المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الجمعة بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الجمعة) مدنية في قول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الجمعة بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الجمعة) مدنية في قول

‌سورة الجمعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الجمعة) مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية، ومئة وثمانون كلمة، وسبعمئة وعشرون حرفا. انتهى. خازن. وخذ ما يلي:

عن أبي لبابة بن عبد المنذر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر، فيه خمس خلال:

خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاء إياه؛ ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر، إلا وهنّ يشفقن من يوم الجمعة». رواه الإمام أحمد، وغيره. وعن أوس بن أوس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصاعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ» . قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت-يعني: بليت-فقال: «إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وعن عبد الله بن بسر-رضي الله عنه-قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اجلس؛ فقد آذيت وآنيت» . أي: أخرت المجيء. رواه أحمد، وغيره. وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر» . رواه الترمذي. وعن أبي قتادة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة، طبع الله على قلبه» . رواه أحمد. وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة، فقال:«عسى رجل تحضره الجمعة؛ وهو على قدر ميل من المدينة؛ فلا يحضر الجمعة، ثم قال في الثانية: عسى رجل تحضره الجمعة؛ وهو على قدر ميلين من المدينة، فلا يحضرها. وقال في الثالثة: عسى رجل تحضره الجمعة، وهو على قدر ثلاثة أميال من المدينة، فلا يحضر الجمعة، ويطبع الله على قلبه» . رواه أبو يعلى بإسناد لين.

ص: 687

بسم الله الرحمن الرحيم

{يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}

الشرح: {يُسَبِّحُ لِلّهِ:} إنما اختص التسبيح بالذكر من بين أنواع الذكر لبيان فضله على سائر الأذكار، كما اختص جبريل، وميكائيل بالذكر من بين الملائكة لبيان فضلهما؛ لأن معنى التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات، ولأن التسبيح صلاة الخلق أجمعين وعبادتهم لله تعالى. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [44]:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} . هذا؛ والتسبيح يأتي بمعنى الدعاء قال جرير: [الطويل] فلا تنس تسبيح الضّحى إن يوسفا

دعا ربّه فاختاره حين سبّحا

هذا؛ وقد جاء لفظ التسبيح في القرآن الكريم بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع:

المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر، وهذا الفعل بألفاظه الأربعة، قد عدّي باللام تارة، مثل قوله:{سَبَّحَ لِلّهِ،} وقوله جلت حكمته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ..} . إلخ، وأيضا الاية التي نحن بصدد شرحها. وبنفسه أخرى مثل قوله تعالى:{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} رقم [9] من سورة (الفتح)، ومثلها في سورة (الأحزاب) رقم [42] وهو بصيغة الأمر:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وقوله تعالى في آخر سورة (ق): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى سبحته: بعدته من السوء، منقول من سبح: إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل:

نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له. وإما أن يراد ب: سبّح لله: اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا. انتهى. النسفي من سورة (الحديد). وانظر شرح الأسماء الحسنى في الاية رقم [23] من سورة (الحشر).

تنبيه: الأصل أن تكون (من) للعاقل و (ما) لغير العاقل، وقد يعكس هذا، فتستعمل (من) لغير العاقل، كما في قوله تعالى:{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ} الاية رقم [45] من سورة (النور)، وتستعمل:{ما} للعاقل كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} رقم [3] من سورة (النساء) وهذا من باب التقارض، وذلك قليل، وأكثر ما تكون {ما} للعاقل: إذا اقترن العاقل بغير العاقل-كما في الاية الكريمة-في حكم واحد، وقوله تعالى:

{وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} رقم [49] من سورة (النحل) فإن كل ما في السموات، والأرض ممن يعقل، وما لا يعقل قد اقترنا في حكم واحد، وهو السجود، والتسبيح، كما رأيت في آية (الإسراء) المذكورة فيما سبق، ويكون في الكلام تغليب. كما تستعمل في المبهم أمره، كقولك، وقد رأيت شبحا من بعد: انظر إلى ما أرى. و (من) و (ما) تكونان بلفظ واحد للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث.

ص: 688

ملخص ما تقدم أن (من) تستعمل لغير العاقل في ثلاث مسائل:

1 -

أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل، وذلك كقوله تعالى في سورة (الأحقاف) رقم [5]:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} فدعاء الأصنام التي لا تستجيب الدعاء نزلها منزلة العاقل؛ إذ لا ينادى إلا العقلاء.

2 -

أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد، كقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} الاية رقم [17] من سورة (النحل)، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الاية رقم [18] من سورة (الحج).

3 -

أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل، كما في آية (النور) المذكورة آنفا؛ إذ الدابة تعم أصناف من يدب على وجه الأرض، وقد فصلها على ثلاثة أنواع. وتستعمل (ما) للعاقل في ثلاث مسائل أيضا:

1 -

إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد، وهو كثير كما في الاية التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (طه) رقم [6]:{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} .

2 -

إذا نزل العاقل منزلة غير العاقل، كقوله تعالى في سورة (النساء) الاية [3]:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ،} وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [3] وفي كثير من الايات: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} .

3 -

تستعمل (ما) في المبهم أمره، كقولك، وقد رأيت شبحا من بعيد:(انظر إلى ما أرى).

الإعراب: {يُسَبِّحُ:} فعل مضارع. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. وقيل: اللام صلة، وعليه فلفظ الجلالة مجرور لفظا، منصوب محلا. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل {يُسَبِّحُ،} والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها.

{فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والإعراب مثله. {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ:} هذه الأسماء كلها بدل من لفظ الجلالة، أو هي نعوت له. هذا؛ ويقرأ برفعها على القطع على تقدير مبتدأ محذوف للأول، أو تقدير مبتدآت للكل، ويجوز في العربية نصبها على القطع بتقدير فعل ينصبها، وهذا جائز في العربية، ويعبر عنه بقطع النعت عن المنعوت، أو بقطع التابع عن المتبوع إذا كان للمدح، أو للذم، أو للترحم والترفق. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] واقطع أو اتبع إن يكن معيّنا

بدونها أو بعضها اقطع معلنا

وارفع، أو انصب إن قطعت مضمرا

مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا

ص: 689

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ:} هم العرب، كما قال تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} رقم [20] من سورة (آل عمران). {رَسُولاً مِنْهُمْ:} هو محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى {مِنْهُمْ:} من أنفسهم، كقوله تعالى في آخر سورة (التوبة):{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} . هذا؛ والأمي: هو الذي لا يقرأ، ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأنه باق على حالته التي ولد عليها، وهذا الوصف من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كثير من الأنبياء كان يقرأ، ويكتب. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [157]:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وصفه الله بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته، وهو وصف ذم إلا في حقه صلى الله عليه وسلم، فهو وصف تعظيم، وتمجيد؛ ولذا قال تعالى ممتنا عليه:{وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} رقم [48] من سورة (العنكبوت)، وقد قال الله تعالى في حق سفلة اليهود:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ} رقم [78] من سورة (البقرة).

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ:} يقرأ عليهم آيات القرآن؛ التي أنزلها الله عليه. {وَيُزَكِّيهِمْ:} يطهرهم من الشرك، والمعاصي، وسوء الطباع، ومن خبائث العقائد، والأعمال. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ:} القرآن، وما فيه من الشرائع، والأحكام، ومعالم الدين من المنقول، والمعقول، ولو لم يكن له سواه معجزة؛ لكفاه. {وَالْحِكْمَةَ:} السنة، وما تكمل به نفوسهم من المعارف، والأحكام، والأخلاق.

وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة.

هذا؛ والحكمة: الإصابة في الرأي، والمعتقدات، والفقه في الدين، والعقل، والعمل. وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: والحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها، وهي من منح الله لمن يشاء من عباده. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [268]:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً،} وقال تعالى في سورة (لقمان) رقم [12]: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ} . والحكم بضم الحاء: الإصابة في الحكم، والرأي، فهو مثل: الحكمة. {وَإِنْ كانُوا} أي: كفار قريش، والعرب قاطبة. {مِنْ قَبْلُ:} من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ:} في جهالة جهلاء، وضلالة عمياء، كما هو معروف لدى جميع الناس.

قال ابن كثير-رحمه الله تعالى-: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إبراهيم الخليل، عليه السلام، فبدلوه، وغيروه، واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها

ص: 690

الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم، وحرفوها، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم، شامل كامل، فيه الهداية، والبيان لكل ما يحتاج إليه الناس من أمر معاشهم، ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين، والاخرين. انتهى.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بَعَثَ:}

فعل ماض. {فِي الْأُمِّيِّينَ:} متعلقان بما قبلهما. {رَسُولاً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {رَسُولاً} . {يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {رَسُولاً،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة {رَسُولاً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة. (يزكيهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} معطوفة على ما قبلها أيضا. {وَإِنْ:} (الواو): واو الحال.

(إن): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (كانوا) وبني (قبل) على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {لَفِي:} اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات وهي لازمة. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

(في ضلال): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانُوا} . {مُبِينٍ:} صفة {ضَلالٍ،} وجملة: {كانُوا مِنْ قَبْلُ} في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ والاية مذكورة في سورة (آل عمران) برقم [164] مع اختلاف بسيط في أول كلماتها.

{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}

الشرح: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ:} هم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، فإن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تعم الجميع السابقين، واللاحقين، فإن المسلمين كلهم أمة واحدة. وقيل: أراد بالاخرين:

العجم. وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، ورواية عن مجاهد، يدل عليه ما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ نزلت عليه سورة (الجمعة)، فتلاها، فلما بلغ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟! الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه؛ حتى سأله ثلاثا-قال: وفينا سلمان الفارسي-فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على

ص: 691

سلمان، وقال:«والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثّريّا لناله رجال من هؤلاء» . أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. {لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي: لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون.

وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتني أسقي غنما سودا، ثمّ أتبعتها غنما عفرا، أوّلها يا أبا بكر!» . فقال: يا رسول الله! أما السود؛ فالعرب، وأما العفر؛ فالعجم، تتبعك بعد العرب.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذا أوّلها الملك» . يعني: جبريل عليه السلام، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-انتهى. قرطبي.

هذا؛ و (آخرين) مفرده: آخر بفتح الخاء، ومؤنثه: أخرى، وكلاهما بمعنى غير، وأخرى تجمع على: أخر، وأخريات، والاخر بفتح الخاء يكون ما قبله، وما بعده من جنسه. هذا؛ والاخر بكسر الخاء لا يكون بعده شيء غيره، ومؤنثه: أخر، وآخرة أيضا، وجمع الأولى أخريات، وجمع الثانية أواخر. هذا؛ والأخرى دار البقاء، والنسبة إليها: أخروي، وكلا آخر، وآخر: ضد الأول، وانظر ما ذكرته في سورة (النجم) في الاية رقم [47]. {الْعَزِيزُ:} الغالب القاهر؛ الذي قهر الجبابرة. {الْحَكِيمُ:} الذي يضع الأمور مواضعها، والذي جعل كل مخلوق يشهد بواحدانيته. وفي النسفي تبعا للزمخشري: في تمكينه رجلا أميا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

الإعراب: {وَآخَرِينَ:} الواو: حرف عطف. (آخرين): معطوف على {الْأُمِّيِّينَ،} فهو مجرور مثله، أو هو معطوف على الضمير المنصوب، فهو منصوب مثله، وعلامة الجر، أو النصب الياء نيابة عن الكسرة، أو الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آخرين). وقيل: متعلقان بمحذوف حال من (آخرين)، ولا وجه له؛ لأنه نكرة. {لَمّا:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَلْحَقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمّا} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور ب:(من)، أو في محل نصب صفة ثانية ل:(آخرين)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في محل نصب حال من فاعل الأفعال السابقة، والرابط:

الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العامة، والكرامة التامة، وما خص الله به أمته من بعثه إليهم. {فَضْلُ اللهِ:} جوده، وكرمه. {يُؤْتِيهِ:} يمنحه، ويعطيه من يشاء من عباده. {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي: صاحب الكرم، والجود يختص، ويعطيه من

ص: 692

يشاء من عباده، وانظر ما ذكرته في سورة (الحديد) رقم [21] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وفي سورة (المائدة) رقم [54]:{ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} .

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَضْلُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والهاء مفعول به أول. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف التقدير: يؤتيه الذي، أو شخصا يشاء إيتاءه. والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والعامل اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، والرابط: الضمير فقط. وانظر مجيء الحال من المضاف إليه في الاية رقم [10] من سورة (الممتحنة). وقيل: الجملة في محل خبر ثان ل: {ذلِكَ،} والأول أقوى معنى. {وَاللهُ:} (الواو): حرف عطف. (الله): مبتدأ. {ذُو:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وهو مضاف، و {الْفَضْلِ} مضاف إليه.

{الْعَظِيمِ:} صفة {الْفَضْلِ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (5)}

الشرح: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ} أي: كلّفوا علمها والعمل بما فيها، وهم اليهود، وليس هو من الحمل على الظهر، وإنما هو من الحمالة، والحميل هو الكفيل. {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها} أي: لم يعملوا بما فيها، ولم يؤدوا حقها، فكأنهم لم يحملوها، {كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً:} جمع سفر، وهو الكتاب الكبير. قال مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة يهجو قوما من رواة الشعر:[الطويل] زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيّدها إلاّ كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

بأوساقه أو راح ما في الغرائر؟!

وهو بفتح الهمزة كما ترى، وهو بكسر الهمزة: الإنارة، والإضاءة بالفجر، ومصدر الفعل:

أسفر، يسفر إسفارا بمعنى: أضاء إضاءة.

وقال الشاعر في حق الجهال؛ الذين يقرؤون الأحاديث، ولا يفهمون معناها:[البسيط] إنّ الرّواة على جهل بما حملوا

مثل الجمال عليها يحمل الودع

ص: 693

لا الودع ينفعه حمل الجمال له

ولا الجمال بحمل الودع تنتفع

{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ} أي: بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد من الايات: آيات التوراة؛ لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي تصفه بصفاته الجسدية، والخلقية. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [146]:{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} . أو المراد من الايات: آيات القرآن، حيث لم يؤمنوا بها، ولم يستجيبوا لما تأمرهم به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} أي: لا يوفق للإيمان من سبق في علمه الأزلي: أنه يكون ظالما كافرا.

أو المراد: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والخروج عن جادة الحق والصواب.

هذا؛ وفي الخازن: وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود؛ الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، شبهوا إذ لم ينتفعوا بها في الاية الكريمة التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، كما ذكرت لك. كذلك علماء اليهود الذين يقرؤون التوراة، ولا ينتفعون بها؛ لأنهم خالفوا ما فيها. وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن، ولم يعمل بما فيه، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولا يكون له منها إلا التعب والعناء. ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن اتّبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، ثم تلا هذه الاية. انتهى. خازن. هذا؛ وخذ نبذة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد:

عن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فتجتمع عليه أهل النّار، فيقولون: يا فلان! ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن الشرّ وآتيه» . قال: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: خطباء أمّتك الذين يقولون ما لا يفعلون» . رواه البخاري، ومسلم. وعن أبي برزة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الّذي يعلّم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس، وتحرق نفسها» . رواه البزار.

وعن علي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لا أتخوّف على أمّتي مؤمنا، ولا مشركا، فأمّا المؤمن؛ فيحجزه إيمانه، وأما المشرك؛ فيقمعه كفره، ولكن أتخوّف عليكم منافقا عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون» . رواه الطبراني في الصغير، والأوسط.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الربانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم» . رواه الطبراني، وأبو نعيم. وحديث الثلاثة الذين هم أول خلق الله تسعر بهم النار يوم

ص: 694

القيامة مشهور مذكور في باب الرياء من كتاب: الترغيب والترهيب. ورحم الله الشيخ أحمد بن رسلان؛ إذ يقول في: «متن الزبد» : [الرجز] وعالم بعلمه لم يعملن

معذّب من قبل عبّاد الوثن

هذا؛ ومثل الله لعلماء اليهود، وأمثالهم من علماء المسلمين المنافقين؛ الذين ذكرت ما قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي هو أبلد الحيوان، وفي غاية البلادة، وهو معروف، يكون وحشيا، ويكون أهليا، وأنثاه: أتان، ويقال: حمارة أيضا، ويجمع على: حمير، وحمر، وحمور، وحمرات، وكلها للكثرة، ويجمع جمع قلة على: أحمرة. قال الراعي النميري، أو القتال الكلابي، وهو الشاهد رقم [32] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط] هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور

و (حمير) ذكر في سورة (النحل) رقم [8]، وفي سورة (لقمان) رقم [19]، و {حُمُرٌ} ورد في سورة (المدثر) رقم [50]. والحمار الأهلي يوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات؛ التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، وبحدة السمع. وللناس في مدحه، وذمه أقوال متباينة بحسب الأغراض، وقد أطال الدميري الكلام فيه.

الإعراب: {مَثَلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {حُمِّلُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {التَّوْراةَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَحْمِلُوها:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (مثل) مضاف، و {الْحِمارِ} مضاف إليه، وجملة:{يَحْمِلُ أَسْفاراً} في محل نصب حال من {الْحِمارِ} على اعتبار (أل) للتعريف، والعامل فيه معنى الفعل، أو في محل جر صفة {الْحِمارِ} على اعتبار (أل) للجنس. ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (يس) رقم [37]:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} حيث إن جملة: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} تصلح أن تكون حالا من {اللَّيْلُ،} وأن تكون نعتا له. ومثل الايتين قول رجل من بني سلول، وهو الشاهد رقم [152] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل] ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت: لا يعنيني

فجملة: «يسبني» تصلح أن تكون حالا من «اللئيم» ، وأن تكون نعتا له. {بِئْسَ:} فعل ماض لإنشاء الذم. {مَثَلُ:} فاعله، و {مَثَلُ} مضاف، و {الْقَوْمِ} مضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم

ص: 695

موصول مبني على الفتح في محل جرّ صفة {الْقَوْمِ،} وجملة: {كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ} صلة الموصول لا محل لها، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: مثل هؤلاء، أو هو مضاف محذوف، التقدير: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا بآيات الله. انتهى. مغني اللبيب. وعليه فقد حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. هذا؛ وقال الزمخشري، وتبعه النسفي: التقدير:

بئس مثلا مثل القوم

إلخ على أن فاعل {بِئْسَ} ضمير فسره التمييز، و {مَثَلُ الْقَوْمِ} هو المخصوص بالذم، فرده ابن هشام بقوله: وقد نص سيبويه على أن تمييز فاعل «نعم، وبئس» لا يحذف، والصواب: أن {مَثَلُ الْقَوْمِ} فاعل، وحذف المخصوص؛ أي: مثل هؤلاء، أو مضاف: أي: مثل الذين كذبوا. انتهى.

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الْقَوْمِ:} مفعول به.

{الظّالِمِينَ:} صفة {الْقَوْمِ} .

{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)}

الشرح: {قُلْ:} هذا أمر خاطب الله به سيد الأولين، والاخرين محمدا صلى الله عليه وسلم. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا:} هم اليهود سمّوا بذلك لما تابوا من عبادة العجل. من: هاد بمعنى: تاب، ورجع. ومنه قوله تعالى حكاية عن قولهم في سورة (الأعراف) رقم [156]:{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} .

أو سموا بذلك نسبة إلى (يهودا بن يعقوب) وهو أكبر أولاده. {إِنْ زَعَمْتُمْ:} إن ادعيتم. {أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ:} كانوا يقولون كما حكى الله عنهم في سورة (المائدة) رقم [18]:

{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} . انظر شرحها هناك. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ:} ادعوا على أنفسكم بالموت. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: إن كان قولكم حقّا، وكنتم على ثقة، فتمنوا على الله أن يميتكم، وينقلكم سريعا إلى دار كرامته؛ التي أعدها لأوليائه، فإن الموت هو الذي يوصلكم إليها؛ لأن من أيقن: أنه من أهل الكرامة في دار النعيم، اشتاقها، وأحب التخلص إليها من الدار ذات الشوائب، كما قال الإمام علي-كرم الله وجهه-: لا أبالي أسقطت على الموت، أم سقط الموت عليّ؟! وقال عمار بن ياسر-رضي الله عنه-بصفين: الان ألقى الأحبة محمدا، وحزبه. وقال ذلك بلال-رضي الله عنه-عند احتضاره. وقال حذيفة-رضي الله عنه حين احتضر:[المتقارب] وجاء حبيب على فاقة

فلا أفلح اليوم من قد ندم

ص: 696

هذا؛ وقد قال تعالى مخاطبا اليهود اللؤماء الذين يتمنون الأماني الكاذبة: {قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} الاية رقم [94] من سورة (البقرة).

هذا؛ وقال الشيخ مصطفى الغلاييني-رحمه الله تعالى-: الغالب في (زعم) أن تستعمل للظن الفاسد، وهو حكاية قول يكون مظنة للكذب، فيقال فيما يشك فيه، أو فيما يعتقد كذبه، ولذلك يقولون: زعموا: مطيّة الكذب؛ أي: إن هذه الكلمة مركب للكذب، ومن عادة العرب:

أنّ من قال كلاما؛ وكان عندهم كاذبا؛ قالوا: زعم فلان. ولهذا جاء في القرآن الكريم في كلّ موضع ذمّ القائلون به. وقد يراد الزعم بمعنى القول مجردا عن معنى الظن الراجح، أو الفاسد، أو المشكوك فيه، فإن كانت (زعم) بمعنى: تأمّر، وترأس. أو بمعنى كفل به تعدت إلى واحد بحرف الجر، تقول: زعم على القوم، فهو زعيم؛ أي: تأمّر عليهم، وترأسهم، وزعم بفلان، وبالمال؛ أي: كفله، وضمنه. وتقول: زعم اللبن؛ أي: أخذ يطيب، فهو لازم. انتهى. وقال الأشموني: وإن كانت بمعنى: سمن، أو هزل؛ فهي لازمة. انتهى.

أقول: ولا تنس الكفالة، والضمان من (زعم) قوله تعالى:{قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} سورة (يوسف) رقم [72]، وقوله جل ذكره في سورة (القلم):

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ} . بعد هذا أقول: إن (زعم) من الأفعال التي تنصب مفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر إن كان من أفعال الرجحان، والأكثر أن يسد مسدهما: أنّ واسمها، وخبرها مخففة من الثقيلة، أو غيرها، نحو قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} سورة (التغابن) رقم [7]، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ..} . إلخ سورة (النساء) رقم [60]. انظر شواهد ذلك في كتابنا: «فتح رب البرية» ، والقليل أن تنصب مفعولين صريحين. وهو ناقص التصرف، يأتي منه ماض، ومضارع، ولا يأتي منه أمر.

هذا؛ و (الولي لله): العارف بالله تعالى على حسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المعرض عن الانهماك في اللذات، والشهوات. وفيه وجهان: أحدهما: أنه فعيل بمعنى:

مفعول، كقتيل بمعنى: مقتول، وجريح بمعنى مجروح، فعلى هذا: هو من يتولى الله رعايته، وحفظه، فلا يكله إلى غيره، ونفسه لحظة، كما قال تعالى:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} . والوجه الثاني: أنه فعيل مبالغة من فاعل، كرحيم، وعليم، بمعنى: راحم، وعالم، فعلى هذا: هو من يتولى عبادة الله تعالى، من غير أن يتخللها عصيان، أو فتور. وكلا المعنيين شرط في الولاية، فمن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما، فكل من كان للشرع عليه اعتراض؛ فليس بولي، بل هو مغرور مخادع. ذكره الإمام أبو القاسم القشيري، وغيره من أئمة الطريقة، رحمهم الله تعالى. انتهى. من شرح ألفاظ الزبد للشيخ أحمد بن

ص: 697

حجازي الفشني-رحمه الله تعالى-. هذا؛ وربنا يقول في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا؛ فقد أذنته بالحرب» . هذا؛ ويكثر في القرآن الكريم لفظ (الولي) و (النصير) فالولي: هو من يتولى شؤون غيره، والنصير: المعين والمساعد، والفرق بينهما: أن الولي قد يضعف عن النصرة، والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور، فبينهما عموم، وخصوص من وجه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها):

حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ: (أيها). {هادُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {زَعَمْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله.

{أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {أَوْلِياءُ:} خبر (أنّ). {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بأولياء، أو بمحذوف صفة له. {مِنْ دُونِ:} متعلقان ب: {أَوْلِياءُ،} أو بمحذوف صفة له، و {دُونِ:} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (زعم)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَتَمَنَّوُا:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (تمنوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْمَوْتَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها

إلخ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، فأنت ترى:

أنه ذكر شرطان، وتوسط بينهما الجواب. قال الجلال: تعلق بتمنوا الشرطان على أن الأول قيد في الثاني. وهذا بخلاف ما إذا ذكر شرطان، وتقدم الجواب عليهما، أو تأخر عنهما، كما في الاية رقم [50] من سورة (الأحزاب)، والاية رقم [34] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ونص الأولى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،} ونص الثانية: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقد أشار ابن الوردي-رحمه الله تعالى-في البهجة إلى ذلك بقوله: [الرجز] وطالق إن كلمت إن دخلت

إن أوّلا بعد أخير فعلت

هذا؛ والاية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 698

{وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (7)}

الشرح: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ} أي: الموت. {أَبَداً:} الأبد: هو الزمان الطويل؛ الذي ليس له حد، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا؛ فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما فعلوا من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحريف التوراة، وغير ذلك، وانظر شرح (اليد) في الاية رقم [47] من سورة (الذاريات). {عَلِيمٌ:} صيغة مبالغة. (الظالمين): الكافرين؛ حيث ظلموا أنفسهم بالكفر. وقال: {بِالظّالِمِينَ،} ولم يقل: بهم، إقامة للظاهر مقام المضمر، إشارة إلى أنهم غارقون بالظلم والفساد والطغيان، وفيه تهديد لهم ووعيد لا يخفيان. هذا؛ وبين قوله:

{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ،} و {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} طباق السلب.

هذا؛ وقال القرطبي: فلو تمنوه؛ لماتوا، فكان في ذلك بطلان قولهم، وما ادعوه من الولاية، وفي حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الاية: «والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات» . وفي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم.

هذا؛ وقال الزمخشري: لا فارق بين (لا) و (لن) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في (لن) تأكيدا، وتشديدا ليس في (لا) فأتى مرة بلفظ التأكيد في:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} أي: في سورة (البقرة) رقم [95]، ومرة بغير لفظه في:{وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ} أي في هذه الاية. قال الشيخ: هذا رجوع منه عن مذهبه-وهو: أن (لن) تقتضي النفي على التأبيد-إلى مذهب الجماعة، وهو أنها لا تقتضيه، قلت: ليس فيه رجوع، غاية ما فيه: أنه سكت عنه، وتشريكه بين (لا، ولن) في نفي المستقبل، لا ينفي اختصاص «لن» بمعنى آخر. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

الإعراب: {وَلا:} (الواو): حرف استئناف. (لا): نافية. {يَتَمَنَّوْنَهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا فيه ضعف ظاهر. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بما في معنى النفي؛ لأنها سبب لنفي التمني.

والأول أولى، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وأقواها أولها. {قَدَّمَتْ:}

فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْدِيهِمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء قدمته أيديهم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والمفعول محذوف، التقدير: بتقديم أيديهم الكفر، والمعاصي

إلخ. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال، أو الاستئناف. (الله): مبتدأ. {عَلِيمٌ:} خبره.

{بِالظّالِمِينَ:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

ص: 699

{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ:} تهربون منه، ولا تجسرون أن تتمنّوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم لا تفوتونه. {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ:} واقع بكم لا محالة. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [78]: {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته رقم [50]. [الطويل] ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السماء بسلّم

هذا؛ والموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح. هذا؛ وبالإضافة لما ذكرته في سورة (العنكبوت) رقم [57] خذ قول طرفة بن العبد:[الرمل] وكفى بالموت فاعلم واعظا

لمن الموت عليه قد قدر

فاذكر الموت وحاذر ذكره

إنّ في الموت لذي الّلبّ عبر

كلّ شيء يلقى يوما حتفه

في مقام أو على ظهر سفر

والمنايا حوله ترصده

ليس ينجيه من الموت الحذر

وخذ ما يلي معتبرا، ومفكرا، وبالله التوفيق:[الطويل] هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة

وأنت على سوء من الفعل عاكف

وإياك أن تمضي من الدّهر ساعة

ولا لحظة إلاّ وقلبك واجف

وبادر بأعمال يسرّك أن ترى

إذ نشرت يوم الحساب الصّحائف

{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ:} انظر الاية رقم [22] من سورة (الحشر). {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ:} فيخبركم بالذي كنتم تعملونه من الكفر، والمعاصي وتحريف التوراة، وتغيير صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها، وخذ ما يلي، وهو قول أبي العتاهية الصوفي:[الوافر] فلو أنا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كلّ حي

ولكنّا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعد ذا عن كلّ شي

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{الْمَوْتَ:} اسمها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {الْمَوْتَ،}

ص: 700

وجملة: {تَفِرُّونَ مِنْهُ} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير المجرور ب:(من).

{فَإِنَّهُ:} (الفاء): عبارة السمين: في الفاء وجهان: أحدهما: أنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. والثاني: أنها مزيدة محضة، لا للتضمن المذكور. وانظر ما ذكرته في الايات رقم [21] و [91] من سورة (آل عمران) فالبحث جيد جدا. وقرأ زيد بن علي:«(إنه)» بدون فاء، وفيها أيضا أوجه: أحدها: أنه مستأنف، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول، كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه. قاله الزمخشري. الثاني: أن الخبر الجملة من: (إنه ملاقيكم) وحينئذ يكون الموصول نعتا للموت، الثالث: أن يكون (إنه) تأكيدا؛ لأن الموت لما طال الكلام؛ أكد الحرف توكيدا لفظيا، وقد عرفت: أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه، أو بإعادة ضميره، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه (إن) وحينئذ يكون الموصول نعتا للموت، و {مُلاقِيكُمْ} خبره، كأنه قيل: إن الموت إنه ملاقيكم. انتهى. جمل، نقلا عن السمين. والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء.

{تُرَدُّونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على جميع الوجوه المعتبرة فيها.

{إِلى عالِمِ:} معلقان بما قبلهما، و {عالِمِ} مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالشَّهادَةِ:} معطوف على ما قبله. {فَيُنَبِّئُكُمْ:} (الفاء):

حرف عطف. (ينبئكم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} والكاف مفعول به أول. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كُنْتُمْ:}

فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، والجملة الفعلية بعده خبره، وجملة:

{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فينبئكم بالذي، أو بشيء كنتم تعملونه، والجملة الفعلية: (ينبئكم

) إلخ معطوفة على ما قبلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدقتم بالله، ورسوله، وتحليتم بالإيمان؛ الذي هو زينة الإنسان. {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ:} المراد بهذا النداء الأذان عند قعود الخطيب على المنبر؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، فكان به مؤذن واحد؛ إذا جلس على المنبر؛ أذن على باب المسجد،

ص: 701

فإذا نزل؛ أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر، وعمر، وعلي بالكوفة على ذلك، حتى كان عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل؛ زاد أذانا آخر، فأمر بالتأذين أولا على داره؛ التي تسمى:

الزوراء، فإذا سمعوا؛ أقبلوا حتى إذا جلس على المنبر؛ أذن المؤذن ثانيا، ولم يخالفه أحد في ذلك الوقت، لقوله صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» . انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.

هذا؛ وقال الزمخشري: وعن عثمان-رضي الله عنه: أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله.

وأرتج عليه، فقال: إن أبا بكر، وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل، وكان ذلك بحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. قال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى: ذكر الله، كقوله: الحمد لله، سبحان الله؛ جاز.

قال أحمد محشي الكشاف: الزمخشري ساه بلا اشتباه، فإن عثمان لم يصدر ذلك منه في خطبة الجمعة، وإنما كان ذلك في ابتداء خلافته، وصعوده المنبر للبيعة، وكانت عادة العرب الخطب في المهمات، ألا ترى إلى قوله: وستأتيكم بعد ذلك الخطب، فإن ذلك يحقق: أن مقالته هذه ليست بخطبة الجمعة، ولو كانت في الجمعة؛ لكان تاركا للخطبة بالكلية، وهي منقولة في التاريخ: أنه أرتج عليه، فقال: سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، وستأتيكم الخطب. انتهى.

{مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أي: في يوم الجمعة. قيل: أول من سماها جمعة: كعب بن لؤي الجد الثامن للنبي صلى الله عليه وسلم، ولعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وكان يقال لها: العروبة. وقيل: إن الأنصار قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر الله فيه، ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا؛ نزل قباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب، وصلى الجمعة. {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ} أي: فامضوا إليه، واعملوا له. وليس المراد من السعي:

الإسراع في المشي، وإنما المراد منه: العمل. وكان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يقرأ:

«(فامضوا إلى ذكر الله)» . وقال الحسن-رحمه الله تعالى-: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة، والوقار، ولكن بالقلوب، والنية، والخشوع.

ص: 702

وعن قتادة في هذه الاية، قال: السعي: أن تسعى بقلبك، وعملك، وهو المشي إليها، وكان يتأول قوله تعالى:{فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} بقوله: فلما مشى معه، وقال تعالى في سورة (النجم):

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى} وقال زهير في معلقته رقم [16]: [الطويل] سعى ساعيا غيظ بن مرّة بعدما

تبزّل ما بين العشيرة بالدّم

والمعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل، والتطهر، والتوجه إليه. هذا؛ والمراد بذكر الله الخطبة، أو الصلاة. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-:

فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله؟! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين، والموعظة، والتذكير، فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة، وألقابهم، والثناء عليهم، والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل. انتهى. وهو حسن وجيد.

هذا؛ ورد أحمد بن المنير الإسكندري كلام الزمخشري بما لا طائل له، ولا وجه له قطعا، فيبقى الحق حليف الزمخشري، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

{وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي: اتركوا البيع، والشراء؛ لأن البيع اسم يتناولهما جميعا، وهو من لوازمه، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري: عند خروج الإمام. وقال الضحاك: إذا زالت الشمس؛ حرم البيع والشراء. هذا؛ وقد اكتفى بذكر البيع عن ذكر الشراء؛ لأن البيع لا يخلو عن شراء، كما اكتفى بذكر الحرّ عن ذكر البرد في قوله تعالى في سورة (النحل) رقم [81]:{سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} .

قال الزمخشري: وإنما خص البيع بالذكر؛ لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم، وبواديهم، وينصبّون إلى المصر من كل أوب، ووقت هبوطهم واجتماعهم، واغتصاص الأسواق بهم؛ إذا انتفخ النهار، وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تحرّ التجارة، ويتكاثر البيع، والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنّة الذهول بالبيع عن ذكر الله، والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الاخرة، واتركوا تجارة الدنيا. {خَيْرٌ لَكُمْ} أي: السعي إلى ذكر الله خير لكم من البيع والشراء، فإن نفع الاخرة خير، وأبقى، وأنفع، وأجدى من نفع الدنيا. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} الشر، والخير الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [6] فالإعراب لا يتغير. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {نُودِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لِلصَّلاةِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل {نُودِيَ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {مِنْ يَوْمِ:} متعلقان بالفعل {نُودِيَ} وهذا على اعتبار {مِنْ} بمعنى في. وقال

ص: 703

الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: و {مِنْ} بيان ل: {إِذا نُودِيَ} وتفسير له، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْجُمُعَةِ} مضاف إليه. {فَاسْعَوْا:} (الفاء): واقعة في جواب {إِذا} . (اسعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مبتدأ لا محل له مثل الجملة الندائية قبله، وجملة (ذروا البيع) معطوفة على جملة {إِذا} لا محل لها مثله.

{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {ذلِكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْرٌ،} وإعراب: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مثل إعراب: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} بلا فارق بينهما مع ملاحظة: أن خبر الأولى جملة فعلية، وخبر (كان) الثانية اسم مفرد، وهو {صادِقِينَ،} وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله.

{فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَاِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاُذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}

الشرح: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: إذا فرغ من صلاة الجمعة، فانتشروا في الأرض للتجارة، والتصرف في حوائجكم، والأمر للإباحة، مثل قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [2]:{وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} . قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن شئت؛ فاخرج، وإن شئت؛ فاقعد، وإن شئت؛ فصلّ إلى العصر. وقيل: قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ليس لطلب الدنيا، ولكن لعيادة مريض، وحضور جنارة، وزيارة أخ في الله. وقيل:

{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} هو طلب العلم، وكان عراك بن مالك-رحمه الله تعالى-إذا صلى الجمعة؛ انصرف، فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.

{وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} أي: إذا فرغتم من الصلاة، ورجعتم إلى التجارة، والبيع، والشراء؛ فاذكروا الله كثيرا. قيل: باللسان. وقيل: بالطاعة. وقيل: بالشكر على ما أنعم الله به عليكم من التوفيق لأداء الفرائض. ولا يكون الإنسان من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما، وقاعدا، ومضطجعا، كما قال تعالى في سورة (النساء) رقم [103]:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} وقال تعالى في وصف أولي الألباب في سورة (آل عمران) رقم [191]: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ} ومن هذه الايات يستفاد أن كل عبادة لها أول، ولها آخر إلا الذكر، فإنه لا يقف عند حد، كما قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [35]:{وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} وقد جعل الله تعالى ذلك دون حدّ لسهولته على العبد.

ص: 704

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها، وأورد الايات التي ذكرتها، وقال: يعني: اذكروا الله في الليل، والنهار، في البر، والبحر، في الصحة، والمرض، في السر، والعلانية. وقيل: الذكر الكثير هو أن لا ينساه أبدا. وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ؛ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبرا؛ تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا؛ تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة» رواه البخاري، ومسلم وغيرهما.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدوّ أن يجاهده؛ فليكثر ذكر الله» . الطبراني. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنّة؛ فارتعوا! قلت:

يا رسول الله! وما رياض الجنة؟». قال: «المساجد» . قلت: وما الرّتع؟ قال: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . رواه الترمذي.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيّهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء؛ عذّبهم، وإن شاء؛ غفر لهم» . رواه أبو داود والترمذي. وعن عائشة-رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير؛ إلا تحسّر عليها يوم القيامة» . رواه البيهقي وابن أبي الدنيا.

وعن عبد الله بن مغفل-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم اجتمعوا في مجلس، فتفرّقوا، ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» . رواه الطبراني، والبيهقي. وإن أردت المزيد من ذلك فانظر سورة (الأحزاب) رقم [35] و [42].

الإعراب: {فَإِذا:} (الفاء): حرف استئناف. (إذا): انظر الاية السابقة. {قُضِيَتِ:} فعل ماض، مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {الصَّلاةُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {فَانْتَشِرُوا:} (الفاء): واقعة في جواب (إذا).

(انتشروا): فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، ويقال: لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. هذا هو المشهور، والمتعارف عليه. والأصل أن يقال في مثل هذا الفعل: فعل أمر مبني على سكون مقدر على آخره، منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضمة لمناسبة واو الجماعة، وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كل فعل أمر، مسند إلى واو الجماعة، أو إلى ألف الاثنين، مثل: انتشروا، وقد حرك بالفتحة

ص: 705

لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المخاطبة، مثل: اجلسي، وقد حرك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، وجملة:{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها أيضا، وأيضا جملة:{وَاذْكُرُوا اللهَ} معطوفة أيضا. {كَثِيراً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: اذكروا الله ذكرا كثيرا، بدليل التصريح بهذا المحذوف في سورة (الأحزاب) رقم [41] ويقال: نائب مفعول مطلق؛ أي: نائب الصفة عن المفعول المطلق.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، وجملة:{تُفْلِحُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل للأمر، لا محل لها.

{وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ (11)}

الشرح: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا أقبلت عير تحمل طعاما، فانفتلوا إليها؛ حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الاية. حديث متفق عليه. وقال مقاتل بن حيان-رحمه الله تعالى-: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة؛ إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق، وبر، وزيت، وغيره، وكان ينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل، ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه، فقدم ذات جمعة، وذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب، فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا، وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم بقي في المسجد، فقالوا: اثنا عشر رجلا، وامرأة، فقال:«لولا هؤلاء؛ لسوّمت لهم الحجارة من السماء» . وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا؛ لأضرم الله عليهم الوادي نارا» . انتهى. خازن، وقرطبي.

هذا؛ وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا، رواه أسد بن عمرو، والد أسد بن موسى بن أسد، وفيه: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وهؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة، وبلال، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى: عمار بن ياسر-رضي الله عنهم أجمعين-. انتهى. قرطبي بتصرف.

وينبغي أن تعلم أن خطبة الجمعة كانت بعد الصلاة كما في العيدين، فجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قبل الصلاة، وكان الوقت وقت جوع، وغلاء شديد.

ص: 706

هذا؛ واللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا. وقيل: هو الاشتغال بما لا يعني الإنسان، وما لا يهمه. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كلّ ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه، ومداعبته زوجته، وترويضه فرسه» . أي فإن ذلك من الحق المباح، بل فيه ثواب، وأجر.

تنبيه: في الاية الكريمة التفنن بتقديم الأهم في الذكر، أولا في قوله تعالى:{وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} لأن المقصود الأساسي هو التجارة، ثم قال تعالى:{قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ} فقدم اللهو على التجارة؛ لأن الخسارة بما لا نفع فيه أعظم، فقدم ما هو أهم في الموضعين. انتهى. صفوة التفاسير للصابوني. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [71] من سورة (غافر) ففيها بحث قيم. هذا؛ ورد الضمير إلى التجارة؛ لأنها أهم. وقيل: المعنى وإذا رأوا تجارة؛ انفضوا إليها، أو لهوا؛ انفضوا إليه، فحذف لدلالة الأول عليه، كقول قيس بن الخطيم الأوسي، وهذا هو الشاهد رقم [1053] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المنسرح] نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض، والرأي مختلف

وفي هذا البيت حذف خبر المبتدأ الأول لدلالة الثاني عليه؛ إذ الأصل: (نحن بما عندنا راضون) وهو قليل، والأكثر أن يحذف خبر الثاني لدلالة الأول عليه، كقول ضابئ بن الحارث البرجمي، وهذا هو الشاهد رقم [858] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الطويل] فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

وانظر قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [62]: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ،} وقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [16]: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} .

هذا؛ وقد اختلف في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال: فعند الشافعي-رحمه الله تعالى-: كل قرية فيها أربعون رجلا، بالغين عقلاء، أحرارا مقيمين، لا يظعنون عنها صيفا، ولا شتاء، إلا ظعن حاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة؛ وجبت عليهم الجمعة، ويشترط ألاّ تتعدد في البلدة إلا لحاجة، وهي عدم وجود مسجد يسع الجميع، فإن تعددت لغير ما حاجة أعادها الجميع ظهرا؛ أي: يعيدون الصلاة أربع ركعات بنية الظهر. ومال أحمد، وإسحاق-رحمهما الله تعالى-إلى هذا القول، ولم يشترطا هذه الشروط.

وقال مالك-رحمه الله تعالى-: إذا كانت قرية، اجتمع فيها ثلاثون بيتا؛ فعليهم الجمعة.

وقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: لا تجب الجمعة على أهل السواد، والقرى، لا يجوز لهم إقامتها فيها، واشترط في وجوب الجمعة، وانعقادها المصر الجامع، والسلطان القاهر، والسوق القائمة، والنهر الجاري، واحتج بحديث علي-رضي الله عنه: لا جمعة، ولا تشريق إلا في مصر جامع، ورفقة تعينهم. وهذا يرده حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: إن أول جمعة

ص: 707

جمّعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين، يقال لها: جواثى (ككسالى) وحجة الشافعي-رحمه الله تعالى-في الأربعين: حديث جابر المذكور؛ الذي خرجه الدارقطني.

وفي سنن ابن ماجه، والدارقطني أيضا، ودلائل النبوة للبيهقي: عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك-رضي الله عنهما. قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان، صلى على أبي إمامة، واستغفر له. قال: فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان بالجمعة؛ إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة، ما هو؟! قال: أي بني! هو أول من جمّع بالمدينة في هزم من حرّة بني بياضة، يقال له: نقيع الخضمات. قال قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون رجلا. وأبو أمامة هو أسعد بن زرارة-رضي الله عنه. وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: مضت السنة: أنّ في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة، وأضحى، وفطرا، وذلك: أنهم جماعة. خرجه الدارقطني.

انتهى. قرطبي.

هذا؛ والخطبتان تقومان مقام الركعتين، وقد رأيت فيما سبق: أن أبا حنيفة-رحمه الله تعالى-يعتبر كل جملة تفيد ذكرا خطبة، تحميدا، أو تسبيحا لله، وأما الشافعي فالخطبتان عنده لهما شروط، وأركان، فالشروط هي التي تشترط لإقامة الجمعة، وهو ما تقدم ذكره، وأما أركان الخطبتين فهي خمسة: حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وتجب هذه الثلاثة في الخطبتين، الرابع قراءة آية مفهمة في إحداهما، الخامس الدعاء للمؤمنين في الثانية، وشروطهما زيادة على ما تقدم ذكره: القيام لمن قدر عليه، وكونهما بالعربية، وبعد الزوال، والجلوس بينهما بالطمأنينة، وإسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة، والموالاة بينهما وبين الصلاة أيضا، وطهارة الحدثين، وطهارة النجاسة، والسّتر.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الاية رقم [9]. {رَأَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {تِجارَةً:} مفعول به. هذا؛ واعتبر الجمل الفعل بمعنى: علموا، وقدر له مفعولا ثانيا؛ أي: قدمت، وحصلت، وأرى: أنه لا مبرر له، فالجملة الفعلية التي قدرها فيها معنى الصفة لتجارة. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح.

{أَوْ:} حرف عطف. {لَهْواً:} معطوف على {تِجارَةً} . {اِنْفَضُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها جواب (إذا)، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {إِلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَتَرَكُوكَ قائِماً:} ماض، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا).

وقال الجمل: الجملة في محل نصب حال من فاعل: {اِنْفَضُّوا} و «قد» مقدرة عند بعضهم.

ص: 708

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {قائِماً:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{مِنَ اللَّهْوِ:} متعلقان ب: {خَيْرٌ} . {وَمِنَ التِّجارَةِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَاللهُ:} (الواو): واو الحال. (الله): مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره، وهو مضاف، و {الرّازِقِينَ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة لفظ الجلالة. وانظر مجيء الحال من المضاف إليه في الاية رقم [10] من سورة (الممتحنة). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

خاتمة: بالإضافة لما ذكرته في أول السورة، وفي الاية رقم [9] أزيدك ما يلي نقلا من كتب الفقه، وغيرها: قال المرحوم الشيخ إبراهيم البيجوري-رحمه الله تعالى-: والجمعة بضم الميم، وإسكانها، وفتحها، وحكي كسرها، وجمعها: جمعات بضم الميم إن كان المفرد بضمها، وبإسكانها إن كان المفرد بإسكانها، وبفتحها إن كان المفرد بفتحها، وبكسرها إن كان المفرد بكسرها، فالجمع تابع للمفرد في لغاته المذكورة، ويزيد المفرد الساكن الميم بجمعه على جمع، وهذه اللغات في اسم اليوم، وأما اسم الأسبوع؛ فهو بالسكون لا غير.

وإنما سمي اليوم بذلك لما جمع فيه من الخير. وقيل: لأنه جمع فيه خلق آدم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل: لاجتماعه فيه مع حواء في الأرض بسرنديب على الراجح بعد أربعين يوما. وقيل غير ذلك، وكان يسمى في الجاهلية يوم العروبة؛ أي: البين العظيم، ولذلك قال بعضهم:[البسيط] نفسي الفداء لأقوام همو خلطوا

يوم العروبة، أورادا بأوراد

وأول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، وهو أول من جمع الناس، وخطبهم، وبشرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم باتباعه ويعلمهم بأنه من ولده، ويقول: سيأتي لحرمكم نبأ عظيم، وسيخرج منه نبيّ كريم، وينشد أبياتا آخرها:[الطويل] على غفلة يأتي النبيّ محمد

فيخبر أخبارا صدوق خبيرها

وينشد أيضا-وكلاهما من السيرة الحلبية-: [البسيط] يا ليتني شاهد فحواء دعوته

حين العشيرة تبغي الحقّ خذلانا

ويسمى أيضا يوم المزيد؛ لزيادة الخيرات فيه، وهو أفضل أيام الأسبوع، يعتق الله فيه ستمئة ألف عتيق من النار. (ضعيف) ومن مات فيه كتب له أجر شهيد. (ضعيف) ووقي فتنة القبر، وكذلك ليلته، فهي أفضل ليالي الأسبوع، وأما أفضل الأيام على الإطلاق؛ فيوم عرفة؛ إن وافق

ص: 709

يوم الجمعة. وأفضل الليالي على الإطلاق ليلة المولد الشريف لما ترتب على ظهوره صلى الله عليه وسلم فيها من النفع العميم، وعند الإمام أحمد: أن يوم الجمعة أفضل الأيام مطلقا حتى من يوم عرفة، وأن ليلته أفضل الليالي مطلقا؛ حتى من ليلة القدر.

والحاصل: أن أفضل الأيام عندنا يوم عرفة، ثم يوم الجمعة، ثم يوم عيد الأضحى، ثم يوم عيد الفطر، وأن أفضل الليالي عندنا ليلة المولد الشريف، ثم ليلة القدر، ثم ليلة الجمعة، ثم ليلة الإسراء، وهذا بالنسبة لنا، وأما بالنسبة له صلى الله عليه وسلم فليلة الإسراء أفضل الليالي؛ لأنه رأى ربه فيها بعيني رأسه على الصحيح، والليل أفضل من النهار. انتهى. بيجوري.

هذا؛ وجاء في حاشية الجمل على الجلالين ما يلي: قال الشيخ الرحماني في حاشيته على التحرير: والحاصل: أن أفضل الليالي ليلة المولد، ثم ليلة القدر، ثم ليلة الإسراء، فعرفة، فالجمعة، فنصف شعبان، فالعيد. وأفضل الأيام يوم عرفة، ثم يوم نصف شعبان، ثم الجمعة، والليل أفضل من النهار. انتهى.

أقول: ما ذكروه من تفضيل ليلة المولد لم يرد نص صريح فيه، وأقوى نص ورد إنما هو في ليلة القدر، وهو نص القرآن، كما هو معروف؛ حيث وصفها الله في أول سورة (الدخان) بالبركة، وبأنها يفرق فيها كل أمر حكيم، وأنزل الله تبارك وتعالى سورة كاملة تبين فضلها، وشرفها، والنبي صلى الله عليه وسلم نوه بشأنها في الأحاديث الصحيحة كثيرا، ولم يرد بشأن ليلة المولد الشريف حديث صحيح ينوه بشأنها، أو يحث على نوع من أنواع العبادات، والطاعات فيها، وما ذكره البيجوري وغيره من تفضيلها على ليلة القدر وغيرها، لم يكن غير اجتهاد منه، فكيف نأخذ باجتهاده، ونترك النصوص الصحيحة الصريحة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا الليالي الفاضلة، والأيام الشريفة، وحثنا على فعل الخير قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى. جزاه الله عنا خير الجزاء!.

وقال محمد علوي المالكي المكي الحسني: بعد كلام طويل: والحاصل: أننا نعتقد: أن هذه المفاضلة هي بين ليلة المولد الحقيقي، وبين ليلة القدر، وأن الليلة التي وقع فيها المولد النبوي، والتي جرى فيها بحث المفاضلة، والمقارنة قد مضت، وانتهت، ولا وجود لها اليوم، أما ليلة القدر، فهي موجودة، ومتكررة في كل عام، ولذلك فهي أفضل الليالي، لقول تعالى في سورة (القدر):{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} .

ثم نقل كلام ابن تيمية وابن القيم بشأن المفاضلة بين ليلة القدر، وليلة الإسراء، وهو:

أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر؛ فهذا باطل، لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام، وإن أراد الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحصل له

ص: 710

فيها ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام، ولا عبادة؛ فهذا صحيح.

انتهى. «مفاهيم يجب أن تصحح» بتصرف. ثم وردت الأحاديث في ليلة الجمعة، ثم في ليلتي العيدين، ثم في ليلة عرفة، ثم في ليلة الإسراء، وأضعفها ما ورد في ليلة النصف من شعبان.

ولا تنس ما ورد إجمالا في ليالي شهر رمضان المبارك، والحث على زيادة العبادة في أيامه، ولياليه، وكل ذلك معروف لدى من عنده إلمام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وخذ ما يلي:

عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهّر ما استطاع من الطّهور، ويدّهن من دهنه، ويمسّ من طيب بيته، ثم يخرج، فلم يفرّق بين اثنين، ثم يصلّي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلّم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» . رواه البخاري. وعن أوس بن أوس الثقفي؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غسّل يوم الجمعة، واغتسل، وبكّر، وابتكر، ومشى، ولم يركب، ودنا من الإمام، ولم يلغ، واستمع، كان له بكلّ خطوة أجر عمل سنة، صيامها، وقيامها» . أخرجه أبو داود، والنسائي.

وفي مراسيل أبي داود عن الزهري؛ قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى.

نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله.

انتهت سورة (الجمعة) شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين

ص: 711