشرح: {فَلا تَهِنُوا} أي: فلا تضعفوا عن القتال، والجهاد، وفي (آل عمران) رقم [139]:

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} والوهن: الضعف، والخور، وقد وهن الإنسان، ووهنه غيره، يتعدى، ولا يتعدى، فهو من باب: وعد، وهي اللغة الفصحى، ومن باب: ورث، يرث لغة فيه، ومن باب: فرح، يفرح لغة شاذة، وقد حذفت الواو من مضارعه في: جميع اللغات، كما في وعد، يعد، ووجد، يجد

إلخ.

ص: 112

{وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي: المسالمة، والمهادنة، قرئ بفتح السين، وكسرها، كما في الاية رقم [207] من سورة (البقرة)، والاية رقم [61] من سورة (الأنفال) وإن كانت آية (البقرة) بمعنى الإسلام. هذا؛ وأنّث الضمير العائد إلى السلم في آية (الأنفال) بقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها..} . إلخ لحملها على نقيضها، وهو الحرب، والعداوة. قال العباس بن مرداس السلمي الصحابي من أبيات يخاطب بها أبا خراشة خفاف بن ندبة الصحابي أيضا رضي الله عنهما:[البسيط] السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: أنتم أعلى منهم شأنا، فإنكم على الحق، وهم على الباطل، وقتالكم لله، وقتالهم للشيطان، وقتلاكم في الجنة، وقتلاهم في النار. أو: أنتم الأعلون في العاقبة، فيكون بشارة لهم بالنصر، والغلبة؛ لأنهم مؤمنون، وإن غلبوا في الظاهر في بعض الأحوال.

هذا؛ و {الْأَعْلَوْنَ} جمع: الأعلى، فحذفت الألف عند الجمع لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وبقيت الفتحة على اللام لتدلّ عليها. هذا في حالة الرفع، وخذ في حالة النصب قوله تعالى في سورة (ص) رقم [47]:{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} . وأصل الأول: الأعلوون (بواوين) الأولى لام الكلمة، والثانية واو جمع المذكر السالم، والتي تقلب ياء في حالتي النصب، والجر، فيقال: تحركت الواو الأولى، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف الأولى لالتقاء الساكنين.

{وَاللهُ مَعَكُمْ} أي: بالنصر والمعونة، والتأييد، مثل قوله تعالى:{وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وفي كثير من الايات: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} . {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أي: لن ينقصكم أعمالكم؛ أي: ينقص ثوابها، بل يوفيكم ثوابها كاملا، ومنه الموتور الذي قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره، يتره وترا، وترة.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم؛ إلاّ كان عليهم ترة، فإن شاء؛ عذبهم، وإن شاء؛ غفر لهم» . رواه أبو داود، والترمذي، واللفظ له، وقال: حديث حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة العصر؛ فكأنّما وتر أهله، وماله» .

الإعراب: {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: أي: إذا تبين لكم ما تلي عليكم، فلا تهنوا، فإن من كان الله عليه لا يفلح. (لا): ناهية جازمة. {تَهِنُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» ، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها. {وَتَدْعُوا:} الواو: حرف عطف. وقيل: هي واو المعية بعدها

ص: 113

«أن» مضمرة. (تدعوا): مضارع مجزوم، أو منصوب، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون

إلخ، والواو فاعله، فعلى الجزم فالجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وعلى النصب، فتؤول «أن» المضمرة والفعل بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم وهن، ودعوة. {إِلَى السَّلْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَنْتُمُ:} الواو: واو الحال.

(أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْأَعْلَوْنَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله): مبتدأ. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال مثلها. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف ناصب. {يَتِرَكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن) والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به أول. {أَعْمالَكُمْ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، وإن كانت (لن) للاستقبال؛ فساغ ذلك بسبب العطف.

{إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)}

الشرح: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا:} في هذا الحصر إشارة إلى تحقير الدنيا، كيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى الكافر منها جرعة ماء، ولقد وصف الله تعالى في هذه الاية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم بالدنيا؛ لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله الحريري إذ يقول:[الكامل] يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

أو: هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيا.

{لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: كما يلعب، ويلهو به الصبيان، ويجتمعون عليه، ويبتهجون به ساعة، ثم يتفرقون متعبين، واللعب: العبث، واللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا. وقيل: هو الاشتغال بما لا يعني الإنسان، وما لا يهمه. والمعنى: ليس ما أعطاه الله الأغنياء من حطام الدنيا، إلاّ وهو يضمحل، ويزول كاللعب، واللهو؛ الذي لا حقيقة له، ولا ثبات. وقال الخازن: واللعب: ما يشغل الإنسان، وليس فيه منفعة في الحال، ولا في المال، ثم إذا استعمله الإنسان، ولم يشغله

ص: 114

عن غيره، ولم ينسه أشغاله المهمة؛ فهو اللعب، وإن أشغله عن مهمات نفسه؛ فهو اللهو، وقال بعضهم: إن بقيت لك الدنيا؛ لم تبق لها، وأنشد:[الطويل] تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت

وتحدث من بعد الأمور أمور

وتجري الليالي باجتماع وفرقة

وتطلع فيها أنجم وتغور

فمن ظنّ أنّ الدهر باق سروره

فذاك محال لا يدوم سرور

عفا الله عمّن صيّر الهمّ واحدا

وأيقن أنّ الدائرات تدور

وما أحسن قول الشافعي-رضي الله عنه: [الطويل] وما هي إلاّ جيفة مستحيلة

عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

{وَإِنْ تُؤْمِنُوا:} بالله، ورسوله، وتنقادوا لأوامرهما. {وَتَتَّقُوا:} الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي: يوفكم أجور أعمالكم، وثوابها في الاخرة. {وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، وهو ربع العشر من أموالكم، وهو زكاة أموالكم، ثم ترد عليكم، ليس لله، ورسوله فيها حاجة، إنما فرضها الله تعالى في أموال الأغنياء، وردها على الفقراء، فطيبوا بإخراج الزكاة بأنفسكم. وإلى هذا القول ذهب سفيان بن عيينة.

وقيل: المعنى: لا يسألكم أموالكم لنفسه، أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله؛ ليرجع ثوابه إليكم. وقيل: لا يسألكم أموالكم، إنما يسألكم أموالكم، إنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة، كما قال تعالى في كثير من الايات:{قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} . انتهى. خازن، وقرطبي. بتصرف كبير.

الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة، ومكفوفة. {الْحَياةُ:} مبتدأ. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لَعِبٌ:} خبر المبتدأ. {وَلَهْوٌ:} معطوف عليه، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن):

حرف شرط جازم. {تُؤْمِنُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. (تتقوا): فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، أو هو منصوب ب:«أن» مضمرة بعد واو المعية، وعليه يؤول الفعل مع «أن» المضمرة بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: وإن يحصل منكم إيمان، وتقاة. ومثل الاية قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [166] من كتابنا: «فتح رب البرية-: [الطويل]

ص: 115

ومن يقترب منّا ويخضع نؤوه

ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما

{يُؤْتِكُمْ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به أول. {أُجُورَكُمْ:}

مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية.

{يَسْئَلْكُمْ:} مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، والكاف مفعول به أول، والفاعل يعود إلى الله، أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَمْوالَكُمْ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة.

هذا؛ ويجوز في العربية نصب الفعل: {يَسْئَلْكُمْ} ورفعه، ولكن لم أجد من قرأ هنا بهما وقد قرئ بالأوجه الثلاثة:{فَيَغْفِرُ} في الاية رقم [284] من سورة (البقرة) وهي قوله تعالى: {لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وما ذكرته في الاية الكريمة من وجوه الإعراب مقرر في القواعد النحوية، كما يلي: إذا عطف مضارع بالواو، أو بالفاء على فعل الشرط يجوز جزمه ونصبه، وإذا عطف على الجواب مضارع بالواو، أو بالفاء، يجوز جزمه ونصبه ورفعه، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفا أو الواو بتثليث قمن

وجزم أو نصب لفعل إثر فا

أو واو إن بالجملتين اكتنفا

ومن شواهد المسألة الأولى في قول ابن مالك قول الشاعر: [الوافر] فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشّهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

حيث روي «نأخذ» بالأوجه الثلاثة؛ أي: الرفع، والنصب، والجزم.

{إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)}

الشرح: {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها} أي: يسألكم الأموال كلها، ويدعوكم إلى إنفاقها كلها.

{فَيُحْفِكُمْ} أي: يجهدكم، ويشق عليكم، ويطلبها كلها، والإحفاء: المبالغة، وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، وأحفى شاربه: استأصله.

هذا؛ وأحفى بالمسألة، وألحف، وألحّ بمعنى واحد. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [187]:{يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} وفي سورة (مريم) رقم [47]: قوله تعالى حكاية من قول إبراهيم لأبيه: {قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا} . {تَبْخَلُوا:} يعني:

ص: 116

بالمال، فلا تعطوه. {وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ:} يعني بغضكم، وعداوتكم لشدة محبتكم للمال. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: علم الله: أنّ الإحفاء بمسألة الأموال مخرج للأضغان. انتهى. وهذا من حيث محبة الأموال بالجبلة، والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته؛ التي كان يسرها، ولا يصرف المال إلاّ فيما هو أحب إلى الشخص منه. هذا؛ والفعل يقرأ بالياء، والتاء، والنون، وانظر شرح (الضغن) في الاية رقم [29] ولم يذكر في غير هذه السورة.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَسْئَلْكُمُوها:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (الله) أو إلى (الرسول)، والكاف مفعول به أول، والميم علامة جمع الذكور، فحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، و (ها): مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَيُحْفِكُمْ:} الفاء: حرف عطف.

(يحفكم): مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره:«هو» مثل سابقه، والكاف مفعول به. {تَبْخَلُوا:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {وَيُخْرِجْ:} الواو: حرف عطف. (يخرج): معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى ما عاد إليه ما قبله، أو إلى البخل المفهوم من تبخلوا ولعله أرجح.

وعلى قراءته بالنون؛ فالفاعل تقديره: «نحن» ، و {أَضْغانَكُمْ:} مفعول به، وعلى قراءته بالتاء؛ فالفاعل:{أَضْغانَكُمْ} . هذا؛ ويجوز في هذه الاية ما جاز في الاية السابقة من أوجه الإعراب.

بقي أن تعرف: أنّه اتصل بالفعل (يسأل) ضميران منصوبان: ضمير خطاب، وضمير غيبة، والأول أعرف، فيجوز في مثل ذلك الفصل، والوصل أرجح، ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (هود) على حبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{أَنُلْزِمُكُمُوها} رقم [28]. وأيضا قوله تعالى في سورة (البقرة): {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} رقم [137] قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] صل أو افصل هاء سلنيه وما

أشبهه في كنته الخلف انتمى

{ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)}

الشرح: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ} أي: أنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصوفون بما يذكر. {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: يطلب منكم أن تبذلوا المال في وجوه الخير، كلما دعاكم داع إلى

ص: 117

ذلك. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ:} بعض منكم يبخل بما فرض الله عليه إخراجه من الزكاة، أو ندب إلى إنفاقه في وجوه البر؛ أي: ومنكم من يجود، فحذف هذا المقابل؛ لأنّ المراد الاستدلال على البخل. {وَمَنْ يَبْخَلْ:} يعني بالصدقة، وأداء الفريضة؛ فلا يتعداه ضر بخله. {فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي: على نفسه؛ أي: يحرمها الأجر والثواب، ومرضاة رب العالمين. {وَاللهُ الْغَنِيُّ} أي: عن صدقاتكم، وطاعاتكم؛ لأنه الغني المطلق؛ الذي له ملك السموات، والأرض.

{وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ} أي: إليه وإلى ما عنده من الخيرات، والثواب في الدنيا، والاخرة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} أي: تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن القيام بما أمركم به، وألزمكم إياه.

{يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ:} يكونون أطوع لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم منكم. قال الكلبي: هم كندة، والنخع من عرب اليمن. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس، والروم، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا..} . إلخ، قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان الفارسي-رضي الله عنه-ثم قال:

«هذا وأصحابه» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وفي إسناده مقال، وله رواية أخرى عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل إن تولينا؛ استبدلوا منا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، فقال:«هذا وأصحابه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا؛ لتناوله رجال من فارس!» . ولهذا الحديث طرق في الصحيح.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [54]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..} . إلخ، انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وفي الجملة: هذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} أي: في البخل بالإنفاق في سبيل الله، وحكي عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-أنه لما نزلت هذه الاية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«هي أحبّ إليّ من الدنيا» . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وخذ ما يلي:

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله جنة عدن بيده، ودلّى فيها أثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها، فقال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزّتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط بإسنادين، أحدهما جيد. وعن الحسن-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بقوم خيرا؛ ولّى أمرهم الحكماء، وجعل المال عند السّمحاء. وإذا أراد الله بقوم شرّا؛ ولّى أمرهم السفهاء، وجعل المال عند البخلاء» . رواه أبو داود في مراسيله.

ص: 118

الإعراب: {ها أَنْتُمْ:} (ها): حرف تنبيه لا محلّ له. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه أيضا. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها.

{تُدْعَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة مقررة لما قبلها. هذا؛ ويعتبر الكوفيون {هؤُلاءِ} اسما موصولا خبر المبتدأ، والجملة الفعلية صلة له، لا محل لها، ولم يجزه البصريون؛ لأنّ {هؤُلاءِ} اسم إشارة، ولا يكون بمعنى:«الذين» هذا؛ وجه للإعراب.

الوجه الثاني: الضمير مبتدأ، والجملة الفعلية خبره، و {هؤُلاءِ} منادى بأداة نداء محذوفة، والجملة الندائية معترضة بين المبتدأ والخبر، وهذا عند الكوفيين، واستدلّوا بقول ذي الرمّة، -وهو الشاهد رقم [1094] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل] إذا هملت عيني لها قال صاحبي

بمثلك هذا لوعة وغرام

فإنه أراد: (يا هذا) والبصريون يعتبرون حذف حرف النداء من اسمي الجنس، والإشارة شاذا، وابن هشام يقول بقولهم، أما ابن مالك فلم يعتبره شاذا لوروده في الشعر العربي خذ قوله:[الرجز] وغير مندوب ومضمر وما

جا مستغاثا قد يعرّى فاعلما

وذاك في اسم الجنس والمشار له

قلّ ومن يمنعه فانصر عاذله

الوجه الثالث: اعتبار {هؤُلاءِ} مفعولا به لفعل محذوف، أعني:{هؤُلاءِ،} والجملة الفعلية معترضة بين المبتدأ، والخبر.

الوجه الرابع: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ} مبتدأ، وخبر على تقدير مضاف محذوف، التقدير: ها أنتم مثل هؤلاء، كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، فعلى هذا جملة:{تُدْعَوْنَ} في محل نصب حال من {هؤُلاءِ} والعامل في الحال معنى التشبيه.

الوجه الخامس اعتبار هؤلاء مبتدأ ثانيا، والجملة الفعلية خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وهو الضمير. {لِتُنْفِقُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، و «أن» المضمرة، والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي سَبِيلِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف. و {اللهِ} مضاف إليه.

{فَمِنْكُمْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (منكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.

{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {يَبْخَلُ:} مضارع،

ص: 119

والفاعل يعود إلى: {مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [16]، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَبْخَلُ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(إنما): كافة ومكفوفة. {يَبْخَلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {عَنْ نَفْسِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وجملتا الشرط، والجواب في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله الغني): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، والجملة الاسمية بعدها معطوفة عليها. هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير في الجملة الثانية. {وَإِنْ:} الواو:

حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {تَتَوَلَّوْا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها

إلخ. {يَسْتَبْدِلْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية. {قَوْماً:}

مفعول به. {غَيْرَكُمْ:} صفة: {قَوْماً،} والكاف في محل جر بالإضافة، و (إن) ومدخولها معطوف على قوله تعالى:{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا..} . إلخ، وما بينهما كلام معترض. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف النون، والواو اسمه. {أَمْثالَكُمْ:} خبر: {يَكُونُوا،} والكاف في محل جر بالإضافة. تأمل وتدبر، والله أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (محمد صلى الله عليه وسلم، شرحا وإعرابا، بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 120